قابلني تائب في الطريق
مدة
قراءة المادة :
8 دقائق
.
قابلني تائب في الطريقكثيرًا ما نشمتُ في العصاة والمنحرفين، معتقدين أنْ لا خير فيهم، وأنهم لن يرجعوا أبدًا إلى رشدهم؛ بل الأدهى من ذلك أن البعض يُيئِّس مَن أراد أن يرجع منهم ويتوب، مستبشعًا ذنبَه، ومستعظمًا جُرمه، ومستكثرًا أن يقف مع الطاهرين، بعدما كان في صفوف العصاة والمجرمين، وهذا لؤم في الطبع، وخطأ كبير، وجرم يرتكب في حق هؤلاء؛ وصدق الله - تعالى -: ﴿ قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ ﴾ [الإسراء: 100].
هداية العاصي غنيمة
إن الواجب علينا تجاه العصاة أن نأخذهم باللِّين والرفق؛ عسى الله أن يهديهم على أيدينا، وإنها لغنيمة كبيرة إذا ما حدث ذلك؛ قال النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم خيبر: ((لأعطينَّ الراية رجلاً يفتح الله على يديه))، فقاموا يرجون لذلك أيهم يعطى، فغدوا وكلهم يرجو أن يعطى، فقال: ((أين عليٌّ؟))، فقيل: يشتكي عينيه، فأمر فدعي له، فبصق في عينيه، فبرأ مكانه حتى كأنه لم يكن به شيء، فقال: نقاتلهم حتى يكونوا مثلنا؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((على رِسلك، حتى تنزل بساحتهم، ثم ادعُهم إلى الإسلام، وأخبرهم بما يجب عليهم، فوالله، لأنْ يُهدى بك رجل واحد خيرٌ لك من حمر النَّعم))؛ رواه البخاري.
هذا هو رسول الإنسانية جمعاء - صلوات الله وسلامه عليه - هذا هو الذي اتَّهمه أعداؤه بأنه نشر الإسلام بالسيف، ولم يأتِ إلا بما هو شر - في زعمهم - ها هو يعلن على الملأ أن هدف الإسلام والمسلمين هو الأخذ بيد الناس من الظلمات إلى النور، وانتشالهم من وحل الكفر والضلال، وليس الهيمنة عليهم، والاستحواذ على أموالهم، كما يروج لذلك أعداء الإسلام.
لا تكونوا عونًا للشيطان على إخوانكم
دائمًا لا بد أن نأخذ على أيدي العصاة والمنحرفين، ولا نكون عونًا للشيطان عليهم، فلْندْعُهم ولندعُ الله لهم؛ عسى الله أن يهديَهم، ويتوب عليهم مما هم فيهم من تقصير، ففي الحديث: عن محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، قال: سمعت يحيى بن المحبر، قال: سمعت أبا ماجد – يعني: الحنفي - قال: كنت قاعدًا مع عبدالله، قال: إني لأذكرُ أول رجل قطعه، أُتي بسارق، فأمر بقطعه، وكأنما أسف وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: قالوا: يا رسول الله، كأنك كرهتَ قطعه؟! قال: ((وما يمنعني؟! لا تكونوا عونًا للشيطان على أخيكم، إنه ينبغي للإمام إذا انتهى إليه حدٌّ أن يقيمه، إن الله - عز وجل - عفو يحب العفو؛ ﴿ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلاَ تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [النور: 22]))؛ رواه أحمد في "مسنده".
قصة تائب قابلني في الطريق
قابلني في الطريق واستوقفني قائلاً: يا شيخ، أريدك في أمر، أتسمح لي؟
قلت له: تفضَّل، فتنحينا جانبًا، ووقفنا سويًّا، وهو يحكي لي قصته، وكأنما يجلس على كرسي الاعتراف.
قال: لقد فعلتُ ذنوبًا كثيرة، زنيت مرارًا، وشربت...، وأهملت كثيرًا، وقطعت الصلاة عقودًا من الزمن، وأعترف بذلك، ما تركت ذنبًا إلا فعلتُه، وكان ذلك في أيام الشباب، وأنت تعرف طيش الشباب، وهأنا قد أفقت من غفلتي، وندمت على ما فعلت، وتبت إلى الله.
فماذا أفعل كي أرضي ربي وأتوب؟ هل يقبلني الله بعد كل هذا الذي اقترفتُه؟
إنني سألت بعض الناس، فقالوا لي: لا تنفع لك صلاة بعدما فعلت ما فعلت، فهل صحيح هذا يا شيخ؟
قلت له: كلامهم خطأ، مَن قال هذا؟! ومن ذا الذي يحول بينك وبين رحمة الله؟!
فقال: يعني هل تنفع لي الصلاة وتُقبَل؟ هل يقبلني الله بعد كل هذا؟
قلت له: نعم، إن شاء الله تعالى.
فقال: وماذا أفعل كي يقبلني الله؟
قلت له: تستغفر الله وتتوب إليه، وتعزم عزمًا أكيدًا ألاَّ ترجع إليه ثانية.
فقال لي: وماذا أفعل ثانية؟
قلت له: تعتمر؛ عسى الله أن يقبلك في التائبين.
فقال: وماذا أفعل ثانية؟
قلت له: تحج إن استطعت.
فقام فرحًا يقبِّلني، ويدعو لي، ويشكرني، وكأنني طوق النجاة بالنسبة له يتعلق به، ومن ساعتها كلما يجدني في الطريق يأتي مسرعًا إليَّ مسلِّمًا عليَّ، داعيًا الله لي، داعيًا إياي أن أذهب عنده، وكثيرًا ما أسعدني منظره وهو في وسط المصلِّين، حريصًا على الصلاة جماعةً في وقتها، مكثرًا من الدعاء في السجود، مقبلاً على ربه غير مدبر، وهو الذي كنا نخرج من المسجد - إذ كنت صبيًّا - فنجده مشعلاً سيجارته على أعتاب المسجد، حيث منزله أمام المسجد مباشرة، وكان وجهه دائمًا عابسًا، وعيناه حمراوان من كثرة السهر.
ولكن عندما حان وقت الرجوع إلى ربه رجع، فهذا فضل من الله كبير، رجع وهو الذي ظنَّ الكثيرون أنه لن يعود؛ من كثرة ما ارتكب من أخطاء وذنوب، كان منها ما هو على مسمع ومرأى من الناس.
وصدق القائل حيث قال:
أَيَا مَنْ لَيْسَ لِي مِنْهُ مُجِيرُ
بِعَفْوِكَ مِنْ عَذَابِكَ أَسْتَجِيرُ
أَنَا العَبْدُ المُقِرُّ بِكُلِّ ذَنْبٍ
وَأَنْتَ السَّيْدُ المَوْلَى الغَفُورُ
فَإِنْ عَذَّبْتَنِي فَبِسُوءِ فِعْلِي
وَإِنْ تَغْفِرْ فَأَنْتَ بِهِ جَدِيرُ
أَفِرُّ إِلَيْكَ مِنْكَ وَأَيْنَ إِلاَّ
يِفِرُّ إِلَيْكَ مِنْكَ المُسْتَجِيرُ
قتل مائة نفس، فهل له من توبة؟
عن أبي سعيد الخدري: أن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((كان فيمَن كان قبلكم رجلٌ قتل تسعةً وتسعين نفسًا، فسأل عن أعلم أهل الأرض، فدُلَّ على راهب، فأتاه فقال: إنه قتل تسعة وتسعين نفسًا، فهل له من توبة؟ فقال: لا، فقَتَلَه، فكمل به مائة، ثم سأل عن أعلم أهل الأرض، فدُلَّ على رجل عالم، فقال: إنه قتل مائة نفس، فهل له من توبة؟ فقال: نعم، ومَن يحول بينه وبين التوبة؟! انطلِقْ إلى أرض كذا وكذا؛ فإن بها أناسًا يعبدون الله، فاعبُدِ الله معهم، ولا ترجع إلى أرضك؛ فإنها أرض سوء، فانطلَقَ، حتى إذا نصف الطريق، أتاه الموت، فاختصمتْ فيه ملائكةُ الرحمة وملائكة العذاب، فقالت ملائكة الرحمة: جاء تائبًا مقبلاً بقلبه إلى الله، وقالت ملائكة العذاب: إنه لم يعمل خيرًا قط، فأتاه ملك في صورة آدمي، فجعلوه بينهم، فقال: قيسوا ما بين الأرضين، فإلى أيتهما كان أدنى، فهو له، فقاسُوه فوجدوه أدنى إلى الأرض التي أراد، فقبضتْه ملائكةُ الرحمة)).
قال قتادة: "فقال الحسن: ذُكر لنا أنه لما أتاه الموت نأى بصدره"؛ رواه مسلم.
ها هو قاتل المائة نفس، يَقبَل الله توبتَه، فلِمَ نضيق على الناس أبواب التوبة والرحمات؟!
فالهداية من الله وحده، وهي فضل ومنَّة منه - سبحانه - فلا تغرنَّ أحدًا طاعتُه أبدًا، ولا يغترنَّ أحد بعمله، فلن يدخل الجنةَ أحدٌ بعمله؛ بل بفضل الله - تعالى - وصدق مَن قال: "رُب طاعة أورثتْ عزًّا واستكبارًا، ورب معصية أورثت ذلاًّ وانكسارًا".