أرشيف المقالات

علوم القدماء عند العرب

مدة قراءة المادة : 29 دقائق .
ولاسيما في القرن الخامس للهجرة بمصر للدكتور يوسف شخت أستاذ الفلسفة بكلية الآداب أجمع علماء الشئون الشرقية على أن أحد أركان المدنية الإسلامية راجع إلى المدنية الإغريقية في آخر مراحلها فلم يكد العرب يشتركون في تدعيم صرح تلك المدنية العظيمة إلا بلغتهم ودينهم.
أما معظم المواد الأخرى فهو مأخوذ من ذلك التراث المجيد الذي تركه اليونان والذي قد توطن في البلاد الشرقية منذ عصر الاسكندر ذي القرنين.
ثم جاءت الدولة العربية فأكملت توطن العلوم والآداب الإغريقية في الشرق الأدنى، ومكنتها من الإزهار في تلك المنطقة الرحيبة التي احتضنتها في دائرة حدودها السياسية.
فنجد إن حركة ترجمة الكتب اليونانية في الفلسفة والعلوم الطبيعية والطب التي كانت قد بدأت في تلك البلاد قبل فتح العرب لها قد نشطت إلى حد بعيد في آخر القرن الثاني وفي القرن الثالث للهجرة.
ولما كانت لغة التراجم الأولى هي اللغة السريانية فإنها بهذا الوضع بقيت الوسيط بين تراث اليونان وبين مدنية الإسلام كما كان معظم المترجمين من النصارى النسطوريين وفي مقدمتهم الحكيم الفيلسوف حنين بن اسحق (194 - 260) الذي كان يشتغل (في بيت الحكمة) ذلك المعهد العلمي الذي أسسه المأمون الخليفة العباسي ببغداد لترجمة كتب العلوم.
حنين هذا هو الذي خلق المركز الرائع لآراء جالينوس في القرون الوسطى في الشرق ومنه إلى الغرب ويشهد بالمجهود العظيم الذي بذل في ترجمة الكتب اليونانية أن الخلفاء أنفقوا على الرحلات للبحث عن مخطوطات قيمة، وأن حنينا، كما أوضح بنفسه لم يكتف بأصل واحد وإنما كان يراجع بقدر الإمكان لا أقل من ثلاث نسخ ليستطيع بمقارنتها الحصول على متن صحيح كانت هذه أي - دورة التراجم - مرحلة استعداد، وتبعها في القرن الرابع والنصف الأول من القرن الخامس الدور العظيم للعلوم الطبيعية والطبية في بلاد الإسلام.
وج المسلمين أنفسهم بعدئذ على أساس متين من العلوم اليونانية مضافا إليها بعض نتائج دراسات الفرس والهنود، وبدءوا يضيفون إلى هذا التراث من مبتكراتهم.
وفي الوقت نفسه فقد المسيحيون مركز احتكارهم (أو كاد) لهذه العلوم وارتفع إلى مستواهم المسلمون إن أبرز ما في ذلك العصر من الشخصيات العملية الفذة ثلاثة: محمد بن زكريا الرازي (المتوفى سنة 311) وهو أكبر أطباء العالم الإسلامي وأحد أطباء الدنيا الخالدين، وحسين بن عبد الله بن سينا (370 - 428) وكان فيلسوفاً وباحثاً طبيعيا له أكبر الأثر في أوربا بصفته وسيطا لنقل الطب الإسلامي إليها بمؤلفه الكبير المسمى بالقانون، وأبو ريحان محمد بن أحمد البيروتي (362 - 440) وهو أكبر الباحثين الطبيعيين في دائرة الحضارة الإسلامية وأبدعهم تفكيراً ومنهجا. ما أجود ثقافة هذا الرجل الخوارزمي العجيب وإحاطته بمختلف العلوم والفنون من يونانية وعربية وإسلامية، كما يظهر من مقدمة كتابه في الصيدلة إذ يقول: (كل واحدة من الأمم موصوفة بالتقدم في علم ما أو عمل، واليونانيون منهم قبل النصرانية موسومون بفضل العناية في المباحث وترقية الأشياء إلى أشرف مراتبها وتقريبها من كمالها.
ولو كان ذيسقوريذس في نواحينا، وتصرف جهده على تعرف ما في جبالنا وبوادينا، لكانت تصير حشائشها كلها أدوية، وما يجتني منها بحسب تجاربه أشفية، ولكن ناحية المغرب فازت به وبأمثاله وأفازتنا بمشكور مساعيهم علما وعملا.
وأما ناحية المشرق فليس فيها من الأمم من يهتز لعلم غير الهند، ولكن هذه الفنون خاصة عندهم مؤسسة على أصول مخالفة لما اعتدناه من قوانين المغربيين، ثم المباينة بيننا وبينهم في اللغة والملة والعادات والرسوم وإفراطهم في المجانبة بالطهارة والنجاسة تزيل المخالطة عن البين وتفصم عرى المباحثة.
ديننا والدولة عربيان وتوأمان يرفرف على أحدهما القوة الإلهية وعلى الآخر اليد السماوية.

وإلى لسان العرب نقلت العلوم من أقطار العالم فازدانت وحلت في الأفئدة، وسرت محاسن اللغة في الشرايين والأوردة، وإن كانت كل أمة تستحلي لغتها التي ألفتها واعتادتها واستعملتها). لم ينحصر تقدير العلوم اليونانية مثل هذا في فئة معينة من العلماء، بل كان منتشرا بين الجميع طول القرن الرابع. هاهي ذي بغداد بمدرستها الفلسفية الطبية التي هي خليفة مدرسة الإسكندرية المشهورة، ولا يصعب علينا اقتفاء أثر انتقالها من الإسكندرية إلى بغداد عن طريق إنطاكية وحران.
ومن كبار العاملين بها في القرن الرابع المترجم المسيحي أبو بشر متي بن يونان (المتوفى سنة 328)، وأبو نصر محمد الفارابي الفيلسوف الإسلامي (المتوفى سنة 339)، وتلميذه الفيلسوف المسيحي يحيى بن عدي (المتوفى سنة 364)، والباحث المحقق أبو الحسن المسعودي (المتوفى سنة 346)، وغيرهم من الفضلاء.
وقد خلد الأديب أبو حيان التوحيدي (المتوفى بعد سنة 400) في مؤلفه المسمى (بالمقابسات) ذكر مجالس أبي سليمان السجستاني المنطقي (المتوفى بعد سنة 391) فكان القرن الرابع هذا أزهى عصر لدرس العلوم اليونانية في الحضارة الإسلامية، واستمرت تلك الدراسات وازدهرت في القرن الخامس أيضا خصوصا في بغداد، مع امتداد أشعتها إلى بلاد أخرى ولاسيما إلى مصر. نتمنى أن نبحث ذلك الدور الأخير لنفوذ التفكير اليوناني في الشرق الأدنى بمناسبة مخطوط محفوظ في إحدى مدارس الموصل يشمل مناظرة دارت بين طبيبين فيلسوفين، وإن كانا دون أولئك الفحول درجة إلا أنهما شغلا مكانا جليلا في تاريخ الطب والعلوم الطبيعية في عالم الإسلام.
هما أبو الحسن المختار ابن بطلان من نصارى بغداد، وعلي بن رضوان المصري.
تتلخص مناظرتهما في أن كل واحد منهما كان يرغب في التدليل على علو كعبه في علوم القدماء، وعلى مقدرته عن الآخر وبروزه فيها عليه.
فإنا أن اطلعنا على تراجم حياتهما كما جاءت في تاريخ الحكماء لابن القفطي، وفي عيون الأنباء في طبقات الأطباء لابن أبي أصيبعة، نرى أن شخصية كل واحد منهما ليس بينها وبين شخصية الآخر أي تشابه، حتى ليخال القارئ أنه يستحيل عليهما أن يكونا صديقين؛ على أن تنافسهما ربما يرجع أيضاً إلى غيرة كل منهما من صاحبه في صناعة الطب. درس ابن بطلان الطب والفلسفة في الكرخ (حي من بغداد) على أشهر الأساتذة، وأكثرهم من النصارى، وتدل مؤلفاته على أنه لم يكن متطببا فقط، بل تبحر أيضاً في الآداب العربية والعلوم الإسلامية، كما قال عنه ابن أبي أصيبعة: (وكان ابن بطلان أعذب ألفاظاً (أي من ابن رضوان) وأكثر ظرفا وأميز في الأدب وما يتعلق به.
ومما يدل على ذلك ما ذكره في رسالته التي رسمها (بدعوة الأطباء).
ففي هذا الكتاب يحمل ابن بطلان على الفشارين المدعين بالطب، ويظهر فسادهم ومضارهم الشائعة ذاك الحين. يغلب على الظن أن ابن بطلان لم يكن شابا عندما ترك بلدته التي حرمت عليه العودة إليها في مستهل شهر رمضان سنة 440 متجهاً إلى رحلة طويلة ماراً بالأنبار فالرحبة فالرصافة فحلب حيث مكث زماناً، ثم واصل السفر إلى إنطاكية فاللاذقية فيافا حتى جاء مصر حيث مكث ثلاثة أعوام تعرف فيها بابن رضوان.
ثم غادر مصر بعدئذ إلى القسطنطينية ثم عاد منها في آخر الأمر إلى إنطاكية.
قال ابن القفطي: (فأقام بها وقد سئم كثرة الأسفار، وضاق عطنه عن معاشرة الأغمار، فغلب على خاطره والانقطاع فنزل بعض أديرة إنطاكية وترهب وانقطع إلى العبادة إلى أن توفى بها).
وكانت وفاته - خلافاً لما زعم ابن القفطي - بعد سنة 455 بزمان لأنه قد أهل لبناء بيمارستان إنطاكية في السنة المذكورة.
وعندما كان في مصر أرسل ابن بطلان إلى المؤرخ الكاتب البغدادي هلال بن المحسن الصابئ كتاباً مفصلا عن رحلته، دل على دقة ملاحظته وعنايته بكل ما رآه، كما أنه لا يزال هذا الكتاب مرجعاً جغرافياً تاريخياً مفيداً للنواحي التي زارها ابن بطلان، فلذلك أورد ياقوت الحموي في كتابه المسمى بمعجم البلدان كثيراً من كلام ابن بطلان.
ودليل على كل هذا نذكر شيئاً من وصفه لمدينة اللاذقية.
قال: (وهي مدينة يونانية لها ميناء وملعب وميدان للخيل مدور، وبها بيت كان للأصنام وهو اليوم كنيسة، وكان في أول الإسلام مسجدا، وهي راكبة البحر وفيها قاض للمسلمين وجامع يصلون فيه وآذان في أوقات الصلوات الخمس، وعادة الروم إذا سمعوا الآذان أن يضربوا الناقوس، وقاضي المسلمين الذي بها من قبل الروم) أما ما ذكره من أخبار الروم والمسلمين فهو إيضاح للحالة كما كانت.
فهي دورة الانحلال والضعف السياسي للدولة الإسلامية، قد أصبحت البلاد التي كانت تتبع خلافة بغداد مستقلة، وقامت خلافة الفاطميين بمصر، أضف إلى هذا تفشي الوباء والمجاعات بأقطار عديدة وموت كثيرين من رجال العلم أحس الباقون منهم بفقدانهم وبالخلوة من بعدهم.
وإنه لمما يسر أن نلاحظ أن تلك البلايا كلها لم تستطع أن تقطع النهوض العلمي العظيم ولا اتصال العلماء بعضهم ببعض برحلات علمية وراء كل الحدود السياسية ولا ارتباطهم بروابط الصناعة رغما عن اختلاف العقائد الدينية على أن ابن بطلان النصراني هذا الذي كان محترماً ومقدراً عند زملائه المسلمين قاسى متاعب من المسيحيين أنفسهم؛ فأنه (لما دخل إلى حلب وتقدم عند المستولي عليها سأله رد أمر النصارى في عبادتهم إليه، فولاه ذلك، وأخذ في إقامة القوانين الدينية على أصولهم وشروطهم فكرهوه، وكان بحلب رجل كاتب طبيب نصراني.

يحمل عليه نصارى حلب فلم يمكن ابن بطلان المقام بين أظهرهم، وخرج عنهم.

وللحلبيين النصارى فيه هجو قالوه عندما تولى أمرهم) (مختصر من كلام ابن القفطي) قال ابن أبي أصيبعة: (وتوفي ابن بطلان ولم يتخذ امرأة ولا خلف ولدا، ولذلك يقول من أبيات: ولا أحد إن مت يبكي لميتتي ...
سوى مجلس في الطب والكتب باكيا كان ابن رضوان على النقيض لابن بطلان في أكثر مزاياه؛ فلم يكن لابن رضوان في صناعة الطب معلم ينتسب إليه، ولم يغادر نواحي القاهرة مرة، وكان معجباً بنفسه طماعا بخيلا، لما فقد ماله ذهب عقله، ولكنه مع ذلك كله لم يخل من خلق وعقل يحملاننا على العطف عليه والإعجاب به.
هذا ما يمكننا تأكيد عن سيرة حياته: ذكر ابن أبي أصيبعة شيئاً غير قليل منها. كان مولد ابن رضوان بالجيزة وكان أبوه فراناً، قال: (فلما بلغت السنة السادسة أسلمت نفسي في التعليم، ولما بلغت السنة العاشرة انتقلت إلى المدينة العظمى وأجهدت نفسي في التعليم.
ولما أقمت أربع عشرة سنة أخذت في تعليم الطب والفلسفة ولم يكن لي مال أنفق منه فلذلك عرض لي في التعليم صعوبة ومشقة، فكنت مرة أتكسب بصناعة القضايا بالنجوم، ومرة بصناعة الطب، ومرة بالتعليم.
ولم أزل كذلك وأنا في غاية الاجتهاد في التعليم إلى السنة الثانية والثلاثين، فإني اشتهرت فيها في الطب وكفاني ما كنت أكسبه بالطب، بل وكان يفضل عني إلى وقتي هذا، وهو آخر السنة التاسعة والخمسين) أما ابن القفطي فيقول (وكان في أول أمره منجما يقعد على الطريق ويرتزق لا بطريق التحقيق كعادة المنجمين، ثم قرأ شيئاً من الطب وشيئاً من المنطق وكان من المغلقين لا المحققين.
ومع هذا تتلمذ له جماعة من الطلبة وأخذوا عنه، وسار ذكره، وصنف كتباً لم تكن غاية في بابها، بل هي مختطفة ملتقطة مبتكرة مستنبطة.
فأما تلاميذه فقد كانوا ينقلون عنه من التعاليل الطبية والأقاويل النجومية والألفاظ المنطقية ما يضحك منه إن صدق النقلة). على أنه إذا اعتبره ابن أبي أصيبعة أطب من ابن بطلان وأعلم بالعلوم الحكمية وما يتعلق بها، فربما صح حكمه بالنسبة لمهارته الطبية، إذ استشاره بعض ملوك مكران كتابة.
أما في الفلسفة والأدب فلا تجد سبيلا إلى اعتباره متكافئاً مع ابن بطلان كما يظهر من مؤلفاته، رغماً عما يذكره عن نفسه في قوله: (وأما الأشياء التي أتنزه فيها فلأني فرضت نزهتي ذكر الله عز وجل وتمجيده بالنظر في ملكوت السماء والأرض؛ وكان قد كتب القدماء والعارفون في ذلك كتباً كثيرة رأيت أن أقتصر منها على ما أنصه من ذلك: خمسة كتب من كتب الأدب، وعشرة كتب من كتب الشرع، وكتب أبقراط وجالينوس في صناعة الطب وما جانسها مثل كتاب الحشائش لذيسقوريذس، وكتب روفس وأريباسيوس وبولس، وكتاب الحاوي للرازي، ومن كتب الفلاحة والصيدلة أربعة كتب، ومن كتب التعاليم المجسطي ومداخله وما انتفع به فيه، والمربعة لبطليوس، ومن كتب العارفين كتب أفلاطون وأرسطو طاليس والاسكندر وثامسطيوس ومحمد الفارابي وما انتفع به فيها؛ وما سوى ذلك إما أبيعه بأي ثمن اتفق، وإما أن أخزنه في صناديق، وبيعه أجود من خزنه) وجدير بالذكر أن ابن رضوان المسلم اكتفى بذكر الكتب الإسلامية إجمالا وتأدية للواجب بينما فصل ذكر الكتب المنقولة عن اليونانية واحداً واحداً. لا حاجة لنا بإيراد تفاصيل إطراء ابن رضوان عن نفسه ومديحه لعمله اليومي ووصفه لمحاسن ترتيب بيته، ولكنا نذكر آخر أمره (عن ابن أبي أصيبعة): (كان قد أخذ يتيمة رباها وكبرت عنده، فلما كان في بعض الأيام خلا لها الموضع وكان قد ادخر أشياء نفيسة، ومن الذهب نحو عشرين ألف دينار.
فأخذت الجميع وهربت ولم يظفر منها على خبر، ولا عرف أين توجهت فتغيرات أحواله من حينئذ) و (تغير عقله في آخر عمره)، وكانت وفاة ابن رضوان في سنة ثلاث وخمسين وأربعمائة. يدل على تفانيه في حب علوم قدماء اليونان افتخاره برؤية جالينوس في منامه، قال: (وقد كان عرض لي منذ سنين صداع مبرح عن امتلاء في عروق الرأس ففصدت فلم يسكن، وأعدت الفصد مراراً وهو باق على حاله، فرأيت جالينوس في النوم وقد أمرني أن أقرأ عليه حيلة البرء فقرأت عليه منها سبع مقالات، فلما بلغت إلى آخر السابعة قال: فنسيت ما بك من الصداع، وأمرني أن أحجم القمحدوة من الرأس؛ ثم استيقظت فحجمتها فبرأت من الصداع على المكان) هذا ما يكفي تعريفاً بابن بطلان وابن رضوان، ونتجه الآن إلى المناظرة المشهورة التي قامت بينهما.
قال ابن أبي أصيبعة: (وكان ابن رضوان كثير الرد على من كان معاصره من الأطباء وغيرهم، وكذلك على كثير ممن تقدمه، وكانت عنده سفاهة في بحثه وتشنيع على من يريد مناقشته.
وأكثر ذلك يوجد عندما كان يرد على حنين بن اسحق وعلى أبي الفرج بن الطيب (وكان أبو الفرج هذا أستاذ ابن بطلان ببغداد) وكذلك أيضاً على أبي بكر محمد بن زكريا الرازي.
ومن هذا النوع كانت مناقشته لابن بطلان.
وقال أيضاً: (وكانت بين ابن بطلان وابن رضوان المراسلات العجيبة، والكتب البديعة الغريبة، ولم يكن أحد منهم يؤلف كتاباً ولا يبتدع رأياً إلا ويرد الآخر عليه ويسفه رأيه فيه. فأول من ابتدأ المجادلة هو ابن رضوان بمناسبة رسالة لابن بطلان لم تكن موجهة ضده إطلاقاً، بل دارت حول مطلب من مطالب العلوم الطبيعية كثر الكلام فيه بين أطباء ذلك العصر، وهو: أيهما أحر طبيعة الفخر أم الفروج؟ وكان ابن بطلان يعتقد - كما اعتقد السواد الأعظم من الأطباء - أن الفرخ أحر من الفروج، ولكن اليبرودي الطيب الدمشقي الذي قد درس مع ابن بطلان على أبي الفرج ابن الطيب كان عايا أطباء مصر بمسألة ألزمهم بها أن يكون الفروج أحر من الفرخ.
فجمع ابن بطلان في مقالته حججا يعضد بها رأي اليبرودي وينقض الرأي الصحيح (بقياس المتعلمين تطريقاً لهم ورياضة.

وبقياس العلماء أن يظهر فضلهم في حلول الشكوك الغامضة.

وبقياس المذعنين تبكيتا لهم وهجنة) وأورد في آخرها واحداً وثمانين سؤال تتعلق بالبيض والحضان والفراريج يدعو الأطباء المصريين إلى الإجابة عنها يظهر أن ابن رضوان ظن نفسه أو بعض تلاميذه مقصوداً بملاحظة من ملاحظات ابن بطلان في رسالته هذه فأجاب عليها بمقالة لم يبحث فيها عن موضع المشكلة نفسها أم يرد على أدلة المعاياة؛ بل نجده فيها أقرب إلى السفسطة والطعن منه إلى أصول الجدل العلمي. وحسبنا أن نلتقط من مقالة ابن رضوان هذه موضعا يذكر فيه المزايا التي لا يخلو منها الطبيب الكامل، قال: (وقد بين جالينوس أن الطبيب فيلسوف كامل، وأنه من قصر عن ذلك فهو متطبب لا طبيب.
والفيلسوف الكامل هو الذي قد حصل على العلم التعليمي والطبيعي والإلهي والمنطقي، فالطبيب هو الذي حصل كل واحد من هذه على الكمال) لم يقتنع ابن رضوان بهذه المقالة بل ألف رسالة أخرى ضد ابن بطلان يمكننا الحكم ابنها لم تحتو إلا هجاء وذما.
فلم يستطع ابن بطلان أن يترك الأمر عند هذا الحد ووجد نفسه مضطراً إلى رد مفصل هو من أظرف الكتب العربية ومن أبدعها سماه (المقالة المصرية) عَرَجَ فيه عروجا علميا فائقا يقصد به فضح آراء ابن رضوان كلية.
يشتمل على مقدمة وسبع فصول.
يعتذر ابن رضوان في المقدمة إلى خصمه بأنه إنما ألف كتابه هذا امتثالا لرغبة بعض الجهات الجليلة، ويناشده بإله السماء وتوحيد الفلاسفة، أن يجيبه بقلب طاهر نقي خال من درن الغضب؛ (فثاميسطيوس يقول: قلوب الحكماء هياكل الرب، فيجب أن تنظف كما تنظف بيوت عبادته.
وفيثاغورس يقول: كما أن العوام تظن أن البارئ تعالى في الهياكل فقط فتحسن سيرتها فيها، كذلك يجب على من علم أن الله في كل مكان أن تكون سيرته في كل مكان كسيرة العامة في الهياكل).
أما الفصل الأول فهو في العلل التي لأجلها صار المتعلم من أفواه الرجال أفضل من المتعلم من الصحف، إذا ما كان قبولهما للتعليم واحداً، وهذا عكس ما زعمه ابن رضوان الذي، كما لاحظنا، لم يدرس هو نفسه على أستاذ بل تعلم بالمطالعة فقط.
والدليل السادس منها يوضح لنا جيداً مقدار الصعوبات والمشكلات التي تلقاها أولئك العلماء الناطقون بالضاد عند دراستهم للكتب العلمية اليونانية: (يوجد في الكتاب أشياء تصد عن العلم قد عدمت في تعليم المعلم، وهي اشتراك الأسماء، والتصحيف العارض من اشتباه الحروف بعدم النقط.

وسقم النسخ ورداءة النقل.

وذكر ألفاظ مصطلح عليها في الصناعة، وألفاظ يونانية لم يترجمها الناقل وهذه كلها معوقة عن العلم.
وقد استراح المتعلم عن تكلفها عند قراءته على المعلم).
والبيان السابع ينبني على إجماع المفسرين أن فصلا من فصول أرسطو لو لم يسمعه ثاوفرسطس وأوذيمس من المعلم نفسه لما فهم قط من الكتاب.
فأما الفصل الثاني فهو في أن الذي علم المطالب من الكتب علما رديئا ثار عليه باعتقاده أن الحق محال شكوك يعسر حلها.
والفصل الثالث في أن إثبات الحق في عقل من لم يثبت فيه المحال أسهل من إثباته عند من ثبت في عقله المحال.
أما الفصل الرابع فهو في أن من عادات الفضلاء إذا قرأوا كتابا من كتب القدماء ألا يقطعوا في علمائها بظن دون معرفة الأمر على الحقيقة، يتضح فيه احترام ابن بطلان للعلماء الأقدمين من اليونان ومن بعدهم كل الوضوح.
قال: (إن من عادة القدماء إذا وقفت عليهم المطالب، ولاح لهم فيها تباين وتناقص، أن يعودوا إلى التطلب، ولا يتسرعوا إلى إفساد المطلب.
فإن أرسطو بقي يرصد القوس الكائن عن القمر أكثر عمره فما رآه إلا دفعتين؛ وجالينوس واظب على تطلب السكون الذي بعد الانقباض سنين كثيرة إلى أن أدركه.

وشيخنا أبو الفرج عبد الله بقي عشرين سنة في تفسير ما بعد الطبيعة ومرض من الفكر فيه مرضا كاد يلفظ نفسه فيه.
وما منهم رحمهم الله إلا من أنفق عمره في العلم طلبا لدرك الحق.
هذا والذي في عقولهم مما بالفعل أكثر مما بالقوة، فإن كنا وما بالقوة فينا أكثر مما بالفعل أخلدنا إلى الطعن عليهم ضحك الحق منا وخسرنا أشرف ما فينا.
ولذلك يجب على كل نسمة عالمة دونهم في المرتبة إذا رأت أقاويلهم متباينة إلا تقطع بقول فيهم إلا بعد الثقة).
ثم أورد المؤلف أمثلة كثيرة من كتب أرسطو وجالينوس وابقراط وأضاف إلى كل هذا مع صغر شانه بقياس تلك الطائفة المعدودة الدفاع عن نفسه في مسألة وصف التدبير المبرد بمصر خلافاً لبغداد، وحجته اختلاف الهواء.
يقول في خصائص بغداد: (بغداد بلد شمالي ليس بكدر الماء، ولا مختلف الأهوية، ولا تنقطع عنه الأمطار في الشتاء، بل قد ينزل فيها الثلج من السماء، ويجمد لكثرة البرد شطا دجلة وتزيد مياهها عند زيادة المياه، وتأتي فواكهها وأزهارها في أوانها من فصول السنة، لا يكاد يرى فيهم مقشور ولا جرب، ولا من به ضيق نفس ولا حكة إلا في الندرة.
أرضها قطب إقليم قال فيه أرسطو إنه ينبت الأذكياء، قلما اختار أهله للنسل من جلب من البلاد الجنوبية، فلهذا أوجههم على الأكثر ببعض مشربة حمرة، وأخلاقهم طاهرة، وطباعهم كريمة؛ ليست أرضها في وهدة فتحرقها الشمس وتغرقها كثرة المياه وهي من أسباب العفونة نعم، ولا في غربها بحر ولا في شرقها جبل في سفحه مقبرة وتتراقى منها الأبخرة، وتعكسها الريح الغريبة إلى المدينة، لكنها في بسيط من الأرض مستو، جهاتها مكشوفة للشمس والرياح الأربع، وأهلها مع هذه الخصال المعددة المضادة لمصر محتاجون من التدبير المبرد أقل مما يحتاج إليه أهل مصر وما والاها.
والمصريون محتاجون إلى أكثر منه كثيراً.
فلهذه العلل عدلت بهم عن الأشياء الحارة إلى الأشياء الباردة على موجب قانون الصناعة.
وإذا كان عذري قد اتضح بأدنى عناية، وبان خطل من عجل في تغليظي من غير ارتئاء، فما ظن الشيخ بأناس يجرون في العالم مجرى الأنجم الزهر، أبصارنا عند بصائرهم تجري مجرى بصر الخفاش عند عيون العقبان في ضوء النهاء، لاسيما المؤيد أبو زيد حنين بن اسحق الذي منح الله البشر علوم القدماء على يده، فذوو العقول إلى اليوم في ضيافته يمتارون من فضله ويعيشون من بره) ويزعم ابن بطلان أن عمل خصمه تقليل من ذلك الاحترام الواجب لسلف العلماء كابقراط وغيره من جهابذة الفن، كما أن إهمال كتب الأولين تقود ولاشك إلى هلاك المرضى.
يؤيد ابن بطلان قوله هذا بما جرى بينه وبين بعض تلامذة ابن رضوان؛ فلذلك ينبغي لابن رضوان أن يعلم الشبان تعليما صحيحاً ولا يشيع (عند الأحداث تخبط الاسكندرانيين في تفاسيرهم وجوامعهم للكتب الست عشر، ومنه اصطفن ومارينوس وجاسيوس واركيلاوس وانقيلاوس وبلاذيوس ويحيى النحوي المنجد البطل المحب للتعب.
ولعل الشيخ يتعذر عليه معرفة أسمائهم على الحقيقة بالعربية.
وهؤلاء مفسرو كتب الصناعة الطبية ليت شعري كيف يذمهم في عمل جوامع كتب فسروا فصوصها وعرفوا نصوصها) ثم يجيء الفصل الخامس في مسائل مختلفة، والفصل السادس في تصفح مقالة ابن رضوان الهجائية التي قال فيها على سبيل المباهلة أن يسأله ابن بطلان ألف مسالة ويسأله هو مسألة واحدة.
ابن بطلان جواباً عن هذه المقالة إن الخطباء والأطباء والفلاسفة لكل واحدة من تلك الفرق طريقة تسلكها في المحاورة، وأورد لكل واحدة من تلك الطرق أمثلة من تاريخ الآداب اليونانية؛ أما طريق ابن رضوان فهو - كما زعمه ابن بطلان - هجاء محض من غير وزن وقافية. أما السب بقبح الخلقة الذي قد اجترأ ابن رضوان أن يوجهه إلى ابن بطلان فيرده هذا بأوفى الذكاء والفطانة ذاكراً أقوال سقراط وأفلاطون وجالينوس؛ مورداً بعض أعلام الآداب العربية تجردوا من جمال الشكل مثل الجاحظ وعبد بني الحسحاس، وفي النهاية يستفتي ابن رضوان عن خلقه هو نفسه قائلاً: (لو أن رجلاً استفتى بفتوى نسختها: ما يقول الشيخ وفقه الله في رجل أسود اللون، مضطرب الطبيعة والكون، غليظ الشفتين، منتشر المنخرين، جاموسي الوجه، بقري العينين، قليل الأنصاف، محب المراء والخلاف، قلق المشية جهر النغمة، يفتينا في ذلك مأجوراً من الله، للزمه أن يفتي بما نسخته: الجواب ومن الله المعونة: النفس الفاضلة تابعة لأشرف كيفيات الهيولي فهي توجب عن اللون المشرب حمرة وعن التخاطيط الخبيثة الأخلاق الكريمة، وهذه المعددة هي أضداد هذه، فالنفس التابعة لها غير فاضلة، وكتبه علي بن رضوان على مذهب القدماء وبحسب تفسير الصناعة الصغيرة) وبعدئذ يدافع ابن بطلان عن حنين ابن اسحق فيما يرميه به ابن رضوان، فإن المسألة الوحيدة الجديرة بالاعتبار تتلخص - قال - في اختلاف بين حنين وجالينوس في الظاهر فقط، كما أن الاختلاف بين أبي حنيفة من جهة وبين أبي يوسف ومحمد ابن الحسن من الجهة الأخرى في نكاح الصابئين وأكل ذبائحهم اختلاف الفتوى فقط أما الفصل السابع والأخير فهو يتضمن فحص مفردات كثيرة من أغلاط ابن رضوان، وينتهي بإنذاره بحساب يوم القيامة (فسأطالبه في الحق إذا جلس الله لفصل القضاء واستغاث المرضى وأشخصوا الأطباء، وحضرت الملائكة الكتبة، وخرست الألسن الناطقة، وشهدت القوارير الصامتة، بدلالتها كأنها على الحالة الحاضرة، وظهر الغلط، واعترف الأطباء بالذي فرط، يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.

وليتحقق أن.

لنا موقف حساب، مجمع ثواب وعقاب، يتظلم فيه المرضى إلى خالقهم، ويطالبون الأطباء بالأغلاط القاضية بهلاكهم، وأنهم ليسامحون الشيخ كما سامحته.

ويتحقق أنهم لا يرضون منه إلا بالحق المبين) لم يتأخر ابن رضوان في الرد على ابن بطلان مرتين.
فلما وجد نفسه عاجزاً عن النقض الصحيح لذلك الكتاب رجع إلى أسلوبه الكريه المعتاد.
أما الرد الأول فقد عجل تأليفه قبل فحصه كتاب ابن بطلان كله؛ وأما الثاني ففيه تلخيص لكل ما جرى بينهما من وجهة نظر مؤلفه، وغرضه الصريح دعوة أطباء مصر والقاهرة إلى مقاطعة ابن بطلان.
يقول ابن رضوان في آخره: (فهذا فيه كفاية في أن تعجبوا من أمر هذا الرجل، وتضحكوا منه وتتركوا مكالمته فيما تستأنفوه منه، ولا تلتفتوا إلى شيء يقوله بل تنزلوه بمنزلة إنسان قد خولط ووسوس، فهو أبدأ يهذر ويهذي فلا يستحق أن يرثى له ولا يرحم قط) هذا غاية ما يسمح لي الوقت به من شرح تلك المناظرة بين الطبيبين الفيلسوفين.
حاصل القول أن الخصمين مع كل ما لاحظناه بينهما من الاختلاف من جهة النشأة والتربية والبيئة والدين والأخلاق دانا بعلمهما إلى الفكرة اليونانية دينا شديدا كانا به يعترفان ويفتخران، يجتهدان في التشبه بالعلماء الأقدمين، كما أن علوم الأوائل كانت عنصراً لازماً لمدينة البلاد الإسلامية في القرن الخامس.
هذا هو العصر الأخير لأثر العقلية اليونانية العلمية في الشرق الأدنى قبل أن تسير إلى الاضمحلال التدريجي حتى تتلاشى.
فإن السلاجقة الذين يوافق ابتداء سيادتهم عصر ابن بطلان وابن رضوان لم يعنوا بتجديد النظام السياسي للناحية الشرقية من عالم الإسلام فحسب، بل قاموا أيضاً بتأييد السنة وبمحاربة كل الحركات العقلية التي يعتبرونها مخالفة لها، فكان لعلوم القدماء حظ غير موفور، لأن بعض المحافظين استمروا يسيئون الظن فيها خصوصاً بعد ما أنتفع بها القرامطة والفاطميون في إلباس تعاليمهم الباطنية ظواهر الحقيقة العلمية ورغماً من هذا فقد جاء في القرون المتأخرة من حين إلى حين بعض علماء مبرزين خلعوا عن أنفسهم تلك الأغلال، وأظهروا الروح العلمية الخالصة غير ملتفتين إلى شكوك من دونهم.
من هؤلاء الفيلسوف الأندلسي ابن رشد (المتوفى سنة 595)، والجهبذ موسى بن ميمون (المتوفى سنة 687) والطبيب المصري ابن النفيس (المتوفى سنة 687) مكتشف الدورة الرئوية للدم؛ إلا إنه للأسف بقي أولئك الأفاضل في أوطانهم غرباء منفردين لم تقدر آراءهم ولم تنتشر، على حين كان ابن بطلان وابن رضوان من المعبرين عن الحركة العقلية العامة في زمانهما التي اشتركا فيها مع رهط كبير من معاصريهما.
لم تخل العلوم الأخرى غير الطبيعية والطبية من ذلك التدهور العلمي الذي نشاهده ابتداء من القرن السادس؛ وهذا حجة ساطعة لقيمة تأثير الفكرة اليونانية على الأعمال العقلية في كل نواحيها. ومهما يكن من شيء فإن ما تناولناه في بحثنا هذا يصور لنا صورة واضحة لضحى العلوم اليونانية العربية في بلاد الإسلام يوسف شخت

شارك الخبر

روائع الشيخ عبدالكريم خضير