مقدمة تفسير ابن كثير [3]


الحلقة مفرغة

قال الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى:

[ مقدمة مفيدة تذكر في أول التفسير قبل الفاتحة:

قال أبو بكر بن الأنباري :

حدثنا إسماعيل بن إسحاق القاضي حدثنا حجاج بن منهال حدثنا همام عن قتادة قال: نزل في المدينة من القرآن البقرة وآل عمران والنساء والمائدة وبراءة والرعد والنحل والحج والنور والأحزاب ومحمد والفتح والحجرات والرحمن والحديد والمجادلة والحشر والممتحنة والصف والجمعة والمنافقون والتغابن والطلاق ويَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ [التحريم:1] إلى رأس العشر، وإِذَا زُلْزِلَتِ [الزلزلة:1] وإِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ [النصر:1] هؤلاء السور نزلت بالمدينة وسائر السور بمكة ].

شرع المؤلف رحمه الله تعالى في بيان السور التي نزلت في مكة والسور التي نزلت في المدينة، وهذا الأمر محل خلاف بين أهل العلم، فمن العلماء من قال: إن المكي من السور ما نزل في مكة، والمدني ما نزل في المدينة، ومن العلماء من قال: المكي من السور ما نزل قبل الهجرة، والمدني ما نزل بعد الهجرة، ولو نزل في مكة، كلقوله تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا [المائدة:3] فهذه الآية نزلت في مكة في حجة الوداع يوم عرفة، لكنها تعتبر مدنية؛ لأنها نزلت بعد الهجرة.

والصواب أن المكي من القرآن ما نزل قبل الهجرة، والمدني ما نزل بعد الهجرة، حتى ولو نزل في السفر، فما نزل في السفر وما نزل في مكة بعد الهجرة يعتبر مدنياً.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ فأما عدد آيات القرآن العظيم فستة آلاف آية، ثم اختلف فيما زاد على ذلك على أقوال، فمنهم من لم يزد على ذلك، ومنهم من قال: ومائتي آية وأربع آيات، وقيل: وأربع عشرة آية، وقيل: ومائتان وتسع عشرة آية، وقيل: ومائتان وخمس وعشرون آية أو ست وعشرون آية، وقيل: ومائتان وست وثلاثون، حكى ذلك أبو عمرو الداني في كتابه البيان، وأما كلماته فقال الفضل بن شاذان عن عطاء بن يسار : سبع وسبعون ألف كلمة وأربعمائة وتسع وثلاثون كلمة، وأما حروفه فقال عبد الله بن كثير عن مجاهد : هذا ما أحصيناه من القرآن، وهو ثلاثمائة ألف حرف وأحد وعشرون ألف حرف ومائة وثمانون حرفاً، وقال الفضل بن عطاء بن يسار ثلاثمائة ألف حرف وثلاثة وعشرون ألفاً وخمسة عشر حرفاً، وقال سلام أبو محمد الحماني : إن الحجاج جمع القراء والحفاظ والكتاب فقال: أخبروني عن القرآن كله كم من حرف هو؟ قال: فحسبنا فأجمعوا أنه ثلاثمائة ألف وأربعون ألفاً وسبعمائة وأربعون حرفاً، قال فأخبروني عن نصفه. فإذا هو إلى الفاء من قوله في الكهف: وَلْيَتَلَطَّفْ [الكهف:19]، وثلثه الأول عند رأس مائة آية من براءة، والثاني على رأس مائة أو إحدى ومائة من الشعراء، والثالث إلى آخره، وسبعه الأول إلى الدال من قوله تعالى: فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ [النساء:55] والسبع الثاني إلى التاء في قوله تعالى في سورة الأعراف: أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ [التوبة:17] والثالث إلى الألف الثاني من قوله تعالى في الرعد: أُكُلُهَا [الرعد:35]، والرابع إلى الألف في الحج من قوله: جَعَلْنَا مَنْسَكًا [الحج:34] والخامس إلى الهاء من قوله في الأحزاب: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ [الأحزاب:36]، والسادس إلى الواو من قوله تعالى في الفتح: الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ [الفتح:6] والسابع إلى آخر القرآن، قال سلام أبو محمد : علمنا ذلك في أربعة أشهر، قالوا: وكان الحجاج يقرأ في كل ليلة ربع القرآن، فالأول إلى آخر الأنعام، والثاني إلى (وليتلطف) في سورة الكهف، والثالث إلى آخر الزمر، والرابع إلى آخر القرآن ].

المهم هو التدبر والعمل، بحيث يقرأ المسلم بتدبر وخضوع وخشوع ورغبة ورهبة ثم يعمل، وقد ثبت في حديث ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من قرأ حرفاً من كتاب الله فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول: (الم) حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف).

وقوله: (قالوا: وكان الحجاج يقرأ في كل ليلة ربع القرآن، فالأول إلى آخر الأنعام، والثاني إلى وَلْيَتَلَطَّفْ [الكهف:19] في سورة الكهف، والثالث إلى آخر الزمر، والرابع إلى آخر القرآن) هذا لو صح لكان من الحسنات التي عملها الحجاج ، فـالحجاج فاسق ظالم أسرف في القتل حتى قتل الألوف، وقد قتل سعيد بن جبير ، ويقال: إنه رئي في المنام بعد موته فسئل عن حاله فقال: قتلت بكل قتيل قتلة إلا سعيد بن جبير قتلت به سبعين قتلة، وإني بعد ذلك أرجو ما يرجو المحسنون. وهو موحد لكنه عند أهل العلم فاسق وظالم؛ لأنه أسرف في القتل فقتل خلقاً كثيراً، فإن صح أنه كان يقرأ في كل ليلة ربع القرآن فذلك من حسناته.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقد حكى الشيخ أبو عمرو الداني في كتابه (البيان) خلافاً في هذا كله. فالله أعلم ].

قال رحمه الله تعالى: [ وأما التحزيب والتجزئة فقد اشتهرت الأجزاء من ثلاثين كما في الربعات بالمدارس وغيرها ].

في زمانهم كانت توجد مدارس، ولكن ليست على غرار المدارس الموجودة الآن.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقد ذكرنا فيما تقدم الحديث الوارد في تحزيب الصحابة للقرآن، والحديث في مسند الإمام أحمد وسنن أبي داود وابن ماجة وغيرهم عن أوس بن حذيفة أنه سأل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته، كيف تحزبون القرآن؟ قالوا: ثلث وخمس وسبع وتسع وإحدى عشرة وثلاث عشرة وحزب المفصل حتى تختم ].

هذا هو المعروف المشهور عن الصحابة، وهو أنهم كانوا يقرءون القرآن ثلاثاً وخمساً وسبعاً وتسعاً وإحدى عشرة وثلاث عشرة والمفصل، فالثلاث: البقرة وآل عمران والنساء، والخمس: المائدة والأنعام والأعراف والأنفال والتوبة، وهكذا، فكانوا يجعلون القرآن سبعة أحزاب: الحزب الأول ثلاث سور، والثاني خمس، والثالث سبع، وبعده تسع، ثم إحدى عشرة، ثم ثلاث عشرة، فيصل الحزب السادس إلى قاف، ثم يكون الحزب السابع هو حزب المفصل من (ق) إلى آخر القرآن الكريم، فيختم المرء القرآن في سبعة أيام على هذا النحو، وهذا هو السنة، كما بين النبي صلى الله عليه وسلم لـعبد الله بن عمرو بن العاص لما بلغه أنه يصوم النهار ويقوم الليل، فقد أنكر عليه وقال له: (صم من الشهر ثلاثة أيام) وأمره أن يقرأ القرآن في كل شهر فقال عبد الله: إني أطيق أقوى من ذلك، فما زال به حتى أوصله في تلاوة القرآن إلى سبع ليال، وجاء في الحديث الآخر: (لا يفقه القرآن من قرأه في أقل من ثلاث) وهذا يدل على أنه قد يقرأ القرآن أحياناً في ثلاث، لكن الأفضل أن يكون في سبع، وقد جاء في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـعبد الله بن عمرو : (اقرأه في سبع ولا تزد) وفي الصيام أوصاه بأن يصوم ثلاثة أيام من كل شهر، فقال: إني أطيق أكثر من ذلك، حتى قال له: صم يوماً وأفطر يوماً، فقال: إني أطيق أكثر من ذلك، فقال: (لا صام من صام الدهر)، وفي لفظ: (لا صام من صام الأبد)، وفي لفظ أنه صلى الله عليه وسلم قال: (لا صام ولا أفطر)، فلا تجوز الزيادة على نصف الدهر، فالحد هو نصف الدهر، فيصوم يوماً ويفطر يوماً، وللقرآن سبعة أيام، وفي الصلاة كذلك قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (قم ونم).

وأما ما جاء عن السلف في رمضان من تلاوة القرآن في يوم واحد فإن بعض أهل العلم قال: إن هذا خاص بالأوقات الفاضلة، لكن ينبغي أن لا يكون ذلك في أقل من ثلاث؛ لحديث: (لا يفقه القرآن من قرأه في أقل من ثلاث)، وما فعله بعض السلف فهو اجتهاد منهم.

فالحاصل أن الصحابة حزبوا القرآن إلى سبعة أحزاب على تلك الطريقة، وأما جعله ثلاثين جزءاً فالظاهر أنه ليس من فعل الصحابة رضي الله تعالى عنهم.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ فصل: واختلف في معنى السورة مما هي مشتقة، فقيل: من الإبانة والارتفاع، قال النابغة :

ألم تر أن الله أعطاك سورة ترى كل ملك دونها يتذبذب

فكأن القارئ ينتقل بها من منزلة إلى منزلة، وقيل: لشرفها وارتفاعها، كسور البلدان، وقيل: سميت سورة لكونها قطعة من القرآن وجزء منه، ومأخوذ من أسار الإناء، وهو البقية، وعلى هذا فيكون أصلها مهموزاً، وإنما خففت الهمزة فأبدلت الهمزة واواً لانضمام ما قبلها، وقيل: لتمامها وكمالها؛ لأن العرب يسمون الناقة التامة سورة.

قلت: ويحتمل أن يكون من الجمع والإحاطة لآياتها، كما يسمى سور البلد لإحاطته بمنازله ودوره، وجمع السورة: سور بفتح الواو، وقد يجمع على سورات وسوارات ].

هذا كله ليس ببعيد، فقد تشمل السورة هذه المعاني كلها؛ إذ فيها إبانة وفيها ارتفاع وفيها انتقال من منزلة إلى منزلة وفيها إحاطة.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وأما الآية فمن العلامة على انقطاع الكلام الذي قبلها عن الذي بعدها وانفصالها، أي: هي بائنة عن أختها ومنفردة، قال الله تعالى: إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ [البقرة:248] ].

وقال النابغة :

توهمت آيات لها فعرفتها لستة أعوام وذا العام سابع

وقيل: لأنها جماعة حروف من القرآن وطائفة منه، كما يقال: خرج القوم بآيتهم، أي: بجماعاتهم، قال الشاعر:

خرجنا من النقبين لا حي مثلنا بآياتنا نزجي اللقاح المطافلا

وقيل: سميت آية لأنها عجب يعجز البشر عن التكلم بمثلها، قال سيبويه : وأصلها أيية، مثل أكمة وشجرة، تحركت الياء وانفتح ما قبلها فقلبت ألفاً فصارت آية بهمزة بعدها مدة، وقال الكسائي : أصلها آيية، على وزن (آمنة) فقلبت ألفاً، ثم حذفت لالتباسها، وقال الفراء : أصلها أيية فقلبت ألفاً كراهية التشديد فصارت آية، وجمعها آي وآياي وآيات ].

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ وأما الكلمة فهي اللفظة الواحدة، وقد تكون على حرفين مثل (ما) و(لا) ونحو ذلك].

وقد تكون أكثر، وأكثر ما تكون عشرة أحرف مثل: ( وليستخلفنهم )، ( أنلزمكموها )، ( فأسقيناكموه) ]

هذه عشرة أحرف، كل عشرة منها تكون كلمة واحدة.

قوله: [ وقد تكون الكلمة الواحدة آية مثل: (والفجر )، ( والضحى )، ( والعصر )، وكذلك: ( الم )،

و ( طه )، و( يس )، و( حم ) في قول الكوفيين، و(حم عسق ) عندهم كلمتان، وغيرهم لا يسمي هذه آيات، بل يقول: هذه فواتح السور ].

والمعتمد أنها آية كما هو موجود في المصاحف.

قوله: [ وقال أبو عمرو الداني : لا أعلم كلمة هي وحدها آية إلا قوله تعالى: (مدهامتان) بسورة الرحمن.

فصل.

قال القرطبي : أجمعوا على أنه ليس في القرآن شيء من التراكيب الأعجمية، وأجمعوا أن فيه أعلاماً من الأعجمية، كإبراهيم ونوح ولوط، واختلفوا هل فيه شيء من غير ذلك بالأعجمية، فأنكر ذلك الباقلاني والطبري وقالا: ما وقع فيه مما يوافق الأعجمية فهو من باب ما توافقت فيه اللغات ].

وهذه المسألة فيها كلام لأهل العلم، منهم من قال في بعض الكلمات كسجيل وأبابيل وغيرها: إنها أعجمية ثم دخلت العربية، ومنهم من قال: هذا مما توافقت فيه اللغات.