مقدمة تفسير ابن كثير [1]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.

إن تفسير الحافظ ابن كثير رحمة الله عليه تفسير عظيم ومن أحسن التفاسير وأمثلها، وتفسيره يتمشى مع منهج أهل السنة والجماعة في آيات الصفات، وهو تلخيص لتفسير الإمام ابن جرير رحمة الله عليه شيخ المفسرين، والحافظ ابن كثير كان يتعقب اختيارات ابن جرير المرجوحة، ويختار القول الراجح، واختيار الحافظ ابن كثير في الغالب موفق ومسدد.

وينقل كثيراً عن الحافظ العابد العالم أبو عبد الرحمن عبد الرحمن بن أبي حاتم، وينقل أيضاً عن الحافظ ابن مردويه وعن السدي الكبير وهو ثقة، أما السدي الصغير فهو كذاب لا يعتمد عليه، والسدي الكبير دائماً ما يروي عن أبي مالك عن أبي صالح عن ابن عباس وعن عروة عن ابن مسعود عن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.

وذكر الحافظ ابن كثير رحمة الله عليه في مقدمة هذا التفسير أن أحسن طريقة يسير عليها المفسر هي أن يفسر القرآن بالقرآن، فالآيات المجملة تفسر بالآيات المفصلة، وهكذا، أيضاً بأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالأحاديث المجملة تفسر بالأحاديث المفسرة، وهكذا، أيضاً بكلام أهل العلم، فحين يأتي كلام مجمل لبعض أهل العلم ويأتي قول آخر مفصل، فيفسر المجمل بالمفصل، هذه هي الطريقة التي ينبغي أن يسلكها المفسر عندما يفسر كتاب الله، وقد ألف العلامة الشنقيطي رحمة الله عليه كتاب (أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن) وهو مبني على هذه الطريقة وهي تفسير القرآن بالقرآن.

ثم بعد ذلك تفسير القرآن بالسنة النبوية؛ فإن السنة شارحة للقرآن وموضحة له، والسنة مع القرآن لها أحوال ثلاثة:

الحالة الأولى: أن تأتي مفسرة وموضحة لما أجمل في القرآن الكريم.

الحالة الثانية: تأتي مقيدة لما أطلق في القرآن الكريم ومفصلة لما أجمل.

والحالة الثالثة: تأتي بأحكام جديدة ليست في القرآن العزيز، كتحريم كل ذي ناب من السباع، وكل ذي مخلب من الطير، وتحريم الجمع بين المرأة وعمتها، وبين المرأة وخالتها، فإذا لم يجد المفسر تفسير الآية بالقرآن الكريم رجع إلى السنة المطهرة، فإذا لم يجد في السنة المطهرة رجع إلى أقوال الصحابة، فإن الصحابة أعلم الناس بكتاب الله؛ لأنهم عايشوا التنزيل، وكانوا يسألون النبي صلى الله عليه وسلم عما أشكل عليهم، فإذا لم يجد فبعض المفسرين يرجع إلى أقوال كبار التابعين؛ كالإمام مجاهد بن جبر فإنه عرض القرآن على ابن عباس ثلاث مرات يوقفه عند كل آية ويسأله عنها، وكذلك أيضاً مما ينبغي للمفسر معرفته علوم اللغة العربية؛ لأن القرآن نزل بلغة العرب وبلسان عربي مبين.

قال الشيخ الإمام الأوحد البارع الحافظ المتقي عماد الدين أبو الفداء إسماعيل بن الخطيب أبي حفص عمر بن كثير الشافعي رحمه الله تعالى ورضي عنه: [ الحمد لله الذي افتتح كتابه بالحمد فقال: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الفاتحة:2-4]، وقال تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا * قَيِّمًا لِيُنذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا * مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا * وَيُنذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا * مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا [الكهف:1-5]، وافتتح خلقه بالحمد فقال تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ [الأنعام:1]، واختتمه بالحمد فقال بعد ذكر مآل أهل الجنة وأهل النار: وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الزمر:75]، ولهذا قال تعالى: وَهُوَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الأُولَى وَالآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [القصص:70]، كما قال تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ [سبأ:1] فله الحمد في الأولى والآخرة، أي: في جميع ما خلق وما هو خالق، هو المحمود في ذلك كله كما يقول المصلي: اللهم ربنا لك الحمد ملء السماوات وملء الأرض وملء ما شئت من شيء بعد، ولهذا يلهم أهل الجنة تسبيحه وتحميده كما يلهمون النفس، أي: يسبحونه ويحمدونه عدد أنفاسهم؛ لما يرون من عظيم نعمه عليهم وكمال قدرته وعظيم سلطانه وتوالي مننه ودوام إحسانه إليهم ].

يعني: أن الله تعالى هو المستحق لأنواع المحامد كلها، ملكاً واستحقاقاً، وهو سبحانه وتعالى المحمود في فواتح الأمور وخواتمها، ولهذا افتتح كتابه العزيز بالحمد فقال تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:2]، وقال سبحانه: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ [الكهف:1]، وافتتح خلقه بالحمد فقال: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ [الأنعام:1]، وختم ذلك أيضاً إذا دخل أهل الجنة الجنة: وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ [الأعراف:43].. وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الزمر:75]، وهو محمود على كل حال سبحانه وتعالى محمود على السراء والضراء، وعلى المحبوب والمكروه، حتى أهل النار في دخولهم النار يحمدون الله على ذلك؛ لما ظهر لهم من عدل الله سبحانه وتعالى؛ لأن أحكام الله دائرة بين العدل والفضل، فأهل الجنة في فضله وأهل النار في عدله سبحانه وتعالى، وهو محمود على كل حال، وأهل الجنة يلهمون الحمد والتسبيح كما يلهمون النفس ويكون جزءاً من حياتهم يتنعمون به ليس فيه مشقة ولا تكريب، وإنما هو نعيم يتنعمون به وهذا من فضل الله تعالى وإحسانه بهم.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ كما قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ * دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [يونس:9-10].

والحمد لله الذي أرسل رسله مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ [النساء:165]، وختمهم بالنبي الأمي العربي المكي الهادي لأوضح السبل، أرسله إلى جميع خلقه من الإنس والجن من لدن بعثته إلى قيام الساعة، كما قال تعالى: قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [الأعراف:158]، وقال تعالى: لِأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ [الأنعام:19]، فمن بلغه هذا القرآن من عرب وعجم وأسود وأحمر وإنس وجان فهو نذير له، ولهذا قال تعالى: وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ [هود:17]، فمن كفر بالقرآن ممن ذكرنا فالنار موعده بنص القرآن، كما قال تعالى: فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ [القلم:44]، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بعثت إلى الأحمر والأسود)، قال مجاهد : يعني: الإنس والجن ].

قلت: لقد أخذ بعض العلماء من هذه الآيات أنه لا يعذر أحد بعد بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم وبعد نزول القرآن، ولا يكون حكمه حكم أهل الفترة؛ لقوله تعالى: وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ [الأنعام:19] أي: هذا القول فيه نذارة لكل من بلغه، وقال تعالى: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [الإسراء:15]، فمن بلغه القرآن وبلغه رسالة الرسول صلى الله عليه وسلم فقد قامت عليه الحجة وليس له عذر، ولاسيما في الأمور الواضحة، كالعبادة التي خلق الله الخلق من أجلها، والتوحيد الذي من أجله بعث الله رسله وأنزل كتبه، فلا عذر للمشرك في كونه يذبح لغير الله وينذر لغير الله أو يستغيث بغير الله أو يطوف بغير بيت الله، أو يطلب المدد من غير الله وهو بين المسلمين، وقد بلغه القرآن وبلغته رسالة النبي صلى الله عليه وسلم، ولهذا قال: وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ [الأنعام:19]، وقال: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [الإسراء:15]، أما من لم تبلغه الدعوة ولم يبلغه القرآن وكان لا يتكلم بالعربية ولم يسمع شيئاً عن القرآن فهذا حكمه حكم أهل الفترة حتى تقام عليه الحجة.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ فهو صلوات الله وسلامه عليه رسول الله إلى جميع الثقلين: الإنس والجن مبلغاً لهم عن الله تعالى ما أوحاه إليه من هذا الكتاب العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد، وقد أعلمهم فيه عن الله تعالى أنه ندبهم إلى فهمه، فقال تعالى: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا [النساء:82]، وقال تعالى: كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ [ص:29]، وقال تعالى: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا [محمد:24].

فالواجب على العلماء الكشف عن معاني كلام الله وتفسير ذلك وطلبه من مظانه، وتعلم ذلك وتعليمه، كما قال تعالى: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ [آل عمران:187]، وقال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُوْلَئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [آل عمران:77].

فذم الله تعالى أهل الكتاب قبلنا بإعراضهم عن كتاب الله المنزل عليهم، وإقبالهم على الدنيا وجمعها واشتغالهم بغير ما أمروا به من اتباع كتاب الله، فعلينا -أيها المسلمون- أن ننتهي عما ذمهم الله تعالى به، وأن نأتمر بما أمرنا به من تعلم كتاب الله المنزل إلينا وتعليمه وفهمه وتفهيمه، قال الله تعالى: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ * اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [الحديد:16-17].

ففي ذكره تعالى لهذه الآية بعد التي قبلها تنبيه على أنه تعالى كما يحيي الأرض بعد موتها كذلك يلين القلوب بالإيمان والهدى بعد قسوتها من الذنوب والمعاصي، والله المؤمل، وهو المسئول أن يفعل بنا هذا إنه جواد كريم ].

تفسير القرآن بالقرآن ثم بالسنة

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فإن قال قائل: فما أحسن طرق التفسير؟

فالجواب أن أصح الطرق في ذلك أن يفسر القرآن بالقرآن، فما أجمل في مكان فإنه قد بسط في موضع آخر، فإن أعياك ذلك فعليك بالسنة، فإنها شارحة للقرآن وموضحة له، بل قد قال الإمام أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي رحمه الله تعالى: كل ما حكم به رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو مما فهمه من القرآن، قال الله تعالى: إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا [النساء:105]، وقال تعالى: وَمَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [النحل:64]، وقال تعالى: وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ [النحل:44]، ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه) يعني السنة، والسنة أيضاً تنزل عليه بالوحي كما ينزل القرآن، إلا أنها لا تتلى كما يتلى القرآن، وقد استدل الإمام الشافعي رحمه الله تعالى وغيره من الأئمة على ذلك بأدلة كثيرة ليس هذا موضع ذلك ].

السنة وحي من الله، والسنة نوعان:

النوع الأول: الأحاديث القدسية التي يضيفها النبي صلى الله عليه وسلم إلى ربه ويقول فيها: (قال الله)، فهذا من كلام الله لفظاً ومعنى كالقرآن، فالقرآن كلام الله لفظاً ومعنى خلافاً للأشاعرة الذين يقولون: إن كلام الله معنى قائم بالنفس، وخلافاً للمعتزلة الذين يقولون: القرآن مخلوق. وهذا كفر وضلال، ولهذا كفر الأئمة والعلماء من قال: القرآن مخلوق، وتكفيرهم لقائل ذلك هو على وجه العموم، أما الشخص المعين فلابد من أن تقوم عليه الحجة، فمن قال: إن القرآن مخلوق فهو كافر.

والأشاعرة يقولون: القرآن كلام الله، وكلام الله معنى قائم بنفسه ليس بحرف ولا صوت، أما الحروف والأصوات فهي مخلوقة، وليس في المصحف شيء من كلام الله؛ لأن كلام الله معنى قائم بنفسه، وما في المصحف هو عبارة عن كلام الله، وهذا الذي ذهب إليه الأشاعرة يوافق المعتزلة في نصف مذهبهم؛ لأن المعتزلة يقولون: القرآن لفظه ومعناه مخلوق، والأشاعرة يقولون: لفظه مخلوق ومعناه قائم بنفسه تعالى ليس بمخلوق، وهذا من أبطل الباطل، فالقرآن كلام الله لفظه ومعناه، فيجب على كل مسلم أن يعتني بهذا القرآن العظيم، فإنه سعادة الأمة وفلاحها ونجاحها.

فالنوع الأول من السنة هو الأحاديث القدسية التي يقول فيها النبي صلى الله عليه وسلم: (قال الله)، كحديث أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه أنه قال: (يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا) فهذا كلام الله لفظه ومعناه وهو كالقرآن، إلا أنه يختلف عن القرآن في الأحكام، فالقرآن يتعبد بتلاوته، والحديث القدسي لا يتعبد بتلاوته، والقرآن لا يمسه إلا المتوضئ، والأحاديث القدسية يمسها غير المتوضئ، والقرآن معجز في لفظه ومعناه، والحديث القدسي ليس كذلك.

والنوع الثاني: الأحاديث النبوية التي ليست قدسية، وهذه الأحاديث معناها وحي من الله تعالى، ولفظها من النبي صلى الله عليه وسلم، ولهذا تنسب إلى الرسول، مثل قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى)، ومعناها من الله؛ لأنها وحي ثان، قال تعالى: وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى [النجم:3-4].

وما ذكره بعض مؤلفي كتب علوم القرآن كـالسيوطي في الإتقان وغيره من أن الحديث القدسي لفظه من النبي صلى الله عليه وسلم ومعناه من الله فإنه خطأ يتمشى على مذهب الأشاعرة، والسيوطي رحمه الله ليس عنده تحقيق في هذا، فهذا قد يشكل على بعض الطلبة إذا وجده في الإتقان لليسوطي وفي غيره من كتب أصول التفسير، فمن وجد ذلك فليعلم أن هذا يتمشى على مذهب الأشاعرة، والصواب أن الحديث القدسي لفظه ومعناه من الله كالقرآن، إلا أن الأحكام تختلف كما تقدم.

وما قاله النبي صلى الله عليه وسلم في شئون الحياة العادية لا يعتبر من الوحي، كأن ينزل في المكان الفلاني، ويبول في المكان الفلاني، ويجلس في المكان الفلاني، ونحو ذلك، فالصواب في هذه المسألة أن هذه من الأمور العادية، ولا يشرع الاقتداء به فيها، وقد كان ابن عمر رضي الله عنهما يتتبع الأماكن التي يتنزل فيها النبي صلى الله عليه وسلم اجتهاداً منه، فكان ينزل في المكان الذي كان ينزل فيه النبي صلى الله عليه وسلم، وقد ذكر البخاري شيئاً من هذا، فقال: كان ابن عمر يتتبع أماكن كثيرة. ولكنه خالف في هذا كبار الصحابة كـالصديق وعمر وغيرهم؛ فإنهم لم يتتبعوا النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الأماكن، ولهذا لما رأى عمر رضي الله عنه قوماً يأتوا إلى الشجرة التي بايع عندها النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه أمر بقطعها.

والمقصود أن الأمور العادية التي كان يفعلها النبي صلى الله عليه وسلم على سبيل العادة ليست من التشريع.

وأما ما كان يفعله مع زوجاته صلى الله عليه وسلم فإنه ينظر فيه، فإن كان على سبيل التشريع فإنه يقتدى به فيه، مثل معاملته لزوجاته ونحو ذلك، ومثله ما كان يفعله في البيت من الطهارة والغسل ونحو ذلك مما نقله إلينا أزواجه صلى الله عليه وسلم.

وكلام الله في القرآن يتفاضل، هذا هو الصواب، فسورة قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ تعدل ثلث القرآن، وآية الكرسي أفضل آية في كتاب الله، والفاتحة أفضل سورة في كتاب الله، فكلام الله يتفاضل، وبعضه أفضل من بعض، وإذا كان القرآن كلام الله يتفاضل فالحديث القدسي كذلك يتفاضل.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ والغرض أنك تطلب تفسير القرآن منه، فإن لم تجده فمن السنة ].

فأول طريقة من طرق التفسير أن يفسر القرآن بالقرآن.

تفسير القرآن بأقوال الصحابة

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ فإن لم تجده فمن السنة، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لـمعاذ حين بعثه إلى اليمن: (فبم تحكم؟ قال: بكتاب الله، قال: فإن لم تجد؟ قال: بسنة رسول الله، قال: فإن لم تجد؟ قال: اجتهد رأيي، قال: فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم في صدره وقال: الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضي رسول الله).

وهذا الحديث في المسند والسنن بإسناد جيد كما هو مقرر في موضعه ].

هذا الحديث سنده جيد كما ذكر المؤلف رحمه الله، وجود سنده كذلك شيخ الإسلام وابن القيم ، وفيه أن الإنسان يعمل بكتاب الله، فإن لم يجد فإنه يعمل بالسنة، فإن لم يجد فإنه يجتهد، ولما بعث النبي صلى الله عليه وسلم معاذاً قال له: (بم تقضي؟ قال: بكتاب الله، قال: فإن لم تجد؟ قال: بسنة رسول الله، قال: فإن لم تجد؟ قال: أجتهد رأيي ....) أما نحن فإننا إذا بحثنا ولم نجد في السنة دليلاً فإننا نأخذ بأقوال الصحابة إذا لم تتعارض، فقول الصحابي إذا لم يعارضه قول صحابي آخر يؤخذ به، فإن عارضه قول صحابي آخر تساقطا، فحينئذٍ يرجع إلى أصول الشريعة وقواعدها.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فإن قال قائل: فما أحسن طرق التفسير؟

فالجواب أن أصح الطرق في ذلك أن يفسر القرآن بالقرآن، فما أجمل في مكان فإنه قد بسط في موضع آخر، فإن أعياك ذلك فعليك بالسنة، فإنها شارحة للقرآن وموضحة له، بل قد قال الإمام أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي رحمه الله تعالى: كل ما حكم به رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو مما فهمه من القرآن، قال الله تعالى: إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا [النساء:105]، وقال تعالى: وَمَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [النحل:64]، وقال تعالى: وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ [النحل:44]، ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه) يعني السنة، والسنة أيضاً تنزل عليه بالوحي كما ينزل القرآن، إلا أنها لا تتلى كما يتلى القرآن، وقد استدل الإمام الشافعي رحمه الله تعالى وغيره من الأئمة على ذلك بأدلة كثيرة ليس هذا موضع ذلك ].

السنة وحي من الله، والسنة نوعان:

النوع الأول: الأحاديث القدسية التي يضيفها النبي صلى الله عليه وسلم إلى ربه ويقول فيها: (قال الله)، فهذا من كلام الله لفظاً ومعنى كالقرآن، فالقرآن كلام الله لفظاً ومعنى خلافاً للأشاعرة الذين يقولون: إن كلام الله معنى قائم بالنفس، وخلافاً للمعتزلة الذين يقولون: القرآن مخلوق. وهذا كفر وضلال، ولهذا كفر الأئمة والعلماء من قال: القرآن مخلوق، وتكفيرهم لقائل ذلك هو على وجه العموم، أما الشخص المعين فلابد من أن تقوم عليه الحجة، فمن قال: إن القرآن مخلوق فهو كافر.

والأشاعرة يقولون: القرآن كلام الله، وكلام الله معنى قائم بنفسه ليس بحرف ولا صوت، أما الحروف والأصوات فهي مخلوقة، وليس في المصحف شيء من كلام الله؛ لأن كلام الله معنى قائم بنفسه، وما في المصحف هو عبارة عن كلام الله، وهذا الذي ذهب إليه الأشاعرة يوافق المعتزلة في نصف مذهبهم؛ لأن المعتزلة يقولون: القرآن لفظه ومعناه مخلوق، والأشاعرة يقولون: لفظه مخلوق ومعناه قائم بنفسه تعالى ليس بمخلوق، وهذا من أبطل الباطل، فالقرآن كلام الله لفظه ومعناه، فيجب على كل مسلم أن يعتني بهذا القرآن العظيم، فإنه سعادة الأمة وفلاحها ونجاحها.

فالنوع الأول من السنة هو الأحاديث القدسية التي يقول فيها النبي صلى الله عليه وسلم: (قال الله)، كحديث أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه أنه قال: (يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا) فهذا كلام الله لفظه ومعناه وهو كالقرآن، إلا أنه يختلف عن القرآن في الأحكام، فالقرآن يتعبد بتلاوته، والحديث القدسي لا يتعبد بتلاوته، والقرآن لا يمسه إلا المتوضئ، والأحاديث القدسية يمسها غير المتوضئ، والقرآن معجز في لفظه ومعناه، والحديث القدسي ليس كذلك.

والنوع الثاني: الأحاديث النبوية التي ليست قدسية، وهذه الأحاديث معناها وحي من الله تعالى، ولفظها من النبي صلى الله عليه وسلم، ولهذا تنسب إلى الرسول، مثل قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى)، ومعناها من الله؛ لأنها وحي ثان، قال تعالى: وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى [النجم:3-4].

وما ذكره بعض مؤلفي كتب علوم القرآن كـالسيوطي في الإتقان وغيره من أن الحديث القدسي لفظه من النبي صلى الله عليه وسلم ومعناه من الله فإنه خطأ يتمشى على مذهب الأشاعرة، والسيوطي رحمه الله ليس عنده تحقيق في هذا، فهذا قد يشكل على بعض الطلبة إذا وجده في الإتقان لليسوطي وفي غيره من كتب أصول التفسير، فمن وجد ذلك فليعلم أن هذا يتمشى على مذهب الأشاعرة، والصواب أن الحديث القدسي لفظه ومعناه من الله كالقرآن، إلا أن الأحكام تختلف كما تقدم.

وما قاله النبي صلى الله عليه وسلم في شئون الحياة العادية لا يعتبر من الوحي، كأن ينزل في المكان الفلاني، ويبول في المكان الفلاني، ويجلس في المكان الفلاني، ونحو ذلك، فالصواب في هذه المسألة أن هذه من الأمور العادية، ولا يشرع الاقتداء به فيها، وقد كان ابن عمر رضي الله عنهما يتتبع الأماكن التي يتنزل فيها النبي صلى الله عليه وسلم اجتهاداً منه، فكان ينزل في المكان الذي كان ينزل فيه النبي صلى الله عليه وسلم، وقد ذكر البخاري شيئاً من هذا، فقال: كان ابن عمر يتتبع أماكن كثيرة. ولكنه خالف في هذا كبار الصحابة كـالصديق وعمر وغيرهم؛ فإنهم لم يتتبعوا النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الأماكن، ولهذا لما رأى عمر رضي الله عنه قوماً يأتوا إلى الشجرة التي بايع عندها النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه أمر بقطعها.

والمقصود أن الأمور العادية التي كان يفعلها النبي صلى الله عليه وسلم على سبيل العادة ليست من التشريع.

وأما ما كان يفعله مع زوجاته صلى الله عليه وسلم فإنه ينظر فيه، فإن كان على سبيل التشريع فإنه يقتدى به فيه، مثل معاملته لزوجاته ونحو ذلك، ومثله ما كان يفعله في البيت من الطهارة والغسل ونحو ذلك مما نقله إلينا أزواجه صلى الله عليه وسلم.

وكلام الله في القرآن يتفاضل، هذا هو الصواب، فسورة قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ تعدل ثلث القرآن، وآية الكرسي أفضل آية في كتاب الله، والفاتحة أفضل سورة في كتاب الله، فكلام الله يتفاضل، وبعضه أفضل من بعض، وإذا كان القرآن كلام الله يتفاضل فالحديث القدسي كذلك يتفاضل.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ والغرض أنك تطلب تفسير القرآن منه، فإن لم تجده فمن السنة ].

فأول طريقة من طرق التفسير أن يفسر القرآن بالقرآن.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ فإن لم تجده فمن السنة، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لـمعاذ حين بعثه إلى اليمن: (فبم تحكم؟ قال: بكتاب الله، قال: فإن لم تجد؟ قال: بسنة رسول الله، قال: فإن لم تجد؟ قال: اجتهد رأيي، قال: فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم في صدره وقال: الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضي رسول الله).

وهذا الحديث في المسند والسنن بإسناد جيد كما هو مقرر في موضعه ].

هذا الحديث سنده جيد كما ذكر المؤلف رحمه الله، وجود سنده كذلك شيخ الإسلام وابن القيم ، وفيه أن الإنسان يعمل بكتاب الله، فإن لم يجد فإنه يعمل بالسنة، فإن لم يجد فإنه يجتهد، ولما بعث النبي صلى الله عليه وسلم معاذاً قال له: (بم تقضي؟ قال: بكتاب الله، قال: فإن لم تجد؟ قال: بسنة رسول الله، قال: فإن لم تجد؟ قال: أجتهد رأيي ....) أما نحن فإننا إذا بحثنا ولم نجد في السنة دليلاً فإننا نأخذ بأقوال الصحابة إذا لم تتعارض، فقول الصحابي إذا لم يعارضه قول صحابي آخر يؤخذ به، فإن عارضه قول صحابي آخر تساقطا، فحينئذٍ يرجع إلى أصول الشريعة وقواعدها.