خطب ومحاضرات
سلسلة مقتطفات من السيرة [9]
الحلقة مفرغة
بسم الله الرحمن الرحيم.
أحمد الله رب العالمين، حمد عباده الشاكرين الذاكرين، حمداً يوافي نعم الله علينا ويكافئ مزيده.
وصلاة وسلاماً على المبعوث رحمة للعالمين، سيدنا محمد، اللهم صل وسلم وبارك عليه صلاة وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين.
أما بعد:
فهذا هو الدرس التاسع في سلسلة دروسنا عن السيرة النبوية العطرة على صاحبها أفضل الصلوات وأزكى التسليمات من رب الأرض والسموات.
ونسأل الله عز وجل في بداية هذه الجلسة الطيبة أن يجعلها خالصة لوجهه الكريم، وأن يثقل بها موازيننا يوم القيامة، وألا يجعل للشيطان فيها حظاً أو نصيباً.
اللهم لا تدع لنا -يا مولانا- ذنباً إلا غفرته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا عسيراً إلا يسرته، ولا كرباً إلا أذهبته، ولا هماً إلا فرجته، ولا ديناً إلا قضيته، ولا ضالاً إلا هديته، ولا ميتاً إلا رحمته، ولا مديناً إلا قضيت دينه، ولا عيباً إلا سترته، ولا مظلوماً إلا نصرته، ولا ظالماً إلا قصمته، ولا حاجة من حوائج الدنيا لك فيها رضا ولنا فيها صلاح إلا قضيتها ويسرتها بكرمك يا أكرم الأكرمين.
اللهم اجعل خير أعمالنا خواتيمها، وخير أيامنا يوم أن نلقاك، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه.
اللهم اشرح صدورنا، واغفر ذنوبنا، ويسر أمورنا، وبلغنا فيما يرضيك آمالنا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وأذهب الغل والحسد من قلوبنا، واجعلنا إخوة متحابين فيك يا أرحم الراحمين.
اللهم إنا نسألك حبك، وحب من أحبك، وحب كل عمل يقربنا إلى حبك، واغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرين.
كنا قد توقفنا عند زواج السيدة فاطمة الزهراء قرة عين الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم من ربيب بيت النبوة علي بن أبي طالب كرم الله وجهه ورضي الله عنه.
وتحدثنا عن أبناء فاطمة الأربعة ذكوراً وإناثاً، فتحدثنا عن الحسن وعن الحسين وعن زينب وعن أم كلثوم ، فاللهم ألحقنا بهم في مقعد صدق عند مليك مقتدر يا أكرم الأكرمين.
وتحدثنا عن زواجه صلى الله عليه وسلم بالسيدة خديجة ، وكيف وقفت معه، وكيف ناصرته، وكيف أيدته، وكيف كانت القلب الحنون، وكانت الإنسانة التي تخفف وطأة الحياة على قلب الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم.
وهكذا يجب أن تكون المرأة المسلمة، فيجب أن تكون بجوار زوجها هي الزوجة، وهي الأم، وهي الابنة، وهي الحبيبة، وهي الرفيقة، وهي التي تكون مرآة لزوجها يرى فيها عيوبه، ويصل هو وهي بطاعتهما لله عز وجل إلى حياة هانئة سعيدة فيها سكن وفيها مودة وفيها رحمة، فاللهم اطرد عن بيوتنا شياطين الإنس والجن، ووفقنا وزوجاتنا وذرياتنا إلى ما تحبه وترضاه يا أرحم الراحمين.
والتاريخ كله سلسلة واحدة، فهو عبارة عن حلقات، كل حلقة متصلة بالتي تليها، وقبل أن أدخل في قضية بعثة الحبيب المصطفى ونزول سيدنا جبريل عليه السلام أقف قبل ذلك قليلاً عند أبي الأنبياء الذي نحن على ملته، وسمانا بالمسلمين، ووصفه الله بأنه كان أمة قانتاً لله، ولقيه الحبيب ليلة المعراج في السماء السادسة فرحب به وحياه: وقال: أهلاً بالنبي الصالح والابن الصالح، وأنبأه بأن الجنة كلها قيعان، غراسها: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
فالحديث عن خليل الرحمن سيدنا إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، فنحن في كل تشهد نذكر الفضل لخليل الرحمن عليه السلام، فنقول: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد.
والأنبياء -كما قال صلى الله عليه وسلم- كلهم إخوة، دينهم واحد وأمهاتهم شتى، فكل رسول من الرسل يأتي فيقول: يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ [الأعراف:59]، فهذه الجملة عنوان لدعوة كل رسول إلى الله عز وجل.
ومما نعلل به الحديث عن سيدنا الخليل عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام أن قصة سيدنا إبراهيم تكاد تتقارب مع رسالة الحبيب المصطفى، ثم إن الابتلاءات التي ابتلي بها الرسل كان للخليل النصيب الأعظم منها، فمدحه رب الأرض والسموات فقال: وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى [النجم:37]، فبم وفى؟
قال أهل العلم: وهب جسده للنيران، وطعامه للضيفان، وابنه للقربان، وروحه للرحمن، فهو متصل بالله عز وجل.
ثم إن سيدنا إبراهيم هو أبو الأنبياء، ويدعيه أهل كل ملة، ولكن يبين الله سبحانه وتعالى الحقيقة الأساسية والتاريخية فيقول: مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [آل عمران:67]، فسيدنا إبراهيم ليس بيهودي ولا نصراني، ولكنه حنيف مسلم عليه السلام.
وسيدنا إبراهيم عليه السلام أحد أولي العزم من الرسل، والله قد أمر رسوله صلى الله عليه وسلم بالصبر كما صبر أولو العزم من الرسل، وأولو العزم هم نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم، فهؤلاء الخمسة أولو العزم، فعند الحديث عنهم عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام يقوى قلب الحبيب المصطفى، فكلهم قد ابتلوا وشردوا، واتهموا بالجنون والتخريف.
وكان عليه الصلاة والسلام بتواضعه يقول: (إنما مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بيتاً فجمله وحسنه إلا موضع لبنة فيه، فجعل الناس يطوفون به ويقولون: ما أحسنه لولا هذه اللبنة) فالناس تطوف حول البيت وتقول: ما أجمل هذا البيت، ما أعظم هذا البيت، لو وضعت هذه اللبنة، قال: (فأنا اللبنة وأنا خاتم النبيين).
فهل هناك تواضع أكثر من هذا؟! مع أنه صلى الله عليه وسلم مهما تحدثنا عن عظمته فلن نبلغ ذرة من بحار ومحيطات فضل الله سبحانه على حبيبه صلى الله عليه وسلم.
نشأ سيدنا الخليل وبعث في أرض العراق، ولما أتعبه أهل العراق -كما هي عادتهم- هاجر إلى نابلس في فلسطين، فلما حدثت المجاعة في العراق والشام -وكانت تشمل الأردن وفلسطين وسوريا- جاء الخليل إلى مصر؛ لأن مصر أرض الخيرات، وإذا استقام أهل مصر على طريق الله عز وجل كان الخير كله، ومصر هي عمود الإسلام في كل الأزمان، فاللهم اهد أهلها ووفق ولاتها إلى ما تحبه وترضاه يا أكرم الأكرمين، وجنبهم بطانة السوء وارزقهم بطانة خير تحضهم على الخير وتحثهم عليه.
وقد مكث سيدنا الخليل عليه السلام سنوات ولم ينجب، حتى قال أهل العلم: بلغ ستاً وثمانين سنة من عمره ولم ينجب، فيا من يئست من الإنجاب، ويا من ترغب في البنين ويئست أن يأتي ولي العهد! ثق في رحمة الله عز وجل الذي يقول للشيء كن فيكون، فسوف يقول للعاقر: كوني ولوداً، وسوف يقول لمنجبة البنات: انجبي أبناءً.
وأنت لا تعرف الخير أين يكون، فالخير فيما أنت فيه، فإذا وصل الإيمان إلى ذروته فاختيارك ما اختار الله لك، لأن ربنا سبحانه يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ [القصص:68] فالاختيار من عند الله.
وإذا اختار لك فإنه سيقنعك بما اختار لك، وإذا قنعك بما اختار لك رضي عنك، فاللهم ارض عنا جميعاً.
فلو لم ترض بزوجتك وكشف لك الحجاب لرأيت أن فيها الخير كله، ولو أن المرأة الغاضبة على زوجها كشف لها عالم الغيب لما اختارت إلا زوجها، حتى وإن كان سيئ الطبع أو بذيء اللسان أو بخيلاً؛ لأن أعمالها لا ترقى لأن تدخلها الجنة، فالله يحبها فيبتليها بزوج سليط اللسان أو بخيل أو قليل الأدب من أجل أن يكثر حسناتها كل يوم، فعندما تموت تموت وهي كيوم ولدتها أمها، وهكذا أنت حين يرزقك الله بزوجة سيئة.
ليس الغبي بسيد في قومه لكن سيد قومه يتغابى
والبيوت كلها فيها عيوب، وهل هناك بيت من غير عيب غير بيت سيدنا الحبيب صلى الله عليه وسلم؟!
ثم إن في النساء سيئة وأسوأ، وكذلك الرجال، وفيهم حسن، وأما الأحسن فقليل، وهو الذي يقدم خيراً لمن قدم إليه شراً، وهو النوع من الناس نادر، والنادر لا حكم له.
كرجل امرأته تؤذيه ثلاثين سنة وهو صابر، فهذا رجل من القلة الذين هم صابرون، فاللهم اجعل لنا صبراً كصبر أيوب، واجعل نساءنا كآسية امرأة فرعون.
فسيدنا إبراهيم بلغ به السن مبلغه، فهاجر إلى مصر ورجع بالسيدة هاجر ، فتسرى بها، فحملت بإسماعيل.
وفي الكتب أن السيدة سارة غارت، والواقع أنه لو كانت غيرة لبنى لهذه بيتاً ولهذه بيتاً، فيضع واحدة في مكان والأخرى في مكان آخر، ولكن سيدنا إبراهيم أخذ هاجر وابنه الرضيع وذهب إلى مكة، ولا يتحرك نبي من الأنبياء ولا رسول من الرسل إلا بإذن من الله.
فسيدنا يونس عليه السلام لما تحرك خطوة بدون استئذان الوحي حصل له ما حصل، كما قال تعالى: وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا [الأنبياء:87]، فليس براض عنه قومه؛ لأنهم لم يؤمنوا، ويجب أن يكون غضبك لله عز وجل.
وهناك قصة في الغضب لله والغضب للنفس، وهي أن أناساً كان يعبدون شجرة، وعلم بهم رجل مسلم، فأخذ الفأس وذهب ليقطعها، فقابله إبليس في صورة رجل فقال: إلى أين؟ قال له: هناك شجرة تعبد من دون الله سوف أذهب لأقطعها، فقال له: مالك وللناس، دع الناس في شأنهم، وعد إلى بيتك وسوف تجد تحت وسادتك كل صباح عشرة من الدنانير.
فالشيطان يغرك ثم يضرك، كما قال تعالى: إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ [القصص:15]، ويأتي يوم القيامة إلى أهل الفسق والفجور فيقول لهم: مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ [إبراهيم:22] ويقول لمن أغواه: إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ [المائدة:28].
فالرجل عاد إلى البيت فلم يجد تحت وسادته في الصباح شيئاً، وكذلك في اليوم الثاني والثالث، فقال: الرجل يضحك علي، فأخذ الفأس وذهب، فلقي الشيطان في صورة ذلك الرجل فقال له: إلى أين؟ فقال: أنت كذاب تضحك علي، لقد رفعت الوسادة ثلاثة أيام فلم أجد شيئاً. فقال له: إلى أين ستذهب؟ قال: سأذهب لأقطع الشجرة، فقال له: لو مددت يدك لقطعتها قبل أن تمدها إلينا. فقال له: لماذا لم تقطع يدي أولاً؟ قال له: لقد خرجت أول مرة غضباً لله، فما كان لأحد أن يمسك بسوء، وأما الآن فإنك خرجت غضباً لنفسك، فإن مددت يدك قطعتها.
فيونس عليه السلام خرج مغاضباً، فركب في السفينة، فكانت الأمواج تأخذها وتضعها، فقال راكبوها: لا بد من إجراء قرعة لقذف أحدنا في البحر، فوقعت القرعة على يونس، فقذف في البحر فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ [الصافات:142].
وحين ابتلعه قال له الله: لم أرسل يونس لك طعاماً، وإنما أرسلتك له حافظاً، وحين دخل في جوف الحوت قال: وعزتك وجلالك لأذكرنك في مكان ما ذكرك أحد فيه من قبل، ثم قال: لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ [الأنبياء:87]، أوله تهليل وأوسطه تسبيح وآخره اعتراف بالذنب.
فلما قال ذلك قالت الملائكة: يا ربنا صوت معروف في مكان غريب. فأسماع الملائكة تتعود على ذكر الذاكرين، فأنت حين تكون من الذاكرين لله تتعود الملائكة على سماع صوتك.
قال تعالى: فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [الصافات:143-144].
قال تعالى: فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ * وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ [الصافات:145-146] واليقطين هو القرع، والقرع هو النبات الوحيد الذي لا يأتي حوله ولا فوقه الذباب، لأن سيدنا يونس سيخرج مبتلاً من الحوت، فالذباب سيجتمع عليه، فكساه الله تعالى بالقرع ثم أرسله إلى مائة ألف أو يزيدون، قال تعالى: فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ [الصافات:148].
فسيدنا الخليل أخذ هاجر وابنه إسماعيل وتركهما في واد غير ذي زرع عند بيت الله المحرم، وهذا أمر من الله.
فكل حركة من حركات الأنبياء لا تكون إلا بوحي، ولذا لا ينبغي أن تساوي بيوت الأنبياء والمرسلين ببيوتنا؛ فهم المثل الأعلى.
فتركهما في مكان لا زرع فيه ولا ماء ولا عمران، فقالت هاجر: يا إبراهيم! آلله أمرك بهذا؟ قال لها: نعم، قالت: إذاً لن يضيعنا.
فانظر إلى اليقين، فإذا كان الله هو الآمر فلن نضيع، والذي يمشي تبعاً لأمر الله لا يضيع، فإذا كنت داخل حدود ما أمر الله فأنت في راحة وفي مأمن من الشيطان ومأمن من كل سوء إن شاء الله رب العالمين؛ لأنك عندما تعمل الطاعة يكافئك الله بطاعة بعدها، وإن للطاعة لنوراً في الوجه ورضا في القلب ومحبة في قلوب الخلق وسعة في الرزق وبركة في العمر، وإن للمعصية لظلمة في الوجه وانقباضاً في القلب وضيقاً في الرزق وكراهية في قلوب الخلق وضنكاً في المعيشة، كما قال تعالى: وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا [طه:124].
فـهاجر لم تقل لسيدنا إبراهيم: يا رجل! جئت بي من مصر من أجل أن تهينني في بلاد الغربة، وترميني في صحراء، بل قالت: الله أمرك بهذا؟! فقال لها: نعم، فقالت: لن يضيعنا. فكانت على ثقة بالله.
فمن اعتمد على ماله قل، ومن اعتمد على عقله ضل، ومن اعتمد على ذكائه اختل، ومن اعتمد على الله فما قل ولا ذل ولا ضل ولا اختل.
فأنت موصول بالله تكل الأمور إلى القوي المتين، وتقول: يا رب! لست قادراً، فاهد ابني، واهد امرأتي.
إن أم أبي هريرة شتمت الرسول صلى الله عليه وسلم فجاء أبو هريرة إلى رسول الله فقال له: يا رسول الله! ادع لأمي، فقال: اللهم اهد أم أبي هريرة ، فرجع البيت، فسمع صوت ماء، فطرق الباب، فقالت أمه: انتظر يا بني، فخرجت والماء يقطر منها قد أسلمت.
فلما ذهب إبراهيم عليه السلام مكثت هاجر مع ابنها، فانتهى الزاد، فبكى الطفل الرضيع، فقامت السيدة هاجر تركض بين الصفا والمروة سبع مرات حتى نزل جبريل عليه السلام وفجر الأرض تحت أقدام سيدنا إسماعيل، فتفجرت بئر زمزم وأتت جرهم، وكبر سيدنا إسماعيل، فتعلم منهم الفروسية، وتعلم منهم اللغة العربية، ونشأ عربياً بينهم.
وفي أول زيارة وأول لقاء بين إبراهيم وإسماعيل قال إبراهيم لإسماعيل: إن الله أمرني بأمر، أتعينني عليه؟ قال له: أعينك يا أبتاه، فقال: إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ [الصافات:102].
فتخيل أنك أخذت امرأتك وابنك وهو رضيع وتركتهما في مكان بعيد، وبعد اثنتي عشرة سنة أتيت إلى ابنك فقلت له: أنا أتيت لأذبحك. فبالله عليك ماذا سيقول الولد؟!
فسيدنا إبراهيم قال لابنه: يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى [الصافات:102]، فقال: يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ [الصافات:102]، فالأمر من الله، سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ [الصافات:102].
ثم قال: يا أبت! إن أردت تنفيذ أمر الله فألقني على وجهي، فقال: لماذا يا بني؟ قال: ربما رأيت وجهي فتأخذك الرقة فلا تنفذ أمر الله في. فالابن يشجع أباه على الطاعة وأما أبناء اليوم فإنهم يشجعون آباءهم على المعصية.
لقد كان عمر سيدنا إبراهيم في الوقت الذي سيذبح فيه إسماعيل ثمانية وتسعين عاماً، هل له بعد ذلك أمل في أن يخلف ولداً آخر؟! إنه تنفيذ أمر الله.
وقال له أيضاً: وشد وثاقي، لكي لا يتطاير بعض من دمي يصيب ثوبك.
فالذي نخرج به من دروس السيرة هو التوكل على الله، وتنفيذ أمر الله، سواء رضي العقل أم لم يرض.
قال تعالى: فَلَمَّا أَسْلَمَا [الصافات:103]، أي: أسلما لله، ولذا قال تعالى: وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ * إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ [البقرة:130-131]، والإسلام ليس كلاماً، بل الإسلام عمل وعقيدة، فكلام الإيمان سهل، ولكن العمل الإيماني هو الصعب، فالعمل الإيماني هو تحويل الكلام إلى عمل، وساعتها تكون المؤمن الحقيقي.
قال تعالى: فَلَمَّا أَسْلَمَا [الصافات:103] أي: أسلما أمرهما لله، وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ [الصافات:103]، أي: جعله على وجهه كما قال له.
فحينئذٍ نزل جبريل بكبش الفداء: إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ * وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ [الصافات:106-107] فنجح في الامتحان.
وبعد ذلك تزوج إسماعيل، وبعد زمن جاء إبراهيم وكانت امرأة إسماعيل في البيت، فقال لها: كيف حالكم يا بنيتي؟ فقالت: بشر حال، فقال لها: إذا جاء إسماعيل فقولي له: إبراهيم يقرئك سلاماً، ويقول لك: غير عتبة بابك.
فلما رجع قالت له: جاء شخص كبير اسمه إبراهيم فسأل عليك، وهو يسلم عليك ويقول لك: غير عتبة بابك. فقال لها: أنت العتبة، أنت طالق. فهي عتبة لا ترضى، وعتبة ليست متواضعة.
ثم تزوج سيدنا إسماعيل، وجاء سيدنا إبراهيم يسأل عليه، فوجد امرأته فقال لها: كيف الحال يا بنية؟ فقالت: بخير حال يا عماه، نحمد الله، هذا فضل من الله كبير، فقال لها: إذا جاء إسماعيل فقولي له: إبراهيم يقرئك السلام، ويقول: تمسك بعتبة بابك.
ثم جاء سيدنا إبراهيم يزوره، فلقيه فقال: يا إسماعيل! إن ربي أمرني أن نرفع القواعد من البيت، فلبى إسماعيل مباشرة، وبدءا في رفع القواعد، وارتفع البنيان، فقال إبراهيم: يا إسماعيل! هات لي حجراً أقف عليه، فكان سيدنا إبراهيم يقف عليه ثم ينقله، فالحجر بقدرة الله يتحرك إلى الجهة التي يريد إبراهيم أن يتحرك إليها.
لقد تعرض سيدنا إبراهيم لابتلاءات توالت، فيا من ابتلي بضنك في المعيشة، وولد عاق، قل: يا رب! أغنني، فسوف يغنيك من فضله، وإن كانت امرأتك غاضبة عليك، فاتق الله يهدها لك، وإن كان ابنك على غير المرجو وقد ربيته فلم يكن فيه فائدة فاعلم أن هذا ابتلاء من الله، فاصبر على الابتلاء، وإذا كان بعض العمال قد أتعبوك في محلك فاستجر بالله سبحانه وتعالى، فسيقذف الرأفة والرحمة في قلوبهم.
فسيدنا إبراهيم وهو صغير كان أبوه منشغلاً بصناعة التماثيل، فكان يقول له: يا إبراهيم! بع الآلهة. وكانت الآلهة أنواعاً، فالغني يشتري إله ذهب، والفقير يشتري إله طين.
فسيدنا إبراهيم جمعها كلها في مكان وقال: من الذي يشتري ما لا ينفع ولا يضر! ثم كسر الأصنام وقال لقومه: اسألوا كبيرهم هذا، فقذفوه في النار، قال تعالى: قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ [الأنبياء:69]، فكانت الملائكة تسامر سيدنا إبراهيم وهو قاعد في وسط النار، ولم تحترق إلا القيود والحبال التي ربطوه بها. لكن برد وسلام.
ثم دخل عليه نفر من الملائكة، وكان كريماً، فقد كان يمشي مسافة ميلين قبل الطعام ليأتي بضيف.
قال تعالى: فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ [هود:69]، فرآهم لا يأكلون فخاف، فقالوا: إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ [هود:81] فنحن ملائكة آتون إلى قوم لوط لنعذبهم، فقال لهم: إِنَّ فِيهَا لُوطًا [العنكبوت:32] فقالوا: نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا [العنكبوت:32]، ثم بشروا سارة بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ [هود:71].
ويروى أن كافراً آكل في بيت الخليل، فعلم إبراهيم بحقيقته، فأخذ الأكل من أمامه وطرده، فقال الله: يا خليلي! أبيت أن تضيفه في بيتك ساعة، وأنا -مع كفره بي- أضيفه في ملكي منذ خمسين سنة.
فانطلق سيدنا إبراهيم ليرده، فقال له: لقد طردتني، فقال: لقد عاتبني فيك ربي. فقال: رب يعاتب خليله في كافر مثلي؟! هذا رب أولى بالعبادة والتوحيد، وأنا أشهد أن لا إله إلا الله، فقال الله: يا إبراهيم! أعجبت من رجل أكل نصف طعامه كافراً ثم أكل نصفه مؤمناً بفضل حسن الخلق؟! وشتان ما بين الأكلتين.
فحاصل حياة الأنبياء هو التربية على الصبر.
استمع المزيد من د. عمر عبد الكافي - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
سلسلة مقتطفات من السيرة [15] | 2692 استماع |
سلسلة مقتطفات من السيرة [23] | 2533 استماع |
سلسلة مقتطفات من السيرة [16] | 2145 استماع |
سلسلة مقتطفات من السيرة [12] | 2126 استماع |
سلسلة مقتطفات من السيرة [8] | 2058 استماع |
سلسلة مقتطفات من السيرة [17] | 2053 استماع |
سلسلة مقتطفات من السيرة [19] | 2035 استماع |
سلسلة مقتطفات من السيرة [18] | 2014 استماع |
سلسلة مقتطفات من السيرة [24] | 1981 استماع |
سلسلة مقتطفات من السيرة [11] | 1947 استماع |