سلسلة مقتطفات من السيرة [19]


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وعلى أصحابه أجمعين. وبعد:

فإنما يراد العلم للعمل، ولا خير في علم بلا عمل، ويذكر أن خطيباً خطب في الناس خطبة، ثم أعادها في الجمعة الثانية، ثم أعادها في الجمعة الثالثة، قيل له: يا إمام! لقد حفظناها، قال: إذا عملتم بها قلنا لكم غيرها.

والعلم ليس بكثرة الرواية، وإنما العلم الخشية من الله عز وجل، وأن نعمل بما نعلم، فمن عمل بما علم ورثه الله علم ما لم يعلم، ومن لم يعمل بما يعلم تاه فيما يعمل، ولم يوفقه الله فيما يعلم.

فالإنسان المسلم يجب عليه حين يستمع أن يبادر فيطبق وينفذ.

ويقال إن سيدنا عمر بن الخطاب رضوان الله عليه حفظ البقرة في ثمان سنوات، وكان يحفظ الآية وقبل أن يحفظ الآية التي بعدها يطبق الآية التي قبلها، وبعد أن يطبقها عملياً يحفظ الآية التي تليها، وبعد أن يحفظها يطبقها على نفسه، وبعد ذلك يحفظ الثالثة.. وهكذا، ونحن اليوم نعجز عن تطبيق آية واحدة أو حديث واحد. لا يستطيع الواحد منا أن يطبقه على نفسه، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا وإياكم من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه.

اللهم لا تدع لنا يا مولانا في هذا اليوم العظيم ذنباً إلا غفرته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا عسيراً إلا يسرته، ولا كرباً إلا أذهبته، ولا هماً إلا فرجته، ولا ديناً إلا قضيته، ولا صدراً ضيقاً إلا شرحته، ولا مظلوماً إلا نصرته، ولا ظالماً إلا قصمته، ولا ميتاً إلا رحمته، ولا مسافراً إلا رددته غانماً سالماً لأهله.

اللهم احقن دماء المسلمين.

اللهم لا تسل قطرة مسلمة من دماء المسلمين إلا في سبيلك، واجعل خير أعمالنا خواتيمها، وخير أيامنا يوم أن نلقاك، واطرد اللهم شياطين الإنس والجن عن بيوتنا.

اللهم اهد لنا زوجاتنا وأبنائنا وذرياتنا.

اللهم اجعلنا هادين مهتدين غير ضالين ولا مضلين، ثقل بهذا العلم موازيننا يوم القيامة، اجعله نوراً لنا على الصراط يوم القيامة.

اللهم اغفر لنا وارحمنا، عافنا واعف عنا، سامحنا وتقبل منا، صلنا بك ولا تقطعنا عنك، واجعلنا لديك من المقبولين.

آمين.. آمين.

والحمد لله رب العالمين، وصلاة وسلاماً على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

وبعد:

كلنا يتساءل كيف الدخول على الله؟

عندما يسأل السائل منا: كيف أقابل الوزير الفلاني؟ -ولله المثل الأعلى- قد يقال: ندخل إلى مدير مكتبه أو بواسطة من يعرفه، أو تتصل بمدير المكتب ليحدد لك موعداً معه.

إذاً: هذه وسائل للقاء أو للدخول على أحد المسئولين؛ المحافظ الوزير رئيس الوزراء أي شخص. .

إذاً: هناك وسائل أو مفاتيح وأسباب للدخول على بعض المخلوقات.

أما السؤال الأهم: وهو كيف أدخل على الله؟ فلابد أن يعلم أن هناك خطوات، وهناك أبواب تطرق، وهناك مفاتيح يستطيع الإنسان أن يرد، باستخدامها على الله، قال أهل العلم: من داوم على القرع لابد أن يفتح له، ولذلك من أسماء يوم القيامة القارعة: لأنها تقرع الأسماع، ومنه قرعت طبول الحرب أي: بدأت تتأكد الحرب.

ويذكر أن هذا الكلام قيل أمام السيدة رابعة العدوية فتبسمت وقالت: ومتى أغلق باب الله حتى يقرع، إنما الذي يريد أن يدخل يدخل، ولكن الدخول له شروط! أنت عندما تريد أن تقابل أحد المسئولين تبدأ بالتفكير من الليل؛ فتحدد الملابس التي سترتديها، والورقة التي تقدمها فلابد أن يكون اللقاء لائقاً به، وإذا كنت ذاهباً من أجل أن تقدم طلباً ما أو مشكلة ما، فستحرص أن تكون معك المستندات اللازمة، وستحرص على أن تستحضر الكلام اللائق بما تريد، ولله المثل الأعلى، أنا عندما أريد أن أدخل على الله، فهناك خمس درجات لابد أن أصعد عليهن أولاً من أجل أن يكون دخولي في المدخل الصحيح:

معنى التوبة

الدرجة الأولى من أجل أن أدخل على الله: التوبة.

والتوبة في أبسط معانيها تنظيف للعبد وتطهير له، فكما أحرص إذا أردت أن أدخل عند العظيم أن أكون نظيفاً؛ أريد ألا تقع عينه إلا على النظيف، والثياب موضع نظر الخلق، أما موضع نظر الخالق فهو القلب، فينبغي أن يقع نظره على نظيف طاهر، فكما أكون حريصاً أنني أظهر أمام غيري من الناس بالثياب الطيبة النظيفة التي لا يؤذي أعينهم منظرها؛ يجب أن أنظف قلبي؛ لأن هذا محط نظر المولى عز وجل؛ إذ الله عز وجل ينظر إلى القلوب: إن القلوب في الأجساد كالأواني، وأفضل الأواني أصلبها وأرقها وأصفاها، وكذا كان قلب سيدنا الحبيب صلى الله عليه وسلم يحمل هذه الثلاث الصفات: الرقة والصلابة والصفاء.

ورقة القلوب: هي رقة على المسلمين.. رقة على الأرامل.. رقة عند سماع كلام الله، والرقة هي معنى قوله تعالى: ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ [الزمر:23]، فإن القلوب حين تخشع تخاف ثم تغشاها رهبة، ومن ثم بعد ذلك يكون فيها رجاء، ولذلك جاء أن أعرابياً سأل الرسول صلى الله عليه وسلم سؤالاً فقال: (يا رسول الله! من الذي يحاسبنا يوم القيامة؟ قال: أنت تعرف يا أعرابي أنه الله عز وجل، فتبسم الأعرابي، وقال: مادام أن الذي يحاسبنا هو الله فإنه كريم، والكريم إذا حاسب سامح وإذا قدر عفا)، فإنك عندما تكون كريماً مع ابنك أو كريماً أحياناً مع زوجتك تمر بعض الأمور التي أخطئوا فيها، فتتجاوز عنها، حالك كما قال الشاعر:

ليس الغبي بسيد في قومه بل إن سيد قومه يتغابى

أما الرجل الغبي فيصدق فيه قول الشاعر العربي:

قال حمار الحكيم يوماً لو أنصف الدهر كنت أركب

إذ الحمار لا يعجبه الحال، فقال: لو أن الدهر كان عادلاً لكنت أنا الراكب لا صاحبي، وهذا بمنطق الحمار:

قال حمار الحكيم يوماً لو أنصف الدهر كنت أركب

فإنني جاهل بسيط وصاحبي جهله مركب

فمفهوم كلامه: إنني مخلوق وجهلي بسيط، أما المصيبة ففي الجاهل الذي يجهل أنه جاهل.

أصناف الناس

قال علي : الرجال أربعة: رجل يدري ويدري أنه يدري، ورجل يدري ولا يدري أنه لا يدري، ورجل لا يدري ويدري أنه لا يدري، ورجل لا يدري ولا يدري أنه لا يدري.

فالرجل الذي يدري ويدري أنه يدري: فذلك عالم فتعلموا منه، أي: هو رجل عالم وواثق من علمه فتعلم منه.

وأما الرجل الثاني فرجل عنده تواضع وبساطة، فإنه يعلم ولكن لا يستطيع أن يوصل تلك المعلومة، وهو ما ذكره الإمام عنه أنه لا يدري أنه يدري، وفسرها بقوله: فذلك صالح فصاحبوه.

أما الرجل الثالث: فإنه لا يدري -أي: أنه جاهل- ويدري أنه لا يدري، أي أنه يعرف حدود إمكانياته ولذلك فسر حاله الإمام علي فقال: ذلك جاهل فعلموه، فإنه مادام يعرف حدود إمكانياته العلمية، فينبغي أن أعلمه.

يذكر أن أعرابياً كان شديد الحب لربه، ولكن لا يستطيع أن يعبر عن حبه لربه، فلما نزل المطر ونبت العشب أخذ حمار الأعرابي يأكل بنهم، فأراد الأعرابي أن يشكر الله عز وجل، فنظر إلى السماء وقال: وعزتك وجلالك لو كان لك حمار لتركته يرعى مع حماري لأني أحبك!! فالأعرابي يحب الله عز وجل، ولكن طريقة تعبيره خاطئة كونه لا يستطيع التعبير.

أما الرابع فإنه رجل لا يدري ولا يدري أنه لا يدري، فهو جاهل ويجهل أنه جاهل، وهذا خطره شديد، وضرره أكيد، ولا أقل من أن يبتعد عن هذا الرجل، فإن البلاء كله فيه، فهو جاهل ولا يعرف حدود جهله، ويظن أنه يفهم كل شيء.

لقد أصبحنا في زمن اختلط حابلها بنابلها، لا يعرف فيها الصواب من الخطأ.

توبة الفضيل بن عياض

يذكر أن الفضيل بن عياض قبل أن يتوب الله عليه كان سارقاً يدخل إلى البيوت ويسرقها، وفي يوم من الأيام كان يتسلل في بيت فسمع صاحب البيت وهو يقرأ كتاب الله عز وجل في قيام الليل، -في حين أن الناس هذه الأيام لا يقومون الليل ولا يصلون الفجر في جماعة -وكان مما يقرؤه: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ [الحديد:16].

فكانت هذه الكلمة لها وقع عليه فدخلت في مجامع قلبه، فبكى وقال: قد آن يا رب.

توبة سارق عند السيدة رابعة العدوية

ويذكر أيضاً أن سارقاً دخل منزل السيدة رابعة ليسرق، تلفت السارق يميناً وشمالاً، قال: ما هذا البيت النكد، لا يوجد فيه شيء يسرق، فنظر إليها وإذا هي تصلي، فلما انتهت من صلاتها نادته: تعال يا عبد الله، قال: أفي البيت أحد، قالت له: نعم، لا تخرج بيديك فارغتين، قال: وهل وجدت شيئاً ولم آخذه؟ قالت: لا، ادخل وتوضأ من هذا الإبريق وصل لله ركعتين، فنزلت هذه الكلمات على قلب الرجل كالصواعق، إنه لا يصلي، فذهب وتوضأ ووقف وصلى، فلما سجد أخذ يبكي، فقالت رابعة : وقف ببابي فما أعطيته شيئاً، ووقف ببابك فلا ترده خائباً، فهناك فرق بين أن تذهب عند شخص بخيل وتذهب عند شخص كريم.

ومثل ما تقدم ما حدث للصحابي الذي دخل على كسرى، فنظر إليه كسرى، وقال له: تمن يا أعرابي! أي أمنية وأنا أحققها لك، فقال له: أتمنى ألف دينار، قال: أعطوه ألف دينار، فقال حاشية كسرى: يا رجل! تمن عليه فهو كسرى، أتتمنى عليه ألف دينار؟!! فقال: وهل هناك أكثر من الألف؟ سبحان الله الصحابي لا يعرف أن هناك أكثر من ألف، لكنه في حسابات الآخرة من أصحاب الملايين.

التوبة تمحو ما قبلها

فإذاً: من أجل أن أدخل على الله عز وجل فإن أول درجة أصعدها التوبة، والتوبة هي: أن أنزع عن الذنب وألا أعود إليه مرة أخرى وأن أعزم على عدم العودة وأن أرجع الحقوق إلى أصحابها، لكن لها حقيقة أخرى، يقول الحبيب صلى الله عليه وسلم: (التائب حبيب الرحمن)، أنت لو أخطأت خطأً مدنياً في القانون المدني يحسب خطأ مدنياً، ويحكم عليك، وتعد من أصحاب السوابق، وتوضع في ملف الحالة الجنائية، ولا يمكن أن تمسح، حتى لو قضيت مدة العقوبة.

أما عند الله عز وجل فإن عمل رجل سيئات وذنوب وجرائم: لم يصل، ولم يصم وغيرها من الذنوب والمعاصي، ثم يقول: تبت إليك يا رب! فإنه لن يفتح له الملفات أو يقال له: إن صحيفتك التي فيها السوابق مليئة؟ لا، بل العكس، قال تعالى: فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ [الفرقان:70]، فإنه لا يمسحها فقط، بل إن الذنوب عندما تمسح يكون له رصيد مصفى بالحسنات، أي: يكون له مكان السيئة حسنة، ولا عجب فالله هو الكريم سبحانه.

ومن ميزات التائب أيضاً ما قاله عنه الحبيب صلى الله عليه وسلم: (عاشروا التوابين فإنهم أرق أفئدة)، وذلك لأن قلوبهم ما زالت لينة طيبة، أما الذي يصلي منذ زمن، فالبعض يظن أنه عمر بن الخطاب ، يقول لك: الحمد لله نحن نصلي ونحن كذا، وكان الأحرى أن يسأل الله القبول، وأن يديمها عليه نعمة، فإن من أعظم النعم من الله على العبد أن يرزقه الهداية.

الدرجة الأولى من أجل أن أدخل على الله: التوبة.

والتوبة في أبسط معانيها تنظيف للعبد وتطهير له، فكما أحرص إذا أردت أن أدخل عند العظيم أن أكون نظيفاً؛ أريد ألا تقع عينه إلا على النظيف، والثياب موضع نظر الخلق، أما موضع نظر الخالق فهو القلب، فينبغي أن يقع نظره على نظيف طاهر، فكما أكون حريصاً أنني أظهر أمام غيري من الناس بالثياب الطيبة النظيفة التي لا يؤذي أعينهم منظرها؛ يجب أن أنظف قلبي؛ لأن هذا محط نظر المولى عز وجل؛ إذ الله عز وجل ينظر إلى القلوب: إن القلوب في الأجساد كالأواني، وأفضل الأواني أصلبها وأرقها وأصفاها، وكذا كان قلب سيدنا الحبيب صلى الله عليه وسلم يحمل هذه الثلاث الصفات: الرقة والصلابة والصفاء.

ورقة القلوب: هي رقة على المسلمين.. رقة على الأرامل.. رقة عند سماع كلام الله، والرقة هي معنى قوله تعالى: ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ [الزمر:23]، فإن القلوب حين تخشع تخاف ثم تغشاها رهبة، ومن ثم بعد ذلك يكون فيها رجاء، ولذلك جاء أن أعرابياً سأل الرسول صلى الله عليه وسلم سؤالاً فقال: (يا رسول الله! من الذي يحاسبنا يوم القيامة؟ قال: أنت تعرف يا أعرابي أنه الله عز وجل، فتبسم الأعرابي، وقال: مادام أن الذي يحاسبنا هو الله فإنه كريم، والكريم إذا حاسب سامح وإذا قدر عفا)، فإنك عندما تكون كريماً مع ابنك أو كريماً أحياناً مع زوجتك تمر بعض الأمور التي أخطئوا فيها، فتتجاوز عنها، حالك كما قال الشاعر:

ليس الغبي بسيد في قومه بل إن سيد قومه يتغابى

أما الرجل الغبي فيصدق فيه قول الشاعر العربي:

قال حمار الحكيم يوماً لو أنصف الدهر كنت أركب

إذ الحمار لا يعجبه الحال، فقال: لو أن الدهر كان عادلاً لكنت أنا الراكب لا صاحبي، وهذا بمنطق الحمار:

قال حمار الحكيم يوماً لو أنصف الدهر كنت أركب

فإنني جاهل بسيط وصاحبي جهله مركب

فمفهوم كلامه: إنني مخلوق وجهلي بسيط، أما المصيبة ففي الجاهل الذي يجهل أنه جاهل.

قال علي : الرجال أربعة: رجل يدري ويدري أنه يدري، ورجل يدري ولا يدري أنه لا يدري، ورجل لا يدري ويدري أنه لا يدري، ورجل لا يدري ولا يدري أنه لا يدري.

فالرجل الذي يدري ويدري أنه يدري: فذلك عالم فتعلموا منه، أي: هو رجل عالم وواثق من علمه فتعلم منه.

وأما الرجل الثاني فرجل عنده تواضع وبساطة، فإنه يعلم ولكن لا يستطيع أن يوصل تلك المعلومة، وهو ما ذكره الإمام عنه أنه لا يدري أنه يدري، وفسرها بقوله: فذلك صالح فصاحبوه.

أما الرجل الثالث: فإنه لا يدري -أي: أنه جاهل- ويدري أنه لا يدري، أي أنه يعرف حدود إمكانياته ولذلك فسر حاله الإمام علي فقال: ذلك جاهل فعلموه، فإنه مادام يعرف حدود إمكانياته العلمية، فينبغي أن أعلمه.

يذكر أن أعرابياً كان شديد الحب لربه، ولكن لا يستطيع أن يعبر عن حبه لربه، فلما نزل المطر ونبت العشب أخذ حمار الأعرابي يأكل بنهم، فأراد الأعرابي أن يشكر الله عز وجل، فنظر إلى السماء وقال: وعزتك وجلالك لو كان لك حمار لتركته يرعى مع حماري لأني أحبك!! فالأعرابي يحب الله عز وجل، ولكن طريقة تعبيره خاطئة كونه لا يستطيع التعبير.

أما الرابع فإنه رجل لا يدري ولا يدري أنه لا يدري، فهو جاهل ويجهل أنه جاهل، وهذا خطره شديد، وضرره أكيد، ولا أقل من أن يبتعد عن هذا الرجل، فإن البلاء كله فيه، فهو جاهل ولا يعرف حدود جهله، ويظن أنه يفهم كل شيء.

لقد أصبحنا في زمن اختلط حابلها بنابلها، لا يعرف فيها الصواب من الخطأ.

يذكر أن الفضيل بن عياض قبل أن يتوب الله عليه كان سارقاً يدخل إلى البيوت ويسرقها، وفي يوم من الأيام كان يتسلل في بيت فسمع صاحب البيت وهو يقرأ كتاب الله عز وجل في قيام الليل، -في حين أن الناس هذه الأيام لا يقومون الليل ولا يصلون الفجر في جماعة -وكان مما يقرؤه: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ [الحديد:16].

فكانت هذه الكلمة لها وقع عليه فدخلت في مجامع قلبه، فبكى وقال: قد آن يا رب.

ويذكر أيضاً أن سارقاً دخل منزل السيدة رابعة ليسرق، تلفت السارق يميناً وشمالاً، قال: ما هذا البيت النكد، لا يوجد فيه شيء يسرق، فنظر إليها وإذا هي تصلي، فلما انتهت من صلاتها نادته: تعال يا عبد الله، قال: أفي البيت أحد، قالت له: نعم، لا تخرج بيديك فارغتين، قال: وهل وجدت شيئاً ولم آخذه؟ قالت: لا، ادخل وتوضأ من هذا الإبريق وصل لله ركعتين، فنزلت هذه الكلمات على قلب الرجل كالصواعق، إنه لا يصلي، فذهب وتوضأ ووقف وصلى، فلما سجد أخذ يبكي، فقالت رابعة : وقف ببابي فما أعطيته شيئاً، ووقف ببابك فلا ترده خائباً، فهناك فرق بين أن تذهب عند شخص بخيل وتذهب عند شخص كريم.

ومثل ما تقدم ما حدث للصحابي الذي دخل على كسرى، فنظر إليه كسرى، وقال له: تمن يا أعرابي! أي أمنية وأنا أحققها لك، فقال له: أتمنى ألف دينار، قال: أعطوه ألف دينار، فقال حاشية كسرى: يا رجل! تمن عليه فهو كسرى، أتتمنى عليه ألف دينار؟!! فقال: وهل هناك أكثر من الألف؟ سبحان الله الصحابي لا يعرف أن هناك أكثر من ألف، لكنه في حسابات الآخرة من أصحاب الملايين.

فإذاً: من أجل أن أدخل على الله عز وجل فإن أول درجة أصعدها التوبة، والتوبة هي: أن أنزع عن الذنب وألا أعود إليه مرة أخرى وأن أعزم على عدم العودة وأن أرجع الحقوق إلى أصحابها، لكن لها حقيقة أخرى، يقول الحبيب صلى الله عليه وسلم: (التائب حبيب الرحمن)، أنت لو أخطأت خطأً مدنياً في القانون المدني يحسب خطأ مدنياً، ويحكم عليك، وتعد من أصحاب السوابق، وتوضع في ملف الحالة الجنائية، ولا يمكن أن تمسح، حتى لو قضيت مدة العقوبة.

أما عند الله عز وجل فإن عمل رجل سيئات وذنوب وجرائم: لم يصل، ولم يصم وغيرها من الذنوب والمعاصي، ثم يقول: تبت إليك يا رب! فإنه لن يفتح له الملفات أو يقال له: إن صحيفتك التي فيها السوابق مليئة؟ لا، بل العكس، قال تعالى: فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ [الفرقان:70]، فإنه لا يمسحها فقط، بل إن الذنوب عندما تمسح يكون له رصيد مصفى بالحسنات، أي: يكون له مكان السيئة حسنة، ولا عجب فالله هو الكريم سبحانه.

ومن ميزات التائب أيضاً ما قاله عنه الحبيب صلى الله عليه وسلم: (عاشروا التوابين فإنهم أرق أفئدة)، وذلك لأن قلوبهم ما زالت لينة طيبة، أما الذي يصلي منذ زمن، فالبعض يظن أنه عمر بن الخطاب ، يقول لك: الحمد لله نحن نصلي ونحن كذا، وكان الأحرى أن يسأل الله القبول، وأن يديمها عليه نعمة، فإن من أعظم النعم من الله على العبد أن يرزقه الهداية.




استمع المزيد من د. عمر عبد الكافي - عنوان الحلقة اسٌتمع
سلسلة مقتطفات من السيرة [15] 2686 استماع
سلسلة مقتطفات من السيرة [23] 2530 استماع
سلسلة مقتطفات من السيرة [16] 2142 استماع
سلسلة مقتطفات من السيرة [12] 2125 استماع
سلسلة مقتطفات من السيرة [8] 2055 استماع
سلسلة مقتطفات من السيرة [17] 2050 استماع
سلسلة مقتطفات من السيرة [18] 2010 استماع
سلسلة مقتطفات من السيرة [24] 1980 استماع
سلسلة مقتطفات من السيرة [11] 1943 استماع
سلسلة مقتطفات من السيرة [25] 1874 استماع