سلسلة مقتطفات من السيرة [17]


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، حمد عباده الشاكرين الذاكرين، حمداً يوافي نعم الله علينا ويكافئ مزيده.

والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا محمد، اللهم صل وسلم عليه صلاة وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين.

أما بعد:

فنسأل الله عز وجل أن يغفر لنا ذنوبنا ويرحمنا.

اللهم لا تعذبنا فأنت علينا قادر، اللهم اجعل خير أعمالنا خواتيمها، وخير أيامنا يوم أن نلقاك، ولا تدع لنا ذنباً إلا غفرته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا عسيراً إلا يسرته، ولا كرباً إلا أذهبته، ولا صدراً ضيقاً إلا شرحته، ولا غائباً إلا سالماً غانماً رددته، ولا ضالاً إلا هديته، ولا ميتاً إلا رحمته، ولا مظلوماً إلا نصرته، ولا ظالماً إلا قصمته.

اللهم تب على كل عاص، واهد كل ضال، واشف كل مريض، واقض دين المدينين، اللهم اقض دين المدينين، واغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرين، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك ولا يرحمنا.

يا أرحم الرحمين ارحمنا، فإن لم نكن أهلاً لرحمتك فرحمتك أهل لأن تصل إلينا.

اللهم توفنا على الإسلام، اللهم احشرنا في زمرة المؤمنين، اللهم احشرنا في زمرة المؤمنين..

اللهم أبعد عن بيوتنا وأبنائنا وبناتنا وذرياتنا وأزواجنا شياطين الإنس والجن.

اللهم باعد بيننا وبين الحرام بعد المشرقين، وبارك لنا في الحلال وإن كان قليلاً، وحببنا إلى الحلال يا أكرم الأكرمين.

اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه.

اللهم كما رزقتنا الإسلام من غير أن نسألك ارزقنا الجنة ونحن نسألك، اللهم أدخلنا الجنة بدون سابقة عذاب، اللهم أدخلنا الجنة بدون سابقة عذاب، اللهم أدخلنا الجنة بدون سابقة عذاب، واغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرين.

هذه -بمشيئة الله عز وجل- هي الحلقة السابعة عشرة في سلسلة حديثنا في السيرة العطرة على صاحبها أزكى وأفضل الصلوات والتسليم من رب الأرض والسماوات، وهي الحلقة الرابعة في الحديث عن الصلاة.

وإن حلقات السيرة النبوية ليست منهجاً دراسياً نكمله، بل إن حلقات السيرة العطرة حلقات هامة؛ لأنها تلمس كل جوانب الدين الإسلامي من ناحية العقيدة ومن ناحية التشريع.

وحين توقفنا عند أحداث السنة العاشرة من البعثة تحدثنا عن الإسراء والمعراج، فتوقفنا عند أهم نقطة في مسألة الإسراء والمعراج، وهي الصلاة، حتى لقد قال الحسن البصري رضي الله عنه: لو بعث أحد من الصحابة في مدينة من مدن الإسلام أو قرية من قرى الإسلام فلن يعرف من الإسلام إلا الصلاة.

فالإسلام انتهى ولم يبق منه للمسلمين إلا الصلاة؛ لأنه سيمشي في الشارع فسيلقى امرأة لابسة بنطلوناً وأخرى لابسة الشورت، وأخرى جعلت شعرها أخضر، وأخرى جعلت عينيها حمراوين، فكل هذا سوف يراه، ولكن يرى نسوة يسرن كما أمر الله عز وجل، كما قال الله عز وجل عن المرأة الصالحة وبنت الرجل الصالح: فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ [القصص:25]، فلن يجد هذا الاستحياء، ولن يجد حياء عند البنت ولا خفض صوت عند المرأة، بل بالعكس، فربما يجد أصوات الرجال قد انخفضت وأصوات النساء قد علت، فيتعجب من اختلاط الحابل بالنابل، فقد اختلط الرجال بالنساء في كل مكان، وأصبح في هذا الوقت الرجال مختلطين بالنساء في الباصات، وفي مكتب الوظيفة، فكل موظف جالس مع موظفة يتكلمان، ويعرف أدق أسرارها ويقول لك: هذه مثل أختي، وهي تضحك على نفسها وعلينا وتقول: هذا مثل أخي، وأنا أشكو له همي، ومدير المكتب هذا مثل أبي، والموظف الجديد هذا مثل ابني.

واختلطت الأمور ببعضها حتى إن الإنسان لا يستبين الحق من الباطل، ولكن الحق له مقياس واحد، فإن اختلفنا في شيء فحكمه إلى الله وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم، فيجب أن نرد كل أمورنا إلى الله عز وجل، فلو أن أحداً من الصحابة بعث ونظر إلى الأسر والمجتمعات الإسلامية لهاله ما يرى، بل سوف يراع ويخاف ويرتعش، ويقول: هل هذه هي أمة محمد؟! هل هذه خير أمة أخرجت للناس؟! هل هي الأمة التي فيها الخير كله وفيها البركة كلها، وفيها تتمثل رحمة الله عز وجل للبشرية كما قال تعالى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [آل عمران:110]؟!

فاللهم احشرنا في زمرة الصالحين وأكرمنا ولا تهنا يا أكرم الأكرمين.

ثم إن التوفيق للعبد في العبادة له علامات، وذلك لتسأل نفسك فتقول: ما هو الأمر الذي لم أوفق في الطاعة بسببه؟!

فلماذا الطاعة ثقيلة علي، ولماذا المعصية يسيرة علي؟!

فالواحد منا يسأل نفسه: لماذا كان قيام الليل صعباً على الواحد منا؟ ولماذا كان صيام الإثنين والخميس مسألة ليست سهلة؟

ولماذا كان الذهاب إلى المسجد يشكل عبئاً على القلوب؟!

ولماذا صار قبول الحق صعباً؟!

ولماذا لم تعد صفة التواضع فينا هي القاعدة الغالبة والكبر هو الاستثناء؟!

فلقد صار الكبر قاعدة وصار التواضع هو الاستثناء!

ولماذا صارت الخيانة طبع الجميع، والأمانة صارت استثناء في الناس؟! لقد كان الرعيل الأول إذا دخل الرجل إلى السوق لا يهم من يعامله، بل يقال له: عامل من شئت، وادخل عند أي تاجر في السوق؛ لأن كل التجار صادقون أمناء.

ثم جاء زمن تدخل فيه السوق فيقال: عامل من شئت إلا فلاناً وفلاناً، ثم جاء زمن يقال: لا تعامل إلا فلاناً أو فلاناً، ثم جاء زمن قيل فيه: لا تعامل أحداً.

وهذا الكلام يقوله سيدنا عبد الله بن مسعود ، فكيف لو رأى زمننا هذا؟!

لقد خرج الإمام أحمد لصلاة العصر فوقعت عينه على كعب امرأة، فوضع العباءة على وجهه وقال: هذا زمن الفتن. فكيف بـأحمد بن حنبل لو مشى في شوارع مدننا الكبرى؟! فماذا سيقول؟! نسأل الله العصمة، ونسأل الله الهداية، ونسأل الله الرحمة، ونسأل الله الستر، ونسأل الله العون، ونسأل الله شرح الصدور، إن ربنا على ما يشاء قدير.

فاسأل نفسك وقل: لماذا كانت الطاعة ثقيلة علي، وقبول الحق ثقيلاً علي، ولماذا كان الباطل حبيباً إلي؟!

قال صلى الله عليه وسلم: (إن الحق ثقيل كثقله يوم القيامة، وإن الباطل خفيف كخفته يوم القيامة)، يعني أن الحق في الدنيا ثقيل كما أنه في الميزان ثقيل، فاللهم ثقل موازيننا يا رب.

وهو في الدنيا -أيضاً- ثقيل على النفس؛ لأن النفس تستهويها المعصية، فأيهما أحب إلى النفس: أن تنام ساعتين بالليل وتغطي نفسك بالبطانية أو باللحاف الجيد وتقفل الغرفة والنوافذ، أو أن تقوم فتتوضأ بماء بارد لتصلي لله؟!

وأيهما أحب إلى النفس: أن آكل سبعة أيام في الأسبوع أو أن أصوم يومين؟

وأيهما أحب إلى النفس: أن الحق يظهر، سواء على لساني أو على لسان غيري، أم ألا يظهر إلا على لساني؟!

فسيدنا الحبيب صلى الله عليه وسلم نهانا عن الجدل؛ لأن الجدال يجعلني أدخل في مرحلة أني أنتصر لنفسي بأي طريقة من أجل ألا يضحك علي أحد، وترى المتجادلين يقول أحدهما: أنا معي الدليل، فيأتي الآخر فيعطيه دليلاً أقوى فلا يلقى قبولاً، بل يقول: هذا حديث ضعيف، مع أنه في البخاري .

فالجدل محرم على المسلم مع أخيه المسلم، ولكنه جائز بين العلماء، فالعالم سيجادل العالم بالحجة فيصل إلى الحق.

وقد قال صلى الله عليه وسلم: (أنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء ولو كان محقاً).

الانشغال بالنعمة عن المنعم

وقد أجاب العلماء عن سبب ثقل الطاعة على العبد فقالوا: لذلك جملة أسباب:

السبب الأول: انشغال الإنسان المسلم بالنعمة عن المنعم، كشخص يريد مالاً فقال يا رب! ارزقني ألف جنيه، ويظل يدعو، فرزق ذلك الألف، فشغله ذلك الألف.

ولذا قال أهل اللغة: سمي المال مالاً لأنه مال بالناس عن الحق.

وقد روي أن أبا سليمان الداراني كان له أخ في الله، فأغناه الله، قال: حجب الشيطان بيني وبينه، لأن الشيطان يزين له، فيصير الناس على طبقات، ولكن المسلم للمسلم كالبنيان.

وقد روي أن فقيراً دخل مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجلس بجانب رجل غني، فالغني لم عباءته، مثل بعضهم حين يأتي يوم الجمعة آخر الخطبة ومعه سجادته ينظر إلى الناس باحتقار ويبتعد عنهم ويصلي لوحده، يخاف أن يطأ أحد بجانبه فيصيبه بميكروبات.

فلملم الغني عباءته، فأدرك الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك، فقال: (أيها الغني! أخفت أن يعديك فقره، أم خفت أن يعدو عليه غناك؟!)، ولم يكن الغني مثل غني اليوم يسمع الكلام بأذنه اليمنى ويخرجه من الأذن اليسرى، فقال: نزلت له عن نصف مالي يا رسول الله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أتقبل يا فقير؟ قال: لا يا رسول الله. قال: لماذا؟ قال: أخاف أن يدخلني من الغرور ما دخله)، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ * الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ * فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ [الانفطار:6-8].

يا ابن آدم! إنك تنزل من مجرى البول مرتين، أولك نطفة مذرة، وآخرك جيفة قذرة، وتحمل في بطنك العذرة، وقد قلنا: إن فضلات الحيوانات التي يؤكل لحمها طاهرة، فلو لمست ما نزل من الجاموس والبقر والغنم فإني أصلي، ولو مسست ما ينزل من ابن آدم فقد تنجست، فلم تتكبر على خلق الله؟!

والكبر عند العلماء أنواع، فإما أن يكون بالمال، وإما أن يكون بالعلم، وإما بالعبادة، وإما بالجاه، وإما بالمنصب، وإما بالأتباع، فبعض الناس يتكبر بالمال، ولذلك يقول سيدنا علي رضي الله عنه:

رأيت الناس قد مالوا إلى من عنده مال

ومن لا عنده مال فعنه الناس قد مالوا

رأيت الناس قد ذهبوا إلى من عنده ذهب

ومن لا عنده ذهب فعنه الناس قد ذهبوا

رأيت الناس منفضة إلى من عنده فضة

ومن لا عنده فضة فعنه الناس منفضة

والإمام الشافعي يقول: حتى الكلاب إذا رأت غنياً حركت أذنابها، وإن رأت فقيراً كشرت أنيابها.

فالكلاب تنظر إلى الفقير المسكين فتنبح عليه؛ لأنه ليس عنده شيء يعطيه لها، ولكن الغني تتملق إليه:

إن الدراهم تكسو الرجال فصاحة وكمالاً.

فقد كان اسمه بكراً، فلما غني سمي (الحاج بكر)، والفارق المال.

قيل لـقارون : هات الزكاة يا قارون . فقال: زكاة ماذا؟ قيل: زكاة المال، قال: مال من؟ قيل: مال الله، قال: لا، ليس مال الله: إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي [القصص:78]، وهذا طبع الناس كلهم، يقول المرء: إنني تعبت في السعودية وتعبت في الخليج في جمع المال.

والذين يريدون الحياة الدنيا ينظرون إلى السيارات الفارهة والطيارات ولا يدرون أن من فيها يحملون أمراضاً ومشاكل، فاترك العباد على رب العباد يغني من يشاء ويفقر من يشاء.

قال تعالى: قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ [القصص:79]، أي: لو أن لنا مثل قارون ! فقال المؤمنون: وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ [القصص:80] وفي آخر القصة بعدما قال الله عز وجل: فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ [القصص:81] قال تعالى: وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ [القصص:82] فتغير الحال.

ومن التكبر التكبر بالعلم، وهذا من أسوأ أنواع الكبر، فإذا تكبر العالم بعلمه كان -والعياذ بالله- أول من تسعر به النار يوم القيامة، نسأل الله سبحانه أن يبعدنا وإياكم عن طريق هؤلاء.

ومنه التكبر بالجاه وبالمنصب وبالأبناء، فكل هذا من أنواع الكبر.

ومنه الكبر بالعبادة، كأن تذهب إلى جارك فتقول له: يا فلان! لماذا لا نراك في درس ولا في الجامع؟! لماذا أنت هكذا؟! إن آخرتك سيئة يا أخي!

وكأن آخرتك أنت هي الطيبة! فادع الله له بالهداية، ولا تظن أنك قد وصلت، فكلنا يطرق الباب عسى رب العباد أن يفتح، وأنت لا تعرف لمن يفتح.

فانشغال الناس بالنعمة عن المنعم سبب من أسباب ثقل الطاعة، فإن انشغلت بالنعمة فإنك تظل تتذكر نعمة الأولاد ونعمة الزوجة ونعمة البيت وتنسى الذي أنعم والذي أعطى والذي وهب، وهو الوهاب الفتاح العليم الرزاق الناصر المعين الستير.

الاغترار بصحبة الصالحين

السبب الثاني: الاغترار بصحبة الصالحين وعدم الاقتداء بهم.

فيقول المرء: كنا أمس مع العالم الفلاني فأحضر لنا كذا وكذا، ويفتخر، فماذا عملت بالذي سمعته منه؟!

إن لنا سنوات طويلة نسمع فيها من العلماء، فماذا صنعنا؟! فحالنا هو الاغترار بصحبة الصالحين وعدم الاقتداء بهم.

وذلك لا ينفع، فـعبد الله بن أبي ابن سلول صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان يصلي وراءه، فماذا فعلت صلاته خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم؟!

ولذلك المسلم لا يظن أنه مادام يمشي مع الرجل الصالح الذي يحسبه صالحاً فقد أخذ براءة، فمن اعتقد هذا كان كحال أهل صكوك الغفران، وهي صكوك عند النصارى كانوا يوزرعونها في الكنيسة، وعندهم اليوم شيء اسمه كرسي الاعتراف، وفي الإسلام ليس هناك كرسي اعتراف، فالذي أذنب يذهب ويتوضأ ويصلي ركعتين لله بنية التوبة، فيقول الله: قبلت يا عبدي، ولا توجد واسطة بينك وبين الله، ولا أي أحد، ولا رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وهناك يذهب المرء إلى الكنيسة، فيقول له صاحب الكنيسة: بكم ستتبرع؟ فيقول: سأتبرع للكنيسة -مثلاً- بعشرين هكتاراً أو خمسين هكتاراً أو مائة هكتار، فيقول له: خذ هذا الصك، وفيه أن الرب يسوع غفر لفلان ومسح ذنوبه ولن يدخل النار.

فهذا الحاصل عندهم، وقد ذكر أن شخصاً كان ذكياً ناصحاً، فذهب إلى البابا وقال له: ماذا يشتري من عندك الناس؟ قال: يشترون قطعة في الجنة، فقال: أنا أريد أن أشتري جهنم!

فقال: وهل أحد يريد أن يشتري جهنم؟! قال له: أنا حر بمالي أعمل ما بدا لي، فهل تبيع لي جهنم؟

فقال له: أبيعها بخمسين هكتاراً، فقال له: هذه خمسون هكتاراً، وأخذ صكاً فيه أن فلاناً الفلاني اشترى من البابا النار، ثم ذهب فجلس على الباب، فكان يلقى الشخص آتياً، فيقول له: إلى أين؟ فيقول: أذنبت كثيراً وأريد أن أجلس على كرسي الاعتراف من أجل أن أشتري قطعة من الجنة، فيقول له: من أي شيء تخاف؟ فيقول: أخاف من النار، فيقول: إنني قد اشتريتها!

وهذه قصة وقعت؛ لأنه إذا غاب العقل فظن شراً ولا تسأل عن الخبر.

عدم قبول الحق

السبب الثالث: عدم قبول الحق:

والحق ثقيل على القلوب؛ لأن الدنيا مدبره عنا ونحن نجري خلفها، والآخرة مقبلة علينا ونحن مولون أظهرنا لها.

فالدنيا ستنتهي، وكل يوم ينتهي ينقص من عمرك ويقربك من الآخرة، والمصيبة أنه كلما طالت الحياة بالمرء، تلقاه يمسك بالدنيا بيديه ولسانه، وينسى الآخرة.

فطول الأمل ينسي الآخرة، والهوى يصدك عن الحق، ويجعلك لا تقبل الحق.

وقد أجاب العلماء عن سبب ثقل الطاعة على العبد فقالوا: لذلك جملة أسباب:

السبب الأول: انشغال الإنسان المسلم بالنعمة عن المنعم، كشخص يريد مالاً فقال يا رب! ارزقني ألف جنيه، ويظل يدعو، فرزق ذلك الألف، فشغله ذلك الألف.

ولذا قال أهل اللغة: سمي المال مالاً لأنه مال بالناس عن الحق.

وقد روي أن أبا سليمان الداراني كان له أخ في الله، فأغناه الله، قال: حجب الشيطان بيني وبينه، لأن الشيطان يزين له، فيصير الناس على طبقات، ولكن المسلم للمسلم كالبنيان.

وقد روي أن فقيراً دخل مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجلس بجانب رجل غني، فالغني لم عباءته، مثل بعضهم حين يأتي يوم الجمعة آخر الخطبة ومعه سجادته ينظر إلى الناس باحتقار ويبتعد عنهم ويصلي لوحده، يخاف أن يطأ أحد بجانبه فيصيبه بميكروبات.

فلملم الغني عباءته، فأدرك الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك، فقال: (أيها الغني! أخفت أن يعديك فقره، أم خفت أن يعدو عليه غناك؟!)، ولم يكن الغني مثل غني اليوم يسمع الكلام بأذنه اليمنى ويخرجه من الأذن اليسرى، فقال: نزلت له عن نصف مالي يا رسول الله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أتقبل يا فقير؟ قال: لا يا رسول الله. قال: لماذا؟ قال: أخاف أن يدخلني من الغرور ما دخله)، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ * الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ * فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ [الانفطار:6-8].

يا ابن آدم! إنك تنزل من مجرى البول مرتين، أولك نطفة مذرة، وآخرك جيفة قذرة، وتحمل في بطنك العذرة، وقد قلنا: إن فضلات الحيوانات التي يؤكل لحمها طاهرة، فلو لمست ما نزل من الجاموس والبقر والغنم فإني أصلي، ولو مسست ما ينزل من ابن آدم فقد تنجست، فلم تتكبر على خلق الله؟!

والكبر عند العلماء أنواع، فإما أن يكون بالمال، وإما أن يكون بالعلم، وإما بالعبادة، وإما بالجاه، وإما بالمنصب، وإما بالأتباع، فبعض الناس يتكبر بالمال، ولذلك يقول سيدنا علي رضي الله عنه:

رأيت الناس قد مالوا إلى من عنده مال

ومن لا عنده مال فعنه الناس قد مالوا

رأيت الناس قد ذهبوا إلى من عنده ذهب

ومن لا عنده ذهب فعنه الناس قد ذهبوا

رأيت الناس منفضة إلى من عنده فضة

ومن لا عنده فضة فعنه الناس منفضة

والإمام الشافعي يقول: حتى الكلاب إذا رأت غنياً حركت أذنابها، وإن رأت فقيراً كشرت أنيابها.

فالكلاب تنظر إلى الفقير المسكين فتنبح عليه؛ لأنه ليس عنده شيء يعطيه لها، ولكن الغني تتملق إليه:

إن الدراهم تكسو الرجال فصاحة وكمالاً.

فقد كان اسمه بكراً، فلما غني سمي (الحاج بكر)، والفارق المال.

قيل لـقارون : هات الزكاة يا قارون . فقال: زكاة ماذا؟ قيل: زكاة المال، قال: مال من؟ قيل: مال الله، قال: لا، ليس مال الله: إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي [القصص:78]، وهذا طبع الناس كلهم، يقول المرء: إنني تعبت في السعودية وتعبت في الخليج في جمع المال.

والذين يريدون الحياة الدنيا ينظرون إلى السيارات الفارهة والطيارات ولا يدرون أن من فيها يحملون أمراضاً ومشاكل، فاترك العباد على رب العباد يغني من يشاء ويفقر من يشاء.

قال تعالى: قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ [القصص:79]، أي: لو أن لنا مثل قارون ! فقال المؤمنون: وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ [القصص:80] وفي آخر القصة بعدما قال الله عز وجل: فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ [القصص:81] قال تعالى: وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ [القصص:82] فتغير الحال.

ومن التكبر التكبر بالعلم، وهذا من أسوأ أنواع الكبر، فإذا تكبر العالم بعلمه كان -والعياذ بالله- أول من تسعر به النار يوم القيامة، نسأل الله سبحانه أن يبعدنا وإياكم عن طريق هؤلاء.

ومنه التكبر بالجاه وبالمنصب وبالأبناء، فكل هذا من أنواع الكبر.

ومنه الكبر بالعبادة، كأن تذهب إلى جارك فتقول له: يا فلان! لماذا لا نراك في درس ولا في الجامع؟! لماذا أنت هكذا؟! إن آخرتك سيئة يا أخي!

وكأن آخرتك أنت هي الطيبة! فادع الله له بالهداية، ولا تظن أنك قد وصلت، فكلنا يطرق الباب عسى رب العباد أن يفتح، وأنت لا تعرف لمن يفتح.

فانشغال الناس بالنعمة عن المنعم سبب من أسباب ثقل الطاعة، فإن انشغلت بالنعمة فإنك تظل تتذكر نعمة الأولاد ونعمة الزوجة ونعمة البيت وتنسى الذي أنعم والذي أعطى والذي وهب، وهو الوهاب الفتاح العليم الرزاق الناصر المعين الستير.

السبب الثاني: الاغترار بصحبة الصالحين وعدم الاقتداء بهم.

فيقول المرء: كنا أمس مع العالم الفلاني فأحضر لنا كذا وكذا، ويفتخر، فماذا عملت بالذي سمعته منه؟!

إن لنا سنوات طويلة نسمع فيها من العلماء، فماذا صنعنا؟! فحالنا هو الاغترار بصحبة الصالحين وعدم الاقتداء بهم.

وذلك لا ينفع، فـعبد الله بن أبي ابن سلول صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان يصلي وراءه، فماذا فعلت صلاته خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم؟!

ولذلك المسلم لا يظن أنه مادام يمشي مع الرجل الصالح الذي يحسبه صالحاً فقد أخذ براءة، فمن اعتقد هذا كان كحال أهل صكوك الغفران، وهي صكوك عند النصارى كانوا يوزرعونها في الكنيسة، وعندهم اليوم شيء اسمه كرسي الاعتراف، وفي الإسلام ليس هناك كرسي اعتراف، فالذي أذنب يذهب ويتوضأ ويصلي ركعتين لله بنية التوبة، فيقول الله: قبلت يا عبدي، ولا توجد واسطة بينك وبين الله، ولا أي أحد، ولا رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وهناك يذهب المرء إلى الكنيسة، فيقول له صاحب الكنيسة: بكم ستتبرع؟ فيقول: سأتبرع للكنيسة -مثلاً- بعشرين هكتاراً أو خمسين هكتاراً أو مائة هكتار، فيقول له: خذ هذا الصك، وفيه أن الرب يسوع غفر لفلان ومسح ذنوبه ولن يدخل النار.

فهذا الحاصل عندهم، وقد ذكر أن شخصاً كان ذكياً ناصحاً، فذهب إلى البابا وقال له: ماذا يشتري من عندك الناس؟ قال: يشترون قطعة في الجنة، فقال: أنا أريد أن أشتري جهنم!

فقال: وهل أحد يريد أن يشتري جهنم؟! قال له: أنا حر بمالي أعمل ما بدا لي، فهل تبيع لي جهنم؟

فقال له: أبيعها بخمسين هكتاراً، فقال له: هذه خمسون هكتاراً، وأخذ صكاً فيه أن فلاناً الفلاني اشترى من البابا النار، ثم ذهب فجلس على الباب، فكان يلقى الشخص آتياً، فيقول له: إلى أين؟ فيقول: أذنبت كثيراً وأريد أن أجلس على كرسي الاعتراف من أجل أن أشتري قطعة من الجنة، فيقول له: من أي شيء تخاف؟ فيقول: أخاف من النار، فيقول: إنني قد اشتريتها!

وهذه قصة وقعت؛ لأنه إذا غاب العقل فظن شراً ولا تسأل عن الخبر.

السبب الثالث: عدم قبول الحق:

والحق ثقيل على القلوب؛ لأن الدنيا مدبره عنا ونحن نجري خلفها، والآخرة مقبلة علينا ونحن مولون أظهرنا لها.

فالدنيا ستنتهي، وكل يوم ينتهي ينقص من عمرك ويقربك من الآخرة، والمصيبة أنه كلما طالت الحياة بالمرء، تلقاه يمسك بالدنيا بيديه ولسانه، وينسى الآخرة.

فطول الأمل ينسي الآخرة، والهوى يصدك عن الحق، ويجعلك لا تقبل الحق.