خطب ومحاضرات
سلسلة مقتطفات من السيرة [12]
الحلقة مفرغة
أحمد الله رب العالمين، حمد عباده الشاكرين الذاكرين، حمداً يوافي نعم الله علينا ويكافئ مزيده، وصلاةً وسلاماً على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا محمد، اللهم صل وسلم وبارك عليه صلاة وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، أما بعد:
اللهم اجعل أعمالنا خالصة لوجهك الكريم، اللهم ثقل بها موازيننا يوم القيامة، اللهم لا تجعل للشيطان فيها حظاً أو نصيباً.
اللهم اجعلها خالصة لوجهك الكريم واجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، ولا تجعل لنا ذنباً إلا غفرته، ولا تجعل فينا مريضاً إلا شفيته، ولا عسيراً إلا يسرته، ولا ذنباً إلا غفرته، ولا ضالاً إلا هديته، ولا عيباً إلا سترته، ولا مظلوماً إلا نصرته، ولا ميتاً إلا رحمته، ولا صدراً ضيقاً إلا شرحته.
اللهم اشف مرضانا ومرضى المسلمين، اللهم أعد الغائبين المسافرين إلى أهلهم غانمين سالمين، وانصر اللهم الإسلام والمسلمين، واطرد عن بيوتنا وأبنائنا وبناتنا شياطين الإنس والجن، واطرد عن أزواجنا وذرياتنا شياطين الإنس والجن.
اللهم لا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا، اللهم خذ بيد أولادنا ووفقهم يا رب العالمين، اللهم اطرد عنهم شياطين الإنس والجن، اللهم وفقهم إلى ما تحبه وترضاه، اللهم اعصمهم من الزلل يا أرحم الراحمين.
اللهم باعد بينهم وبين الخطايا كما باعدت بين المشرق والمغرب، ووفقهم وإيانا إلى ما تحبه وترضاه، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
وبعد:
فهذه هي الحلقة الثانية عشرة في سلسلة حديثنا عن السيرة النبوية العطرة للحديث عن التاريخ العظيم لسيدنا رسول الله عليه الصلاة والسلام، حشرنا الله في زمرته وتحت لوائه وسقانا من يده الشريفة شربة لا نظمأ بعدها أبداً، وفرّح بنا قلب نبينا، وشفعه فينا، وأوردنا حوضه وجعلنا من أمته الذين يشفعه فيهم يوم القيامة إنه على كل شيء قدير.
منزلة رسول الله صلى الله عليه وسلم وتواضعه
صدقت يا رسول الله، فالأمة مبشرة من المعصوم صلى الله عليه وسلم برغم ما يحدث من سلبيات، أو من قصور، أو من تقاعس، أو من بعض الانحرافات أو من بعض التجاوزات من كثير منا وكثيرات، لكن رغم ذلك يبشرنا الحبيب المصطفى بالثناء والذكر الحسن من رب الأرض والسماء، وما دام ربنا يثني فظن خيراً ولا تسأل عن الخبث، وفي القرآن أثنى الله على خير أمة فقال: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ [آل عمران:110].
فالخيرية كل الخيرية في هذه الأمة، وقد وضحها لنا الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه عن ابن عباس -رضوان الله عليه- فيما يروي عن الصادق المعصوم صلى الله عليه وسلم، عندما تلقى موسى الألواح فوق الجبل وموسى عليه السلام هو الوحيد من الرسل الذي تلقى أوامر الله بدون وحي، فهو الكليم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام قال تعالى: وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا [النساء:164].
ولذلك ما احتمل سيدنا أبو بكر الرجل اليهودي الذي حلف وهو يتناقش معه بقوله: والذي اصطفى موسى على العالمين أن ما أقوله حق، فضرب الرجل وقال: إن الله اصطفى محمداً، فذهب أبو بكر يقص قصته على رسول الله لينظر ما يقول صلى الله عليه وسلم.
وهنا يتجلى خلق التواضع لسيدنا الحبيب صلى الله عليه وسلم، وإلا فكل الدلائل تشير إلى أن اصطفاء خير البشر كان لسيدنا محمد عليه الصلاة والسلام؛ لكنه يقول بكل تواضع، (لا تفضلوني على موسى بن عمران، ولا على يونس بن متى)، فلو قيل: موسى كليم، لكن سيدنا يونس لم يذكر كثيراً مثل سيدنا موسى عليهم الصلاة والسلام.
الحبيب يقول لـأبي بكر : (أول من ينشق عنه القبر يوم القيامة نبيكم، فيجد عند القبر جبريل، فيكون أول ما يسأله: كيف حال أمتي يا جبريل؟ فيقول: بخير حال يا رسول الله، ثم يسأله: وكيف حال
فأول من ينشق عنه القبر يوم القيامة نبيكم ولا فخر، ثم قال صلى الله عليه وسلم: (فأجد موسى منبطحاً تحت العرش آخذاً بقوائمه، فلا أدري أصعق فيمن صعق أم كفته الصعقة الأولى).
ومع ما أوتيه صلى الله عليه وسلم من العلم يقول: أنا لا أعرف هل اكتفى الله بأنه صعقه مرة واحدة يوم قال: رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا [الأعراف:143].
التحذير من الاختلاف بين الدعاة لأنه يهدم ولا يبني
وكم أنزعج وغيري مثلي من بعض الناس الذين يحبون أن يستقطبوا الناس ويصدوهم عن سماع غيرهم، فأقول: هلا تركتم الناس يتعلمون ممن شاءوا طالما أن من يعلمهم يقول: قال الله.. قال الرسول.
أما أن يذهب عند هذا يوغر صدره من الدرس، ويذهب عند هذا فيفعل كما فعل الأول، فيصدق فيهم قول الشاعر:
وإذا فرق الرعاة اختلاف علموا هارب الذئاب التجري
والمعنى: أن الرعاة عندما يختلفون فيما بينهم تأكل الذئاب الغنم، وما أكثر الذئاب هذه الأيام.
وكم هزني البارحة خبر حتى ظللت كل يومي مكتئباً وكلما تذكرت اكتأبت من جديد، والخبر هو ما قرأته في آخر صفحة في الجريدة، أن شرطة الملاهي أمسكت بثلاث راقصات يرقصن من غير ترخيص، وهذا يشير أن هناك من يرقصن بتراخيص، أنا لا أدري هل يلزمها حمل الرخصة في جيبها مثل رخصة السيارة أم لا؟
ولك بعد هذا أن تتخيل كم من ذئاب حولك تحطم أسوار الفضيلة وأهل الدين وأهل الاستقامة، والمسألة خطيرة وليست بهينة، فأنت تبني ومن حولك مائة يهدمون، فما الفائدة إذا كنت تبني وغيرك يهدم؟ فسبحان الله العظيم!!
وهنا يجدر التنبيه أن دروس السيرة ليست حكايات، فيحتج البعض فيقول: أنت لم تكلمنا عن شيء من أحداث السيرة، فالذي يريد السيرة حكايات فليذهب ويقرأ في الكتب، أما نحن فنعتقد أن السيرة علم نحاول به أن نأخذ بأيدينا وأيديكم إلى طريق الحق.
ولذلك قال أهل العلم: من احترقت بدايته أشرقت نهايته، فالطالب الذي يذاكر طوال السنة ليل نهار يكون في آخر السنة الأول، ومثلها: المؤمن وهو يعاني ويكابد الصبر على الطاعة والصبر عن المعصية لا يتكلم إلا بخبر، غاضاً بصره لا ينظر إلا إلى حلال، أصم لا يسمع إلا الخير، ويذهب بأرجله إلى الخير، فيحرص على أن يصلي الفجر والعشاء ويحضر دروس العلم، ويتذلل للعلماء ويتواضع للناس ولا يتكبر على أحد، كل هذا الكلام احتراق للنفس، فمن احترقت بدايته أشرقت نهايته جعل الله نهايتنا مشرقة.
الذين لا تبلى أجسادهم في القبر
فقلت له: أولاً: لست أنا الذي يقول! بل هذا الحبيب المصطفى هو الذي يقول، ثانياً: أما ما هو السبب؟ فقد ضربت له مثلاً بسيطاً جداً.
فقلت له: أنت لو أتيت بقالبين من طوب، قالب طوب لبن (غير محرق) ووضعته في الماء، ستجد أنه بعد ساعتين يتفكك، وأتيت بالقالب الثاني الذي أحرقته حتى صار طوباً أحمر، فإنك مهما وضعته في الماء يبقى كما هو، فقالب الطوب عندما حرق بالنار أصبح يتحمل الرطوبة والثقل، فالطوب اللبن الغير محرق مثله الذي لا يصلي ولسانه يخوض وعينه تزوغ وأذنه تسمع والرجل تمشي واليد تمتد للحرام، فهو ما تعب في شيء! فلذلك تكون نهايته مثل نهاية الطوب النيئ، فأول ما يدخل القبر يعصر حتى يذاب جسده.
أما الثاني فقد احترقت بدايته فأشرقت نهايته، ولذا عندما نقرأ عن الصحابة رضوان الله عليهم وما حصل لهم نجد عجباً.
فهذا سيدنا مصعب بن عمير -رضى الله عنه- أول سفراء الإسلام لما دعي الحبيب المصطفى ليصلي عليه بعد أن استشهد في أحد وجد عليه ثوباً إذا غطوا به وجهه ظهرت رجلاه، وإذا غطوا رجليه ظهر وجهه، فقال: (غطوا وجهه وضعوا على قدميه الإذخر، ثم بكى النبي صلى الله عليه وسلم! فقيل: ما يبكيك يا حبيب الله؟ قال: لقد رأيت هذا الشاب بمكة....) وقد كان سيدنا مصعب قبل الإسلام يسمى الشاب المعطر وكانت أمه تستقدم ملابسه الداخلية من حرير اليمن الخالص.
شأنها اليوم شأن من يذهبون هذه الأيام إلى باريس لاستقدام كسوة الشتاء، وإلى لندن من أجل كسوة الصيف، فكانت أم مصعب بن عمير من الغنى تأتي له بالملابس الداخلية من الحرير اليمني، فكيف بالملابس الخارجية؟
فلما دخل في الإسلام منعته أمه من المال، وعاش على شظف العيش وبانت عليه الشدة، فتذكر الحبيب صلى الله عليه وسلم أيامه وبكى، ثم قال: (كيف بكم إذا جاء عليكم زمن يغدى على أحدكم بصحفة ويراح بأخرى -أي: يعطونه طبقاً فيه نوع من الأكل ويأخذون طبقاً فيه نوع آخر من الأكل- يغدو أحدكم في حلة ويمسي في أخرى) أي: يلبس في الصبح (بدلة) وبعد الظهر (بدلة) ويلبس في الصبح (ثوباً) وبعد الظهر (ثوباً)، قالوا: ما أجمل هذا يا رسول الله، إذاً نتفرغ لنشر الدين ولا يشغلنا الرزق عنه.
فقال صلى الله عليه وسلم: (لا، أنتم اليوم خير من يومئذ)، لأن المال سيشغل الناس عن الدين وعن الطاعة، ومثل محب الدنيا كشارب من البحر لا يزيده الشرب إلا عطشاً، ولن يملأ جوف ابن آدم إلا التراب، فمن احترقت بدايته أشرقت نهايته.
ذكر بعض ما شرف الله به أمة محمد على من قبلها
قال: أرى في الألواح أمة صدقاتهم يأكلونها، -إذ الصدقات من قبل كان لا يحل أكلها، ويروى أن إسرائيل كان إذا أراد أن يخرج صدقة يضعها فوق الجبل، ودليل قبول الصدقة أن تنزل صاعقة لتحرقها، فإذا نزلت الصاعقة وأحرقت ما قدم كان ذلك دليلاً على قبول الصدقة، وإذا لم تنزل الصاعقة فالصدقة غير مقبولة، أما نحن فبإمكان الغني أن يعطي الفقير ولا حرج أن يذهب فيأكل عنده- قال موسى: اجعلهم أمتي يا رب! قال: كلا، إنما هم أمة أحمد.
قال: يا رب! أرى في الألواح أمة هم آخر الأمم، ولكنهم أول الناس دخولاً إلى الجنة، اجعلهم أمتي يا رب! قال: كلا يا موسى إنما هم أمة أحمد- وهكذا حتى عدد إحدى عشرة صفة، والحديث رواه ابن عباس وحسنه مسلم رضوان الله عليه، وقال: الحديث حسن صحيح، فأقسم ابن عباس راوي الحديث فقيل: يا ابن عباس ! أنت تحلف؟ قال: لأن الرسول قد أقسم، وقال: فوالله لقد ألقى موسى الألواح من بين يديه وقال: اللهم اجعلني من أمة أحمد.
وهذه دلائل العظمة للأمة المحمدية -الأمة الإسلامية.
فضل مجالس الذكر والحث على المداومة عليها
ووالله لو كشف عنا الحجاب، ورأينا الملائكة يجلسون حولنا ما قام الواحد منا، ولذلك جاء في الأثر: ينادي مناد من تحت العرش على اثنين: المصلي والجالس في بيت الله، لو يعلم كلاهما من يناجي ومن يجالس ما انفتل من صلاته وما خرج من المسجد.
والمعنى: لو يعرف الذي يصلي من يكلم ما خرج من الصلاة، ولو يعرف الذي يجلس في الجامع مع من جلس ما كان يخرج؛ لأنه سيشعر حينها أنه كالسمك في الماء إن خرج منه أصيب بالاختناق، فنحن عندما نخرج إلى الناس هذه الأيام قطعاً ستتألم نفوسنا من الكلام ومن الناس الذين يمشون في الشارع ومن الأيمان الكاذبة والفاجرة والصفقات الخاسرة، أما في بيت الله عز وجل فنحن نشعر براحة الصدر، كيف لا ونحن في بيت الكريم سبحانه!
ويقول أهل العلم: لو كشف لنا الحجاب لرأينا الرحمة وقد غطت الجالسين في بيت الله كالملاءة أو كالغطاء الذي تغطي به أبناءك لو رأيتهم في البرد، فرحمة الله تنزل على العبد فتغطيه، وما دامت رحمة الله تغطي العبد فليظن خيراً وليستبشر خيراًً.
الثناء على الأمة من الملائكة
والملائكة أيضاً تثني على المؤمنين حتى أن المؤمن النائم على وضوء وذكر، تدعو له الملائكة وتستغفر له؛ لأنه إذا لم ينم كان سيسبح ويذكر ويصلي، فهكذا حياته كلها، فلم يعطله عن الذكر إلا أنه يجب أن ينام، ولذلك فإن الملائكة تصلي عليه حتى وهو نائم، على أن حملة العرش، وهم أرقى نوع في الملائكة، يستغفرون لمن في الأرض.
ومن أعمال الملائكة أيضاً أنهم يؤمنون على دعاء المسلم، فمن وافق تأمينه تأمين الملائكة استجاب الله له، كما جاء في الحديث، فلو أن الإمام يدعو والناس يؤمنون، ثم أمنت الملائكة مع المؤمنين كانت الإجابة عند رب العالمين.
وعلى العكس من ذلك من دعت عليه الملائكة، وقد روي: أن الرجل الفاجر أو المنافق أو الفاسد أو المنحرف إذا مات تفرح الملائكة وتقول: الحمد لله الذي أراح الله منه البلاد والعباد، وقال فيه الحبيب صلى الله عليه وسلم: (مستريح ومستراح منه).
ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (عيشوا مع الناس معيشتهم حيث إن متم ترحموا عليكم وإن غبتم حنوا إليكم)، فعلى كل منا أن يحرص أن تكون فيه هاتان الصفتان: إذا غاب عن أخيه المسلم يحن إليه، ويتذكر أيامه وجلساته معه، وإذا مات دعا له بالرحمة.
وكم من علماء صالحين نذكرهم بالرحمة، وكم من أناس فاسدين مفسدين إذا ذكروا قال السامع: ماتوا والحمد لله، وما يمنعه أن يدعو عليهم إلا أنهم قد ماتوا والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (اذكروا محاسن موتاكم)، لكنه لا يستطيع أن يخرج كلمة رحمه الله، أما العلماء والصالحون فندعو لهم، فنحن حين نذكر مثلاً العز بن عبد السلام رضي الله عنه، وكذا صلاح الدين الأيوبي رضي الله عنه، وخالد بن الوليد رضي الله عنه، وأخونا الشيخ إبراهيم عتوي رحمه الله ورضي عنه، فندعو له لأنه كان يزرع خيراً في الناس.
لكنا لو ذكرنا فاجراً كان يحب أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا أو ما شاكله فلن نترحم عليه، ولذا كانت وصية النبي صلى الله عليه وسلم: (فعيشوا مع الناس معيشة إن غبتم حنوا إليكم وإن متم ترحموا عليكم).
أمة محمد شاهدة للرسل على أممهم يوم القيامة
ثم يأتي بعد ذلك من يشهد على الأمة، وهو سيدنا الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم قال تعالى: فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً * يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا [النساء:41-42].
ومعلوم أن شهادة الحبيب غير شهادة الكاره، ومن ذا يساوي الرسول صلى الله عليه وسلم خوفاً على أمته، يروى أن الله قال له: يا محمد! أأجعل إليك حساب أمتك؟ فيقول الحبيب: (كلا يا رب، بل حسابهم إليك فأنت أرحم بهم مني).
أكثر أهل الجنة من أمة محمد صلى الله عليه وسلم
ثم قال صلى الله عليه وسلم: (أترضون أن تكونوا ثلث أهل الجنة؟ فكبر الصحابة، فقال: أترضون أن تكونوا شطر أهل الجنة؟ -أي: نصف أهل الجنة- فكبر الصحابة ثم قال: أترضون أن تكونوا ثلثي أهل الجنة؟ فكبر الصحابة. ثم قال: أهل الجنة مائة وعشرون صفاً أمتي ثمانون صفاً).
يذكر أن رضوان خازن الجنة يقف على الباب، فإذا جاء إليه أحد يريد أن يدخل سأله: من أنت؟ يقول: فلان، فيقول له: من أي أمة؟ فيقول: من أمة محمد، فيقول حينها: ما أمرت أن أفتح لأحد قبل أمة محمد، أي أنهم أول الناس دخولاً، ولذلك يقول سيدنا الرسول صلى الله عليه وسلم: (لكظيظكم على باب الجنة أحب إلي من شفاعتي)، إذ أن شفاعته هي من أجل أن يدخل عدد منا الجنة، لكنه حين يراهم مزدحمين على باب الجنة يفرح وازدحامهم أحب إليه.
ولذلك قال صلى الله عليه وسلم في الرؤيا التي رآها -والحديث رواه الإمام البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما وعن أبي هريرة -: (ورأيت رجلاً من أمتي والنبيون جلوس حلق حلق)، رأى في الرؤيا أن كل نبي جالس وحوله حلقة ذكر وعلم، وفي هذا حث على تتبع حلق العلم والبعد عن مجالس اللهو والموسيقى العربية أو الغربية.
ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: (كلما جاء -أي: الرجل الذي رآه النبي صلى الله عليه وسلم- إلى فرج حلقة منع منها، فجاءته صلته للرحم فأجلسته الملائكة بجواري).
وصلة الرحم عظيمة جداً، حيث أجلست صاحبها بجانب الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم، كأنه علي بن أبي طالب ، أو الحسين ، أو أبو بكر .
ثم قال صلى الله عليه وسلم: (ورأيت رجلاً من أمتي يكلم الناس ولا يكلمونه فجاءه أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر فأمر الله الناس أن يكلموه فكلموه، ورأيت رجلاً من أمتي يقوم على الصراط ويكبو -أي: يقوم ويقع- تريد أن تتخطفه كلاليب جهنم، فجاءته صلاته علي فأوقفته فدخل الجنة سالماً)، اللهم صل على حبيبك رسول الله، صلى الله عليك وسلم، صلى الله عليك وسلم.
خروج عصاة الموحدين من جهنم
وجاء أن أهل النار -أبعدنا الله عنها- ينظرون فيرون معهم جماعة في جهنم، ومعلوم أن النار سبع دركات.
وفي أول دركة في النار، يقول المشركون والكفار للمسلمين العصاة الذين يقضون مدة العقوبة: ما أغنى عنكم صلاتكم ولا إيمانكم ولا توحيدكم، فأنتم فقط حرمتم أنفسكم من الخمر وسائر الشهوات والملذات، فيحزن المسلمون العصاة، فيقول الله سبحانه وتعالى يقول للملائكة: أخرجوا من النار كل من قال: لا إله إلا الله، ولذلك يقول الله تعالى: رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ [الحجر:2].
وقولهم ذلك هو في هذا الموقف، وذلك بين لمن قرأ القرآن وتدبر قوله تعالى: رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا [الحجر:2] ولا غرابة، فهم يتمنون يوم القيامة أن يكونوا حميراً، وهذا ما أشار إليه قوله تعالى: يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا [النبأ:40].
وذلك لأن الله حين يقتص للحيوانات والبهائم العجماء من الظالمين الذين يعذبونها يأخذ من حسناتهم، وهنا ننبه على ترك العصافير وعدم حبسها في الأقفاص، وقد يتعلل البعض بقوله: لو طارت من القفص فستموت فنقول له: لا دخل لك بها يرزقها من يرزق الدودة في باطن الصخر، كما أن الله حين خلق العصافير خلقها طليقة، ولم ينزلها في صندوق من السماء، ثم يقول الله سبحانه للحيوانات: كوني تراباً، إذ الحيوانات ليس لها جنة ولا نار، قال تعالى: وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ [التكوير:5] والوحوش تحشر يوم القيامة من أجل أن يقتص الله من الخلائق، حتى إن العصفور الصغير يصبح يهز ما بين المشرق والمغرب يريد حقه.
فبعد أن يقتص يقول للحيوانات: كوني تراباً، فيقول الكافر كما أخبر الله عنه وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا [النبأ:40] يتمنى أن يكون حيواناً من أجل أن يكون مآله في الآخرة التراب.
وعد المؤمنين بالتمكين في الأرض
صحيح أن سنوات طويلة مرت وقروناً تعاقبت ونحن غير ممكنين في الأرض وذلك لعصياننا لله عز وجل، لكن هناك قوانين عند الله لا تتعطل، ومؤدى هذه القوانين: من نصر الله نصره الله، ومن نصر دين الله نصره الله عز وجل، ومن حافظ على دين الله حافظ الله عليه، ومن اتقى الله سار في بلاد الله آمناً وعاش مطمئناً ومات منصوراً، ومن يتق الله خاف الناس منه وتهيبوه وأحبوه.
حتى عندما يجدون ابناً من أبنائنا متمسكاً بدينه، لا يشرب خمراً ولا فوضى ولا غيره يحترمونه؛ لأنه عندهم صاحب مبدأ، لا كما يفعل البعض إذا دخل روما صنع ما يصنع الرومان، وإذا دخل أثينا فعل ما يفعله النمساويون، بل أكون متمثلاً بأخلاق الإسلام أينما كنت، مسلم في القاهرة.. مسلم في فيينا، مسلم في نيويورك في أي مكان، فأنا مسلم أقول: لا إله إلا الله، لا تتغير عندي الأثواب أبداً، إنما كياني وحياتي كلها تحت شعار لا إله إلا الله محمد رسول الله.
أولاً: الصراع بين الحق والباطل صراع أزلي، منذ أن خلق الله الخلائق إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وقد تظن أحياناً أن الباطل ينتصر، فمثلاً تسمع من يقول لك: يا أخي! الكذاب هو الذي يعيش جيداً، والنصاب هو الذي يعيش جيداً، والمرتشي هو الذي يستطيع العيش.
وهذا غير صحيح، وهو نتاج النظر بالبصر لا البصيرة، فإن من نظر بعين البصيرة أيقن أن دولة الباطل ساعة ودولة الحق إلى قيام الساعة، وقد تطول هذه الساعة في عرف الزمن، فنحن لنا منذ بعثة الحبيب المصطفى إلى الآن يوم ونصف؛ لأن اليوم عند الله بألف سنة مما نعد، وقد بلغ التأريخ ألف وأربعمائة وإحدى عشرة سنة، فنحن لم نكمل اليوم والنصف من أيام الله، فلو أن الباطل علا على الحق لمدة يوم من أيام الله فإن ذلك ليس بشيء من أيام الله.
وما ينبغي أن نصنعه أن نحرص على أن نضع لبنة في صرح الحق، وهكذا الجيل التالي إلى أن يأتي جيل ليرى أن البناء قديم.
يقول الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم: (بشر هذه الأمة بالثناء والرفعة والتمكين في الأرض والنصر على الأعداء).
صدقت يا رسول الله، فالأمة مبشرة من المعصوم صلى الله عليه وسلم برغم ما يحدث من سلبيات، أو من قصور، أو من تقاعس، أو من بعض الانحرافات أو من بعض التجاوزات من كثير منا وكثيرات، لكن رغم ذلك يبشرنا الحبيب المصطفى بالثناء والذكر الحسن من رب الأرض والسماء، وما دام ربنا يثني فظن خيراً ولا تسأل عن الخبث، وفي القرآن أثنى الله على خير أمة فقال: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ [آل عمران:110].
فالخيرية كل الخيرية في هذه الأمة، وقد وضحها لنا الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه عن ابن عباس -رضوان الله عليه- فيما يروي عن الصادق المعصوم صلى الله عليه وسلم، عندما تلقى موسى الألواح فوق الجبل وموسى عليه السلام هو الوحيد من الرسل الذي تلقى أوامر الله بدون وحي، فهو الكليم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام قال تعالى: وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا [النساء:164].
ولذلك ما احتمل سيدنا أبو بكر الرجل اليهودي الذي حلف وهو يتناقش معه بقوله: والذي اصطفى موسى على العالمين أن ما أقوله حق، فضرب الرجل وقال: إن الله اصطفى محمداً، فذهب أبو بكر يقص قصته على رسول الله لينظر ما يقول صلى الله عليه وسلم.
وهنا يتجلى خلق التواضع لسيدنا الحبيب صلى الله عليه وسلم، وإلا فكل الدلائل تشير إلى أن اصطفاء خير البشر كان لسيدنا محمد عليه الصلاة والسلام؛ لكنه يقول بكل تواضع، (لا تفضلوني على موسى بن عمران، ولا على يونس بن متى)، فلو قيل: موسى كليم، لكن سيدنا يونس لم يذكر كثيراً مثل سيدنا موسى عليهم الصلاة والسلام.
الحبيب يقول لـأبي بكر : (أول من ينشق عنه القبر يوم القيامة نبيكم، فيجد عند القبر جبريل، فيكون أول ما يسأله: كيف حال أمتي يا جبريل؟ فيقول: بخير حال يا رسول الله، ثم يسأله: وكيف حال
فأول من ينشق عنه القبر يوم القيامة نبيكم ولا فخر، ثم قال صلى الله عليه وسلم: (فأجد موسى منبطحاً تحت العرش آخذاً بقوائمه، فلا أدري أصعق فيمن صعق أم كفته الصعقة الأولى).
ومع ما أوتيه صلى الله عليه وسلم من العلم يقول: أنا لا أعرف هل اكتفى الله بأنه صعقه مرة واحدة يوم قال: رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا [الأعراف:143].
دخل أعرابي على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: السلام عليك يا خير البرية! فقال صلى الله عليه وسلم: (خير البرية إبراهيم الخليل)، ومع ذلك تجد اليوم بعض من يدعي العلم يقول: أنا الشيخ فقط، ينبغي أن تسمعني أنا فقط، غافلاً أو متغافلاً عن قاعدة التعلم التي قررها سيدنا الإمام مالك وهو يسند ظهره إلى قبر الحبيب ويشرح للناس كلام الله وكلام رسوله ويقول: كل الناس يؤخذ من قوله ويرد إلا صاحب هذا المقام الشريف، وإنما استثناه لأنه لا ينطق عن الهوى صلى الله عليه وسلم، ولا يقول كلاماً من عند نفسه.
وكم أنزعج وغيري مثلي من بعض الناس الذين يحبون أن يستقطبوا الناس ويصدوهم عن سماع غيرهم، فأقول: هلا تركتم الناس يتعلمون ممن شاءوا طالما أن من يعلمهم يقول: قال الله.. قال الرسول.
أما أن يذهب عند هذا يوغر صدره من الدرس، ويذهب عند هذا فيفعل كما فعل الأول، فيصدق فيهم قول الشاعر:
وإذا فرق الرعاة اختلاف علموا هارب الذئاب التجري
والمعنى: أن الرعاة عندما يختلفون فيما بينهم تأكل الذئاب الغنم، وما أكثر الذئاب هذه الأيام.
وكم هزني البارحة خبر حتى ظللت كل يومي مكتئباً وكلما تذكرت اكتأبت من جديد، والخبر هو ما قرأته في آخر صفحة في الجريدة، أن شرطة الملاهي أمسكت بثلاث راقصات يرقصن من غير ترخيص، وهذا يشير أن هناك من يرقصن بتراخيص، أنا لا أدري هل يلزمها حمل الرخصة في جيبها مثل رخصة السيارة أم لا؟
ولك بعد هذا أن تتخيل كم من ذئاب حولك تحطم أسوار الفضيلة وأهل الدين وأهل الاستقامة، والمسألة خطيرة وليست بهينة، فأنت تبني ومن حولك مائة يهدمون، فما الفائدة إذا كنت تبني وغيرك يهدم؟ فسبحان الله العظيم!!
وهنا يجدر التنبيه أن دروس السيرة ليست حكايات، فيحتج البعض فيقول: أنت لم تكلمنا عن شيء من أحداث السيرة، فالذي يريد السيرة حكايات فليذهب ويقرأ في الكتب، أما نحن فنعتقد أن السيرة علم نحاول به أن نأخذ بأيدينا وأيديكم إلى طريق الحق.
ولذلك قال أهل العلم: من احترقت بدايته أشرقت نهايته، فالطالب الذي يذاكر طوال السنة ليل نهار يكون في آخر السنة الأول، ومثلها: المؤمن وهو يعاني ويكابد الصبر على الطاعة والصبر عن المعصية لا يتكلم إلا بخبر، غاضاً بصره لا ينظر إلا إلى حلال، أصم لا يسمع إلا الخير، ويذهب بأرجله إلى الخير، فيحرص على أن يصلي الفجر والعشاء ويحضر دروس العلم، ويتذلل للعلماء ويتواضع للناس ولا يتكبر على أحد، كل هذا الكلام احتراق للنفس، فمن احترقت بدايته أشرقت نهايته جعل الله نهايتنا مشرقة.
وقد سألني أحدهم فقال: ألم تقل في خطبة سابقة: إن أجساد الأنبياء والعلماء والشهداء لا تأكلها الأرض، لماذا؟
فقلت له: أولاً: لست أنا الذي يقول! بل هذا الحبيب المصطفى هو الذي يقول، ثانياً: أما ما هو السبب؟ فقد ضربت له مثلاً بسيطاً جداً.
فقلت له: أنت لو أتيت بقالبين من طوب، قالب طوب لبن (غير محرق) ووضعته في الماء، ستجد أنه بعد ساعتين يتفكك، وأتيت بالقالب الثاني الذي أحرقته حتى صار طوباً أحمر، فإنك مهما وضعته في الماء يبقى كما هو، فقالب الطوب عندما حرق بالنار أصبح يتحمل الرطوبة والثقل، فالطوب اللبن الغير محرق مثله الذي لا يصلي ولسانه يخوض وعينه تزوغ وأذنه تسمع والرجل تمشي واليد تمتد للحرام، فهو ما تعب في شيء! فلذلك تكون نهايته مثل نهاية الطوب النيئ، فأول ما يدخل القبر يعصر حتى يذاب جسده.
أما الثاني فقد احترقت بدايته فأشرقت نهايته، ولذا عندما نقرأ عن الصحابة رضوان الله عليهم وما حصل لهم نجد عجباً.
فهذا سيدنا مصعب بن عمير -رضى الله عنه- أول سفراء الإسلام لما دعي الحبيب المصطفى ليصلي عليه بعد أن استشهد في أحد وجد عليه ثوباً إذا غطوا به وجهه ظهرت رجلاه، وإذا غطوا رجليه ظهر وجهه، فقال: (غطوا وجهه وضعوا على قدميه الإذخر، ثم بكى النبي صلى الله عليه وسلم! فقيل: ما يبكيك يا حبيب الله؟ قال: لقد رأيت هذا الشاب بمكة....) وقد كان سيدنا مصعب قبل الإسلام يسمى الشاب المعطر وكانت أمه تستقدم ملابسه الداخلية من حرير اليمن الخالص.
شأنها اليوم شأن من يذهبون هذه الأيام إلى باريس لاستقدام كسوة الشتاء، وإلى لندن من أجل كسوة الصيف، فكانت أم مصعب بن عمير من الغنى تأتي له بالملابس الداخلية من الحرير اليمني، فكيف بالملابس الخارجية؟
فلما دخل في الإسلام منعته أمه من المال، وعاش على شظف العيش وبانت عليه الشدة، فتذكر الحبيب صلى الله عليه وسلم أيامه وبكى، ثم قال: (كيف بكم إذا جاء عليكم زمن يغدى على أحدكم بصحفة ويراح بأخرى -أي: يعطونه طبقاً فيه نوع من الأكل ويأخذون طبقاً فيه نوع آخر من الأكل- يغدو أحدكم في حلة ويمسي في أخرى) أي: يلبس في الصبح (بدلة) وبعد الظهر (بدلة) ويلبس في الصبح (ثوباً) وبعد الظهر (ثوباً)، قالوا: ما أجمل هذا يا رسول الله، إذاً نتفرغ لنشر الدين ولا يشغلنا الرزق عنه.
فقال صلى الله عليه وسلم: (لا، أنتم اليوم خير من يومئذ)، لأن المال سيشغل الناس عن الدين وعن الطاعة، ومثل محب الدنيا كشارب من البحر لا يزيده الشرب إلا عطشاً، ولن يملأ جوف ابن آدم إلا التراب، فمن احترقت بدايته أشرقت نهايته.
وعودة إلى الحديث الذي صدرنا به كلامنا: أمسك سيدنا موسى عليه السلام الألواح، بعد أن ألقى الله له الألواح على الجبل، فلما تلقى الألواح وفيها الوصايا العشر، وجد في الألواح صفات أمة معينة، لم تذكر من هذه الأمة؟ فقال: يا رب! أجد في الألواح أمة أناجيلهم في صدروهم -أي: الكتاب المقدس الذي نزل عليهم يستطيعون حفظه، ومعلوم أنه لا أحد من القساوسة يستطيع أن يحفظ الإنجيل، ولذلك إذا تحدث أحدهم بجملة من الكتاب المقدس اضطر إلى فتح الكتاب ليأتي بالعبارة فهو لا يجيد حفظها- فقال موسى: اجعلهم أمتي يا رب! قال: كلا يا موسى إنما هم أمة أحمد، قال موسى: وأرى في الناس أمة من الأمم من هم منهم بحسنة ولم يعملها كتبتها له حسنة، فإن عملها كتبت له عشرا، وإن هم بسيئة ولم يعملها ما كتبتها عليه شيء فإن عملها كتبت عليه سيئة واحدة، اجعلهم أمتي يا رب! قال: كلا يا موسى إنما هم أمة أحمد.
قال: أرى في الألواح أمة صدقاتهم يأكلونها، -إذ الصدقات من قبل كان لا يحل أكلها، ويروى أن إسرائيل كان إذا أراد أن يخرج صدقة يضعها فوق الجبل، ودليل قبول الصدقة أن تنزل صاعقة لتحرقها، فإذا نزلت الصاعقة وأحرقت ما قدم كان ذلك دليلاً على قبول الصدقة، وإذا لم تنزل الصاعقة فالصدقة غير مقبولة، أما نحن فبإمكان الغني أن يعطي الفقير ولا حرج أن يذهب فيأكل عنده- قال موسى: اجعلهم أمتي يا رب! قال: كلا، إنما هم أمة أحمد.
قال: يا رب! أرى في الألواح أمة هم آخر الأمم، ولكنهم أول الناس دخولاً إلى الجنة، اجعلهم أمتي يا رب! قال: كلا يا موسى إنما هم أمة أحمد- وهكذا حتى عدد إحدى عشرة صفة، والحديث رواه ابن عباس وحسنه مسلم رضوان الله عليه، وقال: الحديث حسن صحيح، فأقسم ابن عباس راوي الحديث فقيل: يا ابن عباس ! أنت تحلف؟ قال: لأن الرسول قد أقسم، وقال: فوالله لقد ألقى موسى الألواح من بين يديه وقال: اللهم اجعلني من أمة أحمد.
وهذه دلائل العظمة للأمة المحمدية -الأمة الإسلامية.
من النعم التي تستوجب الشكر أن يوفق المرء لحضور مجالس التذكر والعلم والمداومة عليها.
ووالله لو كشف عنا الحجاب، ورأينا الملائكة يجلسون حولنا ما قام الواحد منا، ولذلك جاء في الأثر: ينادي مناد من تحت العرش على اثنين: المصلي والجالس في بيت الله، لو يعلم كلاهما من يناجي ومن يجالس ما انفتل من صلاته وما خرج من المسجد.
والمعنى: لو يعرف الذي يصلي من يكلم ما خرج من الصلاة، ولو يعرف الذي يجلس في الجامع مع من جلس ما كان يخرج؛ لأنه سيشعر حينها أنه كالسمك في الماء إن خرج منه أصيب بالاختناق، فنحن عندما نخرج إلى الناس هذه الأيام قطعاً ستتألم نفوسنا من الكلام ومن الناس الذين يمشون في الشارع ومن الأيمان الكاذبة والفاجرة والصفقات الخاسرة، أما في بيت الله عز وجل فنحن نشعر براحة الصدر، كيف لا ونحن في بيت الكريم سبحانه!
ويقول أهل العلم: لو كشف لنا الحجاب لرأينا الرحمة وقد غطت الجالسين في بيت الله كالملاءة أو كالغطاء الذي تغطي به أبناءك لو رأيتهم في البرد، فرحمة الله تنزل على العبد فتغطيه، وما دامت رحمة الله تغطي العبد فليظن خيراً وليستبشر خيراًً.
قال صلى الله عليه وسلم: (بشر هذه الأمة بالثناء من الله).
والملائكة أيضاً تثني على المؤمنين حتى أن المؤمن النائم على وضوء وذكر، تدعو له الملائكة وتستغفر له؛ لأنه إذا لم ينم كان سيسبح ويذكر ويصلي، فهكذا حياته كلها، فلم يعطله عن الذكر إلا أنه يجب أن ينام، ولذلك فإن الملائكة تصلي عليه حتى وهو نائم، على أن حملة العرش، وهم أرقى نوع في الملائكة، يستغفرون لمن في الأرض.
ومن أعمال الملائكة أيضاً أنهم يؤمنون على دعاء المسلم، فمن وافق تأمينه تأمين الملائكة استجاب الله له، كما جاء في الحديث، فلو أن الإمام يدعو والناس يؤمنون، ثم أمنت الملائكة مع المؤمنين كانت الإجابة عند رب العالمين.
وعلى العكس من ذلك من دعت عليه الملائكة، وقد روي: أن الرجل الفاجر أو المنافق أو الفاسد أو المنحرف إذا مات تفرح الملائكة وتقول: الحمد لله الذي أراح الله منه البلاد والعباد، وقال فيه الحبيب صلى الله عليه وسلم: (مستريح ومستراح منه).
ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (عيشوا مع الناس معيشتهم حيث إن متم ترحموا عليكم وإن غبتم حنوا إليكم)، فعلى كل منا أن يحرص أن تكون فيه هاتان الصفتان: إذا غاب عن أخيه المسلم يحن إليه، ويتذكر أيامه وجلساته معه، وإذا مات دعا له بالرحمة.
وكم من علماء صالحين نذكرهم بالرحمة، وكم من أناس فاسدين مفسدين إذا ذكروا قال السامع: ماتوا والحمد لله، وما يمنعه أن يدعو عليهم إلا أنهم قد ماتوا والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (اذكروا محاسن موتاكم)، لكنه لا يستطيع أن يخرج كلمة رحمه الله، أما العلماء والصالحون فندعو لهم، فنحن حين نذكر مثلاً العز بن عبد السلام رضي الله عنه، وكذا صلاح الدين الأيوبي رضي الله عنه، وخالد بن الوليد رضي الله عنه، وأخونا الشيخ إبراهيم عتوي رحمه الله ورضي عنه، فندعو له لأنه كان يزرع خيراً في الناس.
لكنا لو ذكرنا فاجراً كان يحب أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا أو ما شاكله فلن نترحم عليه، ولذا كانت وصية النبي صلى الله عليه وسلم: (فعيشوا مع الناس معيشة إن غبتم حنوا إليكم وإن متم ترحموا عليكم).
استمع المزيد من د. عمر عبد الكافي - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
سلسلة مقتطفات من السيرة [15] | 2698 استماع |
سلسلة مقتطفات من السيرة [23] | 2536 استماع |
سلسلة مقتطفات من السيرة [16] | 2148 استماع |
سلسلة مقتطفات من السيرة [8] | 2061 استماع |
سلسلة مقتطفات من السيرة [17] | 2057 استماع |
سلسلة مقتطفات من السيرة [19] | 2039 استماع |
سلسلة مقتطفات من السيرة [18] | 2019 استماع |
سلسلة مقتطفات من السيرة [24] | 1985 استماع |
سلسلة مقتطفات من السيرة [11] | 1950 استماع |
سلسلة مقتطفات من السيرة [25] | 1880 استماع |