سلسلة مقتطفات من السيرة [16]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

أحمد الله رب العالمين، حمد عباده الشاكرين الذاكرين، حمداً يوافي نعم الله علينا ويكافئ مزيده، وصلاة وسلاماً على المبعوث رحمة للعالمين، سيدنا محمد، اللهم صل وسلم عليه صلاة وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين.

أما بعد:

فهذه -بمشيئة الله عز وجل- هي الحلقة السادسة عشرة في سلسلة حديثنا عن السيرة العطرة على صاحبها أفضل الصلوات وأزكى التسليمات من رب الأرض والسماوات، وهي الحلقة الثالثة في الحديث عن الصلاة وأسرارها.

وسوف نطيل الوقفة عند الصلاة؛ لأنها هي الباقية لنا من الدين، فقد ورد في البخاري ومسلم عن الصادق المعصوم صلى الله عليه وسلم: (لتنقضن عرى الإسلام عروة عروة، أولها الحكم وآخرها الصلاة) وقد انتقضت عروة الحكم بالإسلام، ولم يبق لنا إلا الصلاة.

ونتوجه إلى الله عز وجل في ضراعة وابتهال وقلوب مخبتة منيبة عسى أن تكون ساعة من ساعات الإجابة أن يجعل الله برحمته جمعنا هذا جمعاً مرحوماً، وتفرقنا من بعده تفرقاً معصوماً.

اللهم لا تجعل بيننا شيقاً ولا محروماً، اللهم اغفر لنا وارحمنا عافنا واعف عنا، سامحنا وتقبل منا، لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا، ربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون، اللهم اكشف العذاب عنا إنا مؤمنون، واغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرين، لا تدع لنا ذنباً إلا غفرته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا عسيراً إلا يسرته، ولا كرباً إلا أذهبته، ولا هماً إلا فرجته، ولا صدراً ضيقاً إلا شرحته، ولا ضالاً إلا هديته، ولا ولداً عاقاً إلا جعلته باراً بوالديه، ولا طالباً إلا نجحته، ولا صاحب كرب إلا أذهبت كربه، ولا ميتاً إلا رحمته، ولا مسافراً إلا رددته لأهله غانماً سالماً.

اللهم تب على كل عاص، واهد كل ضال، واشف كل مريض، وارحم كل ميت، واغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرين.

اجعل اللهم خير أعمالنا خواتيمها، وخير أيامنا يوم أن نلقاك، اللهم اجعل خير أعمالنا خواتيمها، وخير أيامنا يوم أن نلقاك.. اللهم اجعل خير أعمالنا خواتيمها، وخير أيامنا يوم أن نلقاك.

وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا ومولانا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

وبعد:

يأتي هذا الدرس في الحديث عن الصلاة في ليلة ينزل فيها سخط الله وغضبه على مصر، فنسأل الله أن تكون هذه الدروس جالبة لرحمة الله بالناس، وأن يجعلنا رب العباد من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأن يجعلنا من الذين يتقبل الله منهم أعمالهم، ولعل الله عز وجل أن يرفع بفضله ورحمته غضبه، من أجل رجل كبير السن أو امرأة فاضلة أو مسلم صالح أو شاب تقي أو فتاة تعرف الله عز وجل، أو طفل رضيع لا ذنب له، أو بهيمة ترتع، فينزل علينا رحمته ولا ينزل علينا غضبه ولا عقابه.

ولعل ذلك يجعل المسلمين يستقبلون أي يوم من أيامهم بتقوى الله وبالاستغفار، فربما بات قوم على معصية الله فنظر الله إليهم نظرة مقت فغضب عليهم فلعنهم كما لعن بني إسرائيل من قبل.

فاللهم لا تلعنا معهم يا أرحم الرحمين، واكنفنا بعينك التي لا تنام، واحرسنا بركنك الذي لا يرام، إنك -يا مولانا- على ما تشاء قدير، فلا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا، واغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرين، وأنت نعم المولى ونعم النصير.

منا الدعاء وعليك الإجابة، ومنا التكلان وعليك القبول، إنك أمرتنا بالدعاء ووعدتنا بالإجابة، فهانحن قد دعوناك فحقق لنا ما وعدتنا بإجابة دعائك، واغفر لنا وارحمنا يا أرحم الرحمين.

ولعلنا نذكر قصة الحسن البصري الذي كانت له جارية تركها على باب السوق وقال لها: يا ابنتي! امكثي هنا ولا تتحركي من مكانك، وعاد الحسن البصري بعد أن قضى حاجته فلم يجد الجارية، فلما عاد إلى البيت وجدها، فقال لها: يا بنية! لمَ لم تنتظريني كما أمرتك؟! فقالت: يا سيدي تركتني في مكان لا يذكر فيه اسم الله. فالسوق فيه بايع ومشتر وحلاف مهين وكذاب، فخشيت أن ينزل الله غضبه عليهم فيمقتهم فتكون معهم، فأسرعت من توها لتعتصم بالبيت الذي يذكر الله فيه.

فاجتنب المكان الذي يعصى الله فيه، ولذلك قال الله عز وجل في أمر الخمر: إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ [المائدة:90-91].

فالله عز وجل قال في مسألة الخمر: (اجتنبوه) حتى لا تجلس في المكان الذي فيه معصية الله؛ لأن الشيطان يسول المعصية للإنسان.

وقد جيء لـعمر بن عبد العزيز برسالة من واليه على حمص يقول له: هناك ثلاثة أو أربعة من علية القوم شربوا الخمر، فقال: أقم عليهم الحد. فقال: فلان كان معهم، ولكنه كان صائماً.

فقال: ابدأ به يعني: أقم الحد عليه أولاً؛ لأن الله يقول: فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ [النساء:140].

إذاً: أقام سيدنا عمر بن عبد العزيز الحد على الصائم الذي لم يشرب الخمر ولكنه جلس مع شاربي الخمر.

والأعمال بالنيات، ولذلك رويت قصة في زمن موسى عليه السلام في النية عجيبة، وإننا في دروس العلم نريد أن نصحح أمر العقيدة؛ لأن الذي حفظ المصريين ومصر هو وتد الإسلام، ولو أن الوتد مال لزعزع الإسلام كله.

فالشعب المصري فيه سر غريب، جاءه الفاطميون ليشيعوه، وبنوا الأزهر من أجل أن يكون منارة للفكر الشيعي، فصار الفاطميون أهل سنة.

وتجد فيهم الفطرة الصافية، حتى المنحرف عندما تذكره بالله تجد عنده استجابة، فالجزار الذي لا يعرف الله عز وجل وميزانه مطفف، واللحمة عنده يملؤها ماءً إذا سمع من يسب الدين في الطريق يخرج بأداة الجزارة.

ففي زمن موسى عليه السلام كان هناك رجل يمشي في زمن المجاعة، فأدخل يديه في جيبه فلم يلق مالاً، ففكر قائلاً: ما هو الذي يوجد عندي في البيت لأخرجه لله؟ فلم يجد، فنظر عن يمينه وعن شماله في جبال من رمال الصحراء، فقال: وعزتك وجلالك لو كانت هذه الجبال طعاماً لوزعتها على عبادك، فقال الله لكلميه موسى: بلغ عبدنا أننا قد قبلنا منه صدقته.

إذاً: (إنما الأعمال بالنيات)، فاللهم أحسن نوايانا.

فأنت يمكنك أن تنوي التوبة وأنت نائم.

يروى أن الإمام الحسين بن فاطمة الزهراء ابن سيدنا علي أتاه رجل وقال له: عندي مرض وليس له علاج، فقال له: كل الأمراض لها علاج إلا مرضاً واحداً، وهو الهرم. يعني: عندما يعجز الرجل. والذي يعجز نتمنى أن يرضى لنقبل يده؛ لأن رحمة الله متمثلة فيه، لأن العبد إذا بلغ ستين أو سبعين سنة يسمى أسير الله في الأرض.

فيقول الله عز وجل: عبدي! شاب شعرك، واحدودب ظهرك، ووهن عظمك، فاستح مني؛ فإني أستحي أن أعذبك.

ثم إن الله عز وجل يأمر ملك السيئات إذا وصل العبد إلى هذه السن ألا يكتب عليه سيئة، ولذلك قيل: إن الله يكره العاصين، وكرهه للشيخ العاصي أشد، فالله يكره أهل المعصية، وعندما يكون الرجل كبيراً في السن عاصياً يكون كره الله له أشد؛ لأن كبير السن متمثلة فيه رحمة الله عز وجل، ولذلك قالت البنتان لسيدنا موسى: لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ [القصص:23].

وفي الحديث (ليس منا من لم يوقر كبيرنا ويعطف على صغيرنا ويعرف لعالمنا حقه).

وكان ابن عباس يضع ركاب الفرس لسيدنا زيد أحد كتبة الوحي، فقال له زيد : ما هذا يا ابن عباس ؟! فقال: هكذا أمرنا أن نجل علماءنا. فينزل زيد من فوق الفرس ويقبل يد ابن عباس التي قدمت له الركاب، ويقول: هكذا أمرنا أن نجل آل بيت نبينا، فهذا هو الاحترام المتبادل، فاللهم احشرنا في زمرتهم يا أكرم الأكرمين.

المخلصون المتابعون وأسرار الإخلاص

الناس أقسام أربعة: فقسم فيه إخلاص ومتابعة، وقسم لا إخلاص فيه ولا متابعة، وقسم فيه إخلاص من غير متابعة، وقسم فيه متابعة ولكن لغير الله عز وجل.

والإخلاص فيه أسرار ثلاثة:

الأول: أنه لا يطلع عليه ملك مقرب فيكتبه؛ لأن الإخلاص كما قال الله فيه: (إنما الإخلاص سر من أسراري أستودعه قلب من أحب وأرضى عن عبادي)، فالذي يحبه الله ويرضى عنه يضع فيه الإخلاص.

وقد روي أن سيدنا داود عليه السلام أراد أن يشكر ربنا بعد أن أنعم عليه بنعم عظيمة، فقال: (يا رب لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك)، فبحث الملائكة عن ثوابها، فلم يجدوا لها ثواباً عندهم، فقالوا: يا رب! كم نكتب ثوابها؟ فقال: يا ملائكتي! اكتبوها لداود كما هي وأنا أجازيه عليها يوم القيامة.

فالإخلاص لا يكتبه ملك مقرب؛ لأنه سر بين العبد وربه.

الثاني: أن الشيطان لا يطلع على قلب العبد المخلص فيفسد الإخلاص فيه؛ لأن الشيطان لا يقدر على المخلص، قال تعالى: إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ [الحجر:40].

ولذلك لما كان سيدنا يوسف عليه السلام من المخلصين لم يستطع الشيطان إغواءه فقد قال تعالى عنه: إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ [يوسف:24].

فسيدنا يوسف من المخلصين، فلا يستطيع إبليس أن يغويه.

الثالث: أن المخلص لا يفكر بإخلاصه، فالمخلص لا يعرف أنه مخلص.

فقد بعث سعد بن أبي وقاص رسولاً إلى عمر ، وقال: اذهب وبشر أمير المؤمنين بأننا انتصرنا في القادسية. فذهب الرجل فوصل المدينة في نصف الليل، فقال: عما قريب يطلع الفجر، وحين يدخل عمر ليصلي بالناس سأقول له، قال: فدخلت فصليت ركعتين في الروضة الشريفة فرأيت رجلاً ساجداً في المحراب يبكي بكاء مراً، ويقول: يا رب! لائذ ببابك، عائذ بجنابك، لا تطردني من رحابك. فقال: إن هذا مسرف على نفسه، إنه رجل عمل سيئات، فسأنتظره حتى ينتهي لأحدثه بأحاديث الرحمة، فلعله قانط أو يائس، فبعد أن سلم واقترب عرف أنه أمير المؤمنين عمر ، فقال له: يا أمير المؤمنين! ماذا تصنع هنا؟! فقال: يا أخا الإسلام! إن نمت الليل كله أضعت نفسي، وإن نمت النهار كله أضعت رعيتي.

وقد يسأل أحدنا نفسه سؤالاً فيقول: هل يعقل أن سيدنا عمر يخاف هذا الخوف كله، فيقول: يا ليت أم عمر لم تلد عمر ، يا ليتني كنت نسياً منسياً؟! إنك لو سألت أي سارق في الدولة عن مآله بعد الموت لقال: الجنة، وكأن معه صك الغفران.

إن الصحابة الكبار كانوا على وجل، حتى قال الحبيب: (لن يدخل أحد الجنة بعمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟! قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته).

إخلاص عطاء بن أبي رباح

ولقد روي أن عطاء بن أبي رباح ذهب ليحج، فبعدما أفاض الحجيج من عرفة، قيل له: أتظن أن الله سيقبل العمل أو لا؟ فقال: أوقن أن الله قبل، لولا أني فيكم، يعني: أنا الشر الوحيد الذي لن ينزل الله الرحمة بسببه.

و عطاء بن أبي رباح هو الذي نام ليلة المزدلفة، فرأى ملكين، يقول أحدهما للآخر: كم حج هذا العام؟ فقال له: ستمائة ألف، قال: وكم قبل الله منهم؟ قال له: ما قبل إلا ستة. فقام عطاء فزعاً، والواحد منا لو رأى هذه الرؤيا لقال: أنا من الستة، لكن عطاء خاف على نفسه، فظل يدعو الله عز وجل، ويقول للناس: ألحوا في الدعاء، وفي ثاني أيام منى أخذته سنة من النوم، فرأى نفس الملكين، فقال أحدهما للآخر: كم حج هذا العام؟ قال له: ستمائة ألف، قال له: وكم قبل الله منهم؟ قال له: ستة، فقال الملك: لكن الله كريم، قال: نعم، إنه أعطى كل واحد من الستة مائة ألف.

وهذا من رحمة الله، ولذلك قيل: إنه لو أتي برجل مؤمن وأعطي مفاتيح الجنة يوم القيامة وقيل له: أدخل من شئت، فإنه سوف يدخل ويقف على الباب ويمنع ويقول: لا نريد الزحمة.

فالإنسان كنود بخيل لا يعرف العطاء، لكن الله عز وجل كريم يغفر يوم القيامة مغفرة يتطلع إبليس إليها، فيظهر من رحمة الله عز وجل ما لا يخطر على قلب بشر، فستظهر الرحمة يوم القيامة، حيث يجمع العباد ثم بعد ذلك يقول: يا عبادي! ما بيني وبينكم فقد غفرته لكم، فتصالحوا.

وقد أجاب العلماء عن ذلك السؤال، وهو: ما الذي جعل العظماء من أهل العلم وأهل التقوى يتهمون أنفسهم بالتقصير؟

فقالوا: إن ربنا من رحمته أن ينسي الصالحين الأعمال الصالحة التي يعملونها، فالواحد منهم يعمل العمل ولا يذكر عمله، فيقول: يا إلهي! إنني سأضيع، وسأكون في داهية، فلم أعمل شيئاً.

وأما أنت فإنك إذا عملت حسنة صغيرة تعيرنا بها سنتين، فلو أتى إليك أحد مرة وأخذ منك خمسة جنيهات فإنك بعد ثلاثين سنة تقول له: أتذكر الخمسة الجنيهات التي أخذتها؟!

وقد قالوا لـعطاء بن أبي رباح : يا عطاء ! إننا نرى فئراناً كثيرة تخرج من بيتكم، قال: نعم، قالوا له: لماذا لا تحضر قطة؟ قال: أخاف أن تهرب الفئران إلى بيت جاري فأكون قد ظلمته.

إنك قد تحضر الكلاب المسعورة إلى باب جارك، وتتمنى أن شقة جارك تسقط على أولاده.

وسمعت بأذني في عرفة شخصاً يدعو الله بأن يهدم بيته، ويقول: آمين يا مولانا. فقلت له: آمين على ماذا؟ فقال: أن يهدم الله بيتي، فقلت له: لماذا؟ قال: إن البيت قد أجرته في منطقة مهمة جداً، ويأتي بسبعين جنيهاً في الشهر، ومنذ عشرين شهراً وأنا أطالب جهة الإسكان ولا فائدة، فأدعو الله أن يهده من أجل أن أبيعه، فإن المتر وصل إلى ألفي جنيه!

فسبحان الله، أتدعو على الناس؟! لنفرض أن الله استجاب: وَيَدْعُ الإِنسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الإِنسَانُ عَجُولًا [الإسراء:11].

الإخلاص سر لا يكتبه الملك ولا يفسده الشيطان

فالإخلاص السر الذي فيه أن الملك لا يكتبه، والشيطان لا يفسده، والعبد لا يعرفه فأول نوع من الناس مخلص متابع، عنده إخلاص في العمل ومتابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فالذي عمله الرسول يعمله، والذي لم يعلمه لا يعمله.

يروى أن سهل بن عبد الله ذهب إلى أحد أصحابه فأحضر له بطيخاً فلم يأكل، فقال له: ما هذا يا سهل ؟! هل البطيخ فيه نص؟! قال: لا، قال: فلم لا تأكل؟! قال: لم يصلني كيف كان يأكله رسول الله.

فانظر إلى المتابعة إلى أي حد وصلت.

و أبو ذر وضع مرة رجله اليسرى في نعله اليسرى، فتصدق بدينار، فقالوا: لماذا يا أبا ذر ؟! قال: خالفت سنة حبيبي؛ إذ كان الأفضل أن يضع رجله اليمين أولاً.

وسيدنا أبو طلحة الأنصاري الصحابي الجليل كان واقفاً في بستانه يصلي، فجاء عصفور يشقشق في الشجرة، فشغله العصفور في الصلاة، فصلى وهو مشغول بالعصفور، فبعدما سلم ذهب إلى الحبيب فأخبره وقال: فأشهدك أني قد تصدقت بالبستان لله رب العالمين.

وسيدنا الحبيب روت عنه السيدة عائشة أنها غيرت له شراك نعله البالي، وكان الرسول يصلي أحياناً بنعليه، فلما صلى قال: (أين شراك نعلي القديم، قالت: ولم يا رسول الله! قال: لقد كاد الشراك الجديد أن يشغلني في الصلاة)، يعني: رباط الحذاء الجديد كان سيشغلني في الصلاة، فهو يخشع مع الله رب العالمين.

والنوع الثاني من الناس: ليس عندهم إخلاص ولا متابعة، فهؤلاء فاسقون فجرة.

الإخلاص من غير متابعة

والنوع الثالث: من عنده إخلاص، ولكن لا توجد عنده متابعة، فنيته صادقة، ولكن لا توجد عنده متابعة.

ومثال هؤلاء كمن يرزقه الله بولد، فهو مخلص في حبه لابنه، ولذا يهزه حتى يأتي له ارتجاج في المخ، ويضربه حتى يأتي له صمم.

قال الحبيب صلى الله عليه وسلم: (لا يكن أحدكم إمعة، يقول: إن أحسن الناس أحسنت وإن أساءوا أسأت، بل وطنوا أنفسكم، إن أحسن الناس أن تحسنوا، وإن أساءوا أن تجنبوا إساءتهم). فالرجل من هؤلاء قد لا يجد ما يأكل، ويأخذ من الشئون الاجتماعية مرتباً، وقد تسأل عنه فيقال لك: إنه عمل عيد ميلاد لابنه أو لابنته.

فهو إمعة يعمل عيد ميلاد، ويعمل ذكرى سنوية، وبعض هؤلاء تجده يقول لصاحبه: أنا أعرف أنك خاطب، فيقول له: من أين عرفت؟ فيقول له: الدبلة في يدك اليمين، ويقول له: لقد تزوجت، فيقول: من أين عرفت؟ فيقول: الدبلة في يدك الشمال.

وهذه بدعة منكرة ما أنزل الله بها من سلطان، ومن استن بسنة قوم حشر معهم يوم القيامة، ولذلك كان سيدنا عمر يقول: اللهم لا تجعل لفاجر علي نعمة حتى لا أحبه.

فلو أن شخصاً نصرانياً صنع لك معروفاً، وأخاك المسلم يؤذيك فإنك تحب الكافر؛ لأن النفوس جبلت على حب من أحسن إليها، وكراهية من أساء إليها.

فلو ربينا أبناءنا على الإخلاص والمتابعة لفعلنا شيئاً عظيماً.

المخلصون لغير الله

النوع الرابع: أناس عندهم إخلاص ولكن لغير الله، حيث يقول الواحد منهم: لو أن البنت نجحت في البكالوريوس هذه السنة فإني سأذبح عجلاً للسيد، فارتبط السيد بالعجل ولا أعرف لماذا.

فالسيد البدوي رجل كان تقياً ورعاً عالماً فاضلاً مجاهداً في سبيل الله، وكان يحارب التتار، ولكن لا أعرف ارتباط هذا الرجل الصالح بذبح العجل.

وهناك قصص في هذا الباب منسوجة كذباً، فقد ذكروا أن امرأً من أسيوط كان نذر أنه يذبح البقرة للسيد، وفي الصباح لم يلق البقرة في الزريبة، فظل يبحث عنها ولم يلقها، فذهب إلى طنطا فوجدها مربوطة هناك عند السيد!

إنه لابد من أن نرقى في مسألة الفكر؛ لأن الفكر مرتبط بالعقيدة، وعقيدتنا -والحمد لله- صافية ليس فيها ألوان، فالعقيدة صواب أو خطأ، حلال أو حرام، استقامة أو انحراف، وجنة أو نار، ولا يوجد حل وسط.

لقد كان هناك شخص أيام محمد علي في السودان اسمه عثمان الدكين ، وكان شيخ طريقة، فبلغهم أن جيش محمد علي ذاهب من أجل أن يحتل السودان ويضمها إلى مصر، فجاءوا إليه فقالوا: يا سيدنا الشيخ، إن محمد علي آت لاحتلالنا، فماذا نعمل؟ فقال: من أين سيأتون؟ قالوا: عن طريق النيل، فقال: أنا سأشرب ماء النيل كله بحيث إن مراكبهم تنزل في القاع وتلصق في الطين!

وهناك أخ لي في الله ذهب إلى إحدى جلسات العلم عند أحدهم، فكان الدرس كله على وجوب تقبيل يد العالم.

فهذه حلقة فيها هوى، وانظر إلى الفرق بين هذا وبين الإمام مالك ، فعندما وصل هارون الرشيد إلى المدينة أرسل إلى إمام دار الهجرة: يا إمام دار الهجرة! وصلت إلى مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأريد أن تحضر إلي لأدارسك العلم، فأرسل مالك إليه: يا أمير المؤمنين! العلم يؤتى إليه ولا يأتي. فالذي يريد التعلم يحضر، ولا يأتي العلم إلى البيوت.

ثم قال: يا أمير المؤمنين! إني أعقد درساً بعد صلاة العصر في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن أردت أن تستزيد علماً فاحضر، ولكن لا تأت متأخراً وتتخطى رقاب المسلمين، فإن تخطيت رقاب المسلمين أحرجتك أمام رعيتك، فجاء هارون الرشيد متأخراً فجلس في الخلف، وكان يريد أن يرى وجه مالك الذي يقطر نوراً، فقال للخدم! ائتوني بكرسي من أجل أن أنظر، وكل الناس جالسون على الأرض، فجلس هارون الرشيد على الكرسي، فقال الإمام مالك : فيم كنا نتحدث البارحة؟ فقالوا: توقفنا يا إمام عند أركان الصلاة، فقال: وبم وعدتكم البارحة؟ قالوا: وعدتنا أن تحدثنا عن سنن الصلاة، فقال: كلا، سوف نلغي الموضوع ونؤجل سنن الصلاة، وسوف أحدثكم عن التواضع.

و هارون الرشيد لا يتغابى، فعلم أن الكلام عليه فترك الكرسي.

الناس أقسام أربعة: فقسم فيه إخلاص ومتابعة، وقسم لا إخلاص فيه ولا متابعة، وقسم فيه إخلاص من غير متابعة، وقسم فيه متابعة ولكن لغير الله عز وجل.

والإخلاص فيه أسرار ثلاثة:

الأول: أنه لا يطلع عليه ملك مقرب فيكتبه؛ لأن الإخلاص كما قال الله فيه: (إنما الإخلاص سر من أسراري أستودعه قلب من أحب وأرضى عن عبادي)، فالذي يحبه الله ويرضى عنه يضع فيه الإخلاص.

وقد روي أن سيدنا داود عليه السلام أراد أن يشكر ربنا بعد أن أنعم عليه بنعم عظيمة، فقال: (يا رب لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك)، فبحث الملائكة عن ثوابها، فلم يجدوا لها ثواباً عندهم، فقالوا: يا رب! كم نكتب ثوابها؟ فقال: يا ملائكتي! اكتبوها لداود كما هي وأنا أجازيه عليها يوم القيامة.

فالإخلاص لا يكتبه ملك مقرب؛ لأنه سر بين العبد وربه.

الثاني: أن الشيطان لا يطلع على قلب العبد المخلص فيفسد الإخلاص فيه؛ لأن الشيطان لا يقدر على المخلص، قال تعالى: إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ [الحجر:40].

ولذلك لما كان سيدنا يوسف عليه السلام من المخلصين لم يستطع الشيطان إغواءه فقد قال تعالى عنه: إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ [يوسف:24].

فسيدنا يوسف من المخلصين، فلا يستطيع إبليس أن يغويه.

الثالث: أن المخلص لا يفكر بإخلاصه، فالمخلص لا يعرف أنه مخلص.

فقد بعث سعد بن أبي وقاص رسولاً إلى عمر ، وقال: اذهب وبشر أمير المؤمنين بأننا انتصرنا في القادسية. فذهب الرجل فوصل المدينة في نصف الليل، فقال: عما قريب يطلع الفجر، وحين يدخل عمر ليصلي بالناس سأقول له، قال: فدخلت فصليت ركعتين في الروضة الشريفة فرأيت رجلاً ساجداً في المحراب يبكي بكاء مراً، ويقول: يا رب! لائذ ببابك، عائذ بجنابك، لا تطردني من رحابك. فقال: إن هذا مسرف على نفسه، إنه رجل عمل سيئات، فسأنتظره حتى ينتهي لأحدثه بأحاديث الرحمة، فلعله قانط أو يائس، فبعد أن سلم واقترب عرف أنه أمير المؤمنين عمر ، فقال له: يا أمير المؤمنين! ماذا تصنع هنا؟! فقال: يا أخا الإسلام! إن نمت الليل كله أضعت نفسي، وإن نمت النهار كله أضعت رعيتي.

وقد يسأل أحدنا نفسه سؤالاً فيقول: هل يعقل أن سيدنا عمر يخاف هذا الخوف كله، فيقول: يا ليت أم عمر لم تلد عمر ، يا ليتني كنت نسياً منسياً؟! إنك لو سألت أي سارق في الدولة عن مآله بعد الموت لقال: الجنة، وكأن معه صك الغفران.

إن الصحابة الكبار كانوا على وجل، حتى قال الحبيب: (لن يدخل أحد الجنة بعمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟! قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته).

ولقد روي أن عطاء بن أبي رباح ذهب ليحج، فبعدما أفاض الحجيج من عرفة، قيل له: أتظن أن الله سيقبل العمل أو لا؟ فقال: أوقن أن الله قبل، لولا أني فيكم، يعني: أنا الشر الوحيد الذي لن ينزل الله الرحمة بسببه.

و عطاء بن أبي رباح هو الذي نام ليلة المزدلفة، فرأى ملكين، يقول أحدهما للآخر: كم حج هذا العام؟ فقال له: ستمائة ألف، قال: وكم قبل الله منهم؟ قال له: ما قبل إلا ستة. فقام عطاء فزعاً، والواحد منا لو رأى هذه الرؤيا لقال: أنا من الستة، لكن عطاء خاف على نفسه، فظل يدعو الله عز وجل، ويقول للناس: ألحوا في الدعاء، وفي ثاني أيام منى أخذته سنة من النوم، فرأى نفس الملكين، فقال أحدهما للآخر: كم حج هذا العام؟ قال له: ستمائة ألف، قال له: وكم قبل الله منهم؟ قال له: ستة، فقال الملك: لكن الله كريم، قال: نعم، إنه أعطى كل واحد من الستة مائة ألف.

وهذا من رحمة الله، ولذلك قيل: إنه لو أتي برجل مؤمن وأعطي مفاتيح الجنة يوم القيامة وقيل له: أدخل من شئت، فإنه سوف يدخل ويقف على الباب ويمنع ويقول: لا نريد الزحمة.

فالإنسان كنود بخيل لا يعرف العطاء، لكن الله عز وجل كريم يغفر يوم القيامة مغفرة يتطلع إبليس إليها، فيظهر من رحمة الله عز وجل ما لا يخطر على قلب بشر، فستظهر الرحمة يوم القيامة، حيث يجمع العباد ثم بعد ذلك يقول: يا عبادي! ما بيني وبينكم فقد غفرته لكم، فتصالحوا.

وقد أجاب العلماء عن ذلك السؤال، وهو: ما الذي جعل العظماء من أهل العلم وأهل التقوى يتهمون أنفسهم بالتقصير؟

فقالوا: إن ربنا من رحمته أن ينسي الصالحين الأعمال الصالحة التي يعملونها، فالواحد منهم يعمل العمل ولا يذكر عمله، فيقول: يا إلهي! إنني سأضيع، وسأكون في داهية، فلم أعمل شيئاً.

وأما أنت فإنك إذا عملت حسنة صغيرة تعيرنا بها سنتين، فلو أتى إليك أحد مرة وأخذ منك خمسة جنيهات فإنك بعد ثلاثين سنة تقول له: أتذكر الخمسة الجنيهات التي أخذتها؟!

وقد قالوا لـعطاء بن أبي رباح : يا عطاء ! إننا نرى فئراناً كثيرة تخرج من بيتكم، قال: نعم، قالوا له: لماذا لا تحضر قطة؟ قال: أخاف أن تهرب الفئران إلى بيت جاري فأكون قد ظلمته.

إنك قد تحضر الكلاب المسعورة إلى باب جارك، وتتمنى أن شقة جارك تسقط على أولاده.

وسمعت بأذني في عرفة شخصاً يدعو الله بأن يهدم بيته، ويقول: آمين يا مولانا. فقلت له: آمين على ماذا؟ فقال: أن يهدم الله بيتي، فقلت له: لماذا؟ قال: إن البيت قد أجرته في منطقة مهمة جداً، ويأتي بسبعين جنيهاً في الشهر، ومنذ عشرين شهراً وأنا أطالب جهة الإسكان ولا فائدة، فأدعو الله أن يهده من أجل أن أبيعه، فإن المتر وصل إلى ألفي جنيه!

فسبحان الله، أتدعو على الناس؟! لنفرض أن الله استجاب: وَيَدْعُ الإِنسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الإِنسَانُ عَجُولًا [الإسراء:11].

فالإخلاص السر الذي فيه أن الملك لا يكتبه، والشيطان لا يفسده، والعبد لا يعرفه فأول نوع من الناس مخلص متابع، عنده إخلاص في العمل ومتابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فالذي عمله الرسول يعمله، والذي لم يعلمه لا يعمله.

يروى أن سهل بن عبد الله ذهب إلى أحد أصحابه فأحضر له بطيخاً فلم يأكل، فقال له: ما هذا يا سهل ؟! هل البطيخ فيه نص؟! قال: لا، قال: فلم لا تأكل؟! قال: لم يصلني كيف كان يأكله رسول الله.

فانظر إلى المتابعة إلى أي حد وصلت.

و أبو ذر وضع مرة رجله اليسرى في نعله اليسرى، فتصدق بدينار، فقالوا: لماذا يا أبا ذر ؟! قال: خالفت سنة حبيبي؛ إذ كان الأفضل أن يضع رجله اليمين أولاً.

وسيدنا أبو طلحة الأنصاري الصحابي الجليل كان واقفاً في بستانه يصلي، فجاء عصفور يشقشق في الشجرة، فشغله العصفور في الصلاة، فصلى وهو مشغول بالعصفور، فبعدما سلم ذهب إلى الحبيب فأخبره وقال: فأشهدك أني قد تصدقت بالبستان لله رب العالمين.

وسيدنا الحبيب روت عنه السيدة عائشة أنها غيرت له شراك نعله البالي، وكان الرسول يصلي أحياناً بنعليه، فلما صلى قال: (أين شراك نعلي القديم، قالت: ولم يا رسول الله! قال: لقد كاد الشراك الجديد أن يشغلني في الصلاة)، يعني: رباط الحذاء الجديد كان سيشغلني في الصلاة، فهو يخشع مع الله رب العالمين.

والنوع الثاني من الناس: ليس عندهم إخلاص ولا متابعة، فهؤلاء فاسقون فجرة.