بين عام مضى وآخر أتى
مدة
قراءة المادة :
12 دقائق
.
بين عام مضى وآخر أتىنقف على حافة عام ميلادي مضى، منتقلين بكثير من الأمل إلى عام جديد، نودع العام المنقضي بكثير من الرضا، على كل ما كان فيه من عناء على كافة الأصعدة، ونستقبل العام الجديد بالتفاؤل ولا شيء غير التفاؤل، نسأل الله تعالى أن يغفر جميع ذنوبنا في العام المنصرم، وأن يجعل لنا في العام القادم الكثير من النجاحات والإنجازات، ويرفع عنا التَّبِعات والابتلاءات.
لقد تعلمنا ألَّا نتوقف عن الأمل، وأن نسعى دائمًا إلى تحقيق ما نريد، فالتفاؤل في الأشياء هو أول سبب للوصول إلى المبتغى، واللحاق بالمنشود، وتحقيق العهود، وتنفيذ الوعود.
عام ميلادي جديد يُقبِل علينا، ونحن نستقبله بكل ما فينا من كبرياء الإيمان، وقوة ومنعة ضد الطغيان، الذي استشرى في كل مكان.
نعم، نستقبله استقبال الأبطال للأبطال، مستعدين لمواجهة كل ما قد نتعرَّض له في أيام هذا العام، فكل عام وأنتم بألف خير أيها القريبون من القلب، أيها القرَّاء الأصدقاء، أيها الأحبة الكرام في كل مكان، وفي كل زمان.
عام ميلادي جديد، عام مضى وعام أتى، عام مضى من حياتنا، بحُلْوِه ومُرِّه، بخيره وشره، بالحسنات والسيئات، بالصلاح والطلاح، لا ندري أيكون لنا أم علينا؛ لذا يجب أن نكون من الله على وَجَلٍ، لماذا؟ ﴿الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ﴾ [الأنبياء: 49]، لهم المغفرة: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ﴾ [الملك: 12]، والله حسيبهم: ﴿الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا﴾ [الأحزاب: 39]، والفرار إلى الله أولى: ﴿فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ﴾ [الذاريات: 50]، وأن نكون من الجنة على عَجَلٍ: ﴿وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ﴾ [آل عمران: 133]، وأن نكون من أعمال الخير لا كَلَلَ ولا مَلَلَ: ﴿إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ﴾ [الأنبياء: 90].
انتهى عام بحروبه وكروبه وخُطُوبه، وننتقل إلى عام آخر، نسأل الله أن يكون عامَ أمْنٍ وفرح وسلام.
انتهى عام كان مليئًا بالأوبئة الفتاكة، مرورًا بالحروب المدمرة، عام وباء وغلاء وأشلاء ودماء.
نسأل الله أن يرفع كل ذلك عن البلاد والعباد، وأن يُرخِيَ فَرَجَه وسِتره وخيره عليهما من جديد في العام الجديد.
في انقضاء عام دروس وعبر، نحاول أن نغير من أنفسنا حتى يغيِّر الله تعالى ما بنا: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾ [الرعد: 11].
إن انتهاء عام من أعمارنا قرَّبنا من لقاء الله خطوة، ولا ندري كم بقِيَ من أعمارنا، بعض خطوة، أم خطوة، أم خطوات؛ يقول الحسن البصري رضي الله عنه: إنما أنت أيها الإنسان أيام مجتمعة، فإذا ذهب يومك فقد ذهب بعضك...
إذا مر يوم من حياتك فقد وقعت ورقة من شجرتك، وطُوِيت صفحة من صفحاتك، وهوى جدار من بنيانك.
يقول عمر بن عبدالعزيز رضي الله عنه: الليل والنهار يعملان فيك فاعمل فيهما، نَعَمْ، الليل والنهار يعملان فيك، كيف؟ يقرِّبان كل بعيد، ويُبليان كل جديد، ويفِلَّان كل حديد.
يقول الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسَبوا وزِنوا أعمالكم قبل أن توزَن عليكم"، ويقول أيضًا: "لو قيل: إن كل الناس يدخلون الجنة إلا واحدًا، لظننت أني ذلك الواحد"، بينما يقول الصديق أبو بكر رضي الله عنه: "والله لا آمَنُ مكر الله وإن كانت إحدى قدمَيَّ في الجنة"؛ ويقول النبي عليه الصلاة والسلام: ((اغتنم خمسًا قبل خمس: حياتك قبل موتك، وصحتك قبل سقمك، وفراغك قبل شغلك، وشبابك قبل هرمك، وغناك قبل فقرك))؛ [تحقيق الألباني: (صحيح)، انظر حديث رقم: 1077 في صحيح الجامع].
لذلك فالوقت هو الحياة، واستغلاله في طاعة الله، في الذكر والتسبيح والصلاة سبيلٌ إلى النجاة.
نعم، إن لكم نهاية فانتهوا إلى نهايتكم، وإن لكم معالمَ فانتهوا إلى معالمكم، وإن المؤمن بين مخافتين: أجلٍ قد مضى لا يدري ما الله صانعٌ فيه، وأجلٍ قد بقِيَ لا يدري ما الله قاضٍ فيه، فليتزود العبد من نفسه لنفسه، ومن دنياه لآخرته، ومن الحياة قبل الموت، فما بعد الموت من مُستعتِب، وما بعد الدنيا إلا الجنَّة أو النار.
الله تعالى يحذرنا في شخص نبيه من الغفلة؛ فيقول: ﴿وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ﴾ [الأعراف: 205].
قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: ((نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة، والفراغ))؛ لذا يجب أن نستقبل العام الجديد بالإخلاص والجهاد وإتقان العمل: ﴿وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ [التوبة: 105].
يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((...
فوالذي نفس محمد بيده، إن الرجل لَيعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيغلب عليه الكتاب فيعمل بعمل النار فيدخلها، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها))؛ [متفق عليه]، ويقول أيضًا: ((إن الرجل لَيعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس وهو من أهل النار، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار فيما يبدو للناس وهو من أهل الجنة))؛ [متفق عليه]، والمؤمن يستمع إلى قول الله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ * وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ [الأنفال: 24، 25].
خطاب للمؤمنين وتحذير لهم أن يتقاعسوا عن العمل، وأن يقعدوا عن الجهاد، وأن التقاعس والقعود قد يعاقب الله عليه بأن يحول بين المؤمن وقلبه، فيرى الإيمان ولا يتبعه، ويعلم الحق ولا يبلِّغه، ويتمنى الصلاح ولا يناله، وتصيبه الفتنة مع الذين ظلموا وينقلب منقلبهم، ويرِد مَورِدَهم والعياذ بالله: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ [الأنفال: 25].
ولذلك لا أمن إلا لأهل الخوف والعمل؛ قال تعالى: ﴿أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ [يونس: 62 - 64].
أهل الإيمان والتقوى والاستقامة والعمل الصالح لهم الأمن والبشرى في أحرج اللحظات: ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ﴾ [فصلت: 30 - 32].
عند الموت تأتيهم ملائكة الرحمة بحَنوطٍ من الجنة، ويأخذون روحه يحنِّطونها بذلك الحنوط ويكفِّنونها بذلك الكفن، يصعدون بها إلى السماء، ويبشرونه بالجنة، وأما قبل ذلك فبشرى أخرى وهي الرؤيا الصالحة؛ كما قال صلى الله عليه وسلم: ((لم يَبْقَ من النبوة إلا الْمُبَشِّرات، قالوا: وما المبشرات يا رسول الله؟ قال: الرؤيا الصالحة، يراها الرجل الصالح أو تُرى له))، والمؤمن وإن رأى مثل ذلك أو رُؤيَتْ له لا يعوِّل عليها، ولا يتكل عليها، ولا يفرط في شيء من العمل الصالح من أجلها، ولا يرتكب صغيرة أو كبيرة تهاونًا واتكالًا اطمئنانًا إلى هذه الرؤيا، كيف والرسول نفسه صلى الله عليه وسلم كان يقول: ((والله إني لرسول الله، لا أدري ما يُفعَل بي غدًا)).
وقد كانوا جميعًا يخافون ويعملون ويجتهدون؛ فهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول وهو على فراش الموت: "وددت أن عملي كله كفافًا لا لي ولا عليَّ، ووالله لو أن لي ملء الأرض ذهبًا لافتديت بها من عذاب الله قبل أن أراه"؛ [رواه البخاري].
كان يشير إلى عظمة الإسلام وعزته؛ فيقول: "لقد أعزنا الله بالإسلام، فإنِ ابتغينا العزة في غير الإسلام، أذلَّنا الله".
العزة والعظمة استغلال الأوقات في طاعة الله، والذلة أن تنقضي في معصية الله وفي الغفلة عن عطاياه.
أهل العمل والخوف من الله هم الذين يأمنون ويَسْلَمون، ويُقال لهم: ﴿يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ﴾ [الزخرف: 68]، وفي الجنة تكون أولى كلمات أهل الإيمان التي يقولونها: ﴿وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ﴾ [فاطر: 34]، وعندما يجلس أهل الجنة أول مجالسهم في جنات النعيم، على سُرُرٍ متقابلين يقبل بعضهم على بعض بعد مجلس شراب، تنازعوا فيه الكؤوس، ودارت عليهم بها الغِلمان المخلدون، كأنهم اللؤلؤ المكنون - يقول بعضهم لبعض: ﴿قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ * فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ * إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ﴾ [الطور: 26 - 28].
وبينما هم كذلك في سرورهم وحبورهم، ولذتهم وطعامهم، وشرابهم ونسائهم، يكون أهل النار في صراخهم وعذابهم، يدعون على أنفسهم بالهلاك والثُّبور؛ لأن جريمتهم أنهم أمضَوا حياتهم مسرورين فَكِهين، لا يحملون همًّا ولا غمًّا: ﴿وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ * فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا * وَيَصْلَى سَعِيرًا * إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا * إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ﴾ [الانشقاق: 10 - 14]، أما أهل الجنة فيتسابق إليهم المهنئون والمبشِّرون: ﴿سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ﴾ [الرعد: 24].
قال الحسن البصري: "أدركت أقوامًا ما كانوا على أوقاتهم أشد منكم حرصًا على دراهمكم ودنانيركم".
ما من يوم ينشق فجره إلا وينادَى: "يا بن آدم، أنا خَلْقٌ جديد، وعلى عملك شهيد، فاغتنم مني؛ فإني لا أعود إلى يوم القيامة"؛ وإليكم بعض الدعوات في هذا المجال:
اللهم لا تَدَعْنا في غمرة، ولا تأخذنا على غِرَّة، ولا تجعلنا من الغافلين، اللهم إنا نسألك صلاح الساعات، ووفِّقنا لاستغلال الأوقات، يا رقيبًا في الخلوات، يا نصيرًا في الجلوات، ويا معينًا على الطاعات، ارحم قلوبًا انكسرت ندمًا على ما فات، أثخنتها الجراح والآهات، وبارك لنا فيما تبقى من أوقات، واجعل خير أيامنا يوم الممات، ويسِّر عليَّ نزع الروح والسكرات، يا رب الأرض والسماوات.