حقيقة الحاضنة الدولية أو الشرعية الدولية
مدة
قراءة المادة :
9 دقائق
.
إنّ من أكبر التحدّيات الّتي تواجهها الحركات الإسلامية سواء كانت السياسية منها أوالجهادية هوموقف الغرب منها، وموقفها هي منه.تجلّى هذا التحدّي أكثر منذ الثورات الشعبية ضدّ الحكومات الطاغية، ورفع أسهم الحركات الإسلامية السياسية خاصّة وبلوغها إلى مشارف الحكم، بل بعضها بلغ الحكم، هنا توجّس الغرب خيفة من هذا الصعود للحركات الإسلامية السياسية، فدعّموا الثورات المضادّة ووقفوا بجانبها لإسقاط أي مشروع يمتّ إلى الإسلام بصلة، رغم التنازلات الّتي قدّمتها هذه الحركات الإسلامية السياسية قبل الحراك الشعبي.
إنّ ما يجب أن ندركه ونحن نتكلّم عن الثورات المضادّة، حقيقة طالما ذكرتها في مقالات سابقة، وهي أنّ بلداننا لا زالت تحت وطأة المستدمر، وأنّ الحكام الّذين يحكموننا هم يحكموننا بالوكالة عن من نصّبهم ورضي عنهم، فإذا أدركنا هذه الحقيقة أدركنا معها معنى الدولة العميقة، قال بنجامين ديزرائيلي (سياسي بريطاني، تولى رئاسة الحكومة مرتين ببريطانيا، الأولى سنة 1868، والثانية: 1874) على لسان أحد شخصياته في كتابه (coningsby ): وهكذا ترى يا عزيزي كوننغسي، أنّ الّذين يحكمون العالم هم أشخاص مختلفون جدّا عمّن يتخيّلهم أولئك الّذين يجهلون ما يدور وراء الستار.
اهـ.
إنّ هذه الدولة العميقة أوقل الشرعية الدولية أوالحاضنة الدولية لا تحتل أرضنا فحسب بل وعقولنا، إذ تسيطر على أفكارنا، فهي لا تريد أن نفكّر إلاّ في الإطار الّذي تريده منّا أن نفكر من خلاله، ولا تريد منّا أن نرى الأمور إلاّ من خلال وجهة نظرها هي، فهم الذّين يحدّدون لنا المسار الّذي يخدم مصالحهم، من ذلك شرعنة غزوأراضنا واحتلالها تارة باسم مكافحة الإرهاب، وتارة باسم الإعمار ونشر الديموقراطية ، وتارة باسم حماية الأقليات، وفي المقابل تجريم من يدافع عن أرضه وعن عرضه، إنّها الهيمنة على عقول أمّتنا إذ صار كثير من أفراد أمّتنا يردّد ما يمليه الغرب من تصوّرات، فسهل بذلك هيمنتهم على مقدّرات أوطاننا، إنّها معركة كسب العقول والقلوب بأسلوب الديبلوماسية الشعبية بوسائل إعلامية، وهذا ما أطلقت عليه منذ سنوات بسياسة الاحتواء الّتي تنتهجها بعض القوى الغربية في مقابل سياسة التصادم التي تنتهجها قوى أخرى.
إنّ فكّ الارتباط الحقيقي هومن هذه الحاضنة الدولية أوالشرعية الدولية، فيعود اتخاذ قرارات الأمة من خلال شريعة ربّها لا من خلال ما تمليه القوى الخارجية، فإنّ انتفاضة الشعوب على الحكام المستبدّين يجب أن يكون معه انتفاضة ضدّ الدولة العميقة، أي ضدّ من ينصّب على أمّتنا حكام جور واستبداد، وإلاّ فسيكون المصير هواستبدال طاغية بطاغية، وغالبا يكون الّذي نُحّي أقلّ شرّا من الّذي نُصّب جديدا، وإنّ من السفاهة بمكان من يريد استبدال أصحاب القرار من دولة عميقة قديمة بأصحاب قرار جدد يمثّلون دولة عميقة جديدة تتحكّم في مصير الأمّة، هوبمثابة استبدال محتلّ بمحتلّ آخر، وذلك من خلال العمل وفق أجندة أجنبية بحجة التعاون على الإطاحة بالطاغية، وإنّ من الحماقة العمل وفق المنظومة العالمية أوالسعي لإرضاء الحاضنة الدولية سواء التقليدية أوالبديلة باسم التغيير، فهذا من التزييف والتدليس على الشعوب، بل لا يسمّى هذا التوجّه اصلاحا فضلا أن يكون تغييرا، بل هوترقيع، وتغيير الوجوه أوالأدوار، فالتغيير المنشود لا يكون إلاّ بالمفاصلة عن الحاضنة الدّولية، فيكون التعامل معها على أساس الندية واحترام قرارات الأمّة المنبثقة من شريعة دينها، فشرعية قرارات الأمّة لا تكون مستمدّة إلاّ من خلال شريعة الله جلّ وعلا، لا من المنظومات الإقليمية ولا الدولية.
ثمّ هل تظنّ أنّ الدولة العميقة وأصحاب القرار سيتركون الأمّة تحدّد مصيرها بهذه السهولة؟ كلاّ.
ثمّ اعلم أنّ الّذي ساهم مساهمة كبيرة في هذه الثورات المضادّة – مع اختلاف البعض على هذا المصطلح - هي بعض الأنظمة العربية الّتي كانت تخشى أن يصلها الربيع العربي، فالثورات العربية غالبها هي فعلا شعبية لم تتحرك من الخارج على الأقل ابتداء كما يدّعيها من خاف أن تصل إليه، لكن الخارج عرف كيف يسيطر على الموقف ويعيد رسم الخطة، فاستثمرت فيها وخاصة القوى الاقتصادية الّتي يتزعمها أمثال آل روتشيلد الّتي تسعى على الهيمنة الاقتصادية، فلا يهمّها من يحكم أوطاننا بقدر ما يهمّها أنّ الّذي يحكم يخدم مصالحها، وطبعا لا يكون ذلك إلاّ بإبعاد الإسلام عن الحكم، فهم يريدون استبدال استراتيجية القمع السياسي الّذي كان واقعا على الأمّة فانتفضت عليه بالقمع الناعم وهوالقمع الاقتصادي وهذا ما كنت أخشاه، وحذرت منه في بداية الثورات.
إنّ أوّل موقف بارز من الغرب تجاه الحركات الإسلامية السياسية الصاعدة بعد الثورات المضادة، هوتصنيف أهم حركة إسلامية سياسية كونها إرهابية أقصد الإخوان المسلمين العالمي، فماذا كان موقف هذه الحركات من هذه الهجمة الغربية بإيعاز من بعض الأنظمة العربية وعلى وجه الخصوص الأنظمة الخليجية – السعودية والإمارات خاصّة ؟.
في عوض أن تتصدّى الحركات الإسلامية السياسية لهذه الهجمة، ويقفوا بجانب حركتهم الأمّ، أخذوا موقف الضدّ فقاموا بمراجعات عميقة:
♦ الانفكاك عن التيار العالمي للإخوان، بل بعضهم تبرأ من التيار الإخواني، وافتخر بعضهم بأنهم انفكوا عن حركتهم الأمّ قبل تصنيف الغرب لها.
♦ الدعوة إلى دولة قطرية وطنية، أي انحسار عمل الحركات من العالمية إلى القطرية.
♦ الزهد في الحكم برفع شعار التوافق والتحالف والتشارك وذلك مع بعض التنظيمات الّتي كانت في مواجهة معها قبل الثورات كالحركات الشيوعية والعلمانية وغيرها، بدعوى أنّ الأمّة تمرّ بمرحلة انتقالية، أسألهم لوأنّ الحركات العلمانية فازت بالأغلبية هل كانت ستشرككم في الحكم؟، الجواب معروف لذي لبّ..
♦ التنازل عن شعرات كانت ترفعها كالإسلام هوالحلّ، وتعويضها بشعارات كالديموقراطية والحكم التشاركي.
♦ عدم التطرّق إلى تحكيم شرع الله تعالى إن هم حازوا على الأغلبية في الانتخابات، إذ الانتخابات يكاد يكون هوالمسار الأوحد لهذه الحركات الإسلامية السياسية لبلوغ الحكم.
.
رفع شعار الدولة الحديثة والدولة المدنية، ولاشكّ أنّ هذه المصطلحات هي من وضع القوى العلمانية.
♦ التعامل مع النظم كأمر واقع لا يجب التفكير في تغييره، بل في تخطّيه.
وغير ذلك من المواقف والمراجعات كلّ ذلك حتّى لا يلتصق بها وصف الإرهاب من الدول الغربية، فهذا عربون الصداقة قدّمتها الحركات الإسلامية السياسية للغرب حتّى يحوزوا على الحاضنة الغربية، وإذا شئت قلت على الشرعية الدولية، فتكون بذلك قد تخلّت عن سبب وجودها وهوتحكيم شريعة الله تعالى، فلم يعد ثمّ فرق بين هذه الحركات السياسية الّتي تُنسب إلى كونها إسلامية ومع غيرها من القوى والحركات والأحزاب بعد تلكم التنازلات.
هذا عن الحركات الإسلامية السياسية، فماذا عن الحركات الجهادية؟
إنّ موقف هذه الحركات بعد الثورات المضادة، وخاصة تلك التي تقع في الشام ، لا يبعد كثيرا عمّا وقع للحركات السياسية من المراجعات، وخصّصت الشام بالذكر لأنّ ما يجري هناك يعتبر بداية لمرحلة جديدة للتيار الجهادي بصفة عامّة.
إذا أردنا أن نؤصّل الأحداث، فإنّ الحركات الثورية في الشام انقسمت بين ما كان له مشروع إسلامي، وبين ما كان لها مشروع غير إسلامي، وأصحاب المشاريع الإسلامية هم كذلك كانوا في بداية الأمر، من ينتمي إلى الطرح الوطني القطري، وبين من كان ينتمي إلى الطرح العالمي.
فأصحاب الطرح الإسلامي الوطني لم تتغيّر مواقفهم بعد الثورات المضادّة وإن لم يظهر هذا للبعض إلاّ بعد وقت.
فكأني بهم انطلقوا من حيث انتهت مواقف الحركات الإسلامية السياسية كما مرّ بيانه، وهو:
♦ التبرئة من أيّ حركة جهادية اوثورية عالمية
♦ طرق أبواب المفاوضات برعاية الدولة العميقة
♦ العمل التشاركي مع مختلف القوى الوطنية
♦ السعي وراء إرضاء الشرعية الدولية بعدم الصاق تهمة الإرهاب بها، وذلك من خلال تبرئتهم من المجاهدين، ومن أيّ عمل جهادي يزعج الدولة العميقة سواء كانت التقليدية اوالبديلة، بل تخلوا حتّى على مصطلح الجهاد واستبداله بمصطلح فضفاض "الثورة ّ. .
ترديد شعار الديموقراطية في الحكم من خلال البيانات الختامية بعد كلّ مفاوضة.
أمّا أصحاب الطرح الإسلامي الجهادي العالمي – وحديثي عن الشام - تخبّطت مواقفهم وذلك للعلاقة الّتي كانت تجمعهم مع الفريق الأوّل، فبدأوا بانشقاقهم عن كيان كانوا ينتمون إليه، وانضمامهم إلى تنظيم ، ثمّ ما لبثوا أن انفكوا عنه، ثمّ دعوتهم إلى ثورة وطنية قطرية، ثمّ بيانهم أنّهم لا صلة لهم بالحركات الجهادية خارج الشام، ثمّ تحالفاتهم مع بعض القوى كانت تنصب لها العداء في وقت قريب باسم التحالف والتوافق والتشارك، السعي على عدم اغضاب الحاضنة الدّولية وذلك من خلال عدم إفصاحهم عن مشروع قتالهم المستقبلي، التّلوّن في بيان مواقفهم تجاه القوى الدّاعمة لبعض الحركات الثورية كتركيا والسعودية وقطر – الذين يشكّلون المنافس على من يكون الدولة العميقة البديلة في الشام عن الدولة العميقة القديمة أقصد روسيا وربما إيران -....
الكاتب: أبوحفص سفيان الجزائري