متن ابن عاشر [7]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديه، واستن بسنته إلى يوم الدين، أما بعد:

فقد سبق تقسيم الطهارة إلى حسية ومعنوية، وسبق تقسيم الطهارة الحسية إلى: طهارة حدث وطهارة خبث، وذكرنا أن طهارة الحدث قد تكون من الطهارة المعنوية، وسبق تقسيم طهارة الحدث إلى كبرى وصغرى، وإلى مائية وترابية، وسبق ذكر فرائض الوضوء وسننه ومندوباته ومكروهاته، ووصلنا إلى نواقضه ومبطلاته.

والنواقض جمع ناقض، وهو مبطل الشيء، من نقض الغزل إذا أعاده.

قال المصنف رحمه الله:

[نواقض الوضوء ستة عشر بول وريح سلس إذا ندر

وغائط نوم ثقيل مذي سكر وإغماء جنون ودي

لمس وقبلة وذا إن وجدت لذة عادة كذا إن قصدت

إلطاف امرأة كذا مس الذكر والشك في الحدث كفر من كفر].

قوله: (نواقض الوضوء ستة عشر) هذه هي الرواية: (نواقض الوضوء ستة عشر) وكلمة الفصل تجعل قبل نواقض الوضوء، أي: خارج البيت.

أقسام نواقض الوضوء

هذا الفصل معقود لما ينقض الوضوء ويبطله، وهو ثلاثة أقسام: أحداث، وأسباب، وما ليس بحدث ولا سبب.

القسم الأول: الأحداث. والأحداث جمع حدث، والحدث يطلق في الفقه على ثلاثة أمور: الخارج من أحد السبيلين، والخروج نفسه، والحكم المترتب على الأعضاء وهو الماء.

والحدث هنا معناه ما يخرج من أحد السبيلين، وهذا القسم الأول من نواقض الوضوء وهو الحدث، وهو ما يخرج من أحد السبيلين، أي: سبيل البول وسبيل الغائط.

القسم الثاني من نواقض الوضوء: ما هو سبب لخروج الحدث، فهو ليس حدثاً، ولكنه سبب لخروج الحدث، وهذا مثل اللمس والقبلة .. إلى آخره.

القسم الثالث: ما ليس بحدث ولا سبب، مثل الردة، أي: الخروج عن الإسلام، وكذلك عند المالكية الشك في الحدث، وكلاهما ليس بحدث ولا سبباً.

البول والريح

ابتدأ المصنف أولاً بالأحداث فقال: (بول وريح سلس إذا ندر) أي: أن من نواقض الوضوء البول والريح، وعطف عليهما السلس سواء كان سلس بول أو سلس ريح أو غير ذلك.

وقوله: (إذا ندر) معناه: بشرط أن يكون قليلاً، فالسلس معناه الشيء المتكرر الذي لا يتحكم الإنسان فيه، فالذي يخرج من أحد السبيلين إذا كان الإنسان متحكماً فيه هذا الطبيعي، ولذلك يكون ناقضاً مطلقاً، والشيء الذي لا يتحكم فيه إذا كثر وتكرر فإنه لا ينقض الوضوء، إلا إذا كان خروجه بكمية معهودة أو نحو ذلك، مثلاً إذا كان البول يخرج بصفة دائمة فهذا لا ينقضه، لكن إذا خرج بكمية كبيرة، فمعناه أن الإنسان قد بال، والبول ناقض.

إذاً السلس إذا كان نادراً قليلاً فهو من نواقض الوضوء، وإذا لم يكن قليلاً بأن كثر وتكرر على الإنسان فهو غير ناقض للوضوء، وسبب ذلك أن الله لا يكلف الإنسان إلا ما يطيق، وما لا يتحكم الإنسان في إمساكه فهو خارج عن تكليفه وقدرته، وقد قال الله تعالى: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ مَا آتَاهَا [الطلاق:7]، وقال تعالى: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا[البقرة:286].

والإنسان الأصل فيه السلامة من الشك، ولكن إذا أصيب بالشك والوساوس، فإذا تكرر ذلك عليه وكان دائماً يشك فليعتبر ذلك من قبيل السلس، ولا ينقض إذا كثر، وإذا كان الشك يحصل نادراً غير متكرر فليعتبره مثل السلس النادر فينقض.

الغائط

(وغائط) هذا الناقض الآخر من نواقض الوضوء، وأصل الغائط في اللغة معناه المكان المنخفض، وذلك أن الناس كانوا يقصدونه لقضاء حوائج الإنسان، فسمي الحال باسم المحل، فالمحل المنخفض يسمى غائطاً، وهو ما غاط من الأرض، أي: من انخفض منها.

النوم

(نوم ثقيل) هذا الناقض الآخر وهو النوم الثقيل، والنوم منه ما هو ثقيل، أي: مذهب للعقل لا يدرك الإنسان معه أصوات من حوله، ومنه ما هو خفيف لا يمنع الإنسان من سماع ما حوله من الأصوات.

وقد اختلف أهل العلم في اعتبار النوم ناقضاً، فذهب بعض أهل العلم إلى عدم اعتباره مطلقاً، وذلك بعيد جداً؛ لأنه ثبت في حديث صفوان بن عسال: ( ولكن من غائط وبول ونوم)، فيما يتعلق بالمسح على الخفين، فعده النبي صلى الله عليه وسلم من نواقض الوضوء لهذا الحديث.

وأما نومه صلى الله عليه وسلم فإنه ليس كنومنا؛ لأنه تنام عيناه ولا ينام قلبه، ومن هنا فالنوم غير ناقض لوضوء النبي صلى الله عليه وسلم وحده، ولكنه ناقض لوضوء من سواه.

والذين لا يرون النوم ناقضاً مطلقاً يقولون: إن النبي صلى الله عليه وسلم نام عن الصلاة مع أصحابه في غزوة من الغزوات، ولم يوقظهم إلا حر الشمس كما ثبت في الصحيح، واستيقظ ثلاثة رجال فلم يتكلموا، فاستيقظ عمر الرابع، فجعل يكبر حتى استيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم لو كان يقظاناً لصلى في الوقت؛ ولا يحل تأخير صلاة حتى يطلع الشمس، ولكن يجاب عن هذا بأن الله سبحانه وتعالى أمسك نفوسهم تشريعاً لنا؛ ولنعرف ماذا نصنع إذا فات وقت الصلاة، وقد بين ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فأمسك نفوسهم، ولو شاء لردها في وقت غير هذا.

والجمهور القائلون بنقض الوضوء بالنوم اختلفوا في اعتبار النوم، فبعضهم اعتبر حال النائم، وبعضهم اعتبر حال النوم نفسه، فمنهم من اعتبر حال النائم فقالوا: النوم أمر خفي لا يعرف الإنسان الفرق بين الثقيل منه والخفيف، وبالأخص أنه قد يأتي في لحظة واحدة وفي أقل من ثانية، فينام الإنسان نوماً ثقيلاً، ولذلك لا يمكن التعليل به؛ لأن العلة لا بد أن تكون وصفاً ظاهراً منضبطاً، والأوصاف الخفية لا يعلل بها، ولذلك اعتبروا حال النائم فقالوا: إذا كان النائم مضطجعاً أو مرتفقاً فنومه ناقض عليه مطلقاً سواء كان خفيفاً أو ثقيلاً، وإذا كان قائماً أو راكعاً أو جالساً فنومه لا ينقض عليه مطلقاً سواء كان خفيفاً أو ثقيلاً.

وهذا القول هو مذهب الشافعية والحنابلة، فإنهم اعتبروا حال النائم ولم يعتبروا حال النوم.

أما القول الثاني فهو اعتبار حال النوم نفسه فقالوا: لا عبرة بحال النائم؛ لأن الناقض إنما هو النوم، فهو الذي نبحث فيه، ولا نبحث في حال معتريه، أي: المتصل به.

والنوم لا بد أن يفرق بين خفيفه وثقيله، فخفيفه مثل الغشية التي تصيب الإنسان فلا تنقطع عنه الأصوات، فهذا لا ينقض عليه؛ لكثرته، لكن إذا كثر ندب الوضوء منه؛ لئلا يخالطه نوم ثقيل ولا يشعر به؛ فإن طوله قد يؤدي إلى مخالطة النوم الثقيل.

والفرق بين الثقيل والخفيف عندهم بعض العلامات الظاهرة، فمنها ما إذا كان محتبياً، والاحتباء هو أن يمسك يديه أمام ركبته، فيرفع ركبتيه ويمسك يديه أمامهما، فإذا انحلت حبوته ولم يشعر هذا دليل على أن النوم ثقيل، وكذلك إذا سال ريقه ولم يشعر فهذا دليل على أن النوم ثقيل، وبعضهم يذكر الرؤيا فيقول: إذا رأى رؤيا فهذا النوم ثقيل، لكن من الناس من يرى رؤيا في نومه الخفيف، وهو يسمع كلام من حوله، ولذلك قد لا تعتبر الرؤيا فارقاً بين النوم الثقيل والخفيف، فأهم فارق بين النوم الثقيل والخفيف هو انقطاع الأصوات عن الإنسان وانقطاع الإحساس.

المذي

(مذي) كذلك من نواقض الوضوء المذي، وهو يستعمل في اللغة على وزن ظبي، فيقال: مذي كما استعمله المؤلف هنا، ويستعمل كالمني فيقال: مني، أي: على وزن فعيل، وهو ماء رقيق يخرج عند اللذة الصغرى بالإنعاظ، وليس مثل المني، فالمني له تدفق ورائحة طلع أو عجين، وسيأتي حكمه، أما المذي فإنه يسيل سيلاناً ولا يتدفق تدفقاً.

والمذي يلزم منه الجنابة الصغرى، ورفعها هو بغسل ذكره كله بنية؛ لما ثبت في الصحيح: ( أن علياً رضي الله عنه قال: كنت امرأً مذاءً، فاستحييت أن أسأل النبي صلى الله عليه وسلم لمكان ابنته، فأمرت المقداد أن يسأله فسأله، فبين له النبي صلى الله عليه وسلم أنه يغسل فرجه ويتوضأ وضوءه للصلاة).

وهذا هو الذي يلزم من المذي أن يغسل الإنسان فرجه وأن يتوضأ وضوءه للصلاة، ومحل ذلك إن لم يكثر، فإن كثر فكان سلساً غير نادر فإنه لا يلزم منه ذلك.

السكر والإغماء والجنون

(سكر) وهو زوال العقل بسبب شرب المسكر، فهو ناقض للوضوء؛ لأن العقل قد زال، فلا يدري الإنسان ما يخرج منه؛ لما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( العينان وكاء السهِ، فإذا نامت العينان انطلق الوكاء)، فالإنسان إذا ذهب عقله لا يدري ما يحصل له، وهذا يشمل السكر الحرام والسكر الجائز، فالسكر الحرام هو تعمد شرب الإنسان المسكر حتى يزيل عقله، والسكر الجائز أن يشرب الإنسان ما يراه حلالاً،كأن يشرب شيئاً يراه عصيراً فتبين خمراً فسكر منه.

(وإغماء) كذلك من نواقض الوضوء الإغماء، وهو زوال العقل بسبب المرض، فإذا أغمي على الإنسان ولو لحظة واحدة انتقض وضوءه؛ لأنه لا يدري ما يحصل له في حال زوال عقله.

(جنون) وهو تغطية العقل بسبب مس الجن، ويحصل أيضاً من الأمراض النفسية، فهذا ناقض من نواقض الوضوء، ولو كان لمدة يسيرة؛ لأن الإنسان يزول عقله، وإذا زال لا يدري ما يحصل له.

الودي

(ودي) هذا الناقض الآخر وهو الودي، ويسمى الوديّ أيضاً، وهو ماء أبيض يخرج من البول عند التعب، وقد يخرج وحده فيقع عند التعب، ويقع أيضاً عند طول الجلوس أو الانقطاع عن النوم لفترة طويلة.

وحكمه حكم البول، فهو ناقض من نواقض الوضوء، لكن لا يلزم منه غسل الذكر ولا الغسل، أي: لا يلزم منه إلا الاستنجاء والوضوء فقط مثل البول.

وهذه النواقض كلها أحداث ما عدا النوم والإغماء والجنون فهي أسباب.

مس المرأة وتقبيلها

ثم ذكر أيضاً من الأسباب قوله: (لمس) وهو مس الجنس الآخر بقصد الشهوة، وهو ناقض للامس والملموس معاً، إذا كانا يحسان بذلك، أما إذا كان الملموس لا يحس باللمس فإنه غير ناقض عليه، وسواء كان هذا اللمس بالمباشرة أو من فوق حائل إذا قصد اللذة أو وجدها، فإن لم يقصدها أصلاً وحصل مس كالتزاحم في الأسواق أو في الأماكن العمومية فمس امرأة من غير قصد، فإن ذلك غير ناقض عليه إلا إذا وجد لذة.

إذاً قصد اللذة ناقض باللمس ولو لم يجدها، ووجودها ناقض ولو لم يقصدها، لكن إذا لم يقصد ولم يجد فلا نقض باللمس.

(وقبلة) هذا داخل في أصل اللمس، لكنه مستقل بنفسه؛ لأنه لا يمكن أن يقع إلا عن قصد.

والقبلة معناها وضع الفم على الفم لقصد معنى فيه لقصد اللذة، وهي ناقضة للوضوء إذا كانت لقصد اللذة، أما إذا كانت لوداع أو لرحمة كتقبيل الصغير ونحو ذلك فلا نقض بها.

(وذا) أي: وهذا، والمقصود به الأمران معاً وهما لمس وقبلة، فكلاهما مقيد بقصد اللذة أو وجودها، وأقصد اللمس ولا يقصد به القبلة، (وذا) أي اللمس (إن وجدت لذة عادة) أي وجدت لذة يعتادها الإنسان بذلك (كذا إن قصدت) كذلك إذا قصدت ولو لم توجد.

إلطاف المرأة

(إلطاف امرأة) من النواقض كذلك وهي أسباب: إلطاف المرأة، وهو أن تدخل أصبعها بين شفري فرجها، وهذا مختلف فيه هل هو ناقض للوضوء عليها أم لا؟ والمشهور في المذهب المالكي أن الإلطاف لا ينقض الوضوء بالنسبة للمرأة، فليس كمس الذكر بالنسبة للرجل، ولذلك قال المتأخرون: ليس في نظم ابن عاشر فرع ضعيف إلا هذا الفرع وحده وهو إلطاف المرأة.

مس الذكر

(كذا مس الذكر) كذلك من الأسباب الناقضة للوضوء مس الذكر، والمقصود مس الذكر المتصل بالإنسان، إما إذا كان قد انفصل عنه فمسه لا ينقض، وهذا المس سواء قصدت به اللذة أو لم تقصد، وجدت أو لم توجد، وسواء كان المس بباطن الأصابع أو الكف، أما بظاهر الكف وهو ظهرها فإن أحس به إحساسه ببطنها فهو ناقض عليه وإلا لم ينقض، وكذلك الإصبع الزائدة، فإن أحس بها إحساسه بأصابعه نقض مسها لذكره، وإن لم يحس بها إحساسه بأصابعه الأخرى لم تنقض عليه.

ومس الذكر من نواقض الوضوء؛ لما روت بسرة بنت صفوان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من مس ذكره فليتوضأ)، وهذا الحديث معمول به عند جمهور أهل العلم؛ لصحته من ناحية الإسناد، فقد قال عبد الله بن أبي بكر بن حزم: (تذاكر أبي وعروة بن الزبير يوماً ما يجب في الوضوء، فذكر عروة وذكر حتى ذكر مس الذكر، فقال أبي: ما عرفته، فقال عروة: حدثتني بسرة بنت صفوان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من مس ذكره فليتوضأ)، وفي رواية: أن عروة حدث بذلك عن مروان عن بسرة، وفي رواية: أنه حدثه مروان بذلك فأرسل شرطياً إلى بسرة، فسألها فصدقت مروان، وهذا النوع هو الذي يسمى لدى أهل الحديث بالمزيد في متصل الأسانيد، فالإسناد متصل، فقد سمع ذلك عروة من بسرة، وسمعه من مروان عن بسرة، وسمعه من الحرسي عن بسرة، فحدث به تارة بالمباشرة عن بسرة وتارة بالواسطة، ولذلك يسمى هذا بالمزيد في متصل الأسانيد، وهو ليس بعلة، ولا يقدح في صحة الحديث.

والحنفية يردون هذا الحديث فيقولون: هذا الحكم من أحكام الرجال، وليس من أحكام النساء، وهو مما يكثر تردده، فيكثر السؤال عنه فيكثر الجواب عليه، فتقتضي الحاجة رواية الرجال له، فإذا لم يروه الرجال دل ذلك على بطلانه، ولذلك لا يرون مس الذكر ناقضاً؛ ويستدلون بحديث طلق بن علي: ( أنه سأل النبي صل الله عليه وسلم عن مس الذكر؟ فقال: وهل هو إلا بضعة منك)، أي: هل هو إلا مضغة منك.

وقد اختلفت الآثار عن الصحابة في ذلك، فروي عن عمر رضي الله عنه عدم النقض بمس الذكر فقال: (ما أبالي إذا مسسته أم مسست أنفي)، فجعله مثل مس الأنف.

وثبت عن ابن عمر أنه كان يتوضأ منه، فكان يغتسل، فإذا خرج من مغتسله توضأ، فسأله ابنه: أليس الوضوء داخلاً في الغسل؟ فقال: بلى ولكني أمس ذكري، فإذا مس ذكره يتوضأ.

وكذلك ثبت عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أن ابنه كان يقرأ عليه المصحف، فأدخل يده في إزاره فاحتك، فقال: لعلك مسست ذكرك؟ قال: نعم، قال: قم فتوضأ.

إذاً يترجح بهذا حديث بسرة بنت صفوان، وبالأخص أن الرواية لا يشترط فيها أن يكون الراوي ذا صلة بمرويه، بل إذا سمعه واستثبت فيه فذلك كافٍ، وبسرة ثقة، وقد سمعت ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم، ولو لم يروه من سواها فالرواية لا يشترط فيها التعدد على الراجح، ولذلك قال الحافظ ابن حجر في نخبة الفكر في ذكر العزيز قال: (وليس شرطاً للصحيح على الصحيح) أي: وليس العزيز وهو ما رواه اثنان فأكثر في كل طبقة، ليس شرطاً للصحيح على الصحيح؛ لأن لدينا عدداً كثيراً من الأحاديث الصحيحة هي من قبيل الغريب والمفردات، كحديث عمر: ( إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى)، وهو في الصحيحين، فإنه قد انفرد به بشرط اللفظ والصحة يحيى بن سعيد الأنصاري عن محمد بن إبراهيم التيمي، وانفرد به بشرط اللفظ والصحة محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي عن علقمة بن وقاص، وانفرد به بشرط اللفظ والصحة علقمة عن عمر، وانفرد به بشرط اللفظ والصحة عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولكنه تواتر بعد يحيى بن سعيد، فرواه عنه عدد كثير من الناس، فدل ذلك على أن التعدد في الرواية ليس بشرط للصحة.

الشك في الحدث

ثم قال: (والشك في الحدث) هذا بيان لما ليس بحدث ولا سبباً من النواقض، فمنه الشك في الحدث، والشك درجة من درجات العلم، فعلم الإنسان الحاصل بعقله ينقسم إلى أربعة أقسام:

الأول: اليقين، وهو مجتمع العلم أن يوقن بالأمر فيقطع به.

الثاني: الظن، وهو أن يحصل لديه غلبة، ولا يحصل لديه القطع، فيغلب على تصوره أمر، ولكن لا يحصل لديه القطع به.

الثالث: الشك وهو مستوى الطرفين، فلا يستطيع الإثبات به ولا النفي، متوسط بينهما.

الرابع: الوهم وهو الذي يقابل الظن، ولذلك يمكن أن نجعل اليقين على مائة درجة، وأن نجعل الظن على خمس وسبعين درجة، ونجعل الشك على خمسين درجة، ونجعل الوهم على خمس وعشرين درجة مقابل الظن، فإذا حصل لدى الإنسان مجرد خمس وعشرين درجة بالمائة، فهذا هو الوهم، وما يقابله وهو خمس وسبعون درجة في المائة هو الظن، وخمسون بالمائة من العلم هو الشك مستوى الطرفين.

ولا يقصد هنا حصول هذه الدرجة بالضبط، بل المقصود أن يحصل لديه ما هو أقوى من الوهم، فالشكوك متفاوتة، ولذلك شكك في الأمر متفاوت؛ لأنه ما بين خمس وعشرين بالمائة إلى خمسين بالمائة كله يسمى شكاً، وكذلك الظنون متفاوتة، فما فوق خمسين بالمائة إلى أن تصل تسع وتسعين بالمائة كله ظن وهو متفاوت.

واليقين كذلك متفاوت، فمن اليقين ما لا يحمل الشك، ومنه ما يمكن أن يحمله، والاعتقاد الجازم الذي لا يقبل الشك هو أعلى درجات اليقين، ودونه يقينك بأنك سمعت فلان قال كذا، ولكن يمكن أن يعرض لك شك في ذلك فتحتاج إلى أن تتذكر أو تستثبت، هل سمعته قال ذلك أو لا؟

وإذا شك الإنسان في حدث بعد طهر علم، فإن مذهب مالك رحمه الله أن ذلك ناقض للوضوء.

إذاً لا بد أن يكون قد أيقن أنه توضأ ثم عرض الشك بعد الوضوء، هل انتقض الوضوء أم لا، فإذا توضأ الإنسان ثم شك هل خرج إلى الخلاء أم لا بعد ذلك، أو خرج منه ريح أم لا، أو هل نام أم لا فعرض له شك، فمذهب مالك رحمه الله أن الذمة قد عمرت بمحقق فلا تبرأ إلا به، وهذه قاعدة من قواعد الفقه، وهي الذمة إذا عمرت بمحقق لا تبرأ إلا به، فأنت قطعاً مطالب بالوضوء؛ والنبي صلى اله عليه وسلم قال: ( لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث ما لم يتوضأ)، وقد شككت هل أنت متطهر أم لا؟ فالذمة عامرة بمحقق، وهو أنك في الأصل يجب عليك الوضوء، وقد شككت هل أنت الآن متطهر أم لا، ولذلك تعمل باليقين فتتوضأ احتياطاً للدين:

وباحتياط في أمور الدين ومن فر من شك إلى يقين

ومذهب جمهور أهل العلم أن الشك في الحدث بعد طهر علم لا ينقضه، وفي الأصل أن الشك في الوضوء أي الشك في الطهارة ناقض للوضوء، وهنا فرق بين الأمرين: الشك في الحدث والشك في التوضؤ، فإذا شككت هل توضأت أم لا، لكنك موقن أنك لم تكن على طهارة وشككت هل توضأت أم لا؟ فلا اعتبار لهذا الوضوء عند الجميع؛ لأن الوضوء مشكوك فيه، والأصل عدمه.

لكن إذا توضأت فأيقنت أنك متوضئ، وشككت في الحدث بعد ذلك، فهذا الذي ينقض عند المالكية، ولا ينقض عند من سواهم.

وسبب ذلك أن الجمهور يرون أن اليقين لا يزول بالشك مطلقاً، فأنت أيقنت أنك توضأت، وعرض لك الشك بعد ذلك، والشك لا يرفع اليقين، فاليقين السابق عليه لم يرتفع به، والمالكية يقولون: ليس هذا شكاً في مقابل اليقين؛ لأن اليقين الأول قد زال بالشك فيه، واليقين والشك مستحيل أن يجتمعا، فأنت إذا أيقنت بشيء وجزمت به لا تشك فيه بعد ذلك، وأنت الآن شاك فيه، وقد قال أحد العلماء ناظماً هذه المسألة:

الشك في الأحداث لا ينقض عكس الذي أشياخنا قد رضوا

يقصد المالكية.

ومنهم من قال ما قلته من عدم النقض فلا تومضوا

إلا لما فيه الدليل الذي منهاجه للمهتدي أبيض

أحمد والنعمان والشافعي والليث والأوزاعي لا ينقض

وضوءنا بالشك إسحاق لا ينـ قض والثوري هذا الوضو

فكلهم قالوا: لا ينقض الوضوء بالشك.

الردة عن الإسلام

(كفر من كفر) كذلك مما ليس بحدث ولا سبباً من النواقض: الكفر، وهو الردة عن الإسلام، فهي ناقضة للوضوء، وذلك أن الله سبحانه وتعالى بين أن الكفر مبطل للعمل، والوضوء من العمل، فقد قال الله تعالى: لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ[الزمر:65]، وقال تعالى: وَمَنْ يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ [المائدة:5].

وقد اختلف في ذلك؛ فذهب الجمهور إلى أن الردة ناقضة للعمل كله، فهي مبطلة للوضوء، وذهب الشافعي رحمه الله إلى أن إبطال العمل بالكفر من شرطه أن يموت الإنسان على الكفر، أما إذا تاب ورجع فإنه لا ينقض عليه ولا يبطل عمله، واستدل الشافعي بقول الله تعالى: مَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ [البقرة:217]، فيمت وهو كافر، هذا اشتراط وهو قيد.

وقد اختلف الأصوليون في المطلق هل يحمل على المقيد أم لا؟ فنحن لدينا إطلاق في آيات متعددة: لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ[الزمر:65]، وَمَنْ يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ [المائدة:5]، ولم يقيد ذلك بالموت عليه، وآية البقرة جاء فيها القيد: ومَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ[البقرة:217]، فالذين يرون أن المطلق يبقى على إطلاقه، وأن المقيد يبقى على قيده يقولون: الإبطال درجتان: إبطال شامل عام لكل عمل، وهو ما إذا مات الإنسان على كفره إذا ارتد، ومات على الكفر، فهذا الكفر مبطل لكل عمل أياً كان، وإبطال للعمل السابق دون اللاحق وهو في حق من ارتد ثم رجع للإسلام، فالإسلام يجب ما قبله، ولكن ردته مبطلة لما سبقها من العمل، ولا تبطل ما لحقها. إذاً هذا إبطال مقيد بالسابق دون اللاحق.

وعموماً لكلا القولين دليل، فمذهب الجمهور الاستدلال بالإطلاق بالآيات المذكورة، ومذهب الشافعي الاستدلال للتقييد في آية البقرة.

ومن العلماء من يرى أن القيد إذا جرى مجرى الغالب أو في مقام التهديد والتنفير، فإنه لا يعتبر، فمجيء القيد جاري مجرى الغالب، منه قول الله تعالى: وَرَبَائِبُكُمْ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمْ اللاَّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ[النساء:23] فقوله: (اللاتي في حجوركم) هذا جاري مجرى الغالب ولا اعتبار له، فالربيبة تحرم مطلقاً سواء كانت في الحجر أم لم تكن فيه، والذي جاء في مقام التنفير والتهديد مثل: فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ[البقرة:217] فهذا تحذير من الردة مطلقاً، والمقصود بالردة هنا ما كان بالقصد، أما إذا ارتد الإنسان من غير قصد كمن نطق بالكفر من غير إرادة له، فمذهب الجمهور أنه لا يكفر بذلك، ولا يترتب عليه نقض للوضوء ولا بطلان للصلاة ولا بطلان لشيء من العمل.

وذهب بعض أهل العلم إلى أنه يخاطب بذلك في أمر الدنيا، ولا يخاطب به في أمر الآخرة، فتجرى عليه أحكام الدنيا، فيجدد عقد النكاح، وتبطل الصلاة إن كان في وقتها، وينتقض الوضوء بمجرد جريان الكفر على لسان الإنسان ولو لم يقصده.

وعموماً فإن الحكم بتكفير المعين يشترط له سبعة شروط:

الشرط الأول: ألا يكون مكرهاً عليه. فإذا أكره الإنسان على الكفر فنطق به فإنه لا يكفر بذلك؛ لقول الله تعالى: مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنْ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [النحل:106].

الشرط الثاني: أن لا يكون جاهلاً به. فإن أنكر عقيدة من عقائد المسلمين وهو لا يعلم أنها عقيدة، فإنه يعذر بجهله، مثل كثير من عوام المسلمين الذين يجهلون كثيراً من أمور العقائد، وربما أنكروها، فإنكارهم لها لا يعتبر كفراً، وهم معذورون بذلك الجهل، وهذا في غير المعلوم من الدين بالضرورة، فالمعلوم من الدين بالضرورة لا يعذر فيه بالكفر، فمن أنكر وجوب الصلاة مثلاً لا يعذر بذلك؛ لأنه لا يمكن أن يعرف الإسلام إذا كان لا يعرف الصلاة، ومن أنكر حرمة قتل النفس فهذا يكفر مطلقاً؛ لأنه لا يمكن أن يعرف الإسلام وهو لا يعرف أن قتل النفس حرام، فقتل النفس بغير حق حرام، وهكذا المعلوم من الدين بالضرورة، سواء كان ذلك في أمور الجوارح أو في عمل القلب، فمن أنكر البعث بعد الموت أو أنكر اليوم الآخر جملة وتفصيلاً، أو أنكر وجود الجنة، أو أنكر النار فهذا يكفر مطلقاً؛ لأن هذا من المعلوم بالضرورة بحيث لا يمكن أن يكون الإنسان مسلماً إلا إذا كان يعرف هذه الأمور.

أما تفاصيل ذلك كمن أنكر بعض الأمور التفصيلية، كمن أنكر عذاب القبر لأنه لا يعلمه، أو أنكر الصراط لأنه لا يعلمه، أو أنكر وزن الأعمال لأنه لا يعلمه، فإنه يعذر بجهله بتفصيلات ذلك، لما ثبت في الصحيح عن عائشة رضي الله عنها قالت: (دخل عليّ عجوزان من اليهود، فذكرتا عذاب القبر فكذبتهما، ولم أنعم أن أصدقهما، فلما قامتا دخل عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألته عن عذاب القبر؟ فقال: عائذاً بالله من عذاب القبر).

فـعائشة لم تكن تعلم أن الموتى يعذبون في قبورهم؛ ولذلك أنكرت عذاب القبر حينما ذكره العجوزان من اليهود، وعلمها النبي صلى الله عليه وسلم إثبات عذاب القبر، وأنه عقيدة يلزم الإيمان بها، ولكن لم يأمرها بالتوبة مما مضى ولم يجدد عقدها، فدل ذلك على عدم الكفر بهذا النوع، وأن الجهل يعذر به في هذه المسائل.

الشرط الثالث: أن يكون قاصداً للكفر، فإذا جرى على لسانه قول لا يقصده، فإنه لا يكفر به كغلط اللسان لما ثبت في الصحيح في آخر من يدخل الجنة، فيقول: (اللهم أنت عبدي وأنا ربك! أخطأ من شدة الفرح)، وكذلك في حديث: (لله أشد فرحاً بتوبة عبده المؤمن)، وفيه فيقول: ( اللهم أنت عبدي وأنا ربك أخطأ من شدة الفرح)، فهذا لا يكفر، فالحديث الأول دخل الجنة به، والثاني هذا وصف من أوصاف أهل الإيمان وإقرار بالنعمة لله وشكر لها، فلا يكفر به وإن أخطأ الإنسان في ذلك.

الشرط الرابع: ألا يكون الإنسان متأولاً، فإن كان متأولاً معتمداً على شبهة يراها دليلاً، أو اجتهد في طلب الحق فأخطأ فهو معذور في ذلك؛ لحديث عمرو بن العاص أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا اجتهد الحاكم فأصاب كان له أجران، وإذا اجتهد فأخطأ كان له أجر)، ومن المستحيل أن يجتمع على الإنسان التأثيم والأجر في وقت واحد، فلا يمكن أن ينال أجراً هو إثم أو هو كفر، وهو إذا اجتهد فأخطأ مأجور قطعاً بدلالة هذا الحديث، ولا يجتمع التأثيم والأجر؛ لأنهما ضدان، فدل ذلك على أنه لا يكفر بالاجتهاد في طلب الحق إذا أخطأ الإنسان فيه، ولذلك فكثير من الفرق الإسلامية تقول أقوالاً هي كفر، ولكن أصحابها يتأولون فيها، فما قالوها تجاسراً على الكفر، وإنما قالوها طلباً للحق واجتهاداً، فيعذر من كان منهم كذلك، وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (كل من اجتهد في طلب الحق فهو معذور أصاب أو أخطأ، سواء كان ذلك في الأصول أو في الفروع).

وقد قال الذهبي رحمه الله في ترجمته لـبشر المريسي في سير أعلام النبلاء بعد أن ذكر تكفير أهل العلم له وطعنهم فيه وذمهم له: (ولكن أبى الله أن يكون من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وصلى الخمس إلى القبلة، وصام، وزكى، وحج البيت كمن لم يفعل شيئاً من ذلك ونعوذ بالله من البدعة وأهلها).

الشرط الخامس: ألا يكون مغطىً على عقله. فمن شرط الكفر أن يكون الإنسان مكلفاً، فالصبي والمجنون ومن ليس مكلفاً لا يعتبر مرتداً بنطقه بالكفر، أو بفعله لما هو كفر، ولذلك إذا كان الإنسان مغطىً على عقله بسبب سكر أو غيره، كالخوف الشديد، فنطق بالكفر فإنه لا يكفر بذلك؛ لما ثبت في الصحيح: ( أن رجلاً كان مسرفاً على نفسه، فلما أدركه الموت جمع أولاده وذويه، فأخذ عليهم العهد إذا هو مات أن يحرقوا جثته، وأن يقسموا رماده نصفين، فيذروا نصفه في البر ونصفه في البحر، قال: فلئن قدر الله ليعذبنني عذاباً لا يعذبه أحداً من العالمين، فلما مات فعلوا به ما أمر، فأمر الله البر فجمع ما فيه، والبحر فجمع ما فيه، فقال: أي عبدي! ما حملك على ما صنعت؟ قال: خشيتك يا رب، فغفر له).

فهذا الرجل كان مغطىً على عقله من الخشية عندما قال: (فلئن قدر الله عليّ ليعذبنني عذاباً لا يعذبه أحداً من العالمين)، ولذلك غفر الله له.

أما من مات على الكفر فإن الله لا يغفر له قطعاً: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ [النساء:48]، فكل من مات على الكفر لا يمكن أن تقع عليه المغفرة، وهذا الرجل غفر الله له فدل ذلك على أنه لم يمت على الكفر.

الشرط السادس: أن يثبت عليه الكفر. فإذا قال قولاً هو كفر أو فعل فعلاً هو كفر، ولكنه أنكره ولم يثبت عليه، فإنكاره عليه يعتبر توبة منه، والكفر حكم قضائي يحتاج إلى إثبات، فلا يمكن أن يكون التكفير بيد كل من هب ودب، ولو كان كذلك لما بقي أحد في دائرة الإسلام، فيسهل التكفير حينئذٍ، ولهذا كان التكفير حكماً قضائياً يحتاج إلى إثبات وصدور حكم، ولا بد في هذا الحكم من الاعتماد على أمر كما قال شريح: القضاء جمر فنحه عنك بعودين، يقصد الشاهدين.

الشرط السابع: إقامة الحجة. أن تقام الحجة على الإنسان، فإذا كان الإنسان يقول قولاً أو يفعل فعلاً هو كفر، ولكنه لا يعتقده كفراً، ولم تقم عليه الحجة فإنه لا يكفر بذلك؛ لقول الله تعالى: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً [الإسراء:15]، فبعثة الرسول من إقامة الحجة، وإذا لم تبلغ الإنسان الحجة ولم تقم عليه فإنه يعذر بذلك، وإقامة الحجة إنما تحصل بالرد على شبهته وإبطالها من طرف من يثق هو به، إما إذا أتاه من دونه من ناحية السن ومن ناحية العلم والمستوى، فإن ذلك لا يقيم عليه الحجة، إنما يقيم الحجة عليه من يمكن أن يسمع منه، ومن يمكن أن يستجيب له.

هذا الفصل معقود لما ينقض الوضوء ويبطله، وهو ثلاثة أقسام: أحداث، وأسباب، وما ليس بحدث ولا سبب.

القسم الأول: الأحداث. والأحداث جمع حدث، والحدث يطلق في الفقه على ثلاثة أمور: الخارج من أحد السبيلين، والخروج نفسه، والحكم المترتب على الأعضاء وهو الماء.

والحدث هنا معناه ما يخرج من أحد السبيلين، وهذا القسم الأول من نواقض الوضوء وهو الحدث، وهو ما يخرج من أحد السبيلين، أي: سبيل البول وسبيل الغائط.

القسم الثاني من نواقض الوضوء: ما هو سبب لخروج الحدث، فهو ليس حدثاً، ولكنه سبب لخروج الحدث، وهذا مثل اللمس والقبلة .. إلى آخره.

القسم الثالث: ما ليس بحدث ولا سبب، مثل الردة، أي: الخروج عن الإسلام، وكذلك عند المالكية الشك في الحدث، وكلاهما ليس بحدث ولا سبباً.

ابتدأ المصنف أولاً بالأحداث فقال: (بول وريح سلس إذا ندر) أي: أن من نواقض الوضوء البول والريح، وعطف عليهما السلس سواء كان سلس بول أو سلس ريح أو غير ذلك.

وقوله: (إذا ندر) معناه: بشرط أن يكون قليلاً، فالسلس معناه الشيء المتكرر الذي لا يتحكم الإنسان فيه، فالذي يخرج من أحد السبيلين إذا كان الإنسان متحكماً فيه هذا الطبيعي، ولذلك يكون ناقضاً مطلقاً، والشيء الذي لا يتحكم فيه إذا كثر وتكرر فإنه لا ينقض الوضوء، إلا إذا كان خروجه بكمية معهودة أو نحو ذلك، مثلاً إذا كان البول يخرج بصفة دائمة فهذا لا ينقضه، لكن إذا خرج بكمية كبيرة، فمعناه أن الإنسان قد بال، والبول ناقض.

إذاً السلس إذا كان نادراً قليلاً فهو من نواقض الوضوء، وإذا لم يكن قليلاً بأن كثر وتكرر على الإنسان فهو غير ناقض للوضوء، وسبب ذلك أن الله لا يكلف الإنسان إلا ما يطيق، وما لا يتحكم الإنسان في إمساكه فهو خارج عن تكليفه وقدرته، وقد قال الله تعالى: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ مَا آتَاهَا [الطلاق:7]، وقال تعالى: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا[البقرة:286].

والإنسان الأصل فيه السلامة من الشك، ولكن إذا أصيب بالشك والوساوس، فإذا تكرر ذلك عليه وكان دائماً يشك فليعتبر ذلك من قبيل السلس، ولا ينقض إذا كثر، وإذا كان الشك يحصل نادراً غير متكرر فليعتبره مثل السلس النادر فينقض.

(وغائط) هذا الناقض الآخر من نواقض الوضوء، وأصل الغائط في اللغة معناه المكان المنخفض، وذلك أن الناس كانوا يقصدونه لقضاء حوائج الإنسان، فسمي الحال باسم المحل، فالمحل المنخفض يسمى غائطاً، وهو ما غاط من الأرض، أي: من انخفض منها.

(نوم ثقيل) هذا الناقض الآخر وهو النوم الثقيل، والنوم منه ما هو ثقيل، أي: مذهب للعقل لا يدرك الإنسان معه أصوات من حوله، ومنه ما هو خفيف لا يمنع الإنسان من سماع ما حوله من الأصوات.

وقد اختلف أهل العلم في اعتبار النوم ناقضاً، فذهب بعض أهل العلم إلى عدم اعتباره مطلقاً، وذلك بعيد جداً؛ لأنه ثبت في حديث صفوان بن عسال: ( ولكن من غائط وبول ونوم)، فيما يتعلق بالمسح على الخفين، فعده النبي صلى الله عليه وسلم من نواقض الوضوء لهذا الحديث.

وأما نومه صلى الله عليه وسلم فإنه ليس كنومنا؛ لأنه تنام عيناه ولا ينام قلبه، ومن هنا فالنوم غير ناقض لوضوء النبي صلى الله عليه وسلم وحده، ولكنه ناقض لوضوء من سواه.

والذين لا يرون النوم ناقضاً مطلقاً يقولون: إن النبي صلى الله عليه وسلم نام عن الصلاة مع أصحابه في غزوة من الغزوات، ولم يوقظهم إلا حر الشمس كما ثبت في الصحيح، واستيقظ ثلاثة رجال فلم يتكلموا، فاستيقظ عمر الرابع، فجعل يكبر حتى استيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم لو كان يقظاناً لصلى في الوقت؛ ولا يحل تأخير صلاة حتى يطلع الشمس، ولكن يجاب عن هذا بأن الله سبحانه وتعالى أمسك نفوسهم تشريعاً لنا؛ ولنعرف ماذا نصنع إذا فات وقت الصلاة، وقد بين ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فأمسك نفوسهم، ولو شاء لردها في وقت غير هذا.

والجمهور القائلون بنقض الوضوء بالنوم اختلفوا في اعتبار النوم، فبعضهم اعتبر حال النائم، وبعضهم اعتبر حال النوم نفسه، فمنهم من اعتبر حال النائم فقالوا: النوم أمر خفي لا يعرف الإنسان الفرق بين الثقيل منه والخفيف، وبالأخص أنه قد يأتي في لحظة واحدة وفي أقل من ثانية، فينام الإنسان نوماً ثقيلاً، ولذلك لا يمكن التعليل به؛ لأن العلة لا بد أن تكون وصفاً ظاهراً منضبطاً، والأوصاف الخفية لا يعلل بها، ولذلك اعتبروا حال النائم فقالوا: إذا كان النائم مضطجعاً أو مرتفقاً فنومه ناقض عليه مطلقاً سواء كان خفيفاً أو ثقيلاً، وإذا كان قائماً أو راكعاً أو جالساً فنومه لا ينقض عليه مطلقاً سواء كان خفيفاً أو ثقيلاً.

وهذا القول هو مذهب الشافعية والحنابلة، فإنهم اعتبروا حال النائم ولم يعتبروا حال النوم.

أما القول الثاني فهو اعتبار حال النوم نفسه فقالوا: لا عبرة بحال النائم؛ لأن الناقض إنما هو النوم، فهو الذي نبحث فيه، ولا نبحث في حال معتريه، أي: المتصل به.

والنوم لا بد أن يفرق بين خفيفه وثقيله، فخفيفه مثل الغشية التي تصيب الإنسان فلا تنقطع عنه الأصوات، فهذا لا ينقض عليه؛ لكثرته، لكن إذا كثر ندب الوضوء منه؛ لئلا يخالطه نوم ثقيل ولا يشعر به؛ فإن طوله قد يؤدي إلى مخالطة النوم الثقيل.

والفرق بين الثقيل والخفيف عندهم بعض العلامات الظاهرة، فمنها ما إذا كان محتبياً، والاحتباء هو أن يمسك يديه أمام ركبته، فيرفع ركبتيه ويمسك يديه أمامهما، فإذا انحلت حبوته ولم يشعر هذا دليل على أن النوم ثقيل، وكذلك إذا سال ريقه ولم يشعر فهذا دليل على أن النوم ثقيل، وبعضهم يذكر الرؤيا فيقول: إذا رأى رؤيا فهذا النوم ثقيل، لكن من الناس من يرى رؤيا في نومه الخفيف، وهو يسمع كلام من حوله، ولذلك قد لا تعتبر الرؤيا فارقاً بين النوم الثقيل والخفيف، فأهم فارق بين النوم الثقيل والخفيف هو انقطاع الأصوات عن الإنسان وانقطاع الإحساس.

(مذي) كذلك من نواقض الوضوء المذي، وهو يستعمل في اللغة على وزن ظبي، فيقال: مذي كما استعمله المؤلف هنا، ويستعمل كالمني فيقال: مني، أي: على وزن فعيل، وهو ماء رقيق يخرج عند اللذة الصغرى بالإنعاظ، وليس مثل المني، فالمني له تدفق ورائحة طلع أو عجين، وسيأتي حكمه، أما المذي فإنه يسيل سيلاناً ولا يتدفق تدفقاً.

والمذي يلزم منه الجنابة الصغرى، ورفعها هو بغسل ذكره كله بنية؛ لما ثبت في الصحيح: ( أن علياً رضي الله عنه قال: كنت امرأً مذاءً، فاستحييت أن أسأل النبي صلى الله عليه وسلم لمكان ابنته، فأمرت المقداد أن يسأله فسأله، فبين له النبي صلى الله عليه وسلم أنه يغسل فرجه ويتوضأ وضوءه للصلاة).

وهذا هو الذي يلزم من المذي أن يغسل الإنسان فرجه وأن يتوضأ وضوءه للصلاة، ومحل ذلك إن لم يكثر، فإن كثر فكان سلساً غير نادر فإنه لا يلزم منه ذلك.

(سكر) وهو زوال العقل بسبب شرب المسكر، فهو ناقض للوضوء؛ لأن العقل قد زال، فلا يدري الإنسان ما يخرج منه؛ لما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( العينان وكاء السهِ، فإذا نامت العينان انطلق الوكاء)، فالإنسان إذا ذهب عقله لا يدري ما يحصل له، وهذا يشمل السكر الحرام والسكر الجائز، فالسكر الحرام هو تعمد شرب الإنسان المسكر حتى يزيل عقله، والسكر الجائز أن يشرب الإنسان ما يراه حلالاً،كأن يشرب شيئاً يراه عصيراً فتبين خمراً فسكر منه.

(وإغماء) كذلك من نواقض الوضوء الإغماء، وهو زوال العقل بسبب المرض، فإذا أغمي على الإنسان ولو لحظة واحدة انتقض وضوءه؛ لأنه لا يدري ما يحصل له في حال زوال عقله.

(جنون) وهو تغطية العقل بسبب مس الجن، ويحصل أيضاً من الأمراض النفسية، فهذا ناقض من نواقض الوضوء، ولو كان لمدة يسيرة؛ لأن الإنسان يزول عقله، وإذا زال لا يدري ما يحصل له.

(ودي) هذا الناقض الآخر وهو الودي، ويسمى الوديّ أيضاً، وهو ماء أبيض يخرج من البول عند التعب، وقد يخرج وحده فيقع عند التعب، ويقع أيضاً عند طول الجلوس أو الانقطاع عن النوم لفترة طويلة.

وحكمه حكم البول، فهو ناقض من نواقض الوضوء، لكن لا يلزم منه غسل الذكر ولا الغسل، أي: لا يلزم منه إلا الاستنجاء والوضوء فقط مثل البول.

وهذه النواقض كلها أحداث ما عدا النوم والإغماء والجنون فهي أسباب.


استمع المزيد من الشيخ محمد الحسن الددو الشنقيطي - عنوان الحلقة اسٌتمع
متن ابن عاشر [9] 2887 استماع
متن ابن عاشر [1] 2784 استماع
متن ابن عاشر [6] 2726 استماع
متن ابن عاشر [2] 2720 استماع
متن ابن عاشر [11] 2667 استماع
متن ابن عاشر [13] 2393 استماع
متن ابن عاشر [3] 2354 استماع
متن ابن عاشر [4] 2276 استماع
متن ابن عاشر [10] 2076 استماع
متن ابن عاشر [12] 1866 استماع