متن ابن عاشر [6]


الحلقة مفرغة

السؤال: [فضيلة الشيخ! كيف يستطيع طالب العلم أن يرجح بين أقوال أهل العلم في المسائل الخلافية؟]

الجواب: ينبغي أولاً أن يعرف أقوال أهل العلم, وأن يعرف أدلتهم، ثم بعد ذلك يرجح هو لنفسه في إفتائه ما قوي لديه دليله، وإذا رجحت أنا أحد القولين فسيزداد أحد القولين بصوت واحد، فمثلاً: تصوروا أن المسألة التي فيها خلاف بين الصحابة وبين التابعين وبين أتباع التابعين إلى أن وصل الخلاف إلينا الآن، إذا قلت: أنا الراجح كذا، ففائدة الترجيح أنه ازداد أحد القولين بصوت واحد فقط، وهذا لا يحسم الخلاف في المسائل.

السؤال: شيخ بارك الله فيك! من المعلوم أن مذهب الجمهور في الماء المتغير بطاهر في أحد أوصافه دون أن يسلبه اسم الماء أنه طاهر غير مطهر، ورجح بعض المحققين كـابن تيمية أنه مطهر لغيره؛ لأنه لا دليل على أنه سلب هذه الخاصية طالما أنه يطلق عليه اسم ماء دون إضافة, فيدخل في عموم نصوص الماء. ما توجيهكم؟

الجواب: ما ذكر هنا هو ترجيح لشيخ الإسلام ابن تيمية للمذهب الحنفي، وهذا الترجيح أيضاً لم يحسم الخلاف, بل ازداد المذهب الحنفي بصوت واحد، وهو صوت شيخ الإسلام ابن تيمية، فلم يحسم الخلاف، وقولك: (لأنه لا دليل)، هذه كلمة كبيرة لا يقولها طلاب العلم؛ لأنها تحتاج إلى إحاطة بجميع الأدلة، وهذا طبعاً غير صحيح، وقد ذكرنا أن هناك أدلة تدل على أنه قد سلب طهوريته؛ لأن الطهورية إنما هي الإطلاق أي: أن يكون الماء مطلقاً غير مضاف ولا منسوب إلى شيء، فإذا أضيف أو نسب إلى شيء فإن ذلك مؤثر فيه على الأصل، ومذهب الحنفية يعتمدون فيه على حديث ضعيف؛ وهو حديث ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: ( ثمرة طيبة, وماء طهور )، والحديث ضعيف لا يصلح للاحتجاج.

السؤال: فضيلة الشيخ! لدي شك في الإخلاص, فأرجو أن تذكرنا بإخلاص العمل؟

الجواب: نحن سبق أن بينا أن الشهادتين -شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله- هما أصل كل عمل، فشهادة أن لا إله إلا الله مقتضاها في العمل: الإخلاص فيه لله، وشهادة أن محمداً رسول الله مقتضاها في العمل: المتابعة فيه لرسول الله صلى الله عليه وسلم.

والعمل على أربعة أقسام:

القسم الأول: عمل ينفع في الدنيا والآخرة، وهو العمل الذي تحقق فيه مقتضى الشهادتين, فأخلص فيه صاحبه لله, وتابع فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو نافع له في الدنيا؛ لأنه رافع للتكليف، ونافع له في الآخرة؛ لأنه يثاب عليه.

القسم الثاني: العمل الذي لا ينفع في الدنيا ولا في الآخرة، وهو ما خلا من مقتضى الشهادتين، فلم يخلص فيه صاحبه لله, ولا تابع فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا العمل باطل لا نفع فيه لا في الدنيا ولا في الآخرة.

القسم الثالث: ما هو نافع في الدنيا دون الآخرة، وهو العمل الذي حصل فيه مقتضى شهادة أن محمداً رسول الله, ولم يحصل فيه مقتضى شهادة أن لا إله إلا الله، فلم يخلص فيه صاحبه لله، ولكنه أداه على وفق السنة، فهذا العمل ينفع في الدنيا؛ لأنه يمنع الحد, فلا يقام عليه حد ترك الصلاة مثلاً، ولا تلزمه الإعادة في الدنيا، لكن لا يكتب له في الآخرة أي شيء.

القسم الرابع: العمل الذي ينفع في الآخرة ولا ينفع في الدينا، وهو العمل الذي تحقق فيه مقتضى شهادة لا إله إلا الله ونقصت فيه المتابعة، كالصلاة بغير طهارة ناسياً, فهذه الصلاة باطلة في الدينا, ولا تنفع الإنسان، بل يلزمه إعادتها، ولكنها نافعة له في الآخرة.

ومن الآيات التي تدل على أهمية الإخلاص قول الله تعالى: وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [البينة:5]، وقوله تعالى: قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ * وَأُمِرْتُ لأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ [الزمر:11-12]. وحديث أبي هريرة القدسي الذي في صحيح مسلم: ( من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه ).

السؤال: ما معنى قوله تعالى: بَلْ الإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ [القيامة:14]؟

الجواب: معناها: أن الإنسان شاهد على نفسه؛ لأن كل أعضائه ستشهد عليه يوم القيامة, والآيات الدالة على ذلك كثيرة, منها: قوله تعالى: الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [يس:65]، وقوله: يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [النور:24] وقوله: وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ [فصلت:21-22].

فالإنسان تشهد عليه جوارحه وأطرافه وأعضاؤه، فهو على نفسه بصيرة أي: شاهد على نفسه يوم القيامة.

السؤال: ما تفسير قوله تعالى: وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً [طه:40]؟

الجواب: هذا خطاب لموسى بن عمران عليه السلام, يخاطبه ربه جل جلاله فيبين له مسيرته وقصته، وأنه قد فتنه فتوناً أي: امتحنه امتحانات، وهذا شأن الأنبياء جميعاً، فإن الله يمتحنهم وينجحون في الامتحان دائماً، كما قال الله تعالى في إبراهيم عليه السلام: وَإِذْ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ[البقرة:124]، أي: نجح في جميع الامتحانات، وكذلك موسى عليه السلام امتحنه الله سبحانه وتعالى امتحانات كثيرة فنجح في الامتحان, ولذلك قال: وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً [طه:40].

السؤال: بالنسبة لدخول الغاية في المغيا. هل هناك تفريق بحسب نوع الغاية؛ بمعنى: إذا كانت من جنس المغيا دخلت, وإذا لم تكن من جنسه خرجت؟

الجواب: هذا قول لبعض الأصوليين؛ أن التفريق بين النوع وغيره، لكن الذي نتكلم فيه هو ما إذا كانت الغاية من جنس المغيا، فهذا محل البحث، أما إذا كانت ليست من جنسه فإنها خارجة منه دائماً على الراجح، كمن باع حائطاً من نخل إلى شجرة من كرم، فقال: بعتك هذا الحائط إلى شجرة الكرم، فإن الراجح عدم دخولها فيما بيع؛ لأنها ليست من جنسه.

السؤال: فضيلة الشيخ! تضيف هيئة المياه بعض الكيماويات من أجل الوقاية من الأمراض فيتغير طعم الماء, فما حكم الطهارة به؟

الجواب: ذكرنا أن هذا لا يضره؛ أن الشيء اليسير من ذلك لا يضره؛ لأنه مصلح له.

السؤال: قلت: إن قوله: (إلا إذا تغير لونه أو طعمه أو ريحه) هذا إجماع, فما هو مستند هذا الإجماع؟

الجواب: ذكرنا أن مستنده حديث ضعيف أخرجه البيهقي وغيره، وأن مداره على رشدين بن سعد، وقد ذكر أهل العلم أيضاً أن له رواية أخرى من طريق أخي رشدين وهو راشد بن سعد، وهما ضعيفان؛ رشدين وراشد كلاهما متكلم فيه، فمستند الإجماع قد يكون حديثاً ضعيفاً؛ لأنه وصل إليه من طريق صحيح فانعقد الإجماع عليه، وبعد حصول الإجماع لا يسأل عن مستنده.

السؤال: ما صحة حديث: ( كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه ببسم الله فهو أبتر

الجواب: هذا الحديث حسن إن شاء الله كما قال ابن حجر، وقد سكت عنه أبو داود في سننه، وأبو داود قال في رسالته إلى أهل مكة: (هذا كتاب السنن جمعت لكم فيه أربعة آلاف وثمانمائة حديث, كلها عن النبي صلى الله عليه وسلم وكلها بالأحكام، فما سكت عنه فهو صالح إن شاء الله, وما كان ضعيفاً بينته). فبين أن ما سكت عنه فهو صالح عنده.

السؤال: فضيلة الشيخ! قرأت أن الحنفية والمالكية يؤثمون في ترك السنن المؤكدة كترك صلاة الجماعة أو الوتر، فهل في المسألة تفصيل؟

الجواب: هذا المصطلح وهو تسمية السنن هو اصطلاح, وهو يختلف باختلاف المصطلحين، فسنن الصلاة المؤكدة يؤثم المالكية والحنفية بتركها، وهي السنن الغير المنفصلة، فمثلاً: من ترك السورة في صلاة الصبح عامداً, فعندهم يأثم وتبطل صلاته، ومن ترك التشهد عامداً -أي: ترك الجلسة الوسطى عامداً- أو من أسر في حال الجهر عامداً أو من جهر في حال السر عامداً، فهذا يبطلون صلاته بالعمد في ذلك، وهي ثمان سنن عندهم ستأتينا إن شاء الله في الكتاب ويجمعها: ( تاءان، وجيمان، وشينان، وسينان), وقد ذكرها بعضهم يقول:

سينان شينان كذا جيمان تاءان عد السنن الثمان

فالسينان هما: السر, والسورة، والجيمان هما: الجهر, والجلوس الأوسط، والشينان هما: التشهد الأول, والتشهد الثاني، والتاءان: التكبير, والتسميع ما عدا تكبيرة الإحرام، فهذه هي السنن الثمان, فمن ترك واحدة منها عامداً بطلت صلاته، ومن ترك اثنتين منها ساهياً لزمه السجود إلا السر والجهر فإنه يلزم السجود بأحدهما فقط.

أما السنن المنفصلة كالوتر وغيره فلا يؤثمون تاركها، لكن يرون أن المداوم على ذلك مجروح الشهادة، فالذي لا يصلي الوتر أبداً أو يترك السنن المنفصلة دائماً يرون أنه مسقوط الشهادة؛ لأن هذه السنن سياج الفريضة، فمن تركها سهل عليه ترك بعض الفرائض، وهم يرتبون ذلك فيقولون: المندوبات هي سياج السنن، والسنن هي سياج الفرائض، ولذلك يقولون: إن من ترك آداب الطعام والشراب لابد أن يترك بعض السنن، ومن ترك بعض السنن لابد أن يترك بعض الفرائض، وهذا من البلاء في الدين، ولذلك يقول العلامة محمد مولود رحمة الله عليه:

فالمتهاون بها يبلى بأن يئول أمره إلى ترك السنن

(فالمتهاون بها أي: بآداب الطعام والشراب.

والمستخف بأداء السنن عمداً بإهمال الفرائض مني

(مني) أي: بلي.


استمع المزيد من الشيخ محمد الحسن الددو الشنقيطي - عنوان الحلقة اسٌتمع
متن ابن عاشر [9] 2886 استماع
متن ابن عاشر [1] 2784 استماع
متن ابن عاشر [2] 2720 استماع
متن ابن عاشر [11] 2666 استماع
متن ابن عاشر [13] 2393 استماع
متن ابن عاشر [3] 2354 استماع
متن ابن عاشر [4] 2276 استماع
متن ابن عاشر [10] 2076 استماع
متن ابن عاشر [7] 1909 استماع
متن ابن عاشر [12] 1866 استماع