متن ابن عاشر [3]


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على نبينا محمد, وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.

أما بعد:

قال المؤلف رحمه الله: [ مقدمة من الأصول معينة في فروعها على الوصول ].

معنى المقدمة

قوله: (مقدمة) المقدمة تنطق هكذا يقال: مقدِّمة, ويقال: مقدَّمة، وهي الفرقة التي تتقدم بين يدي الجيش، والجيش الكبير عادة يكون مخمساً أي: خمس فرق، وهو الذي يسمى الخميس، وكما تعرفون في حديث فتح خيبر: ( أن اليهود قالوا: محمد والخميس )، فالخميس هو الجيش المخمس، والمخمس معناه: الذي له خمس فرق، والحلقة التي تكون في نحور العدو تسمى المقدمة، والفرقة التي ستشن الغارة وتهجم تسمى الميمنة، والفرقة التي تقفو الهجوم تسمى الميسرة، والفرقة التي فيها القائد وتلقي الأوامر تسمى القلب، والفرقة التي تكون في الخلف تحمل المؤن, وتنقذ الجرحى، وترعى الظهر تسمى الساقة، فهذه الفرق الخمس هي التي تسمى الخميس، والجيش الذي يتألف منها هو الخميس.

والمقدمة هي التي تكون بين يديه, تسمى المقدَّمة بصيغة اسم المفعول؛ لأنها يقدمها الجيش, وتسمى المقدِّمة أي: المتقدمة بصيغة اسم الفاعل.

تعريف أصول الفقه

وقوله: (من الأصول): هذا اصطلاح لأهل العلم, فجعلوا المسائل التي يتوقف معرفة العلم أو الشروع فيه على معرفتها جعلوها مقدمة؛ كأنها مقدمة الجيش أول ما يقاتل.

(من الأصول) أي: من علم الأصول، والأصول: جمع أصل؛ وهو ما يبنى عليه غيره أو ينبت عليه، فأصل الشجرة ما ينبت عليه غيره، وأصل البنيان ما يبنى عليه غيره.

والأصول في الاصطلاح المقصود بها: أدلة الأحكام الإجمالية, وطرق الاستفادة منها, وحال المستفيد، هذا هو أصول الفقه؛ أدلة للأحكام والأحكام كذلك.

والمقصود بالأدلة: الأدلة الإجمالية؛ وهي الكتاب والسنة والإجماع والقياس والاستدلال، ولا يقصد بها كل آيات القرآن، أو كل الأحاديث التي هي أحاديث الأحكام، بل القرآن دليل واحد من الأدلة الإجمالية، والسنة دليل واحد من الأدلة الإجمالية، والإجماع دليل واحد من الأدلة الإجمالية، والقياس دليل واحد من الأدلة الإجمالية.

بينما الأدلة التفصيلية مثل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ [المائدة:6]، هذا دليل تفصيلي، وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ[المائدة:6]، هذا دليل تفصيلي، وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ[المائدة:6]، هذا دليل تفصيلي، وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ[المائدة:6]، هذا دليل تفصيلي.. وهكذا.

وقوله: (معينة لفروعها على الأصول) معناه: من أراد أن يعرف الفروع -وهي المسائل الفقهية الجزئية التي هي مأخوذة من الأصول- فمما يعينه على معرفتها أن يعرف هذه المقدمة أولاً.

تعريف الحكم الشرعي

وهذه المقدمة هي تعريف الحكم, وذكر أقسامه, قال:

[ الحكم في الشرع خطاب ربنا المقتضي فعل المكلف افطنا ]

في مقدمته العقدية أو الكلامية ذكر الحكمة العقلية فقال:

[ وحكمنا العقلي قضية بلا وقف على عادة أو وضع جلا ]

وهنا عرف الحكم الشرعي، والحكم في اللغة هو: إتقان الشيء وإمساكه، فيقال: أحكم الصنعة أي: أتقنها، ويقال: أحكم الفرس أي: أمسكها، ومن الأول قول الله تعالى: الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ [هود:1]، فأحكمت معناها: أتقنت.

والقرآن فيه إحكام عام وإحكام خاص، وتشابه عام وتشابه خاص، فالإحكام العام معناه: الإتقان والحسن: أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ [هود:1]، والإحكام الخاص معناه: وضوح الدلالة: مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ[آل عمران:7]، والتشابه العام هو المذكور في قول الله تعالى: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً [الزمر:23]، ومعناه: أن بعضه يصدق بعضاً ويفسره، والتشابه الخاص معناه: خفاء الدلالة: وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ[آل عمران:7]، هذا التشابه الخاص الذي هو خفاء الدلالة، والحكم بمعنى الإمساك منه قول جرير:

أبني حنيفة أحكموا سفهاءكم إني أخاف عليكم أن أغضبا

أبني حنيفة إنني إن أهجكم أدع اليمامة لا تواري أرنبا

والحكم في الاصطلاح هو: إثبات أمر لأمر أو نفيه عنه، فقولنا: (إثبات أمر لأمر) أي: إثبات وصف لأمر -أي: محتوم عليه- أو نفيه عنه؛ لأنه إما إثبات وإما نفي، فهذا معنى الحكم، فالحكم إما اثبات وإما نفي؛ إثبات أمر لأمر أو الرجوع عنه.

وهو ينقسم إلى ثلاثة أقسام؛ لأن الحاكم الذي يثبت أمراً أو ينفيه إما شرع وإما عقد وإما عادة.

فالشرع حكمه هو خطاب الله المتعلق بفعل المكلف من حيث أنه مكلف به.

والعقد حكمه هو قضية بلا توقف على عادة ولا على وضع.

والعادة حكمها هو إثبات أمر لأمر أو نفيه عنه، بواسطة التكرر مع صحة التخلف.

فمثلاً: إذا رأيت شيخاً كبيراً قد اشتعل رأسه شيباً فأنت تجزم بأنه لم يولد كذلك, ومن أين لك هذا الجزم؟ هل جاءك الوحي؟! لا. فهذا حكم ليس شرعياً؛ لأنه لم يأت بالوحي، ولا هو عقلي؛ لأن العقل يبيح أن يولد كذلك، فقد ولد آدم تام الخلقة مكتمل الصورة.

إذاً: الذي حكم بذلك هو العادة فقط، وهي التكرر مع صحة التخلف، فالأدوية كلها هي من باب حكم العادة؛ فمثلاً: الدواء المسكن لألم الصداع هذا لم نعرفه بالوحي ولا بالعقل، لكن عرفناه بالتكرر؛ لأننا جربنا فيه عدد من التجارب حتى أصبح محكوماً به لدينا.

والحكم العقلي مثل: إذا سمعت طارقاً يطرق الباب، فإنك تجزم بأن وراء هذا الباب إنساناً طارقاً، أو كلمك إنسان وأنت لا تراه، فأنت تجزم بأن هذا الصوت خارج من إنسان؛ لأن الحدث يدل على الحدوث قطعاً، فهذا حكم عقلي ليس شرعياً ولا عادياً.

كذلك الحكم الشرعي عرفه هنا بقوله: (الحكم في الشرع خطاب ربنا)، فـ (الحكم في الشرع) أي: الحكم الشرعي في اصطلاح أهل الشرع (هو خطاب ربنا)، والخطاب هو توجيه الكلام إلى الغير، ويطلق على توجيه الكلام أصلاً, ويطلق على تردد الكلام بين اثنين، فمن إطلاق الخطاب على الخصام والتردد الكلامي قول الله تعالى: وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ [ص:20]، فقوله: (فصل الخطاب) أي: فصل الخصام.

ومن إطلاقه على توجيه الكلام من غير مراجعة قول الله تعالى: وَإِذَا خَاطَبَهُمْ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً [الفرقان:63], فقوله: (خاطبهم الجاهلون) هذا خطاب من غير مراجعة؛ لأنه مجرد إلقاء كلام قالوا: سلاماً.

فإذاً: الخطاب يطلق على الأمرين.

وقوله: (ربنا): الرب في اللغة معناه: موصل الشيء إلى كماله بالتدريج، والعرب تستعمل من هذه المادة أربعة أفعال، فيقال: ربه يربه، ومنه قول صفوان بن أمية يوم حنين: (لأن يربني رجل من قريش خير من أن يربني رجل من هوازن)، فقوله: (يربني) معناه: يتولى عليَّ ويسوس أمري.

ويقال: رببه يرببه، ومنه قول أمية بن أبي الصلت الثقفي:

بيضاً مرازية غلباً أساورة أسداً ترببن في الغيضات أشبالا

ويقال: ربته يربته, ومنه قول الشاعر:

ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة بجمهور حزوى حيث ربتني أهلي

(ربتني أهلي) معناه: رباني أهلي.

ويقال أيضاً: رباه يربيه، وهي أشهر هذه الأفعال الأربعة، ومنها قول الشاعر:

وربيته حتى إذا تم واستوى كمخة ساق أو كمتن إمام

قرنت بحقويه ثلاثاً فلم يزغ عن القصد حتى بصرت بدمام

والرب أصله راب، فهو فاعل في الأصل وهو مدغم، وإذا كان فاعلاً مدغماً فإنه قد يحذف منه الألف للإدغام؛ لأن الإدغام يقتضي اجتماع الساكنين، (رآب) هذا فيه اجتماع ساكنين، واجتماع الساكنين ثقيل، فلذلك يخفف فيقال: رب، وقد قال ابن مالك رحمه الله:

وينحذف بقلة مضاعفاً منه ألف

وينحذف بقلة مضاعفاً منه -أي: بفاعل- ألف، فيقال: رب وشت وفذ، فشت معناه: شات, وفذ معناه: فاذ، ورب معناه: راب، وهو الذي يوصل الشيء إلى كماله بالتدريج.

(خطاب ربنا) أي: خالقنا ومربينا ومنشئنا.

(المقتضي فعل المكلف افطنا) أي: الذي يقتضي فعل المكلف، فـ (المقتضي) معناه: الذي يطلب فعل المكلف، أي: فعلاً من المكلف, والفعل هنا يشمل الترك أيضاً.

(افطنا) أي: انتبه، وهذا تنبيه لك إلى أن خطاب الله منه ما ليس موجهاً على المخلوق أصلاً، كثنائه على نفسه في الأزل، فهذا خطاب الله لكنه غير موجه للمخلوقين، بل أثنى على نفسه: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:2]، ومنه ما هو موجه إلى المكلف، لكنه لا يتعلق بفعله؛ بل يتعلق بذاته، مثل: قوله: خَلَقَكُمْ[البقرة:21]، هذا خطاب الله المتعلق بذات المكلف لا بفعله.

ومنه ما هو خطاب الله المتعلق بفعل المكلف لا من حيث أنه مكلف به، بل من حيث هو مخلوق لله, مثل: خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ [الصافات:96]، هذا خطاب الله المتعلق بفعل المكلف، لا من حيث أنه مكلف به، بل من حيث هو مخلوق لله.

فإذاً: خطاب الله المتعلق بفعل المكلف من حيث أنه مكلف به مخرج لخطاب الله الذي لا يتعلق بالمخلوق، ومخرج لخطاب الله الذي يتعلق بذات المخلوق، ومخرج لخطاب الله الذي يتعلق بفعل من المكلف لا من حيث أنه مكلف به، فيبقى معنا واحد؛ وهو خطاب الله المتعلق بفعل المكلف من حيث أنه مكلف به مثل: افْعَلُوا الْخَيْرَ[الحج:77]، ومثل: أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ[المجادلة:13]، فهذا خطاب الله المتعلق بفعل المكلف من حيث أنه مكلف به، فإذاً هذا هو الحكم في الشرع.

تعريف الحكم التكليفي

[ بطلــب أو إذن أو بوضـــع لسبب أو شـرط أو ذِي منـع ]

خطاب الله سبحانه وتعالى الموجه إلى المكلفين ينقسم إلى قسمين: خطاب تكليفي، وخطاب وضعي، فالخطاب التكليفي مشتق من التكليف، والتكيف هو طلب ما فيه كلفة أو إلزام ما فيه كلفة، خلاف بين الأصوليين، فبعض الأصوليين يعرف التكليف بأنه طلب ما فيه الكلفة، وهذا مخرج للمباحات، فالمباحات ليس فيها طلب، فتكون الإباحة إذاً خارجة عن أقسام الخطاب التكليفي، وأيضاً فإن الصبي على هذا التعريف مكلف؛ لأنه تطلب منه الفرائض على وجه الندب، وينهى عن المحرمات على وجه الكراهة، فإذاً هذا التعريف الأول -وهو أن التكليف هو طلب ما فيه كلفة- يعترض لأمرين:

الأمر الأول: أنه غير جامع؛ لأنه لا يدخل الإباحة.

الأمر الثاني: أنه غير مانع؛ لأنه يدخل فيه تكليف خطاب الصبي، فهو مخاطب بالأوامر والنواهي على وجه الندب والكراهة.

التعريف الثاني: أن التكليف هو إلزام ما فيه الكلفة، وهذا أيضاً غير جامع وغير مانع، فهو غير جامع؛ لأنه مخرج للمندوبات والمكروهات، فهي من أقسام التكليف، ولكنها ليس فيها إلزام، وهو غير مانع؛ لأنه مدخل لضمان الجنايات، فالمجنون إذا جنى جناية لزمت في ماله، فإذا كسر سيارة إنسان لزمت في ماله إذا كان له مال، وهكذا الصبي أيضاً إذا جنى جناية فإنها تلزم في ماله، والمجنون إذا قتل إنساناً فإنه يعتبر قتلاً خطأ، فتكون الدية عليه وعلى عاقلته.. وهكذا، فإذاً هذا التعريف للتكليف أيضاً غير جامع وغير مانع.

ولكن يعرف التكليف بالتعريفين: أنه الخطاب الذي وجهه الله إلى الناس بطلب أو إذن، فالطلب يشمل أربعة أقسام:

الأول: طلب فعل على وجه الجزم.

الثاني: طلب فعل لا على وجه الجزم.

الثالث: طلب ترك على وجه الجزم.

الرابع: طلب ترك لا على وجه الجزم.

فإذاً: الطلب أربعة. والإذن طلب واحد؛ وهو الإباحة، فهذا التعريف جامع مانع.

الحكم الوضعي وأقسامه

(بطلب أو إذن أو بوضع).

الآن ننتقل إلى النوع الثاني من أنواع خطاب الله؛ وهو الخطاب الوضعي، فالخطاب الوضعي هو وضع الشارع أمراً علامة على غيره، والوضع هو تعيين أمر للدلالة على سواه، فوضع الشارع أمراً علامة على غيره هو الذي يسمى بخطاب الوضع، وهو أقسام: فمنه السبب، فمثلاً: طلوع الفجر سبب لوجوب صلاة الصبح، وزوال الشمس سبب لوجوب صلاة الظهر، ودلوكها سبب لوجوب صلاة العصر، وغروبها سبب لوجوب صلاة المغرب، وغروب شفقها سبب لوجوب صلاة العشاء، وبلوغ المال نصاباً وكمال الحول سبب لوجوب الزكاة، ودخول شهر رمضان في حق المقيم سبب لوجوب الصوم.. وهكذا، فإذاً هذا هو السبب، فهو علامة وضعها الشارع للتكليف، فقد تكون علامة للوجوب كما ذكرنا، وقد تكون علامة للندب مثل: طلوع الفجر سبب لندب ركعتين، وهما ركعتي رغيبة: ( صلوهما ولو طردتكم الخيل)، و( ركعة الفجر خير من الدنيا وما فيها)، فهذا سبب لندب.

وقد يكون السبب سبباً لحرمة، وقد يكون سبباً لكراهة، فالسبب يكون سبباً لكل أقسام التكليف السابق.

كذلك من أقسام التكليف الوضعي: العلة؛ وهي وقف علق الشارع عليه حكماً معقول المعنى، وهذا الفرق بين العلة والسبب، فالإسكار في الخمر سبب لحرمتها وسبب للحد؛ لأنها تطغى على العقل فتزيله، والعقل يجب الحفاظ عليه، فإذاً هذه علة واضحة جداً، وهي إفساد العقل، فهو علة التحريم, وعلة الحد.

والسرقة علة لقطع اليد؛ لأن اليد هي التي تأخذ المال، فتعاقب بقطعها، فالآن وجه تعلق القطع باليد في السرق هي أنها التي يتناول بها الإنسان ما يسرقه, فلذلك كان القطع بها، والإسكار هو علة تحريم الخمر وهو واضح جداً للعقل, فالعلة التي جعلت الشارع يحرم الخمر هي أنه يطغى على العقل، بخلاف السبب فإن العقل لا يدركه، فأنت الآن لو فكرت ألف تفكير لم تنتج لنا ما الذي جعل طلوع الفجر سبباً لوجوب ركعتين، وزوال الشمس سبباً لوجوب أربع ركعات، ودلوكها سبباً لوجوب أربع ركعات، وغروبها سبباً لثلاث ركعات، وغروبها شفقها سبباً لوجوب أربع ركعات, لا تستطيع أن تفهم ذلك, فالسبب لا يدري العقل وجه تعلقه، والعلة يدرك العقل وجه تعلقها، فهذا الفرق بين السبب والعلة.

كذلك الشرط؛ والشرط هو ما يلزم من عدمه العدم، ولا يلزم من وجوده وجود ولا عدم لذاته، كالطهارة شرط لصحة الصلاة مثلاً، فإذا صلى الإنسان من غير طهارة فصلاته باطلة؛ لما ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث ما لم يتوضأ)، فإذاً هذا الشرط.

لكن قد يتوضأ الإنسان فتبطل صلاته لسبب آخر، مثل: أنه صلى إلى غير القبلة، أو صلى عرياناً، أو أي سبب آخر من سبب البطلان، فإذاً الشرط يلزم من عدمه العدم، ولا يلزم من وجوده وجود ولا عدم لذاته.

ومثل ذلك المانع؛ وهو ما رتب الشارع عليه الامتناع من الأمر، فمثلاً: الحيض مانع من وجوب الصلاة أداءً وقضاء، ومن وجوب الصوم أداء فقط، فهذا مانع رتب الشارع عليه هذا الحكم.

وكذلك اختلاف الدين مانع من الإرث، وكذلك عدم تحقق الموت مانع من الإرث، وكذلك القتل -من قتل وليه- فهو مانع من إرثه، فإذاً هذا الذي يسمى بالمانع, وهو قسم من أقسام الخطاب الوضعي.

كذلك من أقسام الخطاب الوضعي: الصحة والفساد، والعزيمة والرخصة، والأداء والإعادة والقضاء، ولم يذكرها المؤلف، لكنها من أقسام الخطاب الوضعي، قال: (أو بوضع لسبب أو شرط أو ذي منع).

وقوله: (بسبب) يدخل معه العلة، (أو شرط) هو القسم الثاني, (أو ذي منع)، وهو المانع، فإذاً أقسام الخطاب الوضعي يمكن أن نقسمه تقسيمين: قسم مستقل، وقسم تابع، فالقسم المستقل خمسة أقسام هي: السبب، والعلة، والشرط، ومانع الوجوب, ومانع الأداء، فهي خمسة أقسام؛ لأن المانع ينقسم إلى قسمين: مانع الوجوب, ومانع الأداء.

أما التابعة فهي أقسام منها: الصحة والفساد، والحنفية يفرقون بين الفساد والبطلان أيضاً، فيجعلون البطلان قسماً غير الفساد، ومنها العزيمة والرخصة، ومنها الأداء والإعادة والقضاء، فهذه من أقسام الخطاب الوضعي.

أقسام الخطاب التكليفي

والمؤلف ترك ما يتعلق بالخطاب الوضعي فلم يزد فيه على ما ذكر، ولكنه رجع إلى أقسام الخطاب التكليفي مبيناً لها فقال: [ أقسـام حكـم الشرع خمسة ترام فرض وندب وكراهة حرام

ثم إباحة فمأمور جزم فرض ودون الجزم مندوب وسم

ذو النهي مكروه ومع حتم حرام مأذون وجهيه مباح ذا تمام ]

قوله: (أقسـام حكـم الشرع خمسة ترام) أي: أقسام القسم الأولي من حكم الشرع وهو الخطاب التكليفي (خمسة ترام), وهذا مذهب المالكية، وللعلماء تفصيلات أخرى تزيد عن هذا العدد, وقوله: (ترام) أي: تقصد، فرام الشيء أي: أراده وقصده.

ثم قال: (فرض وندب وكـراهة حـرام ثم إباحة)، فهذه خمسة أقسام للخطاب التكليفي، فالخطاب التكليفي إما أن يكون مقتضياً لفعل على وجه الجزم، فهذا يسمى فرضاً, ويسمى إيجاباً، ومذهب المالكية والجمهور أنه لا فرق بين الفرض والواجب، ومذهب الحنفية التفريق بينهما: أن الفرض ما وجب بدليل قطعي، والواجب ما وجب بدليل ظني. وإذا كان الخطاب يقتضي فعلاً غير جازم فيسمى ندباً، وإذا كان يقتضي تركاً جازماً فيسمى تحريماً, وإذا كان يقتضي تركاً غير جازم فيسمى كراهة, وإذا كان يقتضي إباحة مستوية الطرفين فيسمى إباحة، فلذلك عرف هذه الأقسام الخمسة فقال: (فمـأمـور جـزم فرض)، ومعناه: ما هو مأمور به أمراً جازماً فهو فرض.

والفرض في الأصل يطلق على الضرائب والإتاوات التي كان يأخذها الملوك، فهي تسمى فرائضاً، ومن ذلك قول الشاعر:

فقولا لهذا المرء ذو جاء ساعياً هلم فإن المشرفي الفرائض

فإنك دون المال ذو جئت تبتغي ستلقاك بيض للنفوس قوابض

فقوله: فقولا لهذا المرء ذو جاء ساعياً معناه: الذي جاء ساعياً أي: جامعاً للمال.

هلم أي: تعال، فإن المشرفي: وهو السيف, الفرائض معناه: الضرائب التي تريد أن تأخذها لن تنال منها إلا حد السيف.

فإنك دون المال ذو شئت تبتغي أي: الذي جئت تبتغي.

ستلقاك بيض للنفوس قوابض: وهي السيوف.

والواجب معناه: الساقط الملازم محله، ومن ذلك قول الله تعالى: فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا[الحج:36]. (وجبت جنوبها) أي: سقطت جنوبها، فهذا كأنه خطاب نزل فوقع في محله ولم يتعده، بخلاف الشيء الذي تذبذب وتزحزح فهذا فيه تخفيف، فلذلك يسمى ما فيه جزم بالواجب وبالفرض.

وقوله: (ودون الجزم مندوب) معناه: إذا اقتضى الخطاب فعلاً غير جازم فهذا الذي يسمى مندوباً، وهو من الندب، والندب هو الحث على الشيء فيقال: ندبه لكذا أي: حثه عليه.

(وسم) أي: عُلِّم بهذه العلامة، فجعلت وساماً له أي: علامة عليه.

وقوله: (ذو النهي مكروه) معناه: إذا كان الخطاب يقتضي نهياً غير جازم فهو الكراهة, والفعل نفسه يسمى مكروهاً.

(ومع حتم حرام) معناه: إذا كان يقتضي تركاً على وجه الحتم فهذا يسمى تحريماً، والفعل نفسه يسمى حراماً.

(مأذون وجهيه مبـاح) معناه: الذي أذن في وجهيه إن شئت فعلته, وإن شئت تركته؛ فهذا يسمى مباحاً.

(ذا تمـام) أي: هذا تمام أقسام الخمسة؛ لأنه عرفها جميعاً، وهذا يقتضي أن المأمور به أمراً غير جازم قسم واحد، وهو الندب، لكن الواقع أن مذهب مالك وكذلك مذهب الجمهور التفريق بين درجاته، فمنه السنة المؤكدة, ومنه المندوب, ومنه التطوع, ومنه النافلة.. إلى آخره.

قوله: (مقدمة) المقدمة تنطق هكذا يقال: مقدِّمة, ويقال: مقدَّمة، وهي الفرقة التي تتقدم بين يدي الجيش، والجيش الكبير عادة يكون مخمساً أي: خمس فرق، وهو الذي يسمى الخميس، وكما تعرفون في حديث فتح خيبر: ( أن اليهود قالوا: محمد والخميس )، فالخميس هو الجيش المخمس، والمخمس معناه: الذي له خمس فرق، والحلقة التي تكون في نحور العدو تسمى المقدمة، والفرقة التي ستشن الغارة وتهجم تسمى الميمنة، والفرقة التي تقفو الهجوم تسمى الميسرة، والفرقة التي فيها القائد وتلقي الأوامر تسمى القلب، والفرقة التي تكون في الخلف تحمل المؤن, وتنقذ الجرحى، وترعى الظهر تسمى الساقة، فهذه الفرق الخمس هي التي تسمى الخميس، والجيش الذي يتألف منها هو الخميس.

والمقدمة هي التي تكون بين يديه, تسمى المقدَّمة بصيغة اسم المفعول؛ لأنها يقدمها الجيش, وتسمى المقدِّمة أي: المتقدمة بصيغة اسم الفاعل.

وقوله: (من الأصول): هذا اصطلاح لأهل العلم, فجعلوا المسائل التي يتوقف معرفة العلم أو الشروع فيه على معرفتها جعلوها مقدمة؛ كأنها مقدمة الجيش أول ما يقاتل.

(من الأصول) أي: من علم الأصول، والأصول: جمع أصل؛ وهو ما يبنى عليه غيره أو ينبت عليه، فأصل الشجرة ما ينبت عليه غيره، وأصل البنيان ما يبنى عليه غيره.

والأصول في الاصطلاح المقصود بها: أدلة الأحكام الإجمالية, وطرق الاستفادة منها, وحال المستفيد، هذا هو أصول الفقه؛ أدلة للأحكام والأحكام كذلك.

والمقصود بالأدلة: الأدلة الإجمالية؛ وهي الكتاب والسنة والإجماع والقياس والاستدلال، ولا يقصد بها كل آيات القرآن، أو كل الأحاديث التي هي أحاديث الأحكام، بل القرآن دليل واحد من الأدلة الإجمالية، والسنة دليل واحد من الأدلة الإجمالية، والإجماع دليل واحد من الأدلة الإجمالية، والقياس دليل واحد من الأدلة الإجمالية.

بينما الأدلة التفصيلية مثل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ [المائدة:6]، هذا دليل تفصيلي، وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ[المائدة:6]، هذا دليل تفصيلي، وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ[المائدة:6]، هذا دليل تفصيلي، وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ[المائدة:6]، هذا دليل تفصيلي.. وهكذا.

وقوله: (معينة لفروعها على الأصول) معناه: من أراد أن يعرف الفروع -وهي المسائل الفقهية الجزئية التي هي مأخوذة من الأصول- فمما يعينه على معرفتها أن يعرف هذه المقدمة أولاً.