أرشيف المقالات

مكان عدة المتوفى عنها زوجها

مدة قراءة المادة : 19 دقائق .
مكان عدة المتوفى عنها زوجها


قوله: "وتجب عدة الوفاة في المنزل الذي مات زوجها وهي به..." إلى آخره[1].
قال في "المقنع": "وتجب عِدَّة الوفاة في المنزل الذي وجبت فيه إلا أن تدعو ضرورة إلى خروجها عنه بأن يحولها مالكه، أو تخشى على نفسها فتنتقل، ولا تخرج ليلًا، ولها الخروج نهارًا في حوائجها، وإن أذن لها زوجها في النقلة إلى بلد للسكنى فيه فمات قبل مفارقة البنيان لزمه العود إلى منزلها، وإن مات بعده فلها الخيار بين البلدين، وإن سافر بها فمات في الطريق وهي قريبة لزمها العود، وإن تباعدت خيرت بين البلدين 790أ، وإن أذن لها في الحج فأحرمت به ثم مات، فخشيت فوات الحج مضت في سفرها، وإن لم تخش وهي في بلدها أو قريبةٌ يمكنها العود أقامت لتقضي العدة في منزلها، وإلا مضت في سفرها، وإن لم تكن أحرمت به أو أحرمت بعد موته، فحكمها حكم من لم تخش الفوات، وأما المبتوتة فلا تجب عليها العدة في منزله، وتعتد حيث شاءت؛ نص عليه[2]"[3].
 
قال في "الحاشية": "قوله: "وتجب عدة الوفاة في المنزل الذي وجبت فيه".
هذا المذهب[4]، روي ذلك عن عُمر، وعُثمان، وابن عُمر، وابن مسعود، وأم سلمة، وبه قال مالك[5] والثوري وأبو حنيفة[6] والشافعي[7] وإسحاق.
وقال جابر بن زيد والحسن وعطاء: تعتدُّ حيث شاءت، وروي ذلك عن علي، وابن عباس، وجابر، وعائشة[8].
 
ولنا قوله عليه السلام للفُريعة: "امكثي في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله" فاعتدت فيه أربعة أشهر وعشرًا، فلما كان عثمان أرسل إليَّ يسألني عن ذلك، فأخبرته، فاتبعه وقضى به.
رواه مالك، وأحمد، وأبو داود، والترمذيُّ وصححه، والأثرم[9].
إذا ثبت هذا فإنه يجب الاعتداد في المنزل الذي مات زوجها وهي ساكنةٌ فيه، سواء كان مملوكًا لزوجها، أو بإجارة، أو عارية؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لفُريعة: "امكثي في بيتك" ولم تكن في بيت يملكه زوجها كما روي في حديثها 790ب.
 
قوله: "إلا أن تدعو ضرورة إلى خروجها بأن يحولها مالكه أو تخشى على نفسها فتنتقل" وكذا لو كان بإجارة انقضت مدتها، أو امتنع من إجارته، أو طلب به أكثر من أجرة المِثل، أو لم تجد ما تكتري به، أو لم تجد إلا من مالها فلها أن تنتقل ولا يلزمها بذل أجرة المسكن، وإنما الواجب عليها السُّكنى لا تحصيل المسكن، قاله المصنف.
وقال الزركشي: الذي يظهر لي أنها يجب عليها بذل الأجرة من مالها إن قدرت عليها وإلا فلا تُكلف نفسٌ إلا وسعها، وظاهرها أنها تنتقل حيث شاءت، وهو المذهب[10]، وفيه وجه إلى أقرب ما يمكن من المنزل[11]، جزم به في الهداية والمذهب وبه قال.
ولنا: أن الواجب سقط، ولم يرد الشرع له ببدل، فلا يجب.
 
فائدة: لو بيعت الدار التي وجبت فيها العدة وهي حامل، فقال المصنف: لا يصح البيع؛ لأن الباقي من المدة مجهول.
وقال المجد: قياس المذهب الصحة[12]، قلت: وهو الصواب، قاله في "الإنصاف".
قوله: "ولا تخرج ليلًا، ولها الخروج نهارًا في حوائجها"؛ لما روى جابر قال: طلقت خالتي ثلاثًا فخرجت تجذ نخلها، فلقيها رجل فنهاها، فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: "اخرجي، فجذي نخلك، لعلك أن تصدقي منه، أو تفعلي خيرًا" رواه أحمد، ومسلم، وأبو داود، والنسائي[13] 791أ.
 
فائدة: يجوز نقلها لأذاها على الصحيح من المذهب[14]، روي ذلك عن ابن عباس، وهو قول الأكثرين.
تنبيه: ظاهر قوله: "ولا تخرج ليلًا" ولو لحاجة، وهو أحد الوجهين[15] جزم به في "الكافي" و"المُحرر".
 
والثاني[16]: يجوز لها الخروج ليلًا لحاجة، اختاره ابن عبدوس.
والبدوية كالحضرية في الاعتداد في المنزل الذي مات زوجها وهي ساكنة فيه، فإن انتقلت الحلة انتقلت معهم، ولو اتفقت المرأة والوارث على نقلها من المنزل الذي مات زوجها فيه لم يجز؛ لأن السُّكْنى هاهنا حتى يتعلق به حق الله تعالى، فلم يجز اتفاقهما على إبطالها بخلاف السُّكنى في النكاح فإنها حق لها.
فائدة: لا سُكنى للمتوفى عنها إذا كانت حائلًا، رواية واحدة[17]، وإن كانت حاملًا فروايتان[18].
 
وللشافعي في المتوفى عنها قولان: أحدهما[19]: لها السكنى لقول الله تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ ﴾ [البقرة: 240].
فنسخ بعض المدة وبقي باقيها على الوجوب؛ ولأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر فُريعة بالسُّكنى في بيت زوجها من غير استئذان الورثة.
 
ولنا: أن الله عز وجل إنما جعل للزوجة ثُمن التركة أو ربعها، وجعل باقيها لسائر الورثة، والمسكن من التركة، فوجب ألا تستحق أكثر من ذلك، والآية التي احتجوا بها منسوخة 791ب.
وأما أمر النبي صلى الله عليه وسلم فُريعة بالسُّكنى فقضية في عين يحتمل أنه علم أن الوارث يأذن في ذلك، أو يكون الأمر بالسُّكنى واجب، ويتقيد بالإمكان، وإذن الورثة من جملة ما يحصل به الإمكان.
 
قوله: مضت في سفرها، ومتى رجعت وقد بقى عليها شيء من عِدتها لزمها الإتيان به في بيت زوجها بغير خلاف بينهم"[20].
وقال في "الإفصاح": "واختلفوا في المتوفى عنها زوجها وهي في الحج: فقال أبو حنيفة[21]: تلزمها الإقامة على كل حال إن كانت في بلد أو ما يقاربه.
وقال مالك[22] والشافعي[23] وأحمد[24]: إذا خافت فواته إن جلست لقضاء العِدَّة جاز لها المضي فيه.
 
واختلفوا في المطلقة ثلاثًا هل عليها الإحداد؟
فقال أبو حنيفة[25]: عليها الإحداد.
وقال مالك[26]: لا إحداد عليها.
وعن الشافعي[27] قولان.
وعن أحمد[28] روايتان كالمذهبين.
واختلفوا في البائن هل يجوز أن تخرج من بيتها نهارًا لحوائجها؟
فقال أبو حنيفة[29]: لا تخرج إلا لعُذر ملجئ.
وقال مالك[30] وأحمد[31]: يجوز لها ذلك.
وعن الشافعي[32] قولان كالمذهبين[33].
 
وقال البخاري: "باب ﴿ وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا ﴾...
إلى قوله﴿ خَبِيرٌ ﴾ [البقرة: 240].
حدثني إسحاق بن منصور، أخبرنا روح بن عبادة، حدثنا شِبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: ﴿ وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا ﴾ [البقرة: 240] قال: كانت هذه 792أ العِدَّة تعتد عند أهل زوجها واجبًا، فأنزل الله: ﴿ وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ ﴾ [البقرة: 240] قال: جعل الله لها تمام السنة سبعة أشهر وعشرين ليلة وصيام، إن شاءت سكنت في وصيتها، وإن شاءت خرجت، وهو قول الله تعالى: ﴿ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ ﴾، فالعدة كما هي واجب عليها، زعم ذلك عن مجاهد.
 
وقال عطاء: وعن ابن عباس نسخت هذه الآية عدتها عند أهلها، فتعتد حيث شاءت، وقول الله تعالى: ﴿ غَيْرَ إِخْرَاجٍ ﴾، وقال عطاء: إن شاءت اعتدت عند أهلها وسكنت في وصيتها، وإن شاءت خرجت؛ لقول الله: ﴿ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ ﴾، قال عطاء: ثم جاء الميراث فنسخ السُّكنى، فتعتد حيث شاءت، ولا سُكنى لها[34].
 
حدثنا محمد بن كثير، عن سفيان، عن عبد الله بن أبي بكر بن عمرو بن حزم، حدثني حُميد بن نافع، عن زينب ابنة أم سلمة، عن أم حبيبة ابنة أبي سفيان، لما جاءها نعي أبيها دعت بطيب، فمسحت ذراعيها وقالت: ما لي بالطيب من حاجة، لولا أني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر تُحد على ميت فوق ثلاث، إلا على زوج أربعة أشهر وعشرًا[35]".
 
قال الحافظ: "قال ابن بطَّال[36]: ذهب مجاهد إلى أن الآية وهي قوله تعالى: ﴿ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا ﴾ نزلت قبل الآية التي فيها ﴿ وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ ﴾ كما هي قبلها في التلاوة 792ب.
وكان الحامل له على ذلك استشكال أن يكون الناسخ قبل المنسوخ، فرأى أن استعمالها ممكن بحكم غير متدافع؛ لجواز أن يوجب الله على المعتدة تربص أربعة أشهر وعشر، ويوجب على أهلها أن تبقى عندهم سبعة أشهر وعشرين ليلة تمام الحول إن قامت عندهم، قال: وهو قول لم يقله أحد من المفسرين غيره، ولا تابعه عليها من الفقهاء أحد، أطبقوا على أن آية الحول منسوخة، وأن السُّكنى تبع للعدة، فلما نسخ الحول في العدة بالأربعة أشهر وعشر نسخت السُّكنى أيضًا.
 
وقال ابن عبد البر[37]: لم يختلف العلماء أن العدة بالحول نسخت إلى أربعة أشهر وعشر، وإنما اختلفوا في قوله: ﴿ غَيْرَ إِخْرَاجٍ ﴾، فالجمهور على أنه نسخ أيضًا، وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد فذكر حديث الباب، وقال: ولم يتابع على ذلك، ولا قال أحد من علماء المسلمين من الصحابة والتابعين به في مدة العِدَّة، بل روى ابن جريج عن مجاهد في قدرها مثلما عليه الناس، فارتفع الخلاف، واختص ما نقل عن مجاهد وغيره بمدة السُّكنى على أنه أيضًا شاذ لا يعول عليه...
والله أعلم[38]" 793أ.

[1] الروض المربع ص 452.


[2] شرح منتهى الإرادات 5/614، وكشاف القناع 13/57.


[3] المقنع 3/291 - 292.


[4] شرح منتهى الإرادات 5/611، وكشاف القناع 13/50.


[5] الشرح الصغير 1/502 - 503، وحاشية الدسوقي 2/484 - 485.


[6] فتح القدير 3/296، وحاشية ابن عابدين 3/563 - 564.


[7] تحفة المحتاج 8/261، ونهاية المحتاج 7/155.

[8] انظر: السنن الكبرى للبيهقي 7/435.

[9] مالك 2/591، وأحمد 6/370، وأبو داود (2300)، والترمذي (1204).
وأخرجه أيضًا النسائي 6/199، وابن ماجه (2031)، من طُرق عن سعد بن إسحاق بن كعب بن عجرة، عن عمته زينب بنت كعب بن عجرة، أن الفُريعة بنت مالك بن سنان - وهي أخت أبي سعيد الخدري - أخبرتها...
الحديث.

والحديث صحَّحه: الترمذي، والذهلي، والحاكم، وابن القطان، وابن المقن، وغيرهم.

قال ابن حجر في التلخيص الحبير 3/239 (1648): أعلَّه عبد الحق - تبعًا لابن حزم - بجهلة حال زينب، وبأن سعد بن إسحاق غير مشهور بالعدالة، وتعقبه ابن القطان بأن سعدًا وثقه النسائي وابن حبان، وزينب وثقها الترمذي، قلت: وذكرها ابن فتحون وابن الأمين في الصحابة، وقد روى عن زينب غيرُ سعد، ففي مسند أحمد من رواية سليمان بن محمد بن كعب بن عجرة، عن عمته زينب، وكانت تحت أبي سعيد، عن أبي سعيد حديث في فضل علي بن أبي طالب.
وانظر: البدر المنير 8/243.


[10] شرح منتهى الإرادات 5/611 - 612، وكشاف القناع 13/52.


[11] الإنصاف مع المقنع والشرح الكبير 24/146 و149.


[12] الإنصاف مع المقنع والشرح الكبير 24/149 - 150.


[13] أحمد 3/321، ومسلم (1483)، وأبو داود (2297)، والنسائي 6/209.

[14] شرح منتهى الإرادات 5/612، وكشاف القناع 13/52.


[15] شرح منتهى الإرادات 5/612، وكشاف القناع 13/52.


[16] الإنصاف مع المقنع والشرح الكبير 24/154 - 155.


[17] شرح منتهى الإرادات 5/662، وكشاف القناع 13/128.


[18] الإنصاف مع المقنع والشرح الكبير 24/326 - 327، وشرح منتهى الإرادات 5/662، وكشاف القناع 13/127.


[19] تحفة المحتاج 8/260، ونهاية المحتاج 7/154.


[20] حاشية المقنع 3/291، وانظر: الشرح الكبير مع المقنع والإنصاف 24/142 - 156.


[21] فتح القدير 3/298 - 299، وحاشية ابن عابدين 3/565 - 566.


[22] شرح منح الجليل 2/395، وحاشية الدسوقي 2/486.


[23] تحفة المحتاج 8/265، ونهاية المحتاج 7/159.


[24] شرح منتهى الإرادات 5/612 - 613، وكشاف القناع 13/56.


[25] فتح القدير 3/291، وحاشية ابن عابدين 3/557 - 558.

[26] الشرح الصغير 1/501، وحاشية الدسوقي 2/478.


[27] تحفة المحتاج 8/255، ونهاية المحتاج 7/149.


[28] الإنصاف مع المقنع والشرح الكبير 24/127 - 128، وشرح منتهى الإرادات 5/609،،كشاف القناع 13/45.


[29] فتح القدير 3/296، وحاشية ابن عابدين 3/562.


[30] الشرح الصغير 1/502 - 503، حاشية الدسوقي 2/486 - 487.


[31] شرح منتهى الإرادات 5/611، وكشاف القناع 13/53.


[32] تحفة المحتاج 8/261، ونهاية المحتاج 7/156.


[33] الإفصاح 2/174 (ط السعيدية).


[34] البخاري (5344).


[35] البخاري (5345).


[36] شرح صحيح البخاري 7/515.


[37] الاستذكار 6/234، والتمهيد 17/324.

[38] فتح الباري 9/493 - 494.

شارك الخبر

ساهم - قرآن ٣