القصص
مدة
قراءة المادة :
8 دقائق
.
أسطورة الديك الذهبي
لألكسندر بوشكين
كان يجلس على عرش مملكة قوية، لن أذكر اسمها، قيصر اسمه دادون، لا شبه له في الرجال. ولما كان دادون شجاع القلب، فإنه لم يترك واحدا من جيرانه دون أن يشن عليه الحرب.
أما وقد كبر الآن فقد رأى أن يتيح لجسمه الهرم شيئا من الدعة والاطمئنان.
غير أن الأعداء انتهزوا الفرصة، فهاجموا المملكة من دون رحمة، ونهبوا الديار، وطحنوا جيش دادون طحنا.
أما جنوب المملكة فقد كان محصنا، والشرق هو الجهة التي كان يأتي منها العدو. وفي ذات يوم نزلت بالشواطئ كتببة عاصفة، فاضطرب القيصر أيما اضطراب، وهجر النوم جفنه.
خيل إليه أن حياته لم تكن في يوم ما أمر منها الأن، فلم ير إلا أن يطلب العون من منجم الدولة، ذلك الخصي الشيخ الممتلئ حكمة ومعرفة.
.
لبى الخصي النداء، وجاء البلاط يحمل في حقيبته ديكا ذهبيا، وقال: (ليأمر مولاي بنصيب هذا الديك على عمود من الخشب، فيحرس المملكة.
فإنه إذا لم يكن ثمت خطر ظل هادئا مطمئنا، فإذا لاح الخطر في الأفق انتفض من سكونه، وانتفخ عرفه الأحمر، وصاح صيحة تنبه القوم، وأشار إلى الجهة التي يأتي منها العدو). فرح القيصر لهذا الحل السعيد، وقال: (سأعطيك في مقابل هذا ما تريد.
ستكون رغبتك رغبة القيصر أين شئت ومتى أردت). وجثم الديك في مكانه يسهر على المملكة، بينما أوى القيصر الهرم إلى فراشه ينعم بالنوم الهنيء، ولا يلقي بالا إلى حوادث الزمن.
ولم يعد الخطر يدهم الناس، ولم تعد فخاخ تهدد القيصر العجوز.
.
دادون!.
فلما مر عامان كاملان، إذا بأصوات تزلزل الأفق وتطرد النوم الهنيء عن عيون الناس.
وأقبل قائد الجيش صائحا: قيصري وسيدي، انهض فالمملكة في حاجة إلى ابنيك الباسلين! تأوه القيصر ثم قال: ما الخبر؟ فأجاب قائد الجيش: الديك صاح.
.
والناس في رعب شديد.
وتلفت القيصر حواليه، وأرهف السمع، فإذا صيحات من المشرق، وإذا الديك قائم منتفض يصيح: كوكو.
.
روكو!.
.
كوكو.
.
روكو! فالتفت القيصر إلى القائد صارخا: أعدوا الجياد.
.
أعدوا السلاح.
انطلقوا سريعا إلى الحدود!.
وإلى الشرق طار الجيش الكثيف يقوده الابن الأكبر لدادون.
.
حينئذ هدأت ثورة الديك؛ وكف عن الصياح!. مضت أيام ثمانية ولم يأتي عن الجيش خبر: أقاتل، أم فر؟ صه.
.! صه.
.! لقد صاح الديك من جديد - فليذهب الجيش الثاني إلى الشرق وعلى رأسه الابن الثاني لدادون.
نعم، وفي هذه المرة أيضاً مرت أيام ثمانية ولم يأت الخبر! فلما صاح الديك للمرة الثالثة، هب دادون العجوز، وقاد سائر الجند بنفسه، ومضى إلى الشرق وهو يطمئن الناس، وإن لم يكن هو في داخيلة نفسه بمطمئن.
ساروا الليل والنهار حتى أدركهم التعب وهمدت قواهم.
هذا والقيصر في عجب ودهشة: لا دليل على معركة.
ولا أثر لساحة.
ولا معسكر.
ولا رجمة يثوى تحتها بطل.
في نهاية اليوم الثامن، صعد القيصر في شعب نل، فصعد خلفه الجنود - فماذا رأوا؟! بين قمتين من الصخر رأوا خيمة من الحرير قائمة! كان صمت عجيب يسيطر على المكان.
.
وفي مجرى ضيق بسفح الجبل، وجد القيصر أبطاله الذين أرسلهم مذبوحين.
وأمام باب الخيمة وجد ابنيه الأكبر والأصغر، كلا ملقى بلا دروع، وقد أغمد سيفه في جنب أخيه.
كان الكلأ مصبوغا بالدم، والجياد تمرح في الوديان والقيصر المسكين يولول في جنون: آه يا ابنيَّ! كلا النسرين صاده الصياد.
وا ضيعتي!!) وناحت الجنود لنواحه، ورددت الآفاق الصدى، فكأنما شارك الجماد في الحزن والأنين.
وعلى حين فجأة انشق ستار الخيمة عن ملكة شاماخان تلمع لمعان الشروق، أومأت إلى القصر محيية، فلاح دادون وكأنه طير من طيور الليل في سناها الخاطف، سمرت عيناه في جمالها، وطار من رأسه كل حزن وأسى على ابنيه اللذين لقيا الهلاك.
وتبسمت هي لدادون، ثم انحنت قليلا، فأمسكت بيده وقادته إلى داخل خدرها، وقدمت إليه طعاما ملكيا فاخرا، فلما تناول منه، قادته إلى أريكة موشاة بالذهب، مسترة بالدمقس. سبعة أيام وسبع ليال، والقيصر (دادون) ينهل من السرور، ويطيع الملكة طاعة عمياء.
ثم حان الرحيل، فتأهبت الجنود، وهيئوا الركاب، وسار الجميع في طريقهم إلى عاصمة المملكة.
. كان الناس قد بلغهم الخبر، فإذا جموع هائلة بأبواب المدينة، وإذا هتاف عال يستقبل الموكب: عاش دادون! عاشت الملكة! عاش دادون! عاشت الملكة! ولكن من هذا الرجل الأبيض الرأس واللحية الذي يشق الجموع ليلحق بعربة القيصر؟ إنه الخصي الحكيم! أقبل على القيصر يقول: تحيتي يا مولاي! فقال القيصر: ماذا تريد؟ قال: حساب بيننا يا سيدي.
لقد أقسمت أن تجيب رغبتي.
إني أريد هذه الفتاة.
ملكة شاماخان! فصرخ الملك دهشا: إنك تهذي.
ما نفع فتاة لخصي؟ اطلب شيئا آخر فأقدمه إليك.
اطلب خير ما في حظيرتي من جياد، أو مرتبة من مراتب الحكم، أو إن شئت فاطلب ذهبا.
حتى نصف ما في المملكة! قال الساحر: لا شيء مما يوهب يستحق أن يرغب فيه.
إني لا أطلب غير ملكة شاماخان! جن القيصر من الغضب وصاح: لقد أخطأت في تقدير ثمنك أيها العبد.
لم يكن جديرا بي أن أتركك تتحدث! وبصولجانه قرع دادون هامة الخصي قرعة شديدة، فسقط الرجل على الأرض ميتا! وحينئذ اهتزت المدينة اهتزازا شديدا ارتعب له قلب دادون! ولكن الفتاة علا ضحكها في تلك الساعة.
فما كان منه إلا أن تكلف الابتسام، وأمر بمواصلة المسير.
وعلى حين فجأة سمع صوت ضئيل، وإذا بالديك الذهبي يطير إلى العربة الملكية، وإذا به يستقر على هامة القيصر فنفض ريشه أولا، ثم نقر دادون في وسط هامته، ثم حلق في الجو عائدا إلى السماء.
ونزل القيصر من العربة، فإذا به يسقط على الأرض بدوره، وإذا به يئن أنة واحدة.
ثم يسلم الروح! أما الملكة، فإن أحدا لم يرها بعد، وكأنها لم تكن هناك!! إن الأساطير وإن بعدت عن الحقائق قد يستفيد منها اللبيب عظة أو اثنتين.
. يوسف جبرا