متن ابن عاشر [10]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديه، واستن بسنته إلى يوم الدين، أما بعد:

فقد انتهينا من فرائض الصلاة، والفرائض ذكر منها تكبيرة الإحرام والقيام لها، والنية والفاتحة والقيام لها، والركوع والرفع منه، والسجود والرفع منه، والاعتدال والاطمئنان، والسلام والجلوس له، وترتيب الأداء، ونية الاقتداء ومتابعة الإمام.

ووصلنا إلى شروطها فقال:

[شرطها الاستقبال طهر الخبث وستر عورة وطهر الحدث]

استقبال القبلة

(شرطها الاستقبال) الضمير مختلس هنا؛ لأن الألف اجتمعت مع اللام (أل) الساكنة، وحينئذ يحذف أحد الساكنين إذا اجتمعا.

(شرطها) أي: شرط الصلاة، وهو نكرة مضافة إلى الضمير فتعم، والمعنى: شروطها.

وهذا الاستقبال له ست درجات:

أولاً: قبلة المعاينة، أي: أن تكون عند الكعبة في داخل المسجد الحرام، والكعبة بين يديك فتعاينها، فإذا انحرف الإنسان عنها وكان غير أعمى فانحرف عنها ولو قدر أنملة بطلت صلاته؛ لأن الكعبة بين يديه ووجب عليه وجوباً قاطعاً أن يستقبلها، فإذا انحرف وهي بين يديه فلا يقبل انحرافه إلا إذا كان أعمى؛ والأعمى معذور، يرد إليها.

ثانياً: قبلة المسامتة، وهي من كان بمكة أو بالمسجد الحرام، ولكن لا يرى الكعبة؛ لأن بينه وبينها جداراً أو سواري، لكنه موقن أنها وراء هذا الجدار؛ فهذه مثل المسامتة، بحيث لو زال الجدار لرآها بين يديه.

ثالثاً: قبلة الوحي، وهي مثل قبلة المدينة، فكل مسجد صلى فيه النبي صلى الله عليه وسلم فإنه لا يقر على الخطأ قطعاً، فإذا صلى إلى جهة الكعبة فمعناه أن تلك القبلة هي التي صلى إليه النبي صلى الله عليه وسلم قطعاً.

رابعاً: قبلة الإجماع، وهي في حق المساجد التي صلى فيها الصحابة والتابعون، وكانت مراكز كبرى في الإسلام؛ كمسجد البصرة الذي بناه عتبة بن غزوان بأمر أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، وكمسجد صنعاء الذي بناه فيروز بن باذان بأمر النبي صلى الله عليه وسلم، وقد أمره أن يبني لأهل صنعاء مسجداً بين بستان باذان والصخرة المنمنمة، وأن يجعل قبلته بين نقم وعيبان، فقبلة صنعاء هي بين هذين الجبلين.

ومثل ذلك مسجد الكوفة، وهو مسجد علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وقد كان يعلق فيه مائة ألف سيف في عهد علي، ومعناه ذلك أنه يصلي فيه من المقاتلين فقط مائة ألف بدون الصبيان والشيوخ الكبار والنساء، وكان له أربعة مؤذنين؛ كل مؤذن يؤذن على زاوية من أركانه، ولا يسمع صوت المؤذن الآخر.

وكذلك جامع بني أمية بدمشق، فقد بناه معاوية رضي الله عنه، وهو من الجوامع الكبرى، وقد صلى فيه عدد كبير من الصحابة، ومثل ذلك بيت المقدس الذي بناه أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه، فصلى فيه عدد كبير من الصحابة.

وكان مسجد الكوفة في عهد علي يصلي فيه ثمانمائة من الذين بايعوا تحت الشجرة وحل عليهم رضوان الله الأكبر الذي لا سخط بعده.

وكذلك الفسطاط الذي أقامه عمرو بن العاص بمصر، فقد صلى فيه عدد كبير من الصحابة والتابعين؛ فكانت قبلته قبلة إجماع. فهذه المساجد قبلتها قبلة إجماع.

خامساً: قبلة الاجتهاد، مثل قبلة مسجدنا هذا، فنحن لا نرى الكعبة ولا نسامتها، ولم يصل النبي صلى الله عليه وسلم في مسجدنا، ولم يصل فيها عدد كبير من الصحابة والتابعين عبر القرون حتى ينعقد الإجماع على قبلته، ولكن نحن اجتهدنا، والاجتهاد بالقبلة يحتاج فيه إلى معرفة بالعلامات، بالإضافة إلى المعرفة بالفقه؛ فلا يكفي فيه المعرفة بالفقه فقط، فقد يكون الإنسان فقيهاً ولكن لا يعرف جهة القبلة، وقد يكون ماهراً لجهة القبلة ولو لم يكن فقيهاً؛ لأن العبرة في ذلك بعلم الهيئة وعلم الجغرافيا ومطالع النجوم؛ فيعرف الإنسان تحديد الجهة، والآن أيضاً أصبحت الآلات الحديثة يمكن الاعتماد عليها؛ ففي بعض المواقع في الأنترنت يمكن الاتصال بالأقمار الصناعية وتحديد جهة القبلة تماماً، فيمكن أن تسحب إلى محراب كل مسجد حتى تعرف استقامته من ميله.

وهذه القبلة، قبلة الاجتهاد أهل كل بلد يعرفون ما يستدلون به من النجوم، وما يستدلون به كذلك في مطلع الشمس أو مغربها ومهب الريح ومجاري الأنهار، ونحو ذلك من الأمور التي يعرفون بها الجهات.

سادساً: قبلة النافلة في السفر على الراحلة أنى توجهت به؛ فالإنسان إذا كان يصلي النافلة على راحلته فقبلته جهة اتجاهه، يصلي إلى الوجه الذي يتجه إليه، وقد ثبت في حديث أنس: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي صلاة الليل على حماره متجهاً إلى خيبر )، وخيبر عكس القبلة تماماً، وهذا في العام السابع من الهجرة من فتح خيبر، وكذلك ثبت في حديث ابن عمر: ( أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يصلي صلاة الليل على بعيره )، أي: على ناقته، ( متجهاً إلى نجد )، والقبلة ستكون حينئذٍ عن يمينه، وهو متجه إلى نجد من المدينة؛ ولذلك يجوز للإنسان المسافر إذا كان في الطائرة أو في السيارة أن يصلي إلى جهة مسيره النافلة، أما الفريضة فلا يصليها إلا إلى جهة القبلة، واختلف في الوتر؛ فذهب بعضهم إلى أنه لا بد أيضاً أن يكون إلى جهة القبلة، وذهب آخرون إلى أنه يمكن أن يصلى إلى غيرها، وقد كان بعض الصحابة إذا أراد أن يحرم بالوتر وجه راحلته إلى جهة القبلة فأحرم، ثم انطلق في اتجاهه حتى يكمل الوتر في الاتجاه الذي يريد الذهاب إليه، لكن في وقت الإحرام يكون مستقبلاً.

واختلف هل يقاس الحضر على السفر في صلاة النافلة، فإذا كنت آتياً لهذا المسجد مثلاً أو غيره من المساجد في وقت صلاة الفجر، ولم تركع ركعتي الفجر، وخشيت أن يسبقك الإمام بالصلاة، وركعتا الفجر بالغ النبي صلى الله عليه وسلم في الترغيب فيهما فقال: ( ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها )، وفي سنن أبي داود بإسناد ضعيف أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( صلوهما ولو طردتكم الخيل )، فهذا تشديد في صلاتهما، فهل يجوز أن تصليهما في سيارتك متجهاً اتجاهات الشوارع أو لا يجوز ذلك إلا في السفر؟ هذا محل خلاف بين أهل العلم، وأصله هل الصلاة على الراحلة في السفر من الرخصة أو من العزيمة؟ فإذا كانت عزيمة فلا مانع من القياس عليها، وإذا كانت رخصة فالرخص لا يدخلها القياس، والإنسان قد يضطر لعمل بمثل هذا النوع من الأقوال، وليس هذا من تتبع الرخص ولا من الخروج من التكليف؛ لأن الإنسان قد يخاف أن يفوته أداء الركعتين وهو متجه إلى الحرم، أو متجه إلى مسجد من المساجد في سيارته، ولو وقفها وأراد أن يصلي على الشارع ما استطاع؛ فلذلك يمكن أن يأخذ بمثل هذا النوع فيركع ركعتي الفجر، وبعض الحنابلة يوسع في هذا فيجعل الإنسان يصلي كل نوافله إذا شاء على سيارته أو دابته في الحضر كما يفعل في السفر.

طهارة الخبث

(طهر الخبث) هذا الشرط الثاني من شروطها وهو طهارة الخبث، والخبث ما معناه؟ النجس، والمقصود بتطهير الإنسان من النجاسة؛ لأن الله تعالى يقول: وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ[المدثر:4]، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم بالغ في الأمر بالاستتار من البول وقال: ( تنزهوا من البول؛ فإن عامة عذاب القبر منه )، وقال: ( أما إنهما ليعذبان، وما يعذبان في كبير)، ثم قال: ( بلى، أما أحدهما فكان لا يستتر من البول، وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة ).

ولكن اختلف في هذا الشرط في المذهب المالكي على أربعة أقوال:

القول الأول: أن طهارة الخبث شرط لصحة الصلاة، فإذا وقعت النجاسة على المصلي وهو في الصلاة بطلت صلاته، وإذا تذكر في أثناء الصلاة أن ثوبه نجس بطلت صلاته، لكن إذا تذكرها في نعله وهو في الصلاة فإن لم تتحرك بحركة رجله فإنه يخلعها في مكانه، ويستمر في صلاته، وقد ثبت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم عندما خلع نعله في الصلاة؛ لأنه أحس بنجس فيها فتركها مكانها، ومحل ذلك إذا لم تتحرك بحركة المصلي؛ لأن طهارة الخبث في الصلاة لا بد منها؛ ولذلك عرف ابن عرفة الطهارة بأنها صفة حكمية توجب لموصوفها جواز استباحة الصلاة به أو فيه أو له أو عليه، فقولنا: (به) إذا كان ثوباً (أو فيه) إذا كان مكاناً (أو له) إذا كان إنساناً (أو عليه) إذا كان جنازة؛ فهي إذاً أربع صور هي التي يحتاج إلى الطهارة فيها للصلاة، (به) إذا كان ثوباً؛ فالثوب النجس لا يصلى به (أو فيه) إذا كان مكاناً، (أو له) إذا كان إنساناً، وهذه طهارة الحدث، وطهارة الخبث أيضاً في بدنه، (أو عليه) إذا كان ميتاً؛ فالميت لا يصلى عليه قبل أن يغسل؛ فلذلك القول الأول لدى المالكية أن طهارة الخبث شرط لصحة الصلاة.

القول الثاني: أنها واجب غير شرط، فيجب على الإنسان أن يطهر بدنه وثوبه ومكانه، وإذا لم يفعل فهو آثم، ولكن صلاته صحيحة.

القول الثالث: أن طهارة الخبث سنة في الصلاة؛ فلا تبطل الصلاة بوجود النجاسة في البدن أو في الثوب أو في المكان.

القول الرابع: أن طهارة الخبث مندوبة في الصلاة.

وهذه الأقوال الأربعة نظيرها أيضاً في ستر العورة، فستر العورة اختلف فيه عند المالكية على أربعة أقوال:

قيل: هو واجب شرط، وقيل: واجب غير شرط، وقيل: سنة، وقيل: مندوب، وقد نظم هذه الأقوال العلامة محمد مولود في الكفاف فقال:

ستر المغلظة في الصلاة أربعة الأقوال فيه تاتي

هل واجب مشترط أو واجب لم يشترط أو سنة أو يندب

وهكذا الأقوال الأربعة في طهارة الخبث والشرط قفي

معناه: القول باشتراطها هو المقتفى، أي: المتبع في المذهب.

وسبب الخلاف أن النصوص التي ذكر فيها الأمر بالطهارة لم يذكر فيها أداء الصلاة، للتنزه من البول لم يقيد بالصلاة، وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ[المدثر:4]، لم يقل: في صلاتك، فلم يربط شيء من ذلك بالصلاة في النصوص.

وينبني على هذا الخلاف حكم اكتشافها بعد نهاية الصلاة، فإذا صلى الإنسان وبعد سلامه وجد في ثوبه نجساً أو في بدنه أو في مكانه فما حكم صلاته؟ على هذا الخلاف، فعلى القول الأول تبطل صلاته، فتجب عليه الإعادة مطلقاً، وهذا القول باشتراطها.

القول الثاني: أن صلاته صحيحة، ولكنها ناقصة الأجر، فيندب الإعادة في الوقت، ندباً فقط.

القول الثالث: أنه لا شيء عليه؛ لأن صلاته مثل من ترك سنة من سنن الوضوء فعلها للمستقبل فقط.

وكذلك القول الرابع بالندب.

والمالكية يرجحون في التفريق أنه إذا وجدها في ثوبه أو مكانه أو بدنه بعد نهاية الصلاة تندب له الإعادة في الوقت، والإعادة إذا قيدت بالوقت دلت على عدم بطلان الصلاة؛ لأن الإعادة في الوقت لا تكون إلا مندوبة، بخلاف الإعادة المطلقة، فإذا قيل: أعاد مطلقاً، فهذا دليل على بطلان الصلاة، وإذا قيل: أعاد في الوقت؛ فهذا دليل على صحة الصلاة؛ لأن الإعادة في الوقت لا تكون إلا مندوبة؛ لأنها مقيدة بالوقت.

وما ذكر في طهارة الخبث محله فيما يمس المصلي، فإذا كان للمصلي عمامة طويلة جداً بعضها ملقىً بالأرض، لا يتحرك بحركته وهو متنجس أو عليه نجاسة؛ فإنه لا عبرة به؛ لأن العبرة بما هو متصل بجسمه، وكذلك المكان؛ إذا كان المصلي يصلي في مكان وحوله على نفس الفراش نجس، لكنه ليس تحته، ولا يجلس عليه؛ فصلاته صحيحة، ولو كان النجس غير مماس لأعضائه في موضع سجوده، مثلاً النجس كان بين مكان جبهته وبين ركبتيه فلا يمسه شيئاً من بدنه ولا ثوبه؛ فهذا نجس لا يضر عليه، ومثل ذلك من كان يجر سفينة في النيل بحبل، وفي السفينة نجس، فيها جيف أوساخ وهو يصلي، ربطها في رجله وهو يصلي؛ فإنها مبطلة عليه لاتصالها به، لكن إذا وضع الحبل تحت رجله ولم يربطه بها وما يمسه من الحبل طاهر فصلاته صحيحة، وإذا كان الطرف الآخر في حي، مثلاً في بعير، فكان زماماً للبعير، وفيه نجس كالدم من فم البعير مثلاً، فإن ربطه برجله فتحرك بحركته بطلت صلاته، وإن لم يربطه وإنما وضعه تحت رجله فصلاته صحيحة، وهذا التفريق نظمه علي الإجهوري رحمه الله بقوله:

وجاعل حبل طرفه تحت رجله وطرف بنجس أو ملابسه اتصل

وكان يصل لا يضر وإن يكن برجل له يربط فقد أفسد العمل

إذا لم يكن بالطرف الآخر حي وإلا فما به من النجس المحذور لا يوجب الخلل

لأن الحبل مقسوم نصفين: نصف أنت تحمله، ونصف يحمله البعير، والنجس في النصف الذي يحمله البعير وليس في النصف الذي تحمله أنت.

وكذلك إذا كان المصلي يصلي في مكان وحوله مثلاً مرتبة أو فراش متنجس، وهو يمس طرف ثوبه، ولكن لا يحمل شيئاً منه فإنه لا يضر في صحة صلاته، كمن يصلي وحوله فراش النوم، أو فراش الأطفال ولا يركب شيئاً منه، ولكن يمس طرف ثوبه، محاذ له، يمسه إذا تحرك؛ فهذا لا يبطل عليه، إنما يبطل عليه ما يكون مقلاً له؛ لأن محل المصلي ما هو؟ هو ما أقله، ما حمله.

ونظير هذا أيضاً ما إذا كان الإنسان يصلي وحوله صبي في ثيابه نجاسة، مثلاً موضوع عليه حفاظة فيها نجس، فإذا حمله وأقله أبطل عليه، أما إذا كان بجنبه فأمسك بيده وقدمه وأخره وكان يمس جنبه فإنه لا يبطل عليه؛ لأنه لا يبطل عليه إلا ما حمله المصلي، أو حمل هو المصلي، فإذا دخل الصبي تحته أبطل عليه، أي: كان الصبي فيه نجاسة فدخل تحت المصلي فأصبح يقله، أو وضع فخذه أو ركبته على الصبي فإنه يبطل عليه، أما إذا لم يحمل الصبي شيئاً من المصلي ولم يحمل المصلي شيئاً من الصبي فلا بطلان عليه بمحاذاته.

ستر العورة

(وستر عورة) الشرط الثالث هو ستر العورة، والعورة هي في الأصل ما يسوء الإنسان النظر إليه منه، فكل ما يسوءك أن ينظر إليه الغير منك يسمى عورة، ويسمى سوءة وهو مشتق من المساءة؛ لأنه يسوءك النظر إليه، والحي والميت بينهما فرق، فالميت كله عورة، أي: كله سوءة، والحي له سوءة مخصوصة، ودليل ذلك قول الله تعالى: فَبَعَثَ اللهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ[المائدة:31]، (سوءة أخيه) أي: جميع بدنه؛ فالميت كله سوءة؛ ولذلك يوارى في الأرض؛ ولذلك قال الله تعالى: ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ[عبس:21]، أي: جعله ممن يقبر، وهذا تشريف للإنسان بخلاف البهائم؛ فإنها إذا ماتت لم تقبر وإنما ترمى.

وعورة الإنسان عند أهل الفقه تنقسم إلى قسمين: إلى عورة للصلاة وعورة للنظر، وبينهما فرق، فعورة النظر هي ما لا يجوز النظر إليه، وعورة الصلاة ما يبطل الصلاة كشفه، فمثلاً عند الحنابلة الذين يرون أن وجه المرأة عورة يقولون: هو من عورة النظر لا من عورة الصلاة؛ فيندب لها كشفه في الصلاة، ويكره تغطيته في الصلاة، لكنه عورة بالنسبة إلى النظر عندهم؛ لأنه يفرقون بين عورة النظر وعورة الصلاة.

وهذا التفريق بين عورة النظر وعورة الصلاة هو في كل المذاهب؛ ولذلك فإنهم يجعلون العورة تنقسم إلى: مغلظة ومخففة؛ فالعورة المخففة عندهم هي ما بين السرة والركبة، وهي في حق النظر حرام، ولا يحل النظر إليها، ولا بد من الانتباه لذلك، فكثير من الناس ترونه في الإحرام ينزل إزاره إلى أسفل بطنه، فيبدو ما تحت سرته، ولا يجوز له إبداؤه، نعم لا يبطل عليه الصلاة، لكن لا يجوز له إبداؤه لأن هذا من عورة النظر، وعورة النظر بالنسبة للرجل هي ما بين السرة والركبة؛ فالطرفان داخلان وقيل: الطرف الأعلى داخل والطرف الأسفل خارج.

إذاً الأقوال ثلاثة: القول الأول: أن السرة والركبة من العورة، القول الثاني: أن السرة والركبة ليستا من العورة، القول الثالث: أن الطرف الأعلى وهو السرة من العورة، وأن الطرف الأسفل وهو الركبة ليس من العورة، وهذا القول الأخير هو أعدل الأقوال وأوسطها، يجعل الركبة خارجها والسرة داخلة، لكن ما بينهما هو عورة الرجل بالنسبة للنظر.

أما عورة المرأة بالنسبة للنظر فهي محل خلاف مع محرمها ومع الأجنبي؛ فمع محرمها ما عدا الأطراف المغسولة في الوضوء، وما عدا الرقبة إلى موضع القلادة، فما فوق موضع القلادة ليس بعورة بالنسبة للمحرم، وكذلك الأطراف المغسولة في الوضوء، أي: اليدان إلى المرفقين والرجلان إلى الكعبين، فهذا ليس بعورة إجماعاً بالنسبة للمحرم، والشافعي رحمه الله يرى أن عورة المرأة مع محرمها مثل عورة الرجل، فما فوق السرة ليس بعورة، وما تحت الركبة ليس بعورة.

أما عورتها مع الأجنبي؛ فعورة المرأة مع الأجنبي مختلف فيها، فمذهب الجمهور أنها ما عدا الوجه والكفين؛ فالوجه والكفان عند الجمهور ليسا بعورة بالنسبة للنظر؛ لأن الله استثنى بعض إبداء الزينة للمرأة فقال: وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا[النور:31]، والذي يظهر من اللباس عادة هو الوجه والكفان؛ فما كان فيهما من الزينة استثناه الله للنساء فأحل لهن إبداءه مطلقاً، قال: (وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا)، فالجمهور على أن ما ظهر منها ما كان في الوجه من الكحل وما كان في اليدين من الخضاب أو الخواتم، هذا هو ما ظهر منها.

وذهب بعض الفقهاء إلى أن ما ظهر منها هو ما كان في اللباس من الزينة؛ فما كان في اللباس من الزينة يجوز لها إبداءه، وما لم يكن في اللباس فلا بد من ستره؛ لأن اللباس لا يجب ستر اللباس، ولأنه يقتضي التسلسل، فتستر هذا اللباس فوقه وتستره بلباس آخر وهكذا.

واليوم تسمعون أهل التشدد يجمعون بين القولين فيقولون: لا يجوز إبداء الوجه ولا الكفين، ولا يجوز أيضاً إبداء اللباس الجميل، فيبطلون الاستثناء الذي في الآية: وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا[النور:31]، وقطعاً الآية استثنت الآية شيئاً، لك أن تقول: هو ما كان في الوجه والكفين، ولك أن تقول: ما كان في اللباس، لكن لا يجوز أن تخرجهما معاً؛ لأنك حينئذ أبطلت دلالة الآية وعطلتها، وهذا تعطيل للقرآن.

فالجمهور قالوا: الزينة التي أحل الله إبداءها ما كان في الوجه والكفين من الزينة، وبعض الحنابلة رأوا أنها ما كان في اللباس، وقد روي ذلك عن بعض الصحابة، وروي القولان عن بعض الصحابة، والجمهور يستدلون بعدد من الأحاديث الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم، ومنها ثمانية أحاديث صحيحة في إبداء الوجه، منها حديث الخثعمية فإنها: ( أتت النبي صلى الله عليه وسلم تسأله فقالت: يا رسول الله! إن فريضة الله في الحج أدركت أبي شيخاً كبيراً، لا يمسك نفسه على الرحل، أفأحج عنه؟ وكانت رائعة الجمال، وكان الفضل رديف النبي صلى الله عليه وسلم، فكان ينظر إليها وتنظر إليه، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يصرف وجه الفضل إلى الجهة الأخرى )، وهذا الحديث في الصحيحين ولا علة له، وأيضاً فإنه كان بعد التحلل، وبعض الحنابلة يردون على الاستدلال بهذا الحديث يقولون: كانت إذ ذاك محرمة، والمحرمة لا يحل لها ستر وجهها وكفيها؛ لأن إحرامها في وجهها وكفيها.

ويجاب عن هذا بأنه كان بعد التحلل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ما أردف الفضل إلا بعد أن خرج من منىً إلى مكة، وكان قد أردف قبل ذلك أسامة بن زيد، فرديفه من مزدلفة إلى الجمرة أسامة بن زيد، والفضل أردفه من الجمرة إلى مكة.

وأيضاً فالحنابلة أنفسهم الذين يقولون هذا لا يرون أن للمحرمة إبداء الوجه بحضرة الرجال، بل يرى بعضهم أنها تغطي وجهها بحضرة الرجال، ويستدلون لذلك بحديث عائشة أنهن كن إذا مر بهن الركبان أسدلن على وجوههن، والحديث يتعلق بأمهات المؤمنين، وأمهات المؤمنين يجب عليهن الحجاب الذي لا يجب على غيرهن من النساء؛ لأن الله خصهن به في القرآن فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ[الأحزاب:53]، وهذا قطعاً مختص بأمهات المؤمنين، ولا يمكن أن يلحق بهن من سواهن من النساء للتفريق الشرعي بينهن؛ فقد قال الله تعالى: يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ[الأحزاب:32]، فليس أمهات المؤمنين كأحد من النساء؛ ولذلك يجب عليهن من الستر ما لا يجب على غيرهن؛ فلا يكفيهن اللباس، فالنساء غير أمهات المؤمنين يكفيهن من الستر اللباس، وأمهات المؤمنين لا بد أن يكون بينهن وبين الرجال حجاب.

ولذلك كن يسترن وجوههن حتى في الإحرام، وأيضاً فهذا فعل غير المعصوم، ولم تخبر عائشة أن ذلك كان في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ولم تخبر أنه كان بحضرته وإقراره، والنبي صلى الله عليه وسلم بين أن إحرام المرأة في وجهها وكفيها، والأصل عدم الاستثناء إلا بدليل.

وأيضاً لو كان الوجه واليدان عورة لما جاز كشفهما في الصلاة؛ لأن الصلاة يطلب فيها الستر، وكذلك في الإحرام؛ فلو كانا عورة لما كشفا في الإحرام، والإحرام لا بد فيه من ستر العورة مثل غيره.

وفي الباب أحاديث متعددة عن النبي صلى الله عليه وسلم كحديث وقوفه على النساء ووعظه لهن: (فقامت امرأة من سطة النساء في وجهها سعفة )، (في وجهها سفعة) أي: تغير لون ما تحت العينين، وهذه المرأة هو لا يعرفها؛ لأنها ليست محرماً له، ولو كانت محرماً له لعرفها، وهو لم يعرفها؛ لأنه قال: (قامت امرأة من سطة النساء) أي: من أواسطهن، فليست بالكبيرة ولا بالصغيرة ولا بالجميلة ولا بالدميمة، (في وجهها سفعة) وقد رأى وجهها ورأى اللون الذي فيه؛ فدل ذلك على أنهن كن يكشفن ذلك بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم وفي سلطانه بالمدينة، ولو كان ذلك حراماً لوجب على النبي صلى الله عليه وسلم تغييره؛ لأنه في سلطانه وتحت إمرته.

أما ما سوى ذلك فهو عورة.

واختلف في القدمين بالنسبة للمرأة؛ فذهب المزني من الشافعية إلى أن قدمي المرأة ليسا بعورة، لا في الصلاة ولا في النظر، وذهب أبو حنيفة إلى أن أعلى القدمين وهو ظاهرهما عورة، وأن باطنهما ليس بعورة، وهو الذي يلي النعل، وأصل هذا الخلاف حديث أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم حرم الإسبال فقالت أم سلمة: (يا رسول الله، فما تفعل النساء بأعقابها؟ قال: يرخين شبراً، قالت: إذاً ينكشفن، قال: يرخين ذراعاً )، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أذن لهن أن يرخين شبراً، والشبر يستر أعلى الرجل ولا يستر أسفلها، وقوله: (يرخين ذراعاً) لم يقله إلا بعد أن قالت أم سلمة: (إذاً ينكشفن). وأيضاً هل الشبر بعد الذراع أو الشبر بدل عن الذراع؟ كل ذلك محتمل في الدلالة، فمن المحتمل أن يكون قوله: (يرخين ذراعاً) نسخاً لقوله: (يرخين شبراً) فيكون بدلاً عنه، ومن المحتمل أن يكون زيادة عليه، فيكون الذراع بعد الشبر مسموحاً به، ولا يكون هذا إسبالاً ولا تعاقب المرأة عليه.

أما إرخاؤها لأكثر من ذلك فهو غير مباح؛ لأن الأصل حرمة الإسبال مطلقاً إلا ما استثناه النبي صلى الله عليه وسلم، وقد استثنى للمرأة ما ذكر، وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من الإسبال فقال: ( لا ينظر الله إلى من جر ثوبه خيلاء )، وقال: ( ما أسفل الكعبين في النار ).

وأهل العلم اختلفوا أيضاً في قضية الإسبال، وهو راجع إلى الخلاف السابق في المطلق هل يحمل على المقيد أم لا؟ فذهب بعضهم إلى أن المطلق يحمل على المقيد، وهذا مذهب الجمهور، فيقولون: الإسبال المحرم هو الإسبال بقصد الخيلاء؛ لأنه قال: ( لا ينظر الله إلى من جر ثوبه خيلاء )، فهذه علة نصية، وهذا يدل على أن الحكم تعللي لا تعبدي، وأن علته هي الخيلاء، فإذا حصلت الخيلاء حرم الإسبال، وإذا لم تحصل لم يحصل الحكم؛ لأن الحكم يدور مع علته حيث دار.

القول الثاني: أن المطلق يبقى على إطلاقه، والمقيد يبقى على قيده، فمن جر ثوبه خيلاء فقد وقع في محرمين: الإسبال والخيلاء، ومن جر ثوبه من غير خيلاء فقد وقع في محرم واحد وهو الإسبال؛ لحديث: ( ما أسفل الكعبين في النار )، فيبقى المطلق على إطلاقه والمقيد على قيده؛ فالمقيد فيه حرمتان، والمطلق فيه حرمة واحدة.

وعموماً هذه المسائل التي يكون فيها الدليل محتملاً للقولين ومحتملاً للوجهين لا يتشدد فيها، ومن القواعد الشرعية أنه لا إنكار في مسائل الخلاف، وهذه قاعدة ذكرها الأقدمون، وقد اعترض عليها شيخ الإسلام ابن تيمية فقال:

وليس كل خلاف جاء معتبراً إلا خلافاً له حظ من النظر

فالصحيح أن يقال: لا إنكار في مسائل الاجتهاد، وقد رد عليه الكمال ابن الهمام الحنفي فقال: (إذا ثبت أن أبا حنيفة ومالكاً والشافعي وأحمد أهل اجتهاد، فكل ما اختلفوا فيه فهو من مسائل الاجتهاد)، وقد ثبت أنهم أهل اجتهاد ورفعة، فإذاً كيف نعرف أن المسألة من مسائل الاجتهاد، قال ابن الهمام: إذا اختلف فيها المجتهدون، فكل مسألة اختلف فيها المجتهدون دل ذلك على أنها محل للاجتهاد؛ لأنهم أهل اجتهاد، والأمة شهدت لهم بذلك، فإذا اختلفوا في مسألة دل ذلك على أنها لم يحسمها الدليل، إما من ناحية الصحة، وإما من ناحية الدلالة، إما من ناحية الرواية وإما من ناحية الدلالة.

طهارة الحدث

(وطهر الحدث) هذا الشرط الرابع من شروط الصلاة هو طهارة الحدث، والمقصود بها هو رفع المنع المرتب على الأعضاء، وقد سبق أن الحدث يطلق على ثلاثة أمور: الخارج من أحد السبيلين، والخروج، والمنع المرتب على الأعضاء هو الأثر الذي يبقى بعد خروجه.

إذاً الحدث يطلق على ثلاثة أمور: على الخارج نفسه وعلى خروجه وعلى المنع الذي يرتب على الأعضاء بعده، أي: الأثر الذي يترتب على الأعضاء، وهو منع الإنسان من الصلاة أو الطواف أو نحو ذلك؛ فهذا المنع هو الذي يرفع، ولذلك الشرط الذي هو من شروط صحة الصلاة: طهارة الحدث، وهي شرط بالإجماع، وليس فيها الخلاف السابق في طهارة الخبث أو في ستر العورة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث ما لم يتوضأ )، ولأن الله تعالى يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى المَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا[المائدة:6]، ولأنه قال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا[النساء:43]، فهنا قال: ((وَلا جُنُبًا)) أي: ولا تقربوا الصلاة جنباً، والجنب يطلق على المفرد وعلى المثنى وعلى الجمع وعلى المذكر وعلى المؤنث بلفظ واحد، فيقال: رجل جنب وامرأة جنب ورجلان جنب، ورجال جنب وامرأتان جنب ونساء جنب، لفظ واحد مثل الضيف، الضيف يطلق على الواحد والاثنين والثلاثة، والخصم يطلق على الجمع والمفرد؛ وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا المِحْرَابَ * إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُدَ[ص:21-22]، وهما ملكان، فسماهما الله خصماً.

(شرطها الاستقبال) الضمير مختلس هنا؛ لأن الألف اجتمعت مع اللام (أل) الساكنة، وحينئذ يحذف أحد الساكنين إذا اجتمعا.

(شرطها) أي: شرط الصلاة، وهو نكرة مضافة إلى الضمير فتعم، والمعنى: شروطها.

وهذا الاستقبال له ست درجات:

أولاً: قبلة المعاينة، أي: أن تكون عند الكعبة في داخل المسجد الحرام، والكعبة بين يديك فتعاينها، فإذا انحرف الإنسان عنها وكان غير أعمى فانحرف عنها ولو قدر أنملة بطلت صلاته؛ لأن الكعبة بين يديه ووجب عليه وجوباً قاطعاً أن يستقبلها، فإذا انحرف وهي بين يديه فلا يقبل انحرافه إلا إذا كان أعمى؛ والأعمى معذور، يرد إليها.

ثانياً: قبلة المسامتة، وهي من كان بمكة أو بالمسجد الحرام، ولكن لا يرى الكعبة؛ لأن بينه وبينها جداراً أو سواري، لكنه موقن أنها وراء هذا الجدار؛ فهذه مثل المسامتة، بحيث لو زال الجدار لرآها بين يديه.

ثالثاً: قبلة الوحي، وهي مثل قبلة المدينة، فكل مسجد صلى فيه النبي صلى الله عليه وسلم فإنه لا يقر على الخطأ قطعاً، فإذا صلى إلى جهة الكعبة فمعناه أن تلك القبلة هي التي صلى إليه النبي صلى الله عليه وسلم قطعاً.

رابعاً: قبلة الإجماع، وهي في حق المساجد التي صلى فيها الصحابة والتابعون، وكانت مراكز كبرى في الإسلام؛ كمسجد البصرة الذي بناه عتبة بن غزوان بأمر أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، وكمسجد صنعاء الذي بناه فيروز بن باذان بأمر النبي صلى الله عليه وسلم، وقد أمره أن يبني لأهل صنعاء مسجداً بين بستان باذان والصخرة المنمنمة، وأن يجعل قبلته بين نقم وعيبان، فقبلة صنعاء هي بين هذين الجبلين.

ومثل ذلك مسجد الكوفة، وهو مسجد علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وقد كان يعلق فيه مائة ألف سيف في عهد علي، ومعناه ذلك أنه يصلي فيه من المقاتلين فقط مائة ألف بدون الصبيان والشيوخ الكبار والنساء، وكان له أربعة مؤذنين؛ كل مؤذن يؤذن على زاوية من أركانه، ولا يسمع صوت المؤذن الآخر.

وكذلك جامع بني أمية بدمشق، فقد بناه معاوية رضي الله عنه، وهو من الجوامع الكبرى، وقد صلى فيه عدد كبير من الصحابة، ومثل ذلك بيت المقدس الذي بناه أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه، فصلى فيه عدد كبير من الصحابة.

وكان مسجد الكوفة في عهد علي يصلي فيه ثمانمائة من الذين بايعوا تحت الشجرة وحل عليهم رضوان الله الأكبر الذي لا سخط بعده.

وكذلك الفسطاط الذي أقامه عمرو بن العاص بمصر، فقد صلى فيه عدد كبير من الصحابة والتابعين؛ فكانت قبلته قبلة إجماع. فهذه المساجد قبلتها قبلة إجماع.

خامساً: قبلة الاجتهاد، مثل قبلة مسجدنا هذا، فنحن لا نرى الكعبة ولا نسامتها، ولم يصل النبي صلى الله عليه وسلم في مسجدنا، ولم يصل فيها عدد كبير من الصحابة والتابعين عبر القرون حتى ينعقد الإجماع على قبلته، ولكن نحن اجتهدنا، والاجتهاد بالقبلة يحتاج فيه إلى معرفة بالعلامات، بالإضافة إلى المعرفة بالفقه؛ فلا يكفي فيه المعرفة بالفقه فقط، فقد يكون الإنسان فقيهاً ولكن لا يعرف جهة القبلة، وقد يكون ماهراً لجهة القبلة ولو لم يكن فقيهاً؛ لأن العبرة في ذلك بعلم الهيئة وعلم الجغرافيا ومطالع النجوم؛ فيعرف الإنسان تحديد الجهة، والآن أيضاً أصبحت الآلات الحديثة يمكن الاعتماد عليها؛ ففي بعض المواقع في الأنترنت يمكن الاتصال بالأقمار الصناعية وتحديد جهة القبلة تماماً، فيمكن أن تسحب إلى محراب كل مسجد حتى تعرف استقامته من ميله.

وهذه القبلة، قبلة الاجتهاد أهل كل بلد يعرفون ما يستدلون به من النجوم، وما يستدلون به كذلك في مطلع الشمس أو مغربها ومهب الريح ومجاري الأنهار، ونحو ذلك من الأمور التي يعرفون بها الجهات.

سادساً: قبلة النافلة في السفر على الراحلة أنى توجهت به؛ فالإنسان إذا كان يصلي النافلة على راحلته فقبلته جهة اتجاهه، يصلي إلى الوجه الذي يتجه إليه، وقد ثبت في حديث أنس: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي صلاة الليل على حماره متجهاً إلى خيبر )، وخيبر عكس القبلة تماماً، وهذا في العام السابع من الهجرة من فتح خيبر، وكذلك ثبت في حديث ابن عمر: ( أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يصلي صلاة الليل على بعيره )، أي: على ناقته، ( متجهاً إلى نجد )، والقبلة ستكون حينئذٍ عن يمينه، وهو متجه إلى نجد من المدينة؛ ولذلك يجوز للإنسان المسافر إذا كان في الطائرة أو في السيارة أن يصلي إلى جهة مسيره النافلة، أما الفريضة فلا يصليها إلا إلى جهة القبلة، واختلف في الوتر؛ فذهب بعضهم إلى أنه لا بد أيضاً أن يكون إلى جهة القبلة، وذهب آخرون إلى أنه يمكن أن يصلى إلى غيرها، وقد كان بعض الصحابة إذا أراد أن يحرم بالوتر وجه راحلته إلى جهة القبلة فأحرم، ثم انطلق في اتجاهه حتى يكمل الوتر في الاتجاه الذي يريد الذهاب إليه، لكن في وقت الإحرام يكون مستقبلاً.

واختلف هل يقاس الحضر على السفر في صلاة النافلة، فإذا كنت آتياً لهذا المسجد مثلاً أو غيره من المساجد في وقت صلاة الفجر، ولم تركع ركعتي الفجر، وخشيت أن يسبقك الإمام بالصلاة، وركعتا الفجر بالغ النبي صلى الله عليه وسلم في الترغيب فيهما فقال: ( ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها )، وفي سنن أبي داود بإسناد ضعيف أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( صلوهما ولو طردتكم الخيل )، فهذا تشديد في صلاتهما، فهل يجوز أن تصليهما في سيارتك متجهاً اتجاهات الشوارع أو لا يجوز ذلك إلا في السفر؟ هذا محل خلاف بين أهل العلم، وأصله هل الصلاة على الراحلة في السفر من الرخصة أو من العزيمة؟ فإذا كانت عزيمة فلا مانع من القياس عليها، وإذا كانت رخصة فالرخص لا يدخلها القياس، والإنسان قد يضطر لعمل بمثل هذا النوع من الأقوال، وليس هذا من تتبع الرخص ولا من الخروج من التكليف؛ لأن الإنسان قد يخاف أن يفوته أداء الركعتين وهو متجه إلى الحرم، أو متجه إلى مسجد من المساجد في سيارته، ولو وقفها وأراد أن يصلي على الشارع ما استطاع؛ فلذلك يمكن أن يأخذ بمثل هذا النوع فيركع ركعتي الفجر، وبعض الحنابلة يوسع في هذا فيجعل الإنسان يصلي كل نوافله إذا شاء على سيارته أو دابته في الحضر كما يفعل في السفر.

(طهر الخبث) هذا الشرط الثاني من شروطها وهو طهارة الخبث، والخبث ما معناه؟ النجس، والمقصود بتطهير الإنسان من النجاسة؛ لأن الله تعالى يقول: وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ[المدثر:4]، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم بالغ في الأمر بالاستتار من البول وقال: ( تنزهوا من البول؛ فإن عامة عذاب القبر منه )، وقال: ( أما إنهما ليعذبان، وما يعذبان في كبير)، ثم قال: ( بلى، أما أحدهما فكان لا يستتر من البول، وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة ).

ولكن اختلف في هذا الشرط في المذهب المالكي على أربعة أقوال:

القول الأول: أن طهارة الخبث شرط لصحة الصلاة، فإذا وقعت النجاسة على المصلي وهو في الصلاة بطلت صلاته، وإذا تذكر في أثناء الصلاة أن ثوبه نجس بطلت صلاته، لكن إذا تذكرها في نعله وهو في الصلاة فإن لم تتحرك بحركة رجله فإنه يخلعها في مكانه، ويستمر في صلاته، وقد ثبت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم عندما خلع نعله في الصلاة؛ لأنه أحس بنجس فيها فتركها مكانها، ومحل ذلك إذا لم تتحرك بحركة المصلي؛ لأن طهارة الخبث في الصلاة لا بد منها؛ ولذلك عرف ابن عرفة الطهارة بأنها صفة حكمية توجب لموصوفها جواز استباحة الصلاة به أو فيه أو له أو عليه، فقولنا: (به) إذا كان ثوباً (أو فيه) إذا كان مكاناً (أو له) إذا كان إنساناً (أو عليه) إذا كان جنازة؛ فهي إذاً أربع صور هي التي يحتاج إلى الطهارة فيها للصلاة، (به) إذا كان ثوباً؛ فالثوب النجس لا يصلى به (أو فيه) إذا كان مكاناً، (أو له) إذا كان إنساناً، وهذه طهارة الحدث، وطهارة الخبث أيضاً في بدنه، (أو عليه) إذا كان ميتاً؛ فالميت لا يصلى عليه قبل أن يغسل؛ فلذلك القول الأول لدى المالكية أن طهارة الخبث شرط لصحة الصلاة.

القول الثاني: أنها واجب غير شرط، فيجب على الإنسان أن يطهر بدنه وثوبه ومكانه، وإذا لم يفعل فهو آثم، ولكن صلاته صحيحة.

القول الثالث: أن طهارة الخبث سنة في الصلاة؛ فلا تبطل الصلاة بوجود النجاسة في البدن أو في الثوب أو في المكان.

القول الرابع: أن طهارة الخبث مندوبة في الصلاة.

وهذه الأقوال الأربعة نظيرها أيضاً في ستر العورة، فستر العورة اختلف فيه عند المالكية على أربعة أقوال:

قيل: هو واجب شرط، وقيل: واجب غير شرط، وقيل: سنة، وقيل: مندوب، وقد نظم هذه الأقوال العلامة محمد مولود في الكفاف فقال:

ستر المغلظة في الصلاة أربعة الأقوال فيه تاتي

هل واجب مشترط أو واجب لم يشترط أو سنة أو يندب

وهكذا الأقوال الأربعة في طهارة الخبث والشرط قفي

معناه: القول باشتراطها هو المقتفى، أي: المتبع في المذهب.

وسبب الخلاف أن النصوص التي ذكر فيها الأمر بالطهارة لم يذكر فيها أداء الصلاة، للتنزه من البول لم يقيد بالصلاة، وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ[المدثر:4]، لم يقل: في صلاتك، فلم يربط شيء من ذلك بالصلاة في النصوص.

وينبني على هذا الخلاف حكم اكتشافها بعد نهاية الصلاة، فإذا صلى الإنسان وبعد سلامه وجد في ثوبه نجساً أو في بدنه أو في مكانه فما حكم صلاته؟ على هذا الخلاف، فعلى القول الأول تبطل صلاته، فتجب عليه الإعادة مطلقاً، وهذا القول باشتراطها.

القول الثاني: أن صلاته صحيحة، ولكنها ناقصة الأجر، فيندب الإعادة في الوقت، ندباً فقط.

القول الثالث: أنه لا شيء عليه؛ لأن صلاته مثل من ترك سنة من سنن الوضوء فعلها للمستقبل فقط.

وكذلك القول الرابع بالندب.

والمالكية يرجحون في التفريق أنه إذا وجدها في ثوبه أو مكانه أو بدنه بعد نهاية الصلاة تندب له الإعادة في الوقت، والإعادة إذا قيدت بالوقت دلت على عدم بطلان الصلاة؛ لأن الإعادة في الوقت لا تكون إلا مندوبة، بخلاف الإعادة المطلقة، فإذا قيل: أعاد مطلقاً، فهذا دليل على بطلان الصلاة، وإذا قيل: أعاد في الوقت؛ فهذا دليل على صحة الصلاة؛ لأن الإعادة في الوقت لا تكون إلا مندوبة؛ لأنها مقيدة بالوقت.

وما ذكر في طهارة الخبث محله فيما يمس المصلي، فإذا كان للمصلي عمامة طويلة جداً بعضها ملقىً بالأرض، لا يتحرك بحركته وهو متنجس أو عليه نجاسة؛ فإنه لا عبرة به؛ لأن العبرة بما هو متصل بجسمه، وكذلك المكان؛ إذا كان المصلي يصلي في مكان وحوله على نفس الفراش نجس، لكنه ليس تحته، ولا يجلس عليه؛ فصلاته صحيحة، ولو كان النجس غير مماس لأعضائه في موضع سجوده، مثلاً النجس كان بين مكان جبهته وبين ركبتيه فلا يمسه شيئاً من بدنه ولا ثوبه؛ فهذا نجس لا يضر عليه، ومثل ذلك من كان يجر سفينة في النيل بحبل، وفي السفينة نجس، فيها جيف أوساخ وهو يصلي، ربطها في رجله وهو يصلي؛ فإنها مبطلة عليه لاتصالها به، لكن إذا وضع الحبل تحت رجله ولم يربطه بها وما يمسه من الحبل طاهر فصلاته صحيحة، وإذا كان الطرف الآخر في حي، مثلاً في بعير، فكان زماماً للبعير، وفيه نجس كالدم من فم البعير مثلاً، فإن ربطه برجله فتحرك بحركته بطلت صلاته، وإن لم يربطه وإنما وضعه تحت رجله فصلاته صحيحة، وهذا التفريق نظمه علي الإجهوري رحمه الله بقوله:

وجاعل حبل طرفه تحت رجله وطرف بنجس أو ملابسه اتصل

وكان يصل لا يضر وإن يكن برجل له يربط فقد أفسد العمل

إذا لم يكن بالطرف الآخر حي وإلا فما به من النجس المحذور لا يوجب الخلل

لأن الحبل مقسوم نصفين: نصف أنت تحمله، ونصف يحمله البعير، والنجس في النصف الذي يحمله البعير وليس في النصف الذي تحمله أنت.

وكذلك إذا كان المصلي يصلي في مكان وحوله مثلاً مرتبة أو فراش متنجس، وهو يمس طرف ثوبه، ولكن لا يحمل شيئاً منه فإنه لا يضر في صحة صلاته، كمن يصلي وحوله فراش النوم، أو فراش الأطفال ولا يركب شيئاً منه، ولكن يمس طرف ثوبه، محاذ له، يمسه إذا تحرك؛ فهذا لا يبطل عليه، إنما يبطل عليه ما يكون مقلاً له؛ لأن محل المصلي ما هو؟ هو ما أقله، ما حمله.

ونظير هذا أيضاً ما إذا كان الإنسان يصلي وحوله صبي في ثيابه نجاسة، مثلاً موضوع عليه حفاظة فيها نجس، فإذا حمله وأقله أبطل عليه، أما إذا كان بجنبه فأمسك بيده وقدمه وأخره وكان يمس جنبه فإنه لا يبطل عليه؛ لأنه لا يبطل عليه إلا ما حمله المصلي، أو حمل هو المصلي، فإذا دخل الصبي تحته أبطل عليه، أي: كان الصبي فيه نجاسة فدخل تحت المصلي فأصبح يقله، أو وضع فخذه أو ركبته على الصبي فإنه يبطل عليه، أما إذا لم يحمل الصبي شيئاً من المصلي ولم يحمل المصلي شيئاً من الصبي فلا بطلان عليه بمحاذاته.

(وستر عورة) الشرط الثالث هو ستر العورة، والعورة هي في الأصل ما يسوء الإنسان النظر إليه منه، فكل ما يسوءك أن ينظر إليه الغير منك يسمى عورة، ويسمى سوءة وهو مشتق من المساءة؛ لأنه يسوءك النظر إليه، والحي والميت بينهما فرق، فالميت كله عورة، أي: كله سوءة، والحي له سوءة مخصوصة، ودليل ذلك قول الله تعالى: فَبَعَثَ اللهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ[المائدة:31]، (سوءة أخيه) أي: جميع بدنه؛ فالميت كله سوءة؛ ولذلك يوارى في الأرض؛ ولذلك قال الله تعالى: ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ[عبس:21]، أي: جعله ممن يقبر، وهذا تشريف للإنسان بخلاف البهائم؛ فإنها إذا ماتت لم تقبر وإنما ترمى.

وعورة الإنسان عند أهل الفقه تنقسم إلى قسمين: إلى عورة للصلاة وعورة للنظر، وبينهما فرق، فعورة النظر هي ما لا يجوز النظر إليه، وعورة الصلاة ما يبطل الصلاة كشفه، فمثلاً عند الحنابلة الذين يرون أن وجه المرأة عورة يقولون: هو من عورة النظر لا من عورة الصلاة؛ فيندب لها كشفه في الصلاة، ويكره تغطيته في الصلاة، لكنه عورة بالنسبة إلى النظر عندهم؛ لأنه يفرقون بين عورة النظر وعورة الصلاة.

وهذا التفريق بين عورة النظر وعورة الصلاة هو في كل المذاهب؛ ولذلك فإنهم يجعلون العورة تنقسم إلى: مغلظة ومخففة؛ فالعورة المخففة عندهم هي ما بين السرة والركبة، وهي في حق النظر حرام، ولا يحل النظر إليها، ولا بد من الانتباه لذلك، فكثير من الناس ترونه في الإحرام ينزل إزاره إلى أسفل بطنه، فيبدو ما تحت سرته، ولا يجوز له إبداؤه، نعم لا يبطل عليه الصلاة، لكن لا يجوز له إبداؤه لأن هذا من عورة النظر، وعورة النظر بالنسبة للرجل هي ما بين السرة والركبة؛ فالطرفان داخلان وقيل: الطرف الأعلى داخل والطرف الأسفل خارج.

إذاً الأقوال ثلاثة: القول الأول: أن السرة والركبة من العورة، القول الثاني: أن السرة والركبة ليستا من العورة، القول الثالث: أن الطرف الأعلى وهو السرة من العورة، وأن الطرف الأسفل وهو الركبة ليس من العورة، وهذا القول الأخير هو أعدل الأقوال وأوسطها، يجعل الركبة خارجها والسرة داخلة، لكن ما بينهما هو عورة الرجل بالنسبة للنظر.

أما عورة المرأة بالنسبة للنظر فهي محل خلاف مع محرمها ومع الأجنبي؛ فمع محرمها ما عدا الأطراف المغسولة في الوضوء، وما عدا الرقبة إلى موضع القلادة، فما فوق موضع القلادة ليس بعورة بالنسبة للمحرم، وكذلك الأطراف المغسولة في الوضوء، أي: اليدان إلى المرفقين والرجلان إلى الكعبين، فهذا ليس بعورة إجماعاً بالنسبة للمحرم، والشافعي رحمه الله يرى أن عورة المرأة مع محرمها مثل عورة الرجل، فما فوق السرة ليس بعورة، وما تحت الركبة ليس بعورة.

أما عورتها مع الأجنبي؛ فعورة المرأة مع الأجنبي مختلف فيها، فمذهب الجمهور أنها ما عدا الوجه والكفين؛ فالوجه والكفان عند الجمهور ليسا بعورة بالنسبة للنظر؛ لأن الله استثنى بعض إبداء الزينة للمرأة فقال: وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا[النور:31]، والذي يظهر من اللباس عادة هو الوجه والكفان؛ فما كان فيهما من الزينة استثناه الله للنساء فأحل لهن إبداءه مطلقاً، قال: (وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا)، فالجمهور على أن ما ظهر منها ما كان في الوجه من الكحل وما كان في اليدين من الخضاب أو الخواتم، هذا هو ما ظهر منها.

وذهب بعض الفقهاء إلى أن ما ظهر منها هو ما كان في اللباس من الزينة؛ فما كان في اللباس من الزينة يجوز لها إبداءه، وما لم يكن في اللباس فلا بد من ستره؛ لأن اللباس لا يجب ستر اللباس، ولأنه يقتضي التسلسل، فتستر هذا اللباس فوقه وتستره بلباس آخر وهكذا.

واليوم تسمعون أهل التشدد يجمعون بين القولين فيقولون: لا يجوز إبداء الوجه ولا الكفين، ولا يجوز أيضاً إبداء اللباس الجميل، فيبطلون الاستثناء الذي في الآية: وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا[النور:31]، وقطعاً الآية استثنت الآية شيئاً، لك أن تقول: هو ما كان في الوجه والكفين، ولك أن تقول: ما كان في اللباس، لكن لا يجوز أن تخرجهما معاً؛ لأنك حينئذ أبطلت دلالة الآية وعطلتها، وهذا تعطيل للقرآن.

فالجمهور قالوا: الزينة التي أحل الله إبداءها ما كان في الوجه والكفين من الزينة، وبعض الحنابلة رأوا أنها ما كان في اللباس، وقد روي ذلك عن بعض الصحابة، وروي القولان عن بعض الصحابة، والجمهور يستدلون بعدد من الأحاديث الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم، ومنها ثمانية أحاديث صحيحة في إبداء الوجه، منها حديث الخثعمية فإنها: ( أتت النبي صلى الله عليه وسلم تسأله فقالت: يا رسول الله! إن فريضة الله في الحج أدركت أبي شيخاً كبيراً، لا يمسك نفسه على الرحل، أفأحج عنه؟ وكانت رائعة الجمال، وكان الفضل رديف النبي صلى الله عليه وسلم، فكان ينظر إليها وتنظر إليه، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يصرف وجه الفضل إلى الجهة الأخرى )، وهذا الحديث في الصحيحين ولا علة له، وأيضاً فإنه كان بعد التحلل، وبعض الحنابلة يردون على الاستدلال بهذا الحديث يقولون: كانت إذ ذاك محرمة، والمحرمة لا يحل لها ستر وجهها وكفيها؛ لأن إحرامها في وجهها وكفيها.

ويجاب عن هذا بأنه كان بعد التحلل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ما أردف الفضل إلا بعد أن خرج من منىً إلى مكة، وكان قد أردف قبل ذلك أسامة بن زيد، فرديفه من مزدلفة إلى الجمرة أسامة بن زيد، والفضل أردفه من الجمرة إلى مكة.

وأيضاً فالحنابلة أنفسهم الذين يقولون هذا لا يرون أن للمحرمة إبداء الوجه بحضرة الرجال، بل يرى بعضهم أنها تغطي وجهها بحضرة الرجال، ويستدلون لذلك بحديث عائشة أنهن كن إذا مر بهن الركبان أسدلن على وجوههن، والحديث يتعلق بأمهات المؤمنين، وأمهات المؤمنين يجب عليهن الحجاب الذي لا يجب على غيرهن من النساء؛ لأن الله خصهن به في القرآن فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ[الأحزاب:53]، وهذا قطعاً مختص بأمهات المؤمنين، ولا يمكن أن يلحق بهن من سواهن من النساء للتفريق الشرعي بينهن؛ فقد قال الله تعالى: يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ[الأحزاب:32]، فليس أمهات المؤمنين كأحد من النساء؛ ولذلك يجب عليهن من الستر ما لا يجب على غيرهن؛ فلا يكفيهن اللباس، فالنساء غير أمهات المؤمنين يكفيهن من الستر اللباس، وأمهات المؤمنين لا بد أن يكون بينهن وبين الرجال حجاب.

ولذلك كن يسترن وجوههن حتى في الإحرام، وأيضاً فهذا فعل غير المعصوم، ولم تخبر عائشة أن ذلك كان في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ولم تخبر أنه كان بحضرته وإقراره، والنبي صلى الله عليه وسلم بين أن إحرام المرأة في وجهها وكفيها، والأصل عدم الاستثناء إلا بدليل.

وأيضاً لو كان الوجه واليدان عورة لما جاز كشفهما في الصلاة؛ لأن الصلاة يطلب فيها الستر، وكذلك في الإحرام؛ فلو كانا عورة لما كشفا في الإحرام، والإحرام لا بد فيه من ستر العورة مثل غيره.

وفي الباب أحاديث متعددة عن النبي صلى الله عليه وسلم كحديث وقوفه على النساء ووعظه لهن: (فقامت امرأة من سطة النساء في وجهها سعفة )، (في وجهها سفعة) أي: تغير لون ما تحت العينين، وهذه المرأة هو لا يعرفها؛ لأنها ليست محرماً له، ولو كانت محرماً له لعرفها، وهو لم يعرفها؛ لأنه قال: (قامت امرأة من سطة النساء) أي: من أواسطهن، فليست بالكبيرة ولا بالصغيرة ولا بالجميلة ولا بالدميمة، (في وجهها سفعة) وقد رأى وجهها ورأى اللون الذي فيه؛ فدل ذلك على أنهن كن يكشفن ذلك بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم وفي سلطانه بالمدينة، ولو كان ذلك حراماً لوجب على النبي صلى الله عليه وسلم تغييره؛ لأنه في سلطانه وتحت إمرته.

أما ما سوى ذلك فهو عورة.

واختلف في القدمين بالنسبة للمرأة؛ فذهب المزني من الشافعية إلى أن قدمي المرأة ليسا بعورة، لا في الصلاة ولا في النظر، وذهب أبو حنيفة إلى أن أعلى القدمين وهو ظاهرهما عورة، وأن باطنهما ليس بعورة، وهو الذي يلي النعل، وأصل هذا الخلاف حديث أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم حرم الإسبال فقالت أم سلمة: (يا رسول الله، فما تفعل النساء بأعقابها؟ قال: يرخين شبراً، قالت: إذاً ينكشفن، قال: يرخين ذراعاً )، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أذن لهن أن يرخين شبراً، والشبر يستر أعلى الرجل ولا يستر أسفلها، وقوله: (يرخين ذراعاً) لم يقله إلا بعد أن قالت أم سلمة: (إذاً ينكشفن). وأيضاً هل الشبر بعد الذراع أو الشبر بدل عن الذراع؟ كل ذلك محتمل في الدلالة، فمن المحتمل أن يكون قوله: (يرخين ذراعاً) نسخاً لقوله: (يرخين شبراً) فيكون بدلاً عنه، ومن المحتمل أن يكون زيادة عليه، فيكون الذراع بعد الشبر مسموحاً به، ولا يكون هذا إسبالاً ولا تعاقب المرأة عليه.

أما إرخاؤها لأكثر من ذلك فهو غير مباح؛ لأن الأصل حرمة الإسبال مطلقاً إلا ما استثناه النبي صلى الله عليه وسلم، وقد استثنى للمرأة ما ذكر، وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من الإسبال فقال: ( لا ينظر الله إلى من جر ثوبه خيلاء )، وقال: ( ما أسفل الكعبين في النار ).

وأهل العلم اختلفوا أيضاً في قضية الإسبال، وهو راجع إلى الخلاف السابق في المطلق هل يحمل على المقيد أم لا؟ فذهب بعضهم إلى أن المطلق يحمل على المقيد، وهذا مذهب الجمهور، فيقولون: الإسبال المحرم هو الإسبال بقصد الخيلاء؛ لأنه قال: ( لا ينظر الله إلى من جر ثوبه خيلاء )، فهذه علة نصية، وهذا يدل على أن الحكم تعللي لا تعبدي، وأن علته هي الخيلاء، فإذا حصلت الخيلاء حرم الإسبال، وإذا لم تحصل لم يحصل الحكم؛ لأن الحكم يدور مع علته حيث دار.

القول الثاني: أن المطلق يبقى على إطلاقه، والمقيد يبقى على قيده، فمن جر ثوبه خيلاء فقد وقع في محرمين: الإسبال والخيلاء، ومن جر ثوبه من غير خيلاء فقد وقع في محرم واحد وهو الإسبال؛ لحديث: ( ما أسفل الكعبين في النار )، فيبقى المطلق على إطلاقه والمقيد على قيده؛ فالمقيد فيه حرمتان، والمطلق فيه حرمة واحدة.

وعموماً هذه المسائل التي يكون فيها الدليل محتملاً للقولين ومحتملاً للوجهين لا يتشدد فيها، ومن القواعد الشرعية أنه لا إنكار في مسائل الخلاف، وهذه قاعدة ذكرها الأقدمون، وقد اعترض عليها شيخ الإسلام ابن تيمية فقال:

وليس كل خلاف جاء معتبراً إلا خلافاً له حظ من النظر

فالصحيح أن يقال: لا إنكار في مسائل الاجتهاد، وقد رد عليه الكمال ابن الهمام الحنفي فقال: (إذا ثبت أن أبا حنيفة ومالكاً والشافعي وأحمد أهل اجتهاد، فكل ما اختلفوا فيه فهو من مسائل الاجتهاد)، وقد ثبت أنهم أهل اجتهاد ورفعة، فإذاً كيف نعرف أن المسألة من مسائل الاجتهاد، قال ابن الهمام: إذا اختلف فيها المجتهدون، فكل مسألة اختلف فيها المجتهدون دل ذلك على أنها محل للاجتهاد؛ لأنهم أهل اجتهاد، والأمة شهدت لهم بذلك، فإذا اختلفوا في مسألة دل ذلك على أنها لم يحسمها الدليل، إما من ناحية الصحة، وإما من ناحية الدلالة، إما من ناحية الرواية وإما من ناحية الدلالة.

(وطهر الحدث) هذا الشرط الرابع من شروط الصلاة هو طهارة الحدث، والمقصود بها هو رفع المنع المرتب على الأعضاء، وقد سبق أن الحدث يطلق على ثلاثة أمور: الخارج من أحد السبيلين، والخروج، والمنع المرتب على الأعضاء هو الأثر الذي يبقى بعد خروجه.

إذاً الحدث يطلق على ثلاثة أمور: على الخارج نفسه وعلى خروجه وعلى المنع الذي يرتب على الأعضاء بعده، أي: الأثر الذي يترتب على الأعضاء، وهو منع الإنسان من الصلاة أو الطواف أو نحو ذلك؛ فهذا المنع هو الذي يرفع، ولذلك الشرط الذي هو من شروط صحة الصلاة: طهارة الحدث، وهي شرط بالإجماع، وليس فيها الخلاف السابق في طهارة الخبث أو في ستر العورة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث ما لم يتوضأ )، ولأن الله تعالى يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى المَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا[المائدة:6]، ولأنه قال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا[النساء:43]، فهنا قال: ((وَلا جُنُبًا)) أي: ولا تقربوا الصلاة جنباً، والجنب يطلق على المفرد وعلى المثنى وعلى الجمع وعلى المذكر وعلى المؤنث بلفظ واحد، فيقال: رجل جنب وامرأة جنب ورجلان جنب، ورجال جنب وامرأتان جنب ونساء جنب، لفظ واحد مثل الضيف، الضيف يطلق على الواحد والاثنين والثلاثة، والخصم يطلق على الجمع والمفرد؛ وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا المِحْرَابَ * إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُدَ[ص:21-22]، وهما ملكان، فسماهما الله خصماً.