متن ابن عاشر [11]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديه، واستن بسنته إلى يوم الدين، أما بعد:

فقد قال المصنف رحمه الله:

[وسمع الله لمن حمده في الرفع من ركوعه أورده

الفذ والإمام هذا أكدا والباقي كالمندوب في الحكم بدا]

وقد وصلنا إلى سنن الصلاة، وتكلمنا عن بعضها، وانتهى بنا المطاف عند سنية قول: (سمع الله لمن حمده).

استجابة الحمد

وهنا سؤال: هل الحمد دعاء حتى يستجاب؛ فالاستجابة إنما تكون للدعاء؟

الجواب هو ما قاله سفيان بن عيينة رحمه الله عندما سئل عن قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( خير الدعاء دعاء يوم عرفة، وأفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله )، فقيل: لا إله إلا الله ذكر لا دعاء؟ فقال:

إذا أثنى عليك المرء يوماً كفاه من تعرضه الثناء

فالثناء دعاء، وكذلك (سمع الله لمن حمده) فالحمد دعاء فيستجيب الله دعاء من حمده.

وأما قول: (ربنا لك الحمد) أو (ربنا ولك الحمد)؛ فـ(ربنا لك الحمد) لا إشكال فيها؛ لأن (ربنا) منادىً، و(لك الحمد) الحمد مبتدأ، ولك خبره، ولا إشكال، ففيه إثبات الحمد لله، لكن إذا قلت: (ربنا ولك الحمد) فالعطف على ماذا؟ العطف لا بد فيه من معطوف عليه؟ فيقال: أصل الجملة (ربنا لك الثناء ولك الحمد) فحذف (الثناء) وعطف عليه (الحمد)، وأبقي العطف بعد حذف المعطوف عليه، وهذا ما بينه محمد مولود رحمه الله في الكفاف فقال:

وقول مقتد وفذ ربنا ولك عاطفاً على لك الثناء

(عاطفاً على لك الثناء) معناه: لك الثناء ولك الحمد.

قول المأموم: (سمع الله لمن حمده)

والمأموم اختلف فيه هل يقول: (سمع الله لمن حمده) سراً ويقول بعدها: (ربنا لك الحمد)، أو لا يقول: (سمع الله لمن حمده)؟

الذي يترجح من ناحية الدليل أنه يقولها؛ لحديث عائشة، وهو يقتضي أن يقول ذلك، وأيضاً فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( صلوا كما رأيتموني أصلي )، وهذا خطاب للإمام والفذ والمأموم، ونحن رأيناه يقول في رفعه من الركوع: (سمع الله لمن حمده) فهذا يقتضي أن يقولها الإمام والمأموم والفذ، فيقولوا جميعاً: (سمع الله لمن حمده)، ثم بعد ذلك يذكرون بهذا الذكر وهو (ربنا لك الحمد)، وإذا زاد الإنسان على ذلك فهذا السنة، أي: المندوب أن يقول: (ربنا الحمد، ملء السماوات وملء الأرض، وملء ما بينهما وملء ما شئت من شيء بعد، أهلَ الثناء والمجد، أو (أهلُ الثناء والمجد) أحق ما قال العبد وكلنا لك عبد، لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد)، وإذا قال في الرفع من الركوع: (ربنا لك الحمد، حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه)، وزاد النسائي: (كما يحب ربنا ويرضى) فذاك أيضاً؛ لما ثبت في الصحيح: ( أن رجلاً من الأنصار قال ذلك، فلما سلم النبي صلى الله عليه وسلم قال: من القائل؟ قال: أنا يا رسول الله، قال: لقد رأيت بضعة وثلاثين ملكاً يبتدرونها )، وزيادة النسائي زيادة ثقة؛ لأن الإسناد صحيح؛ فهذه الزيادة ليست في الصحيحين وهي (كما يحب ربنا ويرضى)، لكنها في سنن النسائي فاقتضى ذلك صحتها.

(هذا أكدا) معناه: هذا القدر من السنن مؤكد، وهو السنن المؤكدات، التي لا يحل تركها عمداً وهو مبطل، وتركها سهواً ملزم للسجود، وهي ثمان يجمعها قولهم:

سينان شينان كذا جيمان تاءان عد السنن الثمان

(سينان) أي: السر والسورة، (شينان) أي: التشهد الأولان والتشهد الآخر، (كذا جيمان) وهما الجهر والجلوس الأوسط، (تاءان) وهما التكبير والتسميع، ما عدا تكبيرة الإحرام، (عد السنن الثمان) وتسميتها سنناً إنما هو اصطلاح؛ ولذلك يسميها الشافعية والحنابلة واجبات غير أركان، فالشافعية والحنابلة عندهم تقسيم آخر غير هذا فيقولون: أركان الصلاة، أي: الفرائض، وواجبات الصلاة أي: السنن المؤكدات فيها هي ما ذكر، وهذا الخلاف خلاف لفظي فقط؛ لأنه اختلاف في الاصطلاح، وإلا فما يترتب عليه واحد.

وهنا سؤال: هل الحمد دعاء حتى يستجاب؛ فالاستجابة إنما تكون للدعاء؟

الجواب هو ما قاله سفيان بن عيينة رحمه الله عندما سئل عن قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( خير الدعاء دعاء يوم عرفة، وأفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله )، فقيل: لا إله إلا الله ذكر لا دعاء؟ فقال:

إذا أثنى عليك المرء يوماً كفاه من تعرضه الثناء

فالثناء دعاء، وكذلك (سمع الله لمن حمده) فالحمد دعاء فيستجيب الله دعاء من حمده.

وأما قول: (ربنا لك الحمد) أو (ربنا ولك الحمد)؛ فـ(ربنا لك الحمد) لا إشكال فيها؛ لأن (ربنا) منادىً، و(لك الحمد) الحمد مبتدأ، ولك خبره، ولا إشكال، ففيه إثبات الحمد لله، لكن إذا قلت: (ربنا ولك الحمد) فالعطف على ماذا؟ العطف لا بد فيه من معطوف عليه؟ فيقال: أصل الجملة (ربنا لك الثناء ولك الحمد) فحذف (الثناء) وعطف عليه (الحمد)، وأبقي العطف بعد حذف المعطوف عليه، وهذا ما بينه محمد مولود رحمه الله في الكفاف فقال:

وقول مقتد وفذ ربنا ولك عاطفاً على لك الثناء

(عاطفاً على لك الثناء) معناه: لك الثناء ولك الحمد.

والمأموم اختلف فيه هل يقول: (سمع الله لمن حمده) سراً ويقول بعدها: (ربنا لك الحمد)، أو لا يقول: (سمع الله لمن حمده)؟

الذي يترجح من ناحية الدليل أنه يقولها؛ لحديث عائشة، وهو يقتضي أن يقول ذلك، وأيضاً فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( صلوا كما رأيتموني أصلي )، وهذا خطاب للإمام والفذ والمأموم، ونحن رأيناه يقول في رفعه من الركوع: (سمع الله لمن حمده) فهذا يقتضي أن يقولها الإمام والمأموم والفذ، فيقولوا جميعاً: (سمع الله لمن حمده)، ثم بعد ذلك يذكرون بهذا الذكر وهو (ربنا لك الحمد)، وإذا زاد الإنسان على ذلك فهذا السنة، أي: المندوب أن يقول: (ربنا الحمد، ملء السماوات وملء الأرض، وملء ما بينهما وملء ما شئت من شيء بعد، أهلَ الثناء والمجد، أو (أهلُ الثناء والمجد) أحق ما قال العبد وكلنا لك عبد، لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد)، وإذا قال في الرفع من الركوع: (ربنا لك الحمد، حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه)، وزاد النسائي: (كما يحب ربنا ويرضى) فذاك أيضاً؛ لما ثبت في الصحيح: ( أن رجلاً من الأنصار قال ذلك، فلما سلم النبي صلى الله عليه وسلم قال: من القائل؟ قال: أنا يا رسول الله، قال: لقد رأيت بضعة وثلاثين ملكاً يبتدرونها )، وزيادة النسائي زيادة ثقة؛ لأن الإسناد صحيح؛ فهذه الزيادة ليست في الصحيحين وهي (كما يحب ربنا ويرضى)، لكنها في سنن النسائي فاقتضى ذلك صحتها.

(هذا أكدا) معناه: هذا القدر من السنن مؤكد، وهو السنن المؤكدات، التي لا يحل تركها عمداً وهو مبطل، وتركها سهواً ملزم للسجود، وهي ثمان يجمعها قولهم:

سينان شينان كذا جيمان تاءان عد السنن الثمان

(سينان) أي: السر والسورة، (شينان) أي: التشهد الأولان والتشهد الآخر، (كذا جيمان) وهما الجهر والجلوس الأوسط، (تاءان) وهما التكبير والتسميع، ما عدا تكبيرة الإحرام، (عد السنن الثمان) وتسميتها سنناً إنما هو اصطلاح؛ ولذلك يسميها الشافعية والحنابلة واجبات غير أركان، فالشافعية والحنابلة عندهم تقسيم آخر غير هذا فيقولون: أركان الصلاة، أي: الفرائض، وواجبات الصلاة أي: السنن المؤكدات فيها هي ما ذكر، وهذا الخلاف خلاف لفظي فقط؛ لأنه اختلاف في الاصطلاح، وإلا فما يترتب عليه واحد.

قال المصنف رحمه الله:

[الفذ والإمام هذا أكدا والباقي كالمندوب في الحكم بدا

إقامة سجوده على اليدين وطرف الرجلين مثل الركبتين

إنصات مقتد بجهر ثم رد على الإمام واليسار وأحد

به وزائد سكون للحضور سترة غير مقتد خاف المرور

جهر السلام كلم التشهد وأن تصلي على محمد]

(والباقي) أي: باقي السنن، وهو السنن غير المؤكدة في الصلاة، (كالمندوب في الحكم بدا) أي: حكمه حكم المندوب، فلا يلزم بعمد تركه بطلان، ولا يلزم بسهوه سجود، ما هي السنن غير المؤكدة؟

لفظ الإقامة

(إقامة) معناه: من السنن غير المؤكدة التي لا بطلان بعمد تركها ولا سجود بسهوه.

وقوله: (إقامة) هي لفظ الإقامة قبل الصلاة؛ فهو سنة لكل إنسان، كل مصل ذكراً كان أو أنثى، إماماً كان أو مأموماً أو فذاً، فإذا تركها عمداً لم تبطل صلاته، وإذا تركها سهواً لم يلزمه السجود.

السجود على الأعضاء السبعة

(سجوده على اليدين وطرف الرجلين مثل الركبتين) السجود على الأعضاء السبعة التي ذكر النبي صلى الله عليه وسلم: ( أمرت أن أسجد على سبعة أعظم )، فالسجود عليها ما عدا الجبهة من السنن غير المؤكدات، فإذا تعمد الإنسان تركها لم تبطل صلاته عند المالكية، وكذلك إذا سها فيها لم يلزمه السجود.

الإنصات خلف الإمام

(إنصات مقتد بجهر) أي: سكوت المقتدي، وقد قال الله تعالى: وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ[الأعراف:204]، وقد ذكر القرطبي في تفسيره أن أهل العلم أجمعوا على أن المقصود بذلك في الصلاة، ((وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ)) معناه في الصلاة، أي: قرأه الإمام، (( فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ))، فليس الوجوب عند كل قراءة القرآن، ولو كان قارئ يقرأ في الإذاعة أو قارئ يقرأ لنفسه لا يجب علينا نحن الإنصات له، إنما يجب ذلك في الصلاة، وقد ذكر القرطبي الإجماع على ذلك.

والمقصود هنا عند المالكية أن المأموم لا يقرأ إذا كانت الصلاة جهرية؛ لأن قراءة الإمام قراءة لمن خلفه، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ما لي أنازع القرآن؟ )، فنهى عن منازعة الإمام القرآن، ولذلك يندب للمأموم ألا يقرأ، فإذا قرأ الفاتحة فلا بأس، ويكره له أن يقرأ السورة، لكن إذا فعل فلا بطلان بعمده، ولا سجود في سهوه؛ لأن ذلك سنة فقط. ولذلك قال: (إنصات مقتد بجهر) أي: إذا قرأ الإمام بالقراءة.

التسليمة الثانية

(ثم رد على الإمام) أي: تسليم المأموم التسليمة الثانية، وكذلك تسليم الإمام التسليمة الثانية، وتسليم الفذ التسليمة الثانية، كل ذلك من السنن غير المؤكدة، فإذا اقتصر على تسليمة واحدة عمداً فلا بطلان، وإذا اقتصر عليها سهواً فلا سجود.

(واليسار وأحد به) كذلك هناك تسليمة أخرى لدى بعض المالكية، وهي التسليمة الثالثة للرد على من باليسار إذا كان الإنسان مصلياً بالصف، فإن من على يساره سيسلم عليه تسليمة التحليل، ينصرف إليه، فيرد عليه هو بتسليمة ثالثة، وهذه التسليمة ليس عليها دليل من المرفوع عن النبي صلى الله عليه وسلم، إنما ثبت عنه تسليمتان فقط، ولم تثبت عنه التسليمة الثالثة، والمالكية يرون أن ذلك داخل في وجوب الرد؛ لأن الله تعالى يقول: وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا[النساء:86]، ومن عن يسارك إذا سلم عليك فقد حياك، والله أمرك أن ترد فقال: وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا[النساء:86]، فيقولون: ترد عليه، ولكن إذا كان مسبوقاً ولم يسلم فالسلام الذي هو رد تفتتحه به، أي: تواجهه أنت بالسلام قبل أن يسلم هو عليك؛ ولذلك لا يلزمك الرد عندما يسلم هو في الأخير، وقد نظم ذلك جدي رحمة الله عليه فقال:

تحقق السلام منزلة السلام ونزلوا تحقق الأركان منزلة الأركان

أول الأبيات يبين أنه ينزل تقدير السلام منزلة السلام؛ فلذلك يرد عليه قبل صدوره، فإذا كان عن يسارك أحد فإنك تسلم عليه عند سلامك أنت، ولو لم يسلم هو بعد، كما إذا كان متشاغلاً بإكمال التشهد أو إكمال الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بعد التشهد أو كان مسبوقاً؛ فإنك ترد عليه بالسلام.

(وزائد سكون للحضور) كذلك ما زاد على الطمأنينة الواجبة في الأركان بحيث يحضر الإنسان ما يفعل فهو سنة، ولكن لا بطلان بعمد تركه ولا سجود بسهوه.

السترة للإمام والمنفرد

(سترة غير مقتد خاف المرور) كذلك من سنن الصلاة غير المؤكدة اتخاذ الإنسان للسترة إذا كان إماماً أو فذاً وكان يخاف المرور بين يديه، فإن كان مأموماً لم تلزمه السترة؛ لأن سترة الإمام سترة له، وهذه السترة محلها إذا خاف المرور، فإن كان في بيته وليس بين يديه أحد، أو كان في غرفة مغلقة، أو كان في فضاء من الأرض وليس عنده أحد فلا تندب له السترة، لكن إذا خاف المرور بين يديه فتسن له السترة، وقد جاء التحضيض عليها عن النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: ( إذا أراد أحدكم أن يصلي فليجعل بين يديه مثل موخرة الرحل، وليدن منها، فإن أراد أحد أن يمر بين يديه فليدرأه ما استطاع، فإن أبى فليقاتله فإنما هو شيطان )، وهذا الحديث يقتضي القرب من السترة؛ لأنه قال: ( وليدن منها )، وقد اختلف في القدر الذي يكون بين المصلي وبين سترته، ومذهب الجمهور أنه قدر السجود، أي: ثلاثة أذرع بالإبهام، وأصل ذلك أنه قال: (فليقاتله)، والمقاتلة تحصل بالرمي بالسهام، وهذه طويلة جداً، وتحصل بالطعن بالرماح، والرمح طوله اثنا عشر شبراً من الوسط، وتحصل بالمضاربة بالسيوف، والسيف طوله ثلاثة أذرع، وهي ثلاثة أذرع وإصبع، فجعلوا المقاتلة في الأصل للسيف، فجعلوا حريم المصلي، أي: الذي يملكه، هو قدر ثلاثة أذرع، فإذا كان المصلي يصلي فاترك له ثلاثة أذرع، ولك الحق أن تمر فيما وراء ذلك ولو لم يكن له سترة.

وابن العربي رحمه الله قال: (تالله لقد زلت أقدام العلماء في هذه المسألة، ولا يملك المصلي من الحريم إلا موضع سجوده وركوعه)، فالمصلي لا يحجب الناس عن مرورهم وحوائجهم، بل له من الحريم قدر سجوده وركوعه فقط، وما زاد على ذلك يجوز لك المرور فيه، ولكن الاحتياط ألا يفعل الإنسان ما يشوش على المصلي؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لو يعلم المار بين يدي المصلي ماذا ينتظره لكان يقف أربعين خيراً له ).

وعموماً في المسألة أربع صور: صورة يأثم فيها المصلي والمار، وصورة لا يأثم فيها واحد منهما، وصورة يأثم فيها المار فقط، وصورة يأثم فيها المصلي فقط.

الصورة التي يأثمان فيها هي ما إذا كان المصلي متعرضاً، تجده يصلي خلف طريق الناس ولم يتخذ سترة، وكان للمار طريق غير التي بين يدي المصلي يمكن أن يمر منه، فاختار التي بين يدي المصلي؛ فالمار آثم، والمصلي آثم.

والصورة الثانية التي لا يأثم فيها واحد منهما: إذا كان المصلي غير متعرض يصلي عند جدار أو عند سارية، وكان المار لا يجد مندوحة، ما له مكان يمر منه إلا هذا، مثل الزحام في الحرم، فالمار لا يجد مكاناً إلا هذا الذي بين يدي المصلي، والمصلي غير متعرض؛ لأن بين يديه سارية أو جدار، أو صف فلا يأثم واحد منهما.

الصورة الثالثة التي يأثم فيها المار فقط: إذا كان المصلي غير متعرض، أي: مستتر، والمار يجد مندوحة، فمر المار بين يدي المصلي؛ فالمصلي غير آثم؛ لأنه فعل ما عليه والمار آثم؛ لأنه له مندوحة يخرج منها، فاختار التي بين يدي المصلي.

والصورة الرابعة التي يأثم فيها واحد منهما: إذا كان المصلي غير متعرض والمار لا يجد مندوحة.

إذاً الصور أربع: يأثمان معاً إذا كان المصلي متعرضاً والمار يجد مندوحة، ولا يأثمان معاً إذا كان المصلي غير متعرض والمار لا يجد مندوحة، ويأثم المصلي فقط إذا كان متعرضاً والمار لا يجد مندوحة، ويأثم المار فقط إذا كان المصلي غير متعرض والمار يجد مندوحة.

الجهر بالسلام

(جهر السلام) أي: من السنن غير المؤكدة أن يجهر بالسلام، أي: تسليمة التحليل، لئلا يوسوس فيظن أنه لم يسلم، وهذا الجهر ليس عليه دليل ولا يقصد به رفع الصوت الكثير، بل المقصود أن يسمع نفسه ذلك حتى يتصل بخروجه من الصلاة فقط.

ألفاظ التشهد

(كلم التشهد) كذلك ألفاظ التشهد هي سنة؛ فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلمها أصحابه كما يعلمهم السورة من القرآن كما في حديث ابن مسعود: ( علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم التشهد، وكفي بين كفيه، كما يعلمني السورة من القرآن )، فلذلك يسن التشهد بلفظه، وإذا تشهد بغيره فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله فقط مثلاً، أو أثنى على الله بثناء أياً كان فإن ذلك مجزئ؛ فلا تبطل صلاته بترك لفظ التشهد، ولا يلزمه أيضاً السجود بترك اللفظ إذا شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله.

والتشهد ورد فيه ألفاظ عن النبي صلى الله عليه وسلم، وفيها سبعة أحاديث صحيحة، و مالك رحمه الله اختار تشهد عمر ؛ لأنه بمثابة المتواتر، فقد كان يعلمه على المنبر بحضرة الصحابة، ولم ينكر عليه أحد منهم، ولكن تشهد عمر لم يصرح فيه عمر بالرفع، ولكنه في قوة المرفوع؛ لأنه من المعلوم أنه لا يقال بالرأي، فهو في قوة المرفوع، وتشهد ابن مسعود وتشهد ابن عباس وتشهد ابن عمر وغيرها من التشهدات الصحيحة التي فيها الرفع وهي أولى لدى غير مالك، و مالك اختار هذا التشهد لأنه بمثابة المتواتر؛ فـعمر كان يعلمه الصحابة على المنبر بحضرة أهل بدر والسابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، فلا ينكر عليه أحد، فكأنهم واطأوه عليه ووافقوه عليه جميعاً، فأصبح بمثابة المتواتر، وفيه زيادة خفيفة؛ فهو: (التحيات لله)، وهنا لاحظ أن كثيراً من الناس فيمدها فيقول: (التاحيات) وهذا خطأ؛ فهي: التحيات، جمع تحية، والتحية في الأصل الحياة، ومن ذلك قول الشاعر:

أبني إن أهلك فإنني قد بنيت لكم بنية

وتركتكم أبناء سا دات زنادكم وريه

من كل ما نال الفتى قد نلته إلا التحيه

أي: إلا البقاء والحياة الدائمة.

والتحية هي خطاب الإنسان عند القدوم بما يستحسن، ولكل ملك تحية؛ فقد كان من المعلوم من تحيته (أبيت اللعن) ومنهم من تحيته (عم صباحاً) وهكذا.

والتحيات لله معناه: أنك في رحلة إلى الله سبحانه وتعالى وهي الصلاة؛ فمن المناسب إذا أتيت أن توجه إليه كلامه، وهذا الكلام الذي توجهه إليه لا يمكن أن يكون دعاءً ولا تحيةح لأنه هو مالك ذلك جميعاً؛ فلذلك تقر له بذلك فتقول: التحيات لله، وتشهد عمر فيه: (الزاكيات لله)، والزاكيات هي الأعمال الصالحة النامية التي يضاعفها الله، أي: الأعمال المضاعفة لله، (الطيبات الصلوات لله) أي: الصلوات الطيبات، أو: الطيبات من الأعمال وهي الصلوات لله، هي مملوكة له وهو مستحق لها، (السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته) السلام بمعنى الأمان، (عليك أيها النبي) هذا خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، وليس المقصود توجيه الكلام إليه، بل المقصود إيصال السلام إليه؛ لأن الله أمرنا بالتسليم عليه والصلاة عليه؛ ولذلك يجوز في الصلاة أن تقول للشخص ولو كان غير حاضر: يا فلان، فعل الله بك كذا، إذا كان صديقاً تقول: يا فلان، لطف الله بك، أو: يا فلان رحمك الله، وإذا كان عدواً تقول: يا عدو الله أهلكك الله، مثلاً؛ فيجوز هذا الخطاب؛ لأنه من باب الدعاء ولا يقصد خطاب المخلوق، بل المقصود إيصال الدعاء إلى المخلوق فقط، فالنداء هنا ليس بمعنى طلب الإقبال.

وفي حديث ابن عمر أنهم (كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم يقولون: السلام عليك أيها النبي فلما مات كان ابن عمر يقول: السلام على النبي ورحمة الله وبركاته)، ولكن هذا توقيفي، وهو الذي علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيبقى كما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم تقول: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، (السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين)، تسلم على نفسك وعلى عباد الله الصالحين، (وإذا قالها العبد أصابت كل عبد الله صالح، في السماء أو في الأرض، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله)، فهذا هو قدر التشهد.

والزيادة التي يذكرها بعض المتأخرين من المالكية كـابن أبي زيد في الرسالة، وهي: (أشهد أن ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم حق، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور) هذه الزيادة لم ترد في شيء من التشهدات الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ فلذلك يقتصر على القدر الوارد عن النبي صلى الله عليه وسلم في التشهد.

وأهل العلم اختلفوا في أصل مورده، فذكر بعض المحدثين أن أصل مورد التشهد هو الخطاب ليلة المعراج؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم خاطب الله جل جلاله بقوله: (التحيات لله) أي: ألهمه الله أن يخاطبه بهذا فقال: ( التحيات لله، والطيبات والصلوات لله؛ فرد الله عليه فقال: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته )، فأراد هو إشراك جبريل معه وقد كان رفيقه في الرحلة، فقال: ( السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين )، ثم حصل بعد ذلك أن جبريل تشهد فقال: أشهد أن لا إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله، فأصبح ذلك سنة الصلاة، ولم يصح هذا بإسناد يعول عليه، ولكنه بيان للوجه فقط، ولو كان معتمداً على روايات ضعيفة.

وهذا التشهد هو في آخر الرحلة؛ لأن الصلاة كأنها رحلة، وعند نهايتها يأتي القدوم فيأتي التشهد، وكذلك الرجوع منها هو بالسلام على الناس؛ كأنك كنت غائباً عنهم فأتيت، ولذلك عند تكبيرة الإحرام تنبذ الدنيا وراء ظهرك بيديك، وقد قال أحد أجدادي رحمه الله ملغزاً في هذه المسائل:

أساة عضال الجهل سرج ظلامه وعمار رسم الدين من بعدما أقوى

فما السر في كون الإمام مسلماً أخيراً على مأمومه عصبة التقوى

وما السر في كون التحيات آخراً أما العرف تقديم التحية في النجوى

فهلا أتت دون السلام أو أردفت به فيكون الأمر في الغاية القصوى

إلى أن يقول:

.. وقد خفيت عني فلا بد من شكوى

يشير إلى البيت:

فلا بد من شكوى إلى ذي مروءة يواسيك أو يسليك أو يتوجع

وقد أجابه أحد علماء عصره بقوله:

فإن عماد لله رحلة وعند انتهاء السير تستأنف النجوى

الصلاة على النبي في التشهد

(وأن تصلي على محمد) معناه: ومن السنن غير المؤكدة الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في التشهد، أي: بعده، فإذا ترك ذلك عمداً فلا بطلان، وإذا تركه سهواً فلا سجود، وعند الحنابلة تجب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في التشهد.