خطب ومحاضرات
شرح الأربعين النووية - الحديث الخامس والثلاثون [2]
الحلقة مفرغة
يقول صلى الله عليه وسلم: (المسلم أخو المسلم، لا يلظلمه ولا يخذله، ولا يكذبه، ولا يحقره...) فنهى عن الكذب عليه بقوله: (ولا يكذبه)، فمن أعظم الخيانة أن تحدث الرجل بالحديث يظنك صادقاً وأنت كاذب.
فليس هناك خسيسة أردأ من الكذب؛ لأن الإنسان ما عنده حبل يقاد ويربط به إلا الكلمة التي يقولها، قال تعالى: وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ [الإسراء:34]، فالوفاء يكون بالعهد وبالعقود، فتقول الكلمة وتلتزم بها، وقد جاء في قصة أبي سفيان حينما قدم الشام، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم أرسل الكتب للملوك، فسأله هرقل أسئلة كثيرة عن الرسول صلى الله عليه وسلم، وأبو سفيان ما استطاع أن يكذب، فكان يحاول أن ينقص من قدر النبي صلى الله عليه وسلم عند هرقل، ولكن بغير كذب، فلم يجد إلا شيئاً واحد أراد أن يغمز به، وحين سأله: أيغدر بكم إذا عاهد؟ قال: لا. وبيننا وبينه عهد ولنا منه فترة لا نعلم ما حدث فيها. أي: لا نعلم في الفترة هذه ما الذي حصل. وأراد أن يدخل شيئاً آخر فقال: ألا أخبرك بما يدل على أنه كاذب؟ قال: ما هو؟ قال: أخبرنا أنه في ليلة جاء من المسجد الحرام إلى مسجدكم هذا وصلى فيه ورجع في ليلته، ونحن نضرب إليه أكباد الإبل شهراً ذهاباً وشهراً عودة.
فهذه التي أراد أن يدخل منها، فإذا ببطريق على رأسه يقول: نعم لقد علمت بتلك الليلة. فالتفت إليه هرقل فقال: وما أعلمك بها؟ قال: كنت لا أنام حتى أغلق أبواب المسجد، وفي ذات يوم جئت إلى باب عجز البوابون عن إغلاقه، فدعوني فجئت، فدعوت أهل النجارة فنظروا فإذا السجاف قد نزل على الباب، فقالوا: لا نستطيع أن نحرك فيه شيئاً، فدعه إلى الغد حتى يطلع النهار، فتركناه مفتوحاً، ولما جئت في الصبح وجدت الباب يفتح ويقفل، ووجدت الصخرة التي عند الباب مخروقة وفيها أثر ربط دابة، فقلت والله ما أمسك بابنا هذه الليلة إلا لنبي، وقد جاءه وصلى فيه.
فلما خرجوا من عند هرقل -وكانت جماعته معه- قالوا: يا أبا سفيان ! أنت بين يدي هرقل ، وما منعك أن تكذب على محمد كذبة تنزل من شأنه عنده؟ قال: خشيت أن يأخذ علي كذبة فلا يصدقني بعد ذلك.
فهو رجل مشرك يحتاط لنفسه أن يكذب كذبة فتسقط كلمته.
فإذا كان أبو سفيان وهو مشرك، مع هرقل وهو مسيحي، ومروءة أبي سفيان وهو على شركه تأبى عليه أن يكذب فكيف بالمسلم.
قال صلى الله عليه وسلم: (ولا يحقره).
هنا -كما يقولون- محط الرحل، وعود على بدء، فأول الحديث (لا تحاسدوا)، وأشرنا إلى أن سبب الحسد بين الناس هو الكبر من جهة والاحتقار من جهة أخرى، أي: احتقار صاحب النعمة واستكثارها عليه، كأنه ما يستحقها.
فالله أنعم عليه بالعافية، أو بالأخلاق، أو بمال، وأكثر ما يكون الحسد بين الناس على المال الزائد، أما الأدب والأخلاق والديانة فما يُحسد عليها، ويحسدون على الشيء الفاني العاجل.
فمنشأ حسد الشخص للآخر أن يحتقره أمام تلك النعمة عليه، وأول خطيئة في الخليقة حسد إبليس لآدم، والحسد يجر إلى الكبر، والكبر يجر إلى العصيان، والعصيان -عياذاً بالله- يطرد من رحمة الله.
وهناك مسألة أسميها فلسفة المعصية؛ فإننا وجدنا آدم قد عصى ربه ونسي، وإبليس عصى ربه وامتنع، فكلاهما وقعت منه المعصية، ولكن معصية آدم كانت أن الله سبحانه وتعالى نهى آدم أن يأكل من الشجرة فأكل، وإبليس أمره الله أن يسجد لآدم مع الملائكة فامتنع، فكلاهما وقع في معصية.
ولكن بالنظر إلى تحليل -ولا نقول: فلسفة- المعصية والدافع لها نجد أن آدم عليه السلام حينما أكل من الشجرة ما جاء بطواعية وإصرار، فقال: ما علي من هذا النهي، فأنا آكل على ما أريد، وإنما أتاه الشيطان وما زال يغريه، كما قال تعالى: وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ * فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ.. [الأعراف:21-22]، وكذلك قال لهما: مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ [الأعراف:20]، وهما لا يريدان شيئاً غير الخلود في الجنة، فجاءهما من الطريق الذي يرغبان فيه، (وَقَاسَمَهُمَا) أي: حلف وأقسم لهما أنه ناصح، وهو كاذب، فزلت بهما القدم.
لكن لما عرف آدم أنه أخطأ تاب إلى الله، كما قال تعالى: فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [البقرة:37]، فتلقى الكلمات ورجع وأناب إلى ربه لأن معصيته لم تكن عن سبق إصرار، بل كانت عن جهالة ونسيان وخطأ.
ولكن إبليس أول ما رأى خلقة آدم جعل يطوف حوله ويضحك، وأخيراً قال: أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ [الأعراف:12]، فمعصية إبليس كانت عن سبق إصرار وتكبر واحتقار لآدم، فهناك فرق بين المعصيتين، فكانت نتيجة معصية إبليس اللعن والطرد عياذاً بالله، ونتيجة معصية آدم أنه أناب إلى ربه فتاب إليه فاجتباه وهدى، وتلقى كلمات من ربه وتاب عليه.
وعوداً على بدء، ففي أول الحديث (لا تحاسدوا)، فإذا سلم الإنسان من أن يحقر أخاه لن يحسده، وكل ما يراه من نعمة الله على أخيه يقول: (يستحق) و: (زاده الله)؛ لأنه في نظره كبير، وليس في نظره حقيراً، فلا يقارن بين النعمة وبين هذه الشخصية إلا بالمعادلة الكريمة، فكلما أعطاه الله نعمة عظُم في عينه، لا أن يحقره على ذلك.
وفي مسألة الكذب يقول بعض العلماء: هناك مواطن قد يحسن فيها الكذب -ولكن لا نريد أن نتوسع فيها- ومن ذلك إذا كان الإنسان يسعى بالصلح بين متخاصمين لإصلاح ذات البين، ولكنه كذب ممدوح، بمعنى أنه علم أن اثنين متخاصمان، فيأتي إلى الأول ويعاتبه على خصومته لأخيه، ويخبره أن صاحبه نادم على ما يقول، وأنه يتمنى لقاءه، مع أنه ما سمع منه شيئاً، فهذا يبدي أيضاً رغبة في اللقاء، فيذهب إلى الآخر. ويقول نفس الشيء، فيبدي رغبة في اللقاء، فيأخذ وعداً من كل منهما ويتلاقيان على المصافحة، وعلى الصفح، وعلى التلاقي والأخوة، فهذا لا بأس به.
هناك نقطة جوهرية في الحديث، وهي موضع افتراق الطرق بين الناس، في قوله صلى الله عليه وسلم: (التقوى ها هنا، التقوى هاهنا، التقوى هاهنا)، ويشير إلى صدره الكريم ثلاث مرات.
وبهدوء وبرفق نقف عند هذه الإشارة إلى التقوى في الصدر، والصدر فيه القلب، فإذا نظرت إلى سياق الحديث.. (لا تحاسدوا، ولا تناجشوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا)، وجئنا إلى تصحيح ذاك الخطأ في التعامل، فالمسلم أخو المسلم، ولا يحق له أن يحسده، ولا أن ينجش عليه، ولا أن يبغضه، ولا أن يلقاه مدبراً عنه؛ لأنه أخوه، والمسلم لا يظلم أخاه، والمسلم لا يكذب على أخيه، والمسلم لا يحقر أخاه.
ويحقر الإنسان الإنسان لأنه صغر في عينه، فإما أن يكون فقير المال، وإما أن يكون نحيل الجسم، وإما أن يكون دنيء المنزلة، وغيرها من عوامل الدنيا التي يقيس بها الناس، فإذا كان فقيراً أو كان ضعيفاً أو لا منزلة له ولا حسب ولا نسب سقط من أعين بعض الناس.
فالرسول صلى الله عليه وسلم يضع لنا قاعدة، بل قضية منطقية، فلماذا يحقر بعضكم بعضاً؟ أللفقر، أم لضعف الجسم، أم لعدم فصاحة القول؟ فهذه مقاييس فاسدة، وهذا مقياس باطل، لقد جاء القرآن الكريم وقال: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ [الحجرات:13]، فمقياس الكرم، ومقياس الرفعة، ومقياس المنزلة العالية عند الله التقوى.
فمقاييس الناس عند الله بالتقوى، وكرم الناس عند الله بالتقوى، وهذا تصحيح للمفاهيم الخاطئة؛ لأنهم كانوا في الجاهلية يعدون أكرمهم أرفعهم حسباً، وأغناهم، وأقواهم، وتصحيح الشريعة للمفاهيم الخاطئة في قضايا عدة، ومنها حديث: (ليس الشديد بالصرعة)، فنحن نعرف الشخص القوي فينا أنه الذي يصرع الآخرين، فهذا هو المقياس عندنا.
فجاء الإسلام وصحح هذه الناحية، وقال: تلك قوة حيوانية، فهذا الشخص الذي يصرع اثنين الثور أقوى منه، وأقوى من أربعة من مثله، وكذا الحمار يحمل أكثر منه، فهي قوة بهيمية، ثم بين الشدة فقال: (إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب)، وليس في الحيوانات من يقدر على ذلك، وهذا خاص بالإنسان.
فصحح وعدل مقياس القوة في البشر بأنها قوة نفس، وقوة أخلاق، وقوة ضبط لأعصاب عند الغضب.
وفي تصحيح مقياس آخر يقول: (أتدرون من المفلس؟)، أي من هو في نظركم ومقاييسكم المفلس؟
قالوا: المفلس فينا -يا رسول الله- من ليس له درهم ولا دينار ولا متاع. أي ليس لديه فلس، وهذا مقياس عند كل الناس. قال: (المفلس من أمتي يوم القيامة من يأتي بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي قد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وضرب هذا، فيأخذ هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه أخذ من خطاياهم فطرح عليه، ثم طرح في النار).
فمن كان يخطر على باله هذا الإفلاس.
كالحال في الدنيا، كرجل عنده الملايين، ولكن أخذ من هذا وضيَّع، وأخذ من هذا وضيَّع، وأخذ من ذا ومن ذا، فجاء أصحاب الحقوق يطالبون بحقوقهم، حينها الحاكم يحجر عليه، ويبيع أملاكه ويوزعها على الغرماء، فكان ذا مال ورصيد في البنك ومن الغد أصبح صفر اليدين، لكن في الدنيا يمكن أن يعمل ويبدأ من جديد، فيقترض أو يعطف عليه الناس ويتصدقون عليه، لكن يوم القيامة لا يستطيع، فهذا من تصحيح المقاييس.
وهنا في الدنيا تحقر أخاك؛ لأنه لا مال له، وتعظم غيره؛ لأنه صاحب مال! فتحقر هذا؛ لأنه ضعيف نحيل، وتكرم ذاك؛ لأنه ذو جسد وجسم مهيب! وتحقر هذا؛ لأنه عيي لا يتكلم، وتعظم ذاك؛ لأنه فصيح خطيب بليغ!
وتلك المقاييس المادية خاطئة وباطلة، قال تعالى: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ [الحجرات:13]، وبالتقوى تكون الكرامة، والتقوى في الصدر، فلا تعلم حقيقة الشخص أمامك، ولا يمكن أن تحكم عليه بمظهره؛ لأن حقيقة الحكم عليه بالتقوى، والتقوى ليست أمراً ظاهراً، ولذا جاء في الأمثلة العملية منه صلى الله عليه وسلم أنه كان صلى الله عليه وسلم جالساً، فمر رجل ذو هيئة، فقال صلى الله عليه وسلم لرجل عنده جالس: (ما رأيك في هذا؟ فقال: رجل من أشراف الناس، هذا -والله- حري إن خطب أن ينكح، وإن شفع أن يشفع. فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم مر رجل، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما رأيك في هذا؟ فقال: يا رسول الله! هذا رجل من فقراء المسلمين، هذا حري إن خطب ألا ينكح، وإن شفع ألا يشفع، وإن قال ألا يسمع لقوله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا خير من ملء الأرض من مثل هذا). فأنت قد تمتدح شخصاً لمنظر العين والأمر المادي المحسوس، وغيره إن خطب من عندك فلن تزوجه، وإن شفع عندك لا تقبل شفاعته، وإذا تكلم لا تسمع لكلامه، وتتركه، لكن هذا عند الله خير من ملء الأرض من ذاك، فهل المفاضلة بالشكل أم بما وقر في القلب؟
علماء الحديث والسلف على المعنى المتقدم في معنى قوله: (التقوى هاهنا)، وبعض الناس ذهب إلى فهم خاطئ، وقال: (التقوى هاهنا)، معناه أنه إذا كان القلب تقياً فلا عليك من أي شيء بعد ذلك، ولو أنك ما صليت ولا صمت ولا حججت ولا زكيت ولا فعلت شيئاً، كما يقولون: طهِّر قلبك.
فهذه خدعة، ومتى يكون القلب طاهراً نقياً مليئاً بالتقوى وهو يترك الصلاة والصيام والزكاة والحج؟ فهل هذا تقي؟ بل شقي، فهذا فهم خاطئ فهمه بعض الناس.
وهذا مثل قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ [المائدة:105]، فيقول الصديق رضي الله تعالى عنه: من الهدى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. فليس المعنى أن عليكم أنفسكم، ولا يضركم من ضل! فمن الاهتداء أن تأمروا وتنهوا، فإذا أمرتم بالمعروف ونهيتم عن المنكر وقمتم بواجبكم فبعد هذا يتحقق قوله تعالى: لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ [الغاشية:22].
فالحديث بين أيدينا يصحح مفاهيم الناس، ويمنعهم أن يحتقر بعضهم بعضاً لأمور مادية، بل يقول: إن مقياس الكرامة ومنع الاحتقار إنما هو في التقوى، والتقوى ليست لها معالم ظاهرة، ولكنها تقر في القلب.
وقد جاء في الحديث الصحيح: (ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب)، فكيف يدعي أناس أن القلب إذا ملئ بالتقوى اكتفى؟ فالحقيقة أنه إذا ملئ بالتقوى فاض على الجسم والجوارح كلها بالتقوى.
وجاء حديث آخر أنه صلى الله عليه وسلم مرّ على شخص يصلي ويعبث في الأرض أمامه، فقال صلى الله عليه وسلم: (لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه).
فالقلب يسيطر على الجسم، فإن ملئ بالتقوى فكل الأعضاء تبع له، وكما يقولون: القلب هو الملك وسلطان الجسم، فكيفما يكون القلب يكون الجسم تبعاً له، فإذا كان تقياً طاهراً فالجسم كله تبع له.
فلتصحح المفاهيم في قوله صلى الله عليه وسلم: (التقوى ها هنا، التقوى ها هنا، التقوى ها هنا)، رداً على من يحتقر غيره لأمر مادي.
قال صلى الله عليه وسلم: (بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم).
(بحسب) أي: بكفيه، نقول: حسبي كذا. بمعنى: يكفيني.
وامرؤ: مذكر امرأة. لأن الأصل في الوضع في اللغة للمذكر، ويؤتى للمؤنث بالعلامة الفارقة، وهي الزائدة؛ لأن الزيادة تدل على الفوارق، فامرؤ مؤنثه امرأة.
وإذا كان التعبير هنا بلفظ المذكر فدائماً وأبداً يقولون: إن المذكر يغلب، فلو وجد مائة امرأة ومعهم طفل ذكر لرجع الضمير على المذكر.
فالمعنى: بحسب امرئ وامرأة كذلك من الشر أن يحقر أخاه المسلم.
والآية الكريمة تفصل، حيث يقول تعالى: لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ [الحجرات:11]، والسخرية قد تكون بالغمز واللمز، وقد تكون بالإشارة، وفي بعض الآثار أن بعض زوجات رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءت وخرجت، فواحدة قالت: حسبك منها أنها -أي: غير طويلة- وأشارت بيدها، فقال: (لقد قلت كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته)، ما قال: بماء العين؛ لأن مياه العيون عذبة، والماء العذب أقل شيء يغيره، لكن ماء البحر مالح، وملوحته وكثافة الملح فيه تجعله يحتمل الكثير، ولا يتغير إلا بالشيء الكثير جداً يزيد عن الملوحة وكثافته.
فبحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، وهنا يقول العلماء: في هذا اللفظ أيضاً مقارنة، فالشخص الذي يحقر الثاني لأي شيء يحقره؟ فإذا كان يرى نفسه مثله، فهل يحقره؟ وهل هناك إنسان يحقر إنساناً مثله؟ فلو أن طالبين كلاهما راسب في الفصل، أيحقر أحدهما الآخر؟ ولو كانا ناجحين أيتفاخر أحدهما على الآخر؟ إلا في حال كون درجات أحدهما أكثر، لكن لو كانت درجات كليهما متساوية فهل من حق أحدهما أن يفخر على الآخر؟
فلا يحقر الإنسان إنساناً وهو يرى نفسه مساوياً له، بل إن وجد نفسه على قمة الجبل ووجد الثاني ينحدر في الوادي فحينئذ يحقره، أو كان يسكن في قصر عالٍ جداً وهذا في كوخ، أو كان يركب فرساً جواداً، وذلك يمتطي سلحفاة.
فلا يحقر إنسان إنساناً إلا إذا رأى لنفسه عليه فضل زيادة، وفضل الزيادة المقابل للاحتقار التكبر، ولذا يأتي الحديث: (العز إزاري والكبرياء ردائي، فمن نازعنى في شيء منهما عذبته)، وفي الحديث: (لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر).
ولذا كان جزاء الاحتقار قوله: (بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه)؛ لأن من لوازم احتقاره لأخيه المسلم أن يتعاظم في نفسه، وإبليس ما حسد آدم واحتقره إلا حين رأى نفسه أنه من عنصر ناري فوق الخلق، فكانت الطامة عليه، عياذاً بالله.
وعوداً على بدء مرة أخرى ينتقل الحديث إلى الخاتمة، فلا تظلم أخاك المسلم، ولا تنجش عليه فتزيد في الثمن ليؤكل ماله بالباطل، ولا تحقره، واحفظ عرضه، ولا تسخر منه.
وفي قوله: (كل المسلم على المسلم حرام) إشارة إلى أن المراد كل المسلم، فما قال: كل المسلمين؛ لأن السور الكلي يحيط بالفرد، وإنما المراد المسلم بمجموعه، ومجموع المسلم هيكله وجسمه وماله وعرضه وسمعته، أي: بهيكله حساً ومعنى، فالمسلم كله بمجموعه حرام على المسلم الآخر.
ونص صلى الله عليه وسلم على أمور أساسية، فبدأ صلى الله عليه وسلم بعد الإجمال بالتفصيل، وبدأ بدمه ثم ماله ثم عرضه، وأهم ما في الإنسان دمه، أي: نفسه، وماله الذي يكتسبه، والمال صنو النفس، وعرضه الذي إذا مات في سبيل الدفاع عنه مات شهيداً.
فالإنسان قد يخاطر بنفسه في سبيل حماية عرضه، وقد يخاطر بنفسه في سبيل حماية ماله، فالثلاثة متساوية، النفس والمال والعرض.
وإذا كان دم المسلم على المسلم حرام، فلا يجوز له أن يسفك قطرة منه، فهي حرام، وهذا الأمر بالذات يعلنه صلى الله عليه وسلم في أعظم المواقف وأشدها حرمة، وهو يوم الحج الأكبر، فبعد أن حج الناس، وطافوا بالبيت وسعوا بين الصفا والمروة، وجاؤوا إلى عرفات، وفي عشية عرفة يتجلى المولى سبحانه يباهي بهم الملائكة، ورموا الجمرات، ونحروا الهدي، وجعلوا الشعر، فإنهم يتطهرون من ذنوبهم، ويخرجون منها كيوم ولدتهم أمهاتهم.
فأصبحوا في طهارة ونقاء، فليلزم كل إنسان تلك الصفة، وليحافظ عليها، ولا يدنسها ولا يكدرها بشيء، ففي يوم الحج الأكبر قال صلى الله عليه وسلم: (أي يوم هذا؟ أي شهر هذا؟، أي بلد هذا)، فكلما سأل صلى الله عليه وسلم كانوا يسكتون، قال الرواي: حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه. فلعله يأتي الوحي ويغير الأسماء، وأخيراً قال: (فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا).
فأروني صيغة تحذير مثل هذه!
فيحرم الرسول صلى الله عليه وسلم دماء الناس وأموالهم وأعراضهم فيما بينهم حرمة مكررة مضاعفة ثلاث مرات كحرمة اليوم والشهر والمكان، فهل بعد هذا يستبيح مسلم دم مسلم؟ لا والله.
والأصوليون يقولون: إن شرائع الإسلام كلها، والشرائع السماوية ما جاءت إلا لتحمي تلك الأمور الخمسة التي هي: الدين، والنفس، والعقل، والمال، والنسب ومعه العرض.
فتلك الخمس إذا صينت في أي مجتمع كان مترابطاً، وكان مجتمعاً سعيداً، وإذا ما ضاعت تلك الأمور في أي مجتمع فلا قوام له، فمجتمع بلا دين لا يوجد، ولذا يقول علماء الاجتماع: لا يمكن أن تجد أمة بلا دين، سواء أكان صحيحاً أم باطلاً، فمن الممكن أن ترى مدينة بلا ملعب ولا مسبح، أما بدون معبد فلا يمكن أبداً، فلا بد من الدين، فالدين أمر فطري، وقد يخطئ الناس فيه وقد يصيبون.
وكذلك حفظ النفس، فالحيوان يدافع عن نفسه، وهل وقعت خصومة بين اثنين إلا من إحدى الطرق الثلاث، إما اعتداء على الدم، أو على المال، أو على العرض، فإذا حفظت النفس وحفظت الأموال وصينت الأعراض فلا خصومة في المجتمع بعد ذلك.
فكل المسلم على المسلم حرام، ويتبع حفظ الدم حفظ الجوارح أيضاً، حتى جاء أنه كان الصحابة مجتمعين، فقام رجل وبيده حبل يجره، فقام رجل وأمسك بالحبل فأفزعه، فنهى صلى الله عليه وسلم أن يفزع المسلم أخاه، ونهى المسلم أن يأخذ عصا أخيه جاداً أو هازلاً، فتأخذها تمزح معه وتروعه فيها، فيبحث عنها وأنت لا تريد سرقتها، ولكن تريده أن يبحث عنها قليلاً، فلا يجوز لك أن تخيفه بهذا الأمر، أو أنك تحزنه، أو أنك تفزعه في هذه الأمور.
والمال قل أو كثر لا يجوز لإنسان أن يأخذه من أخيه إلا بطيب نفس، ولو كان أقل ما يمكن أن يسمى مالاً، وكذلك عرضه لا يعتدي عليه، والعرض ليس معناه النسب فحسب، بل شخصه وذاته كذلك، ولذا حرم صلى الله عليه وسلم وحرم القرآن الكريم أن تغتاب أخاك المسلم، وجاء في الحديث أن ابن عمر نظر يوما إلى البيت أو إلى الكعبة فقال: (ما أعظمك وأعظم حرمتك، والمؤمن أعظم حرمة عند الله منك).
والله تعالى يقول: وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا [الحجرات:12]، ولما سأل الصحابي رسول الله صلى الله عليه وسلم: أرأيت إن كان فيه ما أقول؟ قال: (إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته)، والبهتان أن ترمي الشخص بما ليس فيه، والاغتياب: أن تذكره بما فيه.
فإذا كان لك عنده حق فما لك وله، ولماذا تذكره بما يكره؟
فنجد هذا الحديث النبوي الشريف في أعلى مراتب الكمال في الإسلام، ولذا يذكره الإمام مسلم -كما ذكر هنا النووي- في باب البر والصلة.
ويضاف إلى هذا الحديث الحديث الآخر: (حق المسلم على المسلم ست)، فهنا قال صلى الله عليه وسلم: (لا يظلمه ولايخذله، ولا يكذبه ولا يحقره)، فأضف إليها قوله صلى الله عليه وسلم: (إذا لقيته فسلم عليه، وإذا دعاك فأجبه، وإذا استنصحك فانصح له، وإذا عطس فحمد الله فشمته، وإذا مرض فعده، وإذا مات فاتبعه).
ولو أن المجتمع الإسلامي وقف عند هذا الحديث، وأعطى كل إنسان حق أخيه عليه، فهل سيوجد في العالم مجتمع فوق هذا؟
فـأفلاطون يتكلم عن المدينة الفاضلة، ويتخيل مدينة مثالية خيالية في أهلها وأصحابها، لكن هل هناك مجتمع أفضل من هذا المجتمع المسلم في هذه الآداب؟ لا والله!
وقال صلى الله عليه وسلم: (ولا يخطب على خطبته)، فإذا كان الخاطب الأول عنده زوجتان أو ثلاث ويريد أن يتزوج الرابعة، والآخر ما تزوج بعد، أو كان الخاطب الأول على النصف في الاستقامة، وهو يرى في نفسه كثرة استقامة فليس له أن يذهب ويخطبها ويبعدها عن ذاك الشخص ما داموا قد ركنوا إليه، والغالب أن أهل المرأة لا يركنون إلا بعد البحث، اللهم إلا إن كنت تعلم من أمر الخاطب ما لا يرتضيه الله في دينه أو دنياه، أما لو كان عنده ثلاث أو اثنتان أو عشرون جارية وزوجتان، فليس لك شغل في هذا، وأما أمر الدين في الأمور الظاهرة فإنهم إن جاءوا يستشيرونك فلك أن تبين بقدر الحاجة في بابها، وما عدا ذلك لا حق لك فيه، وما يدريك لعلها تسعد مع ذاك أكثر من سعادتها معك!
فلا ينبغي للإنسان أن يرى في نفسه الخير على غيره، ويتقدم إلى خطبة المرأة نظراً لأنه أحق بذلك، فإذا ركنوا إليه فلا تتقدم بعده. والله تعالى أعلم.
والله أسأل أن يوفقنا جميعاً لما يحبه ويرضاه، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وأسأل الله أن يجعلنا وإياكم من الإخوة المتحابين في الله، العاملين بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.
استمع المزيد من الشيخ عطية محمد سالم - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
الأربعين النووية - الحديث الثاني عشر | 3523 استماع |
الأربعين النووية - الحديث الحادي عشر [2] | 3212 استماع |
شرح الأربعين النووية - الحديث الرابع والعشرون [3] | 3185 استماع |
شرح الأربعين النووية - الحديث الأربعون | 3134 استماع |
شرح الأربعين النووية - الحديث الرابع [1] | 3115 استماع |
شرح الأربعين النووية - الحديث الثامن عشر | 3067 استماع |
شرح الأربعين النووية - الحديث العاشر [1] | 3044 استماع |
شرح الأربعين النووية - الحديث الثامن [1] | 2994 استماع |
شرح الأربعين النووية - الحديث التاسع عشر [2] | 2890 استماع |
شرح الأربعين النووية - الحديث الثالث والعشرون [1] | 2876 استماع |