خطب ومحاضرات
شرح زاد المستقنع باب موانع الشهادة وعدد الشهود [1]
الحلقة مفرغة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين.
أما بعد:
فيقول المصنف رحمه الله: [باب موانع الشهادة وعدد الشهود].
شهادة الولد لوالده والعكس
وذلك كالأب يشهد لابنه، والابن يشهد لأبيه، والأم تشهد لابنها، والجد من الآباء أو الأمهات لفروعهم وإن نزل، والدليل على ذلك قوله تعالى: وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ [البقرة:282]، والأب مع الابن متهم، فإنه لا ترضى شهادته، وهذه يسميها العلماء: شهادة التهمة، فمن العلماء من جمع هذه العوارض تحت أصل يسمونه: التهمة، ثم قال: التهمة من جهة الضبط كما في المغفل وخفيف الضبط، الذي ذكره المصنف رحمه الله في شرط الحفظ، وجعل من أنواع التهمة: تهمة البعضية، والبعضية: هي شهادة الوالد لولده، والولد لأحد الوالدين، فهذه تهمة البعضية، أن يكون الشاهد بعضاً من المشهود له، أو يكون العكس، فحينئذٍ لا تقبل الشهادة.
والدليل الأول على البضعية آية البقرة وهي في مسألة الشهادة، والدليل الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما
وقد اختلف العلماء رحمهم الله: هل شهادة الوالدين للولد أو الولد للوالدين مردودة بأصل الشرع على ظاهر آية البقرة، أم أنها مردودة لفساد الزمان وحصول الريبة؟
وظاهر ما ورد عن الزهري رحمه الله قوله: كان السلف يقبلون شهادة الولد لوالده والوالد لولده، ثم لما ظهر فساد الناس امتنعوا من ذلك. هذا وجه، وحينئذٍ تكون آية البقرة غير دالة إلا من جهة فساد الزمان، لا أنها في الأصل مردودة، وهذا ما يسمى: اختلاف الحكم باختلاف الزمان والمكان، والأقوى أنها رُدَّت في الأصل، ولذلك أثر عن علي رضي الله عنه أنه أعفى شريحاً من القضاء ثم رضي عنه ورده، وهذا في قصة مشهورة: حين شهد الحسن والحسين لأبيهما في قصة الدرع، فامتنع شريح رحمه الله من قبول شهادتهما، فغضب علي رضي الله عنه وقال: أترد شهادة سيدي شباب أهل الجنة؟! فمنعه علي من القضاء فترة ثم رده. فعلى هذا الوجه يكون السلف فعلاً قد ردوا هذه الشهادة، وظاهر السنة يقوي كونها مردودة بالأصل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم جعل الوالد مع والده كالشيء الواحد وقال: (إنما
وإذا شهد الأب على ولده بجريمة أو بحق، فإنه في هذه الحالة تقبل شهادته.
إذاً: إذا كانت الشهادة للولد من الوالد أو العكس فإنها لا تقبل، بخلاف ما إذا كانت عليهم، فإنها تقبل؛ لأن التهمة منتفية، بل إن غالب الظن أنه صادق؛ لأنه مع العاطفة ومع المحبة ومع الشفقة ومع ذلك شهد عليه، فدل ذلك على قوة صدقه، وهذه الموانع في البعض دون الكل.
شهادة أحد الزوجين لصاحبه أو عليه
الزوج لا يشهد للزوجة، والزوجة لا تشهد للزوج، حتى ولو كان الزوج في شركة أموال، والمرأة تقبل شهادتها في الأموال، فجاءت وقالت: أنا أشهد، ففي هذه الحالة إذا قالت: أنا أشهد، فإن الزوج سينفق عليها من ذلك المال إذا ثبت للزوج، فحينئذٍ هي متهمة، وهذه يسمونها: تهمة المنفعة، فإن التهمة تكون بجلب منفعة أو دفع مضرة، فترد شهادة الشاهد إذا اتهم بجلب المنفعة لنفسه، سواء كانت أساساً أو تبعاً؛ أساساً كأن يشهد الشريك لشريكه، فإن المال الذي سيثبت سيكون قسمة بينه وبين شريكه، هذا في الأساس، أو تبعاً كشهادة المرأة لزوجها؛ لأنها ستحصل على منفعة من وراء هذه الشهادة، فتستفيد المرأة من نفقة زوجها عليها.
وكذلك شهادة الزوج لزوجته، ومن العلماء من فرق بين شهادة الزوجة لزوجها، وشهادة الزوج لزوجته، لكن في شهادة الزوج لزوجته لا شك أن التهمة قد تكون ضعيفة، خاصة إذا كان الزوج معروفاً بالعدالة والاستقامة.
أما الدليل من حيث قبول الشهادة -من حيث الأصل العام- في الزوج لزوجته والشريك لشريكه ونحو ذلك، فحديث الحاكم في مستدركه وصححه غير واحد من أهل العلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تجوز -أي: لا تقبل ولا يعمل بها- شهادة ذي الظِّنة ولا ذي الحنة)، وأيضاً في حديث المستدرك وهو عند أبي داود في السنن، وهو قوله: (رد النبي صلى الله عليه وسلم شهادة الخادم لأهل بيته)؛ لأنه يستفيد من مال سيده، ومن هنا خرّجوا مسألة الزوجة؛ لأنها تستفيد من مال زوجها، وقد أشرنا إلى الضعف؛ لأن الخادم ليس كالزوجة، فالخادم من حيث الأصل تبع لسيده يملكه وما ملك، لكن الزوجة لا يملكها وما ملكت، إلا أن شبهة النفقة موجودة في الزوجة، فإذا قيل بتعليلها في الحديث استقام ما ذكر.
قال رحمه الله: [وتقبل عليهم]
أي: تقبل شهادة أحد الزوجين على صاحبه لا له.
شهادة من يجر لنفسه نفعاً أو يدفع عنها ضرراً
أي: لا تقبل شهادة من يجر لنفسه نفعاً؛ كالشريك لشريكه، ويدفع عنها ضرراً أيضاً، فلو أنه شهد بأن شريكه أعطى العامل أجرته، وهم شركاء في مزرعة، فحينئذٍ إذا لم تثبت هذه الشهادة سيغرم هو وشريكه أجرة العامل، كأن بنى لهما رجل بيتاً أو عمارة، فقال شريكه: أديته حقه، فقال: ما أديتني، فاختصما إلى القاضي، فقال: عندي شهود، فجاء بشريكيه، والعمارة بين ثلاثة، فجاء بالشريكين، فالشريكان إذا قبلت شهادتهما دفعا الضرر عن نفسيهما؛ لأنه يجب على الثلاثة أن يتقاسموا قيمة البناء والعمارة وأجرة العامل.
والعكس: فلو ادعى مالاً، فقيل للشريك: أحضر شهودك، فجاء بشركائه، فإنه إذا ثبت له شيء ثبت للشركاء استحقاقهم على قدر حصتهم من أصل الشركة، فحينئذٍ لا تقبل لمن يجر لنفسه نفعاً ولا لمن يدفع عنها ضرراً.
شهادة العدو على عدوه وله
فلا تقبل شهادة عدو على عدوه، فإن العداوة تحمل على الأذية والضرر، وأعظمها عداوة الدين، ومن هنا قالوا برد الشهادة بعداوة الدين، وقد ردت الشريعة شهادة الكافر على المسلم.
وأما بالنسبة للعدو على عدوه من المسلمين فاختلفت عبارات العلماء: فإن العداوة يكون ظاهرها واضحاً، كأن ترى الشخص يفرح لمساءة الشخص، ويحزن ويغتم -والعياذ بالله- للنعمة تصيبه، فإذا ثبت هذا كأن يتكلم بكلام يظهر منه أنه لا يريد هذا الشيء، أو يصرح بأنه عدو، إما بإقراره أنه عدوه، أو تحدث بينهما خصومة؛ فحينئذٍ لا تقبل شهادته على عدوه.
وهذا النوع من الشهادة عكس من لا تقبل شهادة من يجر لنفسه نفعاً، أو يدفع عنها ضرراً، فهنا العدو على عدوه لا تقبل، لكن شهادة العدو لعدوه تقبل عكس الوالد لولده، وتقبل شهادة الوالد على ولده، وهذا يدل على مسألة قررها الإمام أبو البركات رحمه الله من فقهاء الحنابلة، وله كلام نفيس جداً في باب الشهادات في المحرر، وأيضاً علق عليه الإمام ابن مفلح رحمه الله في النكت فذكر: أن العلماء بعضهم توسع وبعضهم حجم في مسألة التهمة، لحديث: (ذو الظنة)، والظنين: هو المتهم، وقد جاء اللفظ الآخر: (لا تجوز شهادة خصم ولا ظنين)، والظنين: هو المتهم، من الظنة وهي التهمة، كما قال تعالى: وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ [التكوير:24] وفي قراءة (بظنين) أي: بمتهم، فلما قال: (لا تقبل شهادة الخصم والظنين)، والخصومة هي العداوة، فصارت أصلاً في رد شهادة العدو على عدوه، ومن هنا حصل اتفاق العلماء على عدم قبول شهادة من ثبتت عداوته على عدوه.
أما بالنسبة للتهمة: فمنهم من توسع فيها، ومنهم من ضيق، ومنهم من توسط، والمطلوب هو الوسط، ولذلك نجد ممن توسع أتى بأمر غريب، حتى قال بعضهم: لا تقبل شهادة من يبيع أكفان الموتى، قال: لأنه يتمنى موت المسلمين؛ ولأنه لا يربح سوقه إلا ببيعها، وإذا ما حصل موت فلن يجد من يشتري منه، ومن هنا قالوا: لا تقبل شهادته، فيأتون بتهم باطلة، وهذا أمر ينبغي على طالب العلم المسلم الدِّين التقي النقي السوي الرضي أن ينتبه لهذه النوعيات من الناس، حتى إن بعضهم يتكلم في العلماء والدعاة والمشايخ وطلاب العلم من عقول وأفهام ضيقة يعبث بها الشيطان؛ ومن هنا فإن الذي يغسل الموتى ويأخذ أجرةً نفس الحكم، والذي عنده سيارة يحمل الموتى نفس الحكم.. وتدخل في شيء لا ينتهي، وهذا توسع في إعمال التهمة، وهذا لم يذكره الإمام أبو البركات ، وإنما ذكر ضابطه.
ولكن هذه الأمور الغريبة تجدها في كتب الفقهاء رحمهم الله، وهذه لا تنقص من قدر العلماء؛ لأن العالم فلابد أن يبين؛ لأنه إذا جرى على قاعدة وأصل لا بد أن يذكر مثل هذه الغرائب، ومن هنا تجد عنده بعض العذر، لكن ليس كل عذر يقبل، فقد يقع من عامة الناس شيء من هذا بسبب ضعف دينهم، لكن من حيث الأصل لا تعتبر التهمة موجبة للرد إلا إذا قويت، وعلى هذا فلا ترد الشهادة بمطلق التهمة؛ بل ينبغي أن تحرر التهمة وأن تكون مؤثرة في شهادة الشاهد.
قال رحمه الله: [ ومن سره مساءة شخص أو غمه فرحه فهو عدوه ]
بين رحمه الله -بعد أن ذكر أن شهادة العدو لا تقبل- ضابط العدو: وهو الذي يسر بالمساءة تصيب الرجل، ويثبت عليه بالشهود أنه سر حينما وقع حادث على فلان، أو اغتم حينما صار الخير له، فحينئذٍ يثبت أنه عدو؛ لأن هذه يسمونها: دلالة الظاهر على الباطن، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (إنما أُمرت أن آخذ بظواهر الناس)، فإذا وُجِدَ رجل أصابه مكروه، فوجدنا شخصاً فرح وسرّ بهذا؛ دل على أنه عدو له، ومنهم من يسجد سجدة الشكر إذا بلغه وقوع مصيبة على عدوه.. نعم، له أن يفرح إذا كان الشخص يظلمه ويؤذيه ويضطهده، وكان باغياً ومعتدياً عليه، وبلغه عنه ما يسوءه وأن ذلك يعيقه عن أذيته، فسجد لله شاكراً أن قطع الله عنه دابره. ومن غير المسلمين يمكن أن تقبل، لكن من المسلمين من الصعب أن تقبل، لكن إذا جاءه ضرر من هذا الرجل ودائماً يؤذيه لسبب، فله أن يشكر الله؛ وذلك لقوله تعالى: لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ [النساء:148]، فكيف إذا كان أبدا فرحه بنعمة الله عليه؟ لأن الله امتن على بني إسرائيل بذهاب البلاء والشر عنهم، وانتصارهم على عدوهم.
فإذا كانت هناك عداوة عن ظلم وأذية وإضرار، وفرح الإنسان بهذا، فإنه لا ينقص من قدره ولا يؤثر فيه، وإنما يؤثر في الشهادة لو كان العدو صالحاً. ومن حقك مثلاً أن تفرح أن عدوك كبته الله عنك ولو كان مسلماً، كأن يكون لك جار سوء مؤذٍ يتهمك بالباطل.. يقذف عرضك، يتهمك في عقيدتك، ثم أصابه بلاء، وقطع الله دابره عنك، ففرحت أن الله سبحانه وتعالى أزاح عنك هذا الهم، فهذا لا يعتبر منقصة لك، وإنما هذا شر صرفه الله عنك، لكن لو ثبت عن الإنسان أنه فرح واغتم فيما فيه شبهة العداوة، فإنه يثبت عنه أنه عدو، ومسألة الحكم أنه يجوز أو لا يجوز هذه مسألة أخرى، لكن مسألة ما هو الضابط؟ بغض النظر عن كونه مشروعاً للإنسان أو غير مشروع، وهذا أمر ينبغي أن ينتبه له.
[لا تقبل شهادة عمودي النسب بعضهم لبعض]
وذلك كالأب يشهد لابنه، والابن يشهد لأبيه، والأم تشهد لابنها، والجد من الآباء أو الأمهات لفروعهم وإن نزل، والدليل على ذلك قوله تعالى: وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ [البقرة:282]، والأب مع الابن متهم، فإنه لا ترضى شهادته، وهذه يسميها العلماء: شهادة التهمة، فمن العلماء من جمع هذه العوارض تحت أصل يسمونه: التهمة، ثم قال: التهمة من جهة الضبط كما في المغفل وخفيف الضبط، الذي ذكره المصنف رحمه الله في شرط الحفظ، وجعل من أنواع التهمة: تهمة البعضية، والبعضية: هي شهادة الوالد لولده، والولد لأحد الوالدين، فهذه تهمة البعضية، أن يكون الشاهد بعضاً من المشهود له، أو يكون العكس، فحينئذٍ لا تقبل الشهادة.
والدليل الأول على البضعية آية البقرة وهي في مسألة الشهادة، والدليل الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما
وقد اختلف العلماء رحمهم الله: هل شهادة الوالدين للولد أو الولد للوالدين مردودة بأصل الشرع على ظاهر آية البقرة، أم أنها مردودة لفساد الزمان وحصول الريبة؟
وظاهر ما ورد عن الزهري رحمه الله قوله: كان السلف يقبلون شهادة الولد لوالده والوالد لولده، ثم لما ظهر فساد الناس امتنعوا من ذلك. هذا وجه، وحينئذٍ تكون آية البقرة غير دالة إلا من جهة فساد الزمان، لا أنها في الأصل مردودة، وهذا ما يسمى: اختلاف الحكم باختلاف الزمان والمكان، والأقوى أنها رُدَّت في الأصل، ولذلك أثر عن علي رضي الله عنه أنه أعفى شريحاً من القضاء ثم رضي عنه ورده، وهذا في قصة مشهورة: حين شهد الحسن والحسين لأبيهما في قصة الدرع، فامتنع شريح رحمه الله من قبول شهادتهما، فغضب علي رضي الله عنه وقال: أترد شهادة سيدي شباب أهل الجنة؟! فمنعه علي من القضاء فترة ثم رده. فعلى هذا الوجه يكون السلف فعلاً قد ردوا هذه الشهادة، وظاهر السنة يقوي كونها مردودة بالأصل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم جعل الوالد مع والده كالشيء الواحد وقال: (إنما
وإذا شهد الأب على ولده بجريمة أو بحق، فإنه في هذه الحالة تقبل شهادته.
إذاً: إذا كانت الشهادة للولد من الوالد أو العكس فإنها لا تقبل، بخلاف ما إذا كانت عليهم، فإنها تقبل؛ لأن التهمة منتفية، بل إن غالب الظن أنه صادق؛ لأنه مع العاطفة ومع المحبة ومع الشفقة ومع ذلك شهد عليه، فدل ذلك على قوة صدقه، وهذه الموانع في البعض دون الكل.
قال رحمه الله: [ولا شهادة أحد الزوجين لصاحبه]
الزوج لا يشهد للزوجة، والزوجة لا تشهد للزوج، حتى ولو كان الزوج في شركة أموال، والمرأة تقبل شهادتها في الأموال، فجاءت وقالت: أنا أشهد، ففي هذه الحالة إذا قالت: أنا أشهد، فإن الزوج سينفق عليها من ذلك المال إذا ثبت للزوج، فحينئذٍ هي متهمة، وهذه يسمونها: تهمة المنفعة، فإن التهمة تكون بجلب منفعة أو دفع مضرة، فترد شهادة الشاهد إذا اتهم بجلب المنفعة لنفسه، سواء كانت أساساً أو تبعاً؛ أساساً كأن يشهد الشريك لشريكه، فإن المال الذي سيثبت سيكون قسمة بينه وبين شريكه، هذا في الأساس، أو تبعاً كشهادة المرأة لزوجها؛ لأنها ستحصل على منفعة من وراء هذه الشهادة، فتستفيد المرأة من نفقة زوجها عليها.
وكذلك شهادة الزوج لزوجته، ومن العلماء من فرق بين شهادة الزوجة لزوجها، وشهادة الزوج لزوجته، لكن في شهادة الزوج لزوجته لا شك أن التهمة قد تكون ضعيفة، خاصة إذا كان الزوج معروفاً بالعدالة والاستقامة.
أما الدليل من حيث قبول الشهادة -من حيث الأصل العام- في الزوج لزوجته والشريك لشريكه ونحو ذلك، فحديث الحاكم في مستدركه وصححه غير واحد من أهل العلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تجوز -أي: لا تقبل ولا يعمل بها- شهادة ذي الظِّنة ولا ذي الحنة)، وأيضاً في حديث المستدرك وهو عند أبي داود في السنن، وهو قوله: (رد النبي صلى الله عليه وسلم شهادة الخادم لأهل بيته)؛ لأنه يستفيد من مال سيده، ومن هنا خرّجوا مسألة الزوجة؛ لأنها تستفيد من مال زوجها، وقد أشرنا إلى الضعف؛ لأن الخادم ليس كالزوجة، فالخادم من حيث الأصل تبع لسيده يملكه وما ملك، لكن الزوجة لا يملكها وما ملكت، إلا أن شبهة النفقة موجودة في الزوجة، فإذا قيل بتعليلها في الحديث استقام ما ذكر.
قال رحمه الله: [وتقبل عليهم]
أي: تقبل شهادة أحد الزوجين على صاحبه لا له.
قال رحمه الله: [ولا من يجر إلى نفسه نفعاً أو يدفع عنها ضرراً].
أي: لا تقبل شهادة من يجر لنفسه نفعاً؛ كالشريك لشريكه، ويدفع عنها ضرراً أيضاً، فلو أنه شهد بأن شريكه أعطى العامل أجرته، وهم شركاء في مزرعة، فحينئذٍ إذا لم تثبت هذه الشهادة سيغرم هو وشريكه أجرة العامل، كأن بنى لهما رجل بيتاً أو عمارة، فقال شريكه: أديته حقه، فقال: ما أديتني، فاختصما إلى القاضي، فقال: عندي شهود، فجاء بشريكيه، والعمارة بين ثلاثة، فجاء بالشريكين، فالشريكان إذا قبلت شهادتهما دفعا الضرر عن نفسيهما؛ لأنه يجب على الثلاثة أن يتقاسموا قيمة البناء والعمارة وأجرة العامل.
والعكس: فلو ادعى مالاً، فقيل للشريك: أحضر شهودك، فجاء بشركائه، فإنه إذا ثبت له شيء ثبت للشركاء استحقاقهم على قدر حصتهم من أصل الشركة، فحينئذٍ لا تقبل لمن يجر لنفسه نفعاً ولا لمن يدفع عنها ضرراً.
قال رحمه الله: [ولا عدو على عدوه، كمن شهد على من قذفه أو قطع الطريق عليه]
فلا تقبل شهادة عدو على عدوه، فإن العداوة تحمل على الأذية والضرر، وأعظمها عداوة الدين، ومن هنا قالوا برد الشهادة بعداوة الدين، وقد ردت الشريعة شهادة الكافر على المسلم.
وأما بالنسبة للعدو على عدوه من المسلمين فاختلفت عبارات العلماء: فإن العداوة يكون ظاهرها واضحاً، كأن ترى الشخص يفرح لمساءة الشخص، ويحزن ويغتم -والعياذ بالله- للنعمة تصيبه، فإذا ثبت هذا كأن يتكلم بكلام يظهر منه أنه لا يريد هذا الشيء، أو يصرح بأنه عدو، إما بإقراره أنه عدوه، أو تحدث بينهما خصومة؛ فحينئذٍ لا تقبل شهادته على عدوه.
وهذا النوع من الشهادة عكس من لا تقبل شهادة من يجر لنفسه نفعاً، أو يدفع عنها ضرراً، فهنا العدو على عدوه لا تقبل، لكن شهادة العدو لعدوه تقبل عكس الوالد لولده، وتقبل شهادة الوالد على ولده، وهذا يدل على مسألة قررها الإمام أبو البركات رحمه الله من فقهاء الحنابلة، وله كلام نفيس جداً في باب الشهادات في المحرر، وأيضاً علق عليه الإمام ابن مفلح رحمه الله في النكت فذكر: أن العلماء بعضهم توسع وبعضهم حجم في مسألة التهمة، لحديث: (ذو الظنة)، والظنين: هو المتهم، وقد جاء اللفظ الآخر: (لا تجوز شهادة خصم ولا ظنين)، والظنين: هو المتهم، من الظنة وهي التهمة، كما قال تعالى: وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ [التكوير:24] وفي قراءة (بظنين) أي: بمتهم، فلما قال: (لا تقبل شهادة الخصم والظنين)، والخصومة هي العداوة، فصارت أصلاً في رد شهادة العدو على عدوه، ومن هنا حصل اتفاق العلماء على عدم قبول شهادة من ثبتت عداوته على عدوه.
أما بالنسبة للتهمة: فمنهم من توسع فيها، ومنهم من ضيق، ومنهم من توسط، والمطلوب هو الوسط، ولذلك نجد ممن توسع أتى بأمر غريب، حتى قال بعضهم: لا تقبل شهادة من يبيع أكفان الموتى، قال: لأنه يتمنى موت المسلمين؛ ولأنه لا يربح سوقه إلا ببيعها، وإذا ما حصل موت فلن يجد من يشتري منه، ومن هنا قالوا: لا تقبل شهادته، فيأتون بتهم باطلة، وهذا أمر ينبغي على طالب العلم المسلم الدِّين التقي النقي السوي الرضي أن ينتبه لهذه النوعيات من الناس، حتى إن بعضهم يتكلم في العلماء والدعاة والمشايخ وطلاب العلم من عقول وأفهام ضيقة يعبث بها الشيطان؛ ومن هنا فإن الذي يغسل الموتى ويأخذ أجرةً نفس الحكم، والذي عنده سيارة يحمل الموتى نفس الحكم.. وتدخل في شيء لا ينتهي، وهذا توسع في إعمال التهمة، وهذا لم يذكره الإمام أبو البركات ، وإنما ذكر ضابطه.
ولكن هذه الأمور الغريبة تجدها في كتب الفقهاء رحمهم الله، وهذه لا تنقص من قدر العلماء؛ لأن العالم فلابد أن يبين؛ لأنه إذا جرى على قاعدة وأصل لا بد أن يذكر مثل هذه الغرائب، ومن هنا تجد عنده بعض العذر، لكن ليس كل عذر يقبل، فقد يقع من عامة الناس شيء من هذا بسبب ضعف دينهم، لكن من حيث الأصل لا تعتبر التهمة موجبة للرد إلا إذا قويت، وعلى هذا فلا ترد الشهادة بمطلق التهمة؛ بل ينبغي أن تحرر التهمة وأن تكون مؤثرة في شهادة الشاهد.
قال رحمه الله: [ ومن سره مساءة شخص أو غمه فرحه فهو عدوه ]
بين رحمه الله -بعد أن ذكر أن شهادة العدو لا تقبل- ضابط العدو: وهو الذي يسر بالمساءة تصيب الرجل، ويثبت عليه بالشهود أنه سر حينما وقع حادث على فلان، أو اغتم حينما صار الخير له، فحينئذٍ يثبت أنه عدو؛ لأن هذه يسمونها: دلالة الظاهر على الباطن، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (إنما أُمرت أن آخذ بظواهر الناس)، فإذا وُجِدَ رجل أصابه مكروه، فوجدنا شخصاً فرح وسرّ بهذا؛ دل على أنه عدو له، ومنهم من يسجد سجدة الشكر إذا بلغه وقوع مصيبة على عدوه.. نعم، له أن يفرح إذا كان الشخص يظلمه ويؤذيه ويضطهده، وكان باغياً ومعتدياً عليه، وبلغه عنه ما يسوءه وأن ذلك يعيقه عن أذيته، فسجد لله شاكراً أن قطع الله عنه دابره. ومن غير المسلمين يمكن أن تقبل، لكن من المسلمين من الصعب أن تقبل، لكن إذا جاءه ضرر من هذا الرجل ودائماً يؤذيه لسبب، فله أن يشكر الله؛ وذلك لقوله تعالى: لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ [النساء:148]، فكيف إذا كان أبدا فرحه بنعمة الله عليه؟ لأن الله امتن على بني إسرائيل بذهاب البلاء والشر عنهم، وانتصارهم على عدوهم.
فإذا كانت هناك عداوة عن ظلم وأذية وإضرار، وفرح الإنسان بهذا، فإنه لا ينقص من قدره ولا يؤثر فيه، وإنما يؤثر في الشهادة لو كان العدو صالحاً. ومن حقك مثلاً أن تفرح أن عدوك كبته الله عنك ولو كان مسلماً، كأن يكون لك جار سوء مؤذٍ يتهمك بالباطل.. يقذف عرضك، يتهمك في عقيدتك، ثم أصابه بلاء، وقطع الله دابره عنك، ففرحت أن الله سبحانه وتعالى أزاح عنك هذا الهم، فهذا لا يعتبر منقصة لك، وإنما هذا شر صرفه الله عنك، لكن لو ثبت عن الإنسان أنه فرح واغتم فيما فيه شبهة العداوة، فإنه يثبت عنه أنه عدو، ومسألة الحكم أنه يجوز أو لا يجوز هذه مسألة أخرى، لكن مسألة ما هو الضابط؟ بغض النظر عن كونه مشروعاً للإنسان أو غير مشروع، وهذا أمر ينبغي أن ينتبه له.
قال رحمه الله: [فصل: ولا يقبل في الزنا والإقرار به إلا أربعة]
هذا بالنسبة لمسألة العدد في الشهادة، فلا يقبل في الزنا والإقرار به أي: أن فلاناً أقر أنه زان حتى يؤاخذ بالإقرار إلا إذا شهد عليه أربعة شهود عدول؛ وذلك لنص آية النور على ذلك: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً [النور:4]، فنص على أن شهادة الزنا لا تقبل إلا بأربعة عدول، وقد تقدم في باب الزنا أن الشهادة في الزنا اختصت بأمرين:
أولاً: اختصت شهادة الزنا بخصائص في العدد أربعة، فلا تقبل شهادة أقل من أربعة، ولذلك لما حصل رجوع الشاهد الرابع في شهادته على المغيرة عند عمر ، حمد الله عمر على أن الله لم يفضح محمداً عليه الصلاة والسلام في أصحابه بعد موته، وردت شهادتهم وجُلدوا حد القذف، فهذا أصل أجمع العلماء عليه، أنه لابد من العدد.
ثانياً: تنفرد أنها خاصة بالذكور، وكذلك بقية الحدود لا يقبل فيها إلا الذكور؛ من جنس الحدود، والحدود تنفرد بكونها لا يقبل فيها إلا الرجال، فلا تقبل شهادة النساء فيها، فالأربعة شهود يشهدون على الزنا ويصفونه بما ذكرناه فيما تقدم.
قال رحمه الله: [ويكفي على من أتى بهيمة رجلان]
لأنه هذا كما قلنا: ليس بحد، وإنما هو تعزير، وهل يقتل أو لا يقتل؟ هذا قد تقدم معنا، لكن إذا ثبت بشهادة رجلين أنه أتى ناقة أو أتى بقرة أو نحو ذلك، فإنه يعزره القاضي بما يراه، وإذا قلنا: إن التعزير يكون بالقتل ورأى أن المصلحة قتله، قتله؛ وإذا قيل: إن التعزير يكون بما يتناسب مع حاله إذا كان محصناً؛ قتله، هذا هو وجهه، لكن قد بينا أن إتيان البهيمة فيه التعزير، وعلى هذا فلا يجب أن تكون فيه شهادة الحد كاملة.
قال رحمه الله: [ويقبل في بقية الحدود والقصاص، وما ليس بعقوبة ولا مال ولا يقصد به المال، ويطلع عليه الرجال غالباً؛ كنكاح وطلاق ورجعة وخلع ونسب وولاء وإيصاء إليه يقبل فيه رجلان ].
هذا كله بالنسبة للحدود من غير الزنا حتى ولو كان قتلاً، فإذا شهد اثنان أن فلاناً قتل فلاناً، فتقبل شهادتهما بالشروط المعتبرة، وكذلك أيضاً السرقة تقبل شهادة اثنين على السرقة، وكذلك على شخص أنه شرب الخمر والعياذ بالله! هذا بالنسبة للجرائم.
أما بالنسبة للحقوق فإذا شهد اثنان على بيع أو إجارة أو هبة أو صدقة أو وصية أو نكاح أو غير ذلك، فكل هذا تقبل فيه شهادة الاثنين.
قال رحمه الله: [ويقبل في المال وما يقصد به كالبيع والأجل والخيار فيه ونحوه رجلان، أو رجل وامرأتان، أو رجل ويمين المدعي].
بالنسبة للحدود لا تقبل فيها شهادة النساء، ولا يقبل فيها شاهد ويمين، بل لا بد فيها من شهادة رجلين، كالسرقة، فإنه لا تثبت بشهادة أربع نسوة، ولا بامرأتين مع رجل، فلا تقبل فيها شهادة النساء، وهذا له حكمة، وهذا أمر ينبغي أن ينتبه له طلاب العلم؛ لأن كثيراً من أعداء الإسلام يتكلمون على الشريعة الإسلامية أنها تظلم المرأة، وشاهت وجوههم! فليس هناك شرع أتم ولا أكمل من شرع الله عز وجل، وهو الذي أعطى كل ذي حقٍ حقه، ولذلك لا تقبل شهادة المرأة في الحدود لسبب، وتقبل شهادتها في الأموال وغيرها لسبب، ولو كان المراد أذية المرأة لما قبلت شهادتها مطلقاً، ولكن قبلت شهادتها حيث غلب على الظن الوثوق بقولها، وردت حيث كان العكس.
والمرأة في طبيعتها وجبلتها ليست كالرجل، يرضى من يرضى ويسخط من يسخط، والله تعالى يقول: وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى [آل عمران:36]، فهذا شرع الله ونص الله عز وجل على أن الذكر ليس كالأنثى، لا في التكاليف ولا في القدرة والتحمل والصفات، ولذلك جعل الله من الشرائع ما يختص بالرجال دون النساء، وهذا لا ينقص المرأة أبداً؛ بل هذا جاء من العدل الذي قامت عليه السماوات والأرض، حيث لم يكلف ولم يحمل الإنسان إلا ما يطيق.
والمرأة فيها ضعف، فقد خلقها الله ضعيفة، والله يخلق ما يشاء، يخلق القوي ويخلق الضعيف، وليس من حق الضعيف أن يقول: يا رب! لم خلقتني ضعيفاً؟ بل عليه أن يرضى ويسلِّم، فقد خلق الرجل في الأصل، وخلق المرأة من الرجل، وجعل التكريم للرجل، فلا يستطع أحد أن يقول: لماذا فضل الله الرجل على المرأة؟ فإن فضله بتفضيل الله، فقد خلق آدم بيده، ونفخ فيه من روحه، وأسجد له ملائكته.
فالأصل في الخِلقة هو الرجل، ثم جاءت المرأة تبعاً للرجل، قال تعالى: وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا [الأعراف:189]، وهذا يرضى به من يرضى ويسخط من يسخط؛ لأن هذا نص القرآن، وعلى الإنسان أن ينتبه وأن لا يجامل في دين الله، ولا بد أن يقول الحق، ولا يزال الإسلام غريباً، وسيأتي ما هو أغرب من ذلك، فهذا نص القرآن يبين أن الأصل في الخِلقة هو الرجل، وأن المرأة خُلقت من الرجل، وحق الرجل على المرأة عظيم.
إذا ثبت هذا فالصفات الموجودة في المرأة ليست كالصفات الموجودة في الرجل، ولذلك تقدم معنا في القضاء وبيناه: أن من شروط القضاء: أن يكون رجلاً؛ لأن المرأة ضعيفة فلا تتحمل القضاء؛ وذلك لقوله تعالى: أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ [الزخرف:18] أي: من الذي يتحلى ويتزين؟ إنه المرأة، وهذه طبيعتها، وهكذا خلقها الله لأجل أن يسكن إليها الرجل.
أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ [الزخرف:18]، فإذا حصلت خصومة فإنها لا تستطيع أن تبين عن نفسها، فكيف نجعلها قاضية تبين عن غيرها، وتتولى حقوق الناس وتقف فيها، وتجابه هذه المشاكل والمعضلات؟ قال تعالى: وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ [الزخرف:18] انظر إلى طبيعة المرأة، إذا جاءت مشكلة، ووقفت في وجه زوجها ليس في وجه أجنبي، وأرادت أن تبين حجتها، فلا تستطيع أن تكمل كلامها، بمجرد أن تدخل في الحجة تجدها تقول: أنت ما تفهم، أنت ما تريدني، طلقني، لا أريدك، وإذا بها تدخل في أشياء خارجة عن المشكلة، فهي لا تستطيع أن تبين عن نفسها.
وعندما نتكلم عن نقص المرأة قد يظن ظان أننا نريد أن نشمت بها.. لا؛ فإن هذه طبيعة تكوينها، وهكذا خلقت بالضعف الذي فيه رقة الأنوثة، وحنان الأنوثة؛ لكي تحتوي الرجل، وتكون للرجل كما شاء الله عز وجل بشيء يشرفها ولا يشينها؛ لأنها خلقة الله، فهي لا تلام على شيء خلقت له، ولو أن شخصاً ضعيف لا يستطيع أن يبين، وعبناه، فهل نعيب المخلوق أم الخالق؟ معناه: أننا إذا عبناه كأننا نعيب الخالق والعياذ بالله! ولذلك لا نستهزئ ولا يجوز لأحد أن يستهزئ بهذا، إنما هذا شرع الله، وهذه النصوص وهذه الحقائق من الله عز وجل.
فإذا كانت المرأة لا تستطيع أن تبين عن نفسها، فكيف نقبل شهادتها في الحدود؟! فالمرأة من طبيعتها لو أنها جاءت في حادثة قتل مثلاً، فإنها بمجرد أن ترى أي شيء يزعجها تراها تصرف وجهها، وإذا لم تستطع أن تصرف وجهها وضعت يديها على وجهها، وهذا أمر واقع، ولا يستطيع أحد أن ينكر هذا، فما تستطيع المرأة أن تتحمل، قال تعالى حاكياً عن زوجة إبراهيم عليه السلام: فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ [الذاريات:29]، وقال تعالى حاكياً عنها أيضاً: قَالَتْ يَا وَيْلَتَا أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا [هود:72]، فقوله: (فَصَكَّتْ وَجْهَهَا) وهي سارة ، ومع أنها زوجة نبي فما استطاعت أن تتحمل لا في فرح ولا في حزن، فها هي في الفرح قالت: (يَا وَيْلَتَا) فلم تستطع أن تتحمل ذلك.
فالمرأة هذا تحملها وهذه طاقتها، ويأتي شخص ويقول: نريد أن نجعلها قاضية!! المرأة مكرمة في ديننا، والإسلام أعطاها حقها، وبين الله طاقتها وقدرتها، هذا هو الشيء الذي جبل الله عز وجل المرأة عليه، وهذه هي الفطرة، فإذا كانت المرأة لا تتحمل هذا الشيء، فلماذا تحملونها ما لا تطيق؟!
ولذلك نجد أن من طبيعة المرأة إذا حدث شيء وبجوارها رجل فلا يمكن أن توجه ذلك الشيء لوحدها، بل مباشرة تنطلق إلى الرجل، ومن العجيب أن بعض الأطباء يقول: والله إن المرأة الطبيبة حتى في توليدها للنساء، إذا حدثت مشكلة وعندها رجل طبيب، فإنها تترك كل شيء وتذهب إلى الرجل، فلا تستطع أن تتحمل.
إذاً: إذا منعت من القضاء ومنعت من الشهادة، فهذا عين العدل، وعين الحق أن تعطي المخلوق قدرته وطاقته، ثم إذا كانت الشريعة قالت: إنه لا تشهد المرأة لوجود خلل، إذا كانت المرأة لا تتحمل أن ترى الدماء، ولا تتحمل أن ترى القتل والضرب والأذية، وكذلك في الحدود، حتى في الزنا لو أنها رأت المرأة فإن فيها شدة الغيرة، حتى ولو كان من رجل أجنبي مع امرأة فإنه يحدث منها الغيرة، وهذه طبيعة الفطرة وطبيعة الخلقة، وحينئذٍ يكون هناك نوع من الاعتداء في الشهادة، ووجود الخلل في شهادتها على الدماء، وفي شهادتها على الحدود، وفي شهادتها على الزنا، وكل هذا بسبب وجود الضعف الخَلْقِي الذي لا تلام فيه.
فالأصل يدل على هذا، وإذا ثبت هذا فإننا نقول: إن المرأة لا تقبل شهادتها إلا في الأموال، ثم لما قبلت في الأموال قال تعالى: وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا [البقرة:282]، فقوله: (أَنْ تَضِلَّ) أي: تنسى، قالوا: لأن المرأة لما ركبت من الشهوة في طبيعتها وفطرتها، وهذا له تأثير على العقل، والعقل نور من الله عز وجل، ومن أقوى ما يضعف العقل الشهوة، ومن تورع في الشهوات وصان نفسه عنها حفظ الله له نور عقله، ولذلك أعقل الناس هو أورعهم عن الشهوات، ومن هنا قالوا: إن الله عز وجل لما نهى عن قربان الفواحش ختم بقوله: ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [الأنعام:151]، فهذه وصية من أجل أن يحصل العقل.
فالمرأة من حيث هي مركبة من الشهوة، ووجود الشهوة فيها من طبيعتها وجبلتها، وهذا يؤثر في تركيزها وفي ضبطها، ومن هنا قالوا: لأجل هذه الجبلة وهذه الطبيعة جعل الله شهادة المرأتين بمثابة شهادة الرجل الواحد، وهذا من أصل خلقتها، فإذا ثبت هذا فلا تقبل شهادتها إلا في الأموال، أو ما يئول إلى الأموال، فيستشهد رجل وامرأتان، ولو استشهدنا النساء منفردات على المال، لجاز ذلك؛ مثاله: لو باع رجل أرضاً لابن عمه وأشهد أربع نسوة؛ صحت وقبلت الشهادة؛ لأنها مال، وهكذا بالنسبة لغير الحدود مما تقبل فيها شهادة النساء.
استمع المزيد من الشيخ محمد بن محمد مختار الشنقيطي - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
شرح زاد المستقنع كتاب البيع [4] | 3704 استماع |
شرح زاد المستقنع باب الرجعة [1] | 3620 استماع |
شرح زاد المستقنع باب ما يختلف به عدد الطلاق | 3441 استماع |
شرح زاد المستقنع باب صلاة التطوع [3] | 3374 استماع |
شرح زاد المستقنع واجبات الصلاة | 3339 استماع |
شرح زاد المستقنع باب الإجارة [10] | 3320 استماع |
شرح زاد المستقنع باب التيمم [1] | 3273 استماع |
شرح زاد المستقنع باب صوم التطوع [2] | 3228 استماع |
شرح زاد المستقنع باب شروط القصاص | 3186 استماع |
شرح زاد المستقنع باب نفقة الأقارب والمماليك [6] | 3169 استماع |