أرشيف المقالات

حقوق القاضي في الشريعة الإسلامية

مدة قراءة المادة : 6 دقائق .
حقوق القاضي في الشريعة الإسلامية
المساواة في الحقوق القضائية في الشريعة الإسلامية (3)

للقاضي حقوق كثيرة في الإسلام، وهي في المقابل واجبات على الأفراد وعلى الأمة التي يمارِس فيها القاضي واجباتِه، ومن هذه الحقوق:
• المرتب الشهري أو السنوي: فمن حق القاضي - بدل تفرغه للعمل في سلك القضاء - أن تجعل له الدولة راتبًا شهريًّا أو سنويًّا يُغنِيه عما في أيدي الناس؛ خوفًا من حاجته للمال، فيضطر لأكل المال الحرام كالرشوة والهدية، يقول الله - عز وجل -: ﴿ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 188].
 
عن أبي حُمَيد الساعدي، قال: استعمل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجلاً من الأَزْد على صدقات بني سليم، يدعى ابن اللُّتْبِية، فلما جاء حاسبه، قال: هذا ما لكم، وهذا هدية، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((فهلاَّ جلست في بيت أبيك وأمك، حتى تأتيك هديتك، إن كنت صادقًا؟))...
ثم خطبنا، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: ((أما بعد، فإني أستعمل الرجل منكم على العمل مما ولاني الله، فيأتي فيقول: هذا ما لكم، وهذا هدية أهديت لي، أفلا جلس في بيت أبيه وأمه حتى تأتيه هديته إن كان صادقًا؟! والله لا يأخذ أحد منكم منها شيئًا بغير حقه إلا لقي الله - تعالى - يحمله يوم القيامة؛ فلأعرفنَّ أحدًا منكم لقي الله يحمل بعيرًا له رُغَاء، أو بقرة لها خُوَار، أو شاة تَيْعَرُ))، ثم رفع يديه حتى رُئِي بياض إبطيه، ثم قال: ((اللهم هل بلغت؟))، بَصُر عيني، وسَمِع أذني[1].
 
وحول تحديد راتب القاضي، فإن الشريعة الإسلامية لم تحدِّد مقدارًا معينًا له؛ وإنما يرجع في مقداره لغنى الأمة وفقرها من ناحية، وللظروف الاجتماعية والشخصية للقاضي من ناحية أخرى، يقول الإمام النووي: "وليكن رزق القاضي بقدر كفايته وكفاية عياله؛ أي: ما يَلِيق بحالهم من النفقة والكسوة وغيرهما"[2].
 
ولقد فرق سيدنا عمر - رضي الله عنه - في الأعطيات بين قضاته، كل بحسب حاجته وحاجة عياله؛ فقد "فرض - رضي الله عنه - للقاضي شريح في كل شهر مائة درهم، ولعلي بن أبي طالب خمسمائة درهم، وبعث إلى الكوفة عمارًا، وعثمان بن حُنَيف، وابن مسعود، ورزقهم كل يوم شاة، نصفها لعمار، ونصفها الآخر لابن مسعود وعثمان بن حنيف، وكان ابن مسعود - رضي الله عنهم جميعًا - قاضيهم ومعلِّمهم"[3].
 
وهكذا، فإنه يلاحظ رزق ابن مسعود - وهو قاضيهم ومعلمهم - كان ربع الشاة، بينما كان نصيب عمار نصفها، وهذا يعني أن مرتب القاضي يكون بحسب حاجته وحاجة عياله.
 
• أن يتخذ القاضي أعوانًا له من أجل أداء مهمته وتنفيذها على خير وجه: كالشرطة، والكتَّاب، والمترجمين، وموظفين آخرين تقتضي طبيعة عمل القضاء عدم الاستغناء عنهم.
 
يقول الدكتور محمد أبو فارس: "ولما تطور الزمان، وضعف الوازع الديني عند الناس، وقل أدب المتخاصمين؛ نشأت الحاجة إلى اتخاذ الشرطة والأعوان؛ لتأديب المنافق، وزجر المتمرد" [4].
 
وبالطبع، فإنه يشترط في هؤلاء الموظفين المساعدين لمنصب القضاء عدة شروط: كالإسلام، والعدالة، والأهلية الكاملة.
 
• استقلال القاضي: ومن حق القاضي أن يستقل في قضائه، وألاَّ يتدخَّل أحد فيه، فلا يجوز للسلطة التنفيذية أو التشريعية التدخل في سير القضاء، أو أن تسن أي قانون يقيد صلاحيات القاضي.
 
وفي قصة القاضي العز بن عبدالسلام ما يؤكد استقلال القاضي؛ فقد أفتى - والفتيا نوع من القضاء - ببيع بعض الأمراء الأتراك في مصر؛ لأنه لم يثبت لديه أنهم أحرار، ووضع أثمانهم في بيت مال المسلمين، فأرسل إليه نائب السلطنة بالملاطفة كي يرجع عن فتواه، فلم يفد معه، فانزعج النائب، وقال: كيف ينادي علينا هذا الشيخُ ويبيعنا ونحن ملوك الأرض؟ والله لأضربنه بسيفي، فركب بنفسه في جماعته وجاء إلى بيت الشيخ، والسيف مسلول في يده، فطرق الباب فخرج ولد الشيخ، فرأى من نائب السلطنة ما رأى، فعاد إلى أبيه وشرح له الحال، فما اكترث لذلك ولا تغير، وقال: يا ولدي، أبوك أقل من أن يقتل في سبيل الله، وحينما خرج فوقع بصره على النائب، سقط السيف من يد النائب وارتعدت مفاصله، فبكى وسأل الشيخ أن يدعو له، وقال: يا سيدي، أَيْشٍ تعمل؟ قال: أنادي عليكم وأبيعكم، قال: فيمَ تصرف ثمننا؟ قال: في مصالح المسلمين، قال: من يقبضه؟ قال: أنا.
 
ونادى على الأمراء واحدًا واحدًا، وغالى في ثمنهم، وقبضه وصرفه في وجوه الخير[5].
 
وهذه الواقعة تدل على أن للقاضي في الإسلام استقلالاً قضائيًّا، لا يستطيع أحد أن يتدخل في حكمه، بل إن القاضي في الإسلام ليحاكم الأميرَ؛ فالإسلام لا يفرِّق بين الناس.



[1] صحيح الإمام مسلم.


[2] روضة الطالبين، للإمام النووي، 11/ 137.


[3] المغني، ابن قدامة، 11/ 376.


[4] القضاء في الإسلام، د.
محمد أبو فارس، ص 61.


[5] طبقات الشافعية الكبرى، السبكي، 8/ 216 - 217.

شارك الخبر

المرئيات-١