من أقوال السلف في غض البصر
مدة
قراءة المادة :
13 دقائق
.
من أقوال السلف في غضِّ البصرالحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، أما بعد:
فغض البصر مما جاء الأمر به في القرآن والسنة، قال الله تعالى: ﴿ قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ ﴾[النور: 30]، وقال الله عز وجل: ﴿ وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ ﴾[النور: 31].
وعن أبي سعيد الخُدْري رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إيَّاكم والجلوس في الطُّرُقات))، قالوا: ما لنا بدٌّ، إنما هي مجالسنا نتحدث فيها، قال: ((فإذا أبيتم إلا ذلك، فأعطوا الطريق حقَّها)) قالوا: وما حقُّ الطريق؟ قال: ((غضُّ البصر، وكفُّ الأذى، وردُّ السلام، والأمرُ بالمعروف والنهيُ عن المنكر))؛ [أخرجه البخاري]، ومن أطلق لعينيه العنان في النظر إلى ما حرَّم الله عز وجل، فقد جعلهما تزنيان، فعن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((العينانِ تزنيانِ وزناهما النظر))؛ [أخرجه البخاري ومسلم].
والإنسان يمدح بغض بصره عن نساء الآخرين، يقول عنترة:
وأغضُّ طرفي ما بَدَتْ لي جارتي
حتى يُواري جارتي مأواها
فينبغي أن يجاهد الإنسان نفسه في غض البصر، فهو داء مهلك، يؤثر في قلب الإنسان، وفي تلذذه بطاعة الله جل وعلا، وقد يكون من أسباب انتكاسة البعض عن طريق الهداية والاستقامة، نسأل الله الكريم أن يعيننا على مجاهدة أنفسنا في غضِّ أبصارنا عمَّا حَرَّم الله.
للسلف رحمهم الله أقوال في غضِّ البصر، جمعت بعضًا منها، أسأل الله الكريم أن ينفع بها الجميع.
حفظ البصر عن النظر إلى ما لا يحل له:
عن سعيد بن جبير، رحمه الله، في قول الله تعالى: ﴿ قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ ﴾ [النور: 30]؛ يعني: يحفظوا من أبصارهم...عمَّا لا يحلُّ لهم النظر إليه.
عن الربيع رحمه الله، في قوله تعالى: ﴿ قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ ﴾ قال: لا ينظر إلى عورة أحد.
وصية بغضِّ البصر عن النظرإلى الحرام:
قال الإمام ابن الجوزي رحمه الله: فتفهم يا أخي ما أوصيك به، إنما بصرك نعمة من الله عليك، فلا تعصِه بنعمه، وعامله بغضه عن الحرام تربح، واحذر أن تكون العقوبة سلب تلك النعمة، وكل زمن الجهاد في الغضِّ لحظة، فإن فعلت ذلك نلت الخير الجزيل.
غُضَّ طرفك عمَّا هو عليك من أعظم الآثام، وهو النظرإلى ما لا يحل لك من حرم الأنام...وليكن بصرك من النظر إلى المحارم معدولًا.
الاقتداء بالسلف في غضِّهم من أبصارهم:
خرج حسان بن أبي سنان رحمه الله يوم العيد، فلما رجع قالت له امرأته: كم من امرأة حسنة نظرت إليها اليوم ورأيتها؟ فلما أكثرت عليه، قال: ويحك، ما نظرت إلا في إبهامي منذ خرجت من عندك حتى رجعت إليك.
خرج الثوري في يوم عيد، فقال: إن أول ما نبدأ به في يومنا هذا غض البصر.
صوم الصالحين يكون بأمور، منها: غضُّ البصر:
قال الإمام الغزالي رحمه الله: صوم الصالحين...تمامه بستة أمور:
الأول: غض البصر...إلى كل ما يذم ويكره، وإلى كل ما يشغل القلب عن ذكر الله.
أضرار النظر المحرم على قلب العبد:
قال خالد بن أبي عمران رحمه الله: إن الرجل لينظر نظرة فينغل قلبه، كما ينغل الأديم، فيفسد قلبه حتى لا ينتفع به.
عن العلاء بن زياد رحمه الله قال: كان يقال: لا تتبعن بصرك حسن رداء امرأة، فإن النظر يجعل شبقًا في القلب.
قال الإمام السمعاني رحمه الله: عن بعض السلف قال: إن النظر يزرع الشهوة في القلب، ورُبَّ شهوةٍ أورثت حزنًا طويلًا.
قال الإمام ابن عطية الأندلسي رحمه الله: البصر هو الباب الأكبر للقلب، وأعمر طرق الحواس إليه، وبحسب ذلك كثر السقوط من جهته، ووجب الحذر منه.
قال العلامة ابن القيم رحمه الله: أضرُّ شيءٍ على القلب إرسال البصر، فإنه يُريه ما يشتدُّ طلبُه، ولا صبر له عنه، ولا وصول له إليه، وذلك غاية ألمه وعذابه.
وكنت متى أرسلت طرفك رائدًا
لقلبك يومًا أتعبتك المناظرُ
رأيت الذي لا كلُّه أنت قادر
عليه ولا عن بعضه أنت صابرُ
النظرة تفعلُ في القلب ما يفعلُ السهم في الرميَّة، فإن لم تقتله جرحته، وهي بمنزلة الشَّرارة من النار تُرمى في الحشيش اليابس، فإن لم تحرقه كله أحرقت بعضه، كما قيل:
كلُّ الحوادث مبداها من النَّظر
ومُعظمُ النارِ مِن مُستصغر الشَّرَرِ
كم نظرة فتكت في قلب صاحبها
فتك السهام بلا قوسٍ ولا وترِ
والمرءُ ما دام ذا عين يُقلبُها
في أعين الغيد موقوفٌ على الخطر
يسُرُّ مقلته ما ضرَّ مهجته
لا مرحبًا بسرورٍ عاد بالضَّررِ
الناظر يرمي من نظره بسهام غرضها قلبه وهو لا يشعر، فهو إنما يرمي قلبه.
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: النظر داعية إلى فساد القلب.
قال بعض السلف: النظر سهم سم إلى القلب.
قال الشيخ صالح بن عبدالعزيز آل الشيخ: النظر يجعل القلب شيئًا فشيئًا في ظلمة.
من أضرار النظر المحرم: أنه مِفْتاح الزنا:
قال الإمام الغزالي رحمه الله: النظر يُحرِّك القلب، والقلب يُحرِّك الشهوة.
قال العلامة ابن القيم رحمه الله: أمر تعالى نبيَّه صلى الله عليه وسلم أن يأمر المؤمنين بغض أبصارهم وحفظ فروجهم...ولما كان مبدأ ذلك من قِبَل البصر، جعل الأمر بغضه مقدمًا على حفظ الفرج، فإن الحوادث مبدأها من النظر، كما أن معظم النار من مستصغر الشَّرَر، فتكون نظرة، ثم خطرة، ثم خطوة، ثم خطيئة.
وقال رحمه الله: الله سبحانه ابتلى...الإنسان بعدوٍّ لا يفارقه طرفة عين، ينام ولا ينام عنه، ويغفل ولا يغفل عنه، يراه هو وقبيلُه من حيث لا يراه، يبذل جهده في معاداته في كل حال، ولا يدع أمرًا يكيده به يقدر على إيصاله إليه إلا أوصله، ويستعين عليه ببني أبيه من شياطين الجن وغيرهم من شياطين الإنس، قد نصب له الحبائل...والفخاخ والشباك، وقال لأعوانه: دونكم عدوكم وعدو أبيكم، لا يفوتنكم،....ودونكم ثغر العين، فإن منه تنالون بغيتكم، فإني ما أفسدت بني آدم بشيء مثل النظر، فإني أبذر به في القلب بذر الشهوة، ثم أسقيه بماء الأمنية، ثم لا أزال أعِدُه وأُمنِّيه حتى أقوي عزيمته، وأقوده بزمام الشهوة إلى الانخلاع من العصمة.
قال الإمام الشوكاني رحمه الله: بدأ سبحانه بالغض...قبل حفظ الفرج؛ لأن النظر وسيلة إلى عدم حفظ الفرج.
النظر المحرم أصل عامة الحوادث التي تصيب الإنسان:
قال العلامة ابن القيم رحمه الله: النظر أصل عامة الحوادث التي تصيب الإنسان، فإن النظرة تولد خطرة، ثم تولد الخطرة فكرة، ثم تولد الفكرة شهوة، ثم تولد الشهوة إرادة، ثم تقوى فتصير عزيمة جازمة، فيقع الفعل، ولا بد، ما لم يمنع منه مانع.
من كشف حجاب غيره انكشفت عورات بيته:
قال الإمام جعفر بن محمد الصادق لابنه رحمهما الله: يا بني، من كشف حجاب غيره انكشفت عورات بيته.
إطلاق البصر مفتاح العشق:
قال العلامة ابن القيم رحمه الله: إطلاق البصر يُوجِب استحكام الغفلة عن الله والدار الآخرة، ويُوقِع في سكر العشق وقال: الله سبحانه وتعالى جعل لكل خيرٍ وشرٍّ مِفْتاحًا وبابًا يُدخَل منه إليه...وجعل إطلاق النظر في الصور مفتاح الطلب والعشق.
من يطلق بصره في الحرام لا يستلذُّ بالقرآن كثيرًا:
قال الشيخ صالح بن عبدالعزيز آل الشيخ: أعظم ما يصد به المرء عن القرآن: النظر، والغناء....وإذا تأملت فإن الذي يطلق نظره، ويسعى في الشهوات من جهة النظر المحرمإلى النساء لا يستلذُّ للقرآن كثيرًا.
من آفات النظر أنه يُورِث الحسرات:
قال العلامة ابن القيم رحمه الله: من آفات النظر: أنه يُورِث الحسرات والزفرات والحرقات، فيرى العبد ما ليس قادرًا عليه ولا صابرًا عنه، وهذا من أعظم العذاب أن ترى ما لا صبر لك عن بعضه، ولا قدرة لك على بعضه، وقال رحمه الله: من أطلق نظره دامت حسرته.
خطورة النظر إلى الأمرد:
قال ابن كثير: كثير من السلف كانوا ينهون أن يحدَّ الرجل نظره إلى الأمرد.
قال العلامة السعدي رحمه الله: ﴿ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ ﴾ عن النظر...إلى المردان الذين يخاف بالنظر إليهم الفتنة.
قال الإمام ابن الجوزي رحمه الله: اعلم- وفقك الله- أن هذا الباب من أعظم أبواب الفتن...فإن الشيطان إنما يدخل على العبد من حيث يمكنه الدخول، إلى أن يُدرِجه إلى غاية ما يمكنه من الفتن، فإنه لا يأتي إلى العابد فيحسن له الزنا في الأول، وإنما يزين له النظر، والعابد والعالم قد أغلقا على أنفسهما باب النظر إلى النساء الأجانب، لبعد مصاحبتهن وامتناع مخالطتهن، والصبي مخالط لهما، فليحذر من فتنته.
نظر...إلى غلام في بعض الأسواق، فبُلي به...وطال به البلاء...ولما سُئل عن قصته، قال: رُبَّ ذنبٍ استصغره الإنسان هو أعظم عند الله من ثبير، وحقيق لمن تعرض للنظر الحرام أن تطول به الأسقام ثم بكى، وقال: أخاف أن يطول في النار شقائي.
من فوائد ومنافع غضُّ البصر:
قال أبو عمرو بن نجيد رحمه الله: كان شاه الكرماني حادَّ الفراسة، لا يخطئ، ويقول: من غضَّ بصره عن المحارم، وأمسك نفسه عن الشهوات، وعمر باطنه بدوام المراقبة، وظاهره باتباع السُّنة، وتعوَّد أكل الحلال لم تخطئ فراسته.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: غضُّ البصر عن الصورة التي نُهي عن النظر إليها يورث ذلك ثلاث فوائد جليلة القدر: حلاوة الإيمان ولذته التي هي أحلى وأطيب مما تركه لله، فإن من ترك شيئًا لله عوَّضَه اللهُ خيرًا منه، ويورث نور القلب والفراسة، وقوة القلب وثباته وشجاعته.
قال الإمام القرطبي رحمه الله: غضُّ البصر وحفظُ الفرج أطهرُ في الدين، وأبعدُ عن دنس الأنام.
قال العلامة ابن القيم رحمه الله: في غضِّ البصر عدة منافع:
أحدها: أنه امتثال لأمر الله الذي هو غاية سعادة العبد في معاشه ومعاده.
الثانية: أنه يمنع من وصول أثر السهم المسموم الذي لعل فيه هلاكه إلى قلبه.
الثالثة: أنه يورث القلب أُنْسًا بالله وجمعية على الله.
الرابعة: أنه يقوي القلب ويفرحه، كما أن إطلاق البصر يضعفه ويحزنه.
الخامسة: أنه يُكسِب القلب نورًا، كما أن إطلاقه يُكسِبه ظلمةً.
السادسة: أنه يورثه فراسةً صادقةً يتميز بها المُحِق والمُبطِل، والصادق والكاذب.
السابعة: أنه يورث القلب ثباتًا وشجاعةً وقوةً.
الثامنة: أنه يسد على الشيطان مدخله إلى القلب، فإنه يدخل مع النظرة.
التاسعة: أنه يفرغ القلب للفكرة في مصالحه والاشتغال بها، وإطلاق البصر يُشتِّته.
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: قيل: من حفظ بصره أورثه اللهُ نورًا في بصيرته.
قال الإمام ابن حجر العسقلاني رحمه الله: يقال: إن كلَّ مَنْ كان أتقى لله، فشهوته أشدُّ؛ لأن الذي لا يتقي يتفرج بالنظر ونحوه.
قال العلامة السعدي رحمه الله: من ترك شيئًا لله، عَوَّضَه الله خيرًا منه، ومَنْ غَضَّ بصره أنار الله بصيرته.
مما يعين الإنسان على غض البصر علمُه أن نظر الله إليه أسبق من نظره:
قال رجل للجنيد رحمه الله: بمَ أستعين على غض البصر؟ فقال: بعلمك أن نظر الله إليك أسبقُ من نظرك إلى المنظور إليه.
مجاهدة النفس على غضِّ البصر:
قال الإمام ابن الجوزي رحمه الله: لو أنَّ امرأةً مستحسنة مرت على رجلين، فلما عرضت لهما اشتهيا النظر إليها، فجاهد أحدُهما نفسَه وغضَّ بصره، فما كانت إلا لحظة ونسي ما كان، وأوغل الآخر في النظر فعلقت بقلبه، فكان ذلك سبب فتنته، وذهاب دينه.
صرف الإنسان بصره سريعًا لو وقع على محرم من غير قصد:
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: أمر الله تعالى عبادَه المؤمنين أن يغضُّوا أبصارهم عمَّا حرَّم عليهم، فلا ينظروا إلا إلى ما أباح لهم النظر إليه، وأن يُغمِضُوا أبصارَهم عن المحارم، فإن اتفق وأن وقع البصر على مُحَرَّم من غير قصد فليصرف بَصَرَه عنه سريعًا.
خوف الإنسان من عقوبة الله إذا أطلق بصره:
قال الإمام ابن الجوزي رحمه الله: وعلاج هذه النظرة...خوف العقوبة من الله سبحانه عاجلًا وآجلًا، والحذر من سوء عاقبتها وما تجرُّ وتجني.