أرشيف المقالات

الإسراء والمعراج: تسرية وتكليف وريادة

مدة قراءة المادة : 27 دقائق .
الإسراء والمعراج: تسرية وتكليف وريادة
 

إن الإسراءَ والمعراج يُعدُّ من أصعب الأحداث الإيمانيَّة التي مرَّت على الإسلام والمسلمين؛ وذلك لكونه حادثًا وصفيًّا يصعب على العقل البشري تصديقُه، وإذا لم يتشبَّع هذا العقل بالإيمان العميق، لصَعُبَ عليه استيعاب هذا الحدث؛ لذا نجد أن من الصحابة مَن فُتنوا وتساقطوا في هذا الحادث، وفي المقابل نجدُ أن من تشبَّع بالإيمان وعاشه وعايشه قد تقبَّل الأمر ببساطة كبيرة؛ كما فعل الصدِّيق أبو بكر رضي الله عنه، وكما سنرى لاحقًا.
 
جاء في الرحيق المختوم: وبينما النبيُّ صلى الله عليه وسلم يمرُّ بهذه المرحلة، وأخذت الدعوة تشق طريقًا بين النجاح والاضطهاد، وبدأت نجوم الأمل تتلمَّح في آفاق بعيدةٍ - وقع حادث الإسراء والمعراج،‏ واختلف في تعيين زمنه على أقوال شتَّى‏:
1- فقيل‏:‏ كان الإسراءُ في السنة التي أكرمَه اللهُ فيها بالنبوة، واختاره الطبري‏.‏
2- وقيل‏:‏ كان بعدَ المبعث بخمس سنين، رجَّح ذلك النووي والقرطبيُّ.‏
3- وقيل:‏ كان ليلة السابع والعشرين من شهر رجب سنة 10 من النبوة‏.‏
4- وقيل:‏ قبل الهجرة بستةَ عشرَ شهرًا؛ أي: في رمضان سنة 12 من النبوة‏.‏
5- وقيل:‏ قبل الهجرة بسنة وشهرين؛ أي: في المحرم سنة 13 من النبوة.‏
6- وقيل:‏ قبل الهجرة بسنة؛ أي: في ربيع الأول سنة 13 من النبوة.‏
 
• وَرُدَّتِ الأقوالُ الثلاثة الأُوَل بأن خديجةَ رضي الله عنها توفيت في رمضان سنة عشرٍ من النبوة، وكانت وفاتُها قبل أن تفرض الصلوات الخمس، ولا خلاف أن فرضَ الصلوات الخمس كان ليلةَ الإسراء،‏ أما الأقوال الثلاثة الباقية، فلم أجِدْ ما أرجِّح به واحدًا منها، غير أن سياقَ سورة الإسراء يدل على أن الإسراء متأخِّر جدًّا.‏
 
أولًا: الإسراءُ والمعراجُ رحلةُ الرِّيادة والمكانة:
يرى القارئ في سورة الإسراء أن اللهَ ذكر قصة الإسراء في آية واحدة فقط، ثم أخذ في ذكر فضائحِ اليهود وجرائمهم، ثم نبَّههم بأن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم، فربما يظنُّ القارئ أن الآيتين ليس بينهما ارتباطٌ، والأمرُ ليس كذلك؛ فإن الله تعالى يشير بهذا الأسلوب إلى أن الإسراءَ إنما وقع إلى بيت المقدس؛ لأن اليهودَ سيعزلون عن منصبِ قيادة الأمة الإنسانيَّة؛ لِما ارتكبوا من الجرائم التي لا مجالَ بعدها لبقائهم على هذا المنصب، وأن الله سينقلُ هذا المنصب فعلًا إلى رسوله صلى الله عليه وسلم، ويجمع له مركزَيِ الدعوة الإبراهيميَّة كليهما، فقد آن أوانُ انتقال القيادة الروحية من أمة إلى أمة؛ من أمةٍ ملأت تاريخها بالغدرِ والخيانة والإثم والعدوان، إلى أمة تتدفَّق بالبر والخيرات، ولا يزال رسولُها يتمتع بوحي القرآن الذي يهدي للتي هي أقوم.‏
 
ولكن كيف تنتقلُ هذه القيادة والرسول يطوف في جبال مكة مطرودًا بين الناس‏؟!‏ هذا السؤال يكشف الغطاء عن حقيقة أخرى، وهي أن عهدًا من هذه الدعوة الإسلامية قد أوشك على النهاية والتمام، وسيبدأ عهدٌ آخر جديد يختلف عن الأول في مجراه؛ ولذلك نرى بعضَ الآيات تشتمل على إنذارٍ سافر ووعيد شديد بالنسبة إلى المشركين: ﴿ ‏وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا * وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفي بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا ﴾ [الإسراء: 16، 17]‏، وبجنب هذه الآيات آيات أخرى تبيِّن للمسلمين قواعد الحضارة وبنودَها ومبادِئها التي يبتنى عليها مجتمعُهم الإسلامي، كأنهم قد أَوَوْا إلى أرض امتلكوا فيها أمورَهم من جميع النواحي، وكوَّنوا وحدة متماسكة تدور عليها رَحَى المجتمع، ففيه إشارةٌ إلى أن الرسولَ صلى الله عليه وسلم سَيَجِدُ ملجأ ومأمنًا يستقرُّ فيه أمره، ويصير مركزًا لبثِّ دعوته في أرجاء الدنيا،‏ هذا سرٌّ من أسرار هذه الرحلة المباركة، يَتَّصِلُ ببحثنا فآثرنا ذكره.‏
 
• ولأجل هذه الحكمة وأمثالِها نرى أن الإسراءَ إنما وقع إما قبيلَ بيعة العقبة الأولى أو بين العقبتين، والله أعلم[1].‏
• إن الإسراء والمعراج حقًّا هما لغتا الريادة والمكانة اللتين نالهما النبيُّ صلى الله عليه وسلم.
 
• الريادة في الإسراء: حين أَمَّ نبيُّنا صلى الله عليه وسلم الأنبياء عليهم السلام؛ ليربط أمتَه بكلِّ أصولها وأسلافها من الأنبياء والصدِّيقين والشهداء؛ وليصلَ بها إلى أنها أمةُ الإمامة، أمة القيادة، أمَّة الواجب، أمَّة المسؤولية؛ فهي الأمة التي تسلَّمت الراية التي ستظل عالية خفَّاقة بفضل الله تعالى، ثم بفضل جهود المخلصين من هذه الأمة إلى يوم القيامة.
 
• والمكانة في المعراجِ: فقد وصل النبيُّ صلى الله عليه وسلم في معراجه إلى السماء حيث لا يصل أحدٌ، توقَّف الأنبياء والملائكة، ومضى هو صلى الله عليه وسلم إلى أعتابِ ربِّه جلَّ شأنه، ينال الشرفَ والسموَّ والعلاء، ويضفي كل هذا على أمته؛ فتزهو به وتشرف، وتكون أمة الشهادة: ﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ﴾ [البقرة: 143]، وتغدو خير أمة: ﴿ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِالله وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ ﴾ [آل عمران: 110].
 
• ولهذه المكانة شروطٌ وتوابع ومهام، لا ينالُها إلا مَن قام بها بحقها، وما حقُّها بهيِّنٍ ولا رخيص، إنها الوصول إلى لقاء مالكِ الملك ذي الجلال والإكرام وهو فوق عرشه سبحانه، ويا له من وصول! ويا لروعتِه من لقاء! فمن أرادها سَهِر الأيام والليالي، وأسلم النفس، وهجر حبَّ الذات، وعرف دورَه المنوط به، قال تعالى: ﴿ قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ ﴾ [الأنعام: 162، 163].
 
ثانيًا: نبذة عن بناء بيت المقدس:
قال الحافظ السهيلي: وبيتُ المقدس بناه سليمان عليه السلام، وكان داودُ عليه السلام قد ابتدأ مبناه فأكملَه ابنُه سليمان عليه السلام، واسمه: إيلياء، وتفسيره بالعربية: بيت الله؛ ذكره البكري.
 
وقال الطبريُّ: كان داود عليه السلام قد همَّ ببنيانه، فأوحى الله تعالى إليه: "إنما يبنيه ابنٌ لك طاهر اليد من الدماء"، وفي الصحيح أنه وضع للناس بعد البيت الحرام بأربعين سنة، وهذا يدلُّ على أنه قد كان بُني أيضًا في زمن إسحاق ويعقوب عليهما السلام، ولكن بنيانَه على التمام وكمال الهيئة كان على عهد سليمان عليه السلام[2].
 
ثالثًا: بعض الآيات التي ورد فيها ذكرُ المسجد الأقصى والأرض المباركة:
للأرض المقدسة والمسجد الأقصى مكانٌ مميَّز، ومكانة رفيعة في قلوب المسلمين؛ فالقدس والأقصى يسكنان قلبَ كلِّ مسلم، وقد وصف القرآن الكريم أرضَ بيت المقدس بصفات البرَكة والطُّهر والقدسية في آيات متعددة:
1- قال موسى عليه السلام لقومه: ﴿ يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ الله لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ ﴾ [المائدة: 21].
 
2- وقال الله تعالى عنها: ﴿ وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا...
[الأعراف: 137].
 
3- وقال تعالى: ﴿ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ﴾ [الإسراء: 1].
 
4- وقال تعالى: ﴿ وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ ﴾ [الأنبياء: 71].
 
5- وقال تعالى: ﴿ وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ ﴾ [الأنبياء: 81].
 
6- وقال تعالى: ﴿ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ ﴾ [سبأ: 18].
 
• وبعد استعراضِ هذه الآيات من كتاب الذكر الحكيمِ، فقد أقيمت الحُجَّة على كلِّ مسلم بالمحافظة على هذه المقدَّسات، وتطهيرها من دَنَس اليهودِ، وألا يدَّخِر مسلمٌ وُسعًا في ذلك.
 
رابعًا: بعضُ الأحاديث التي ورد فيها ذكرُ المسجد الأقصى والأرض المباركة:
• وردَتْ عدة أحاديث نبويَّة تُبيِّن فضلَ ومنزلةَ وشرفَ المسجدِ الأقصى وبيتِ المقدس في الإسلام، ومنها:
1- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تَشُدُّوا الرِّحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى)).
 
2- عن أبي الدرداءِ رضي الله عنه قال: "قلتُ: يا رسول الله، أيُّ المساجد وُضِع في الأرض أولًا؟ قال: ((المسجد الحرام))، قلت: ثم أيٌّ؟ قال: ((المسجد الأقصى))، قلت: كم كان بينهما؟ قال: ((أربعون سنة)).
 
3- عن أبي الدرداءِ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الصلاةُ في المسجد الحرام بمائةِ ألفِ صلاةٍ، والصلاةُ في مسجدي بألفِ صلاةٍ، والصلاةُ في بيت المقدس بخمسمائة صلاة)).
 
4- عن جنادة بن أبي أمية الأزدي قال: "ذهبتُ أنا ورجلٌ من الأنصار إلى رجلٍ من أصحاب النبيِّ، فقلنا: حدِّثْنا ما سمعتَ من رسولِ الله يذكرُ في الدجَّال، فذكر الحديثَ، وفيه: ((علامتُه: يمكثُ في الأرضِ أربعين صباحًا، يبلغ سلطانُه كلَّ منهلٍ[3]، لا يأتي أربعة مساجد: الكعبة، ومسجد الرسول، والمسجد الأقصى، والطُّور)).
 
5- عن أبي حوالة الأزدي رضي الله عنه قال: وضَعَ رسول الله يدَه على رأسي - أو على هامتي - ثم قال: ((يا بنَ حوالةَ، إذا رأيتَ الخلافةَ قد نزلت الأرضَ المقدسة، فقد دنت الزلازلُ والبلايا، والأمور العِظام، والساعةُ يومئذٍ أقربُ إلى الناس من يدي هذه من رأسك)).
 
6- عن عوفِ بنِ مالك قال: أتيتُ النبيَّ في غزوة تبوك وهو في قبة من أَدَمٍ، فقال: ((اعددْ ستًّا بين يدي الساعة: موتي، ثم فتح بيت المقدس، ثم مُوتَانٌ يأخذُ فيكم كقُعاصِ الغنمِ، ثم استفاضة المال حتى يُعطَى الرجل مائةَ دينار، فيَظلُّ ساخطًا، ثم فتنة لا يبقى بيتٌ من العرب إلا دخلَتْه، ثم هُدنة تكون بينكم وبين بني الأصفرِ، فيَغدرونُ، فيأتونكم تحتَ ثمانين غايةٍ، تحتَ كلِّ غاية اثنا عشر ألفًا)).
 
7- عن أبي ذرٍّ رضي الله عنه قال: "تذاكَرْنا ونحن عند رسولِ الله صلى الله عليه وسلم أيهما أفضلُ: مسجدُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، أم بيت المقدس؟ فقال رسول الله: ((صلاة في مسجدي هذا أفضلُ من أربع صلوات فيه، ولنعم المُصلَّى هو، وليُوشكَنَّ أن يكون للرجل مثل شَطَن فرسه[4] من الأرض حيث يرى منه بيت المقدس خيرٌ له من الدنيا جميعًا))، أو قال: ((خير له من الدنيا وما فيها)).
 
• ومما سبَق من آيات بيِّنات، وأحاديث شريفة، يتبيَّن لكلِّ صاحب عقل أن بيتَ الله الحرام، وبيت المقدس هما بمنزلة العينَيْنِ من الرأس، واليدين من الجسدِ، والقدَمَيْنِ من البدن، وحين تفقدُ الأمةُ أحدَ هذَيْنِ الركنَيْنِ، فإنها ستبقى مشلولةَ الجانب، فلا ترى بوضوح، ولا تعملُ بجدٍّ، ولا تتقدَّم، فكيف لنا أن نبصر بعينٍ واحدة، أو نعمل بيدٍ واحدة، أو نمشي ونتقدَّم بساق واحدة؟
 
خامسًا: ذكر الإسراء والمعراج في السنة النبوية المطهرة:
إن سنةَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم التي لم تترك شاردةً ولا واردة إلا بيَّنتْها للصحابة الكرام وللمسلمين إلى يوم القيامة، ومن هذه الأمور العظيمة حدثُ الإسراء والمعراج، الذي اعتُبِر مرحلة فاصلة في تاريخ دعوته صلى الله عليه وسلم.
 
عن ابن شهاب قال: سمعتُ سعيدَ بن المسيَّب يقول: إن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم حين انتهى إلى بيتِ المقدس لَقِي فيه إبراهيمَ، وموسى، وعيسى، وأنه أتي بقدحَيْنِ: قدح من لبنٍ، وقدح من خمرٍ، فنظر إليهما، ثم أخذ قدحَ اللبن، فقال جبريل: أصبْتَ، هُديتَ للفطرة، لو أخذتَ الخمرَ لغَوَتْ أمتُك، ثم رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكةَ، فأخبر أنه أُسرِيَ به، فافتتن ناسٌ كثيرٌ كانوا قد صلَّوْا معه.
 
وقال ابن شهاب: قال أبو سلمة بنُ عبدالرحمن: فتجهَّز - أو كلمة نحوها - ناسٌ من قريشٍ إلى أبي بكر، فقالوا: هل لك في صاحبِك، يزعمُ أنه جاء بيت المقدس، ثم رجع إلى مكةَ في ليلة واحدة؟ فقال أبو بكر: أَوَقال ذلك؟ قالوا: نعم، قال: فأنا أشهدُ لئن كان قال ذلك لقد صدقَ! قالوا: فتصدِّقه في أن يأتيَ الشامَ في ليلة واحدة، ثم يرجع إلى مكة قبل أن يصبح؟! قال: نعم؛ أنا أُصدِّقُه بأبعد من ذلك؛ أصدِّقه بخبر السماء.
 
قال أبو سلمة: فبها سُمِّي أبو بكر: الصدِّيقَ.
قال أبو سلمة: فسمعتُ جابرَ بن عبدالله رضي الله عنهما يُحدِّث أنه سَمِع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((لمَّا كذَّبتْني قريشٌ حين أُسرِيَ بي إلى بيت المقدس، قمتُ في الحِجر، فجلَّى الله لي بيتَ المقدس، فطفقتُ أُخبِرُهم عن آياته وأنا أنظر إليه))؛ أخرجه البيهقي عن سعيد بن المسيب.
 
سادسًا: من عجائبِ ما رأى الرسولُ صلى الله عليه وسلم في الإسراء والمعراج:
لقد رأى النبيُّ صلى الله عليه وسلم في رحلة الإسراء والمعراج من المعجزات والآيات الكبرى، وكذلك رأى من الزواجرِ - ما يجعل الإنسانَ يُراقب اللهَ عز وجل في كلِّ أمور حياته.
 
• سنذكرُ هنا جملةَ ما رأى النبيُّ صلى الله عليه وسلم في الإسراء من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، حيث إنه لا مجال للتفصيل:
♦ رأى النبيُّ صلى الله عليه وسلم الدنيا.
♦ رأى إبليس.
♦ رأى قبرَ ماشطةِ بنت فرعونَ.
♦ رأى المجاهدين في سبيل الله.
♦ رأى خطباءَ الفتنة.
♦ رأى الذي يتكلَّم بالكلمة الفاسدة.
♦ رأى الذين لا يؤدُّون الزكاة.
♦ رأى تاركِي الصلاة.
♦ رأى الزُّناة.

♦ رأى شاربي الخمر.
♦ رأى الذين يمشُون بالغيبة.
♦ رأى مالكًا خازن النار.
♦ رأى البيتَ المعمورَ.
♦ رأى سَدْرةَ المنتهى.
♦ رأى الجنة.

♦ رأى العرشَ.
♦ وصَلَ صلى الله عليه وسلم إلى مستوًى يُسمَع فيه صريفُ الأقلام.
 
• إن هذه المعجزاتِ والآيات الكبرى التي جلَّاها الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم كانت بعد تراكمِ الأحزان والأحداث الجِسام على قلب النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فلقد فقدَ خديجةَ، وما أدراك ما خديجةُ؟! فهي التي هوَّنت عليه صلى الله عليه وسلم، وآوَتْه بمالها، وبشَّرتْه بأن الله تعالى لن يُضيِّعه أبدًا.
 
كما فقدَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم عمَّه أبا طالب، الذي كان ملاذًا للنبيِّ صلى الله عليه وسلم، وكانت تهابُه قريشٌ، فلا يعترضون النبيَّ صلى الله عليه وسلم، ولا يتعرَّضون له بأذًى.
 
وكان هذا الحَدَث أيضًا بعدما عرَض النبي صلى الله عليه وسلم دعوتَه على القبائل، فأغرَوْا به السفهاء.
• وهذا الحدث هو سلوى لكلِّ داعية إلى الله تعالى بأن مَن اصطفاك سيتولَّاك؛ فلا تحزَنْ، ولا تبتَئِسْ، وخُذِ القدوةَ من حبيبك ومصطفاك صلى الله عليه وسلم.
 
سابعًا: هل كان الإسراء ببدنِه صلى الله عليه وسلم وروحه، أم بروحه فقط؟
أكثر العلماءِ على أنه صلى الله عليه وسلم أُسرِيَ به ببدنه وروحِه يقظةً لا منامًا، ولا ينكرون أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم رأى قبلَ ذلك منامًا، ثم رآه بعد ذلك يقظةً؛ لأنه كان صلى الله عليه وسلم لا يرى رؤيا إلا جاءَتْ مثلَ فَلَق الصبح، والدليلُ على هذا قولُه تعالى: ﴿ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ﴾ [الإسراء: 1].
 
• فالتسبيحُ إنما يكون عندَ الأمور العظام، فلو كان منامًا لم يكن فيه كبيرُ شيء، ولم يكن مُستعظَمًا، ولَمَا بادرت كفارُ قريش إلى تكذيبِه، ولَمَا ارتدَّت جماعة ممن كان قد أسلم.
 
• وأيضًا فإن العبدَ عبارة عن مجموع الروح والجسد، وقد قال تعالى: ﴿ أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا ﴾ [الإسراء: 1].
 
• وقال تعالى: ﴿ وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ ﴾ [الإسراء: 60]، قال ابن عباس: (هي رؤيا عينٍ أُريها رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلةَ أُسرِي به، والشجرة الملعونة هي شجرةُ الزَّقُّوم)؛ رواه البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما.
 
• وقال تعالى: ﴿ مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى ﴾ [النجم: 17]، والبصرُ من حواسِّ البدن لا الروح، وأيضًا فإنه حُمِلَ على البُراق؛ وهو دابَّةٌ بيضاء برَّاقة لها لمعانٌ، وإنما يكون هذا للبدنِ لا للروح؛ لأنها لا تحتاجُ في حركتها إلى مركب تركب عليه، والله أعلم.
 
ثامنًا: المسجد الأقصى في ظلِّ الإسلام:
لم يَنقطِعِ الحنينُ، ولم يَنقطِعِ الودُّ، ولم تنقطع الصِّلةُ بمسرى رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وأولى القبلتَيْنِ بعد أن أمرَ الله تعالى المسلمين بالتوجُّه في صلاتهم إلى المسجد الحرام، ولكن أخذوا على عاتقِهم تحريرَه وتطهيرَه، وضمَّه إلى حظيرةِ الإسلام والمسلمين؛ فكان الفتحُ العمريُّ للمسجد الأقصى عام 15 هـ.
 
اتَّجه الفاروقُ إلى المسجد الأقصى بملابس مُرَقَّعة، ويتناوب دابَّة واحدةً هو وخادمُه، وعندما وصل إلى المسجدِ الأقصى وجد القمامةَ قد علَتِ المكان، فما كان من سيدنا عمر رضي الله عنه إلا أن خلعَ عباءتَه، وأخذ يجمعُ القمامة؛ لينظِّف المكان، فما كان من الحاضرين إلا أن فعلوا مثلما فعل، وبنى مسجدًا في الجانب الغربيِّ من المكان.
 
• وفي عهد عبدالملك بن مروانَ والوليد بن عبدالملك بن مروان جاء مشروعُ إعمار المسجد الأقصى، فكان مركزًا للعلم، وقبلةً للعلماء وطلاب العلم حتى سقط في أيدي الصليبيين عام 493 هـ، وظل هكذا لمدة 90 عامًا لم تُؤَدَّ فيه الصلاة حتى أرسل الله عز وجل مَن يُجدِّد شباب الأمة، ويُوحِّد كلمتها، فكان صلاحُ الدين الأيوبي الذي قال: "كيف أضحكُ والأقصى في أيدي الصليبيِّين"؛ فكان تحرير المسجد الأقصى من أيدي الصليبيِّين في معركة حطين عام 583 هـ.
 
• ظلَّ المسجد الأقصى تحتَ إمرة المسلمين حتى كان الموعد المشؤوم لسرطان العصر؛ الكيان الصهيوني اللَّقيط، الذي وُلِد من سِفاحٍ، فلقد وَعَد مَن لا يملكُ "بلفور" مَن لا يستحقُّ "اليهودَ" بإقامة دولة لهم في فلسطين.
 
اغتُصِبت فلسطين نهارًا، وعلى مرأى ومسمعٍ من كل الدول العربية والإسلاميَّة، وتمَّ الاعتراف الرسمي بدولة إسرائيل "الكيان الصهيوني" عام 1948 م.
 
• في عام 1967م تمَّ احتلال القدس، وضمُّها إلى أرض "الكيان الصهيوني"، وفي عام 1969م قام شابٌّ متطرف يهودي بحرق المسجد الأقصى، ومن المفارقات الغريبة أن "جولدا مائير" علَّقت على هذا الحريق فقالت: "إن أصعبَ لحظات حياتي عندما علمتُ بحريق المسجد الأقصى؛ لأنني خشيتُ أن يَنتفِضَ المسلمون لتحرير فلسطين"! وعندما لم يُحرِّك حريقُ المسجد الأقصى المسلمين؛ تجرَّأ اليهود، فاغتالوا قادةَ المقاومة، وارتكبوا من المجازر العديدَ والعديد؛ مثل: "بحر البقر"، و"صبرا وشاتيلا" و"قانا"، و"الحرم الإبراهيمي"، وما مجازر غزة المتتالية عنا ببعيدٍ!
 
وخلاصة القول: أن الله تعالى قال: ﴿ وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ ﴾ [البقرة: 120]، فالصراع بين المسلمين واليهود بدأ منذ عهدِ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولن ينتهيَ، وإن صراعنا مع اليهود سيبقى مفتوحًا، والحرب سِجالٌ بيننا وبينهم، وستخفق كلُّ الجهود المبذولة لإقفال الملف قبل أوانه، أو مسالمة اليهود ومهادنتهم، وخيرٌ للذين يتهالكون على حلِّ التعايش السلمي مع اليهود، ويغالبون قدر الله تعالى ومشيئته، ويضيِّعون الكثير من أعمار الأمة وطاقتها وأموالها وبَنِيها - خير لهؤلاء أن يكونوا ستارًا لقدرة الله تعالى، وأن يُجنِّدوا كلَّ الطاقات والقدرات والإمكانيات في سبيل الله، وأن يسعَوْا ليكون على أيديهم الخيرُ والفتح والتمكين، ولْيهتموا بما سيكتُبُه عنهم التاريخ.
 
• ومن المبشِّرات: أن الإسلام قادمٌ شاء من شاء، وأبى من أبى؛ والدليل على ذلك هي هذه الأفواجُ التي تدخل في دين الله أفواجًا كلَّ يوم، ولو خُلِّي بين الناسِ وبينَ الإسلام، لحُسم الأمر، ودانت معظمُ البشرية لخالقِها سبحانه وتعالى.
 
إن الجميع - وخاصة أعداء هذا الدين - يُوقنون بأن دول أوروبا والغرب تَحمِلُ بينَ أحشائها جنينًا مسلمًا، وسيُوضع هذا الجنينُ شاءت أم أبَتْ، ولن يُجهَض أبدًا؛ لأن الله تعالى هو الذي تكفَّل بذلك؛ ﴿ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ﴾ [التوبة: 33].
 
تاسعًا: العِبر والدروس المستفادة من الإسراء والمعراج:
إن مُدارسةَ سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم إنما تكون للعبرة والعظة والتأسِّي؛ لذلك ينبغي علينا أن نحاولَ جاهدين أن ننزلَ سيرته صلى الله عليه وسلم المنزلةَ المستحقَّة والواجبة، ولْنستدعِ أحداثها دائمًا، أو كلَّما دعَتِ الضرورةُ، أو حلَّت مناسبة - على أقل تقدير- لنقِفَ على أفعالِه صلى الله عليه وسلم وتصرُّفاته؛ لتكون لنا نبراسًا يُضيء الطريق ويهدي الضالَّ، قال تعالى: ﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا ﴾ [الأحزاب: 21].
 
ومن العِبر المستفادة:
1- مكانة المصطفى صلى الله عليه وسلم عند الله تعالى وعند الأمة.
2- أن العبوديَّة تعتبرُ أسمى منزلة ينالها العبد من ربِّه.
3- كلما اقترب العبدُ من ربِّه وعلا شأنه، ازداد لله ولعباد الله تواضعًا.
4 - هذا الحدثُ إنما جاء بعدَ مشوارٍ طويل من الصبر والثبات.

5- الأحداثُ تُنقِّي الصف الإسلامي من ضِعاف الإيمان، ومن يعبدون اللهَ تعالى على حرفٍ.
6- معيَّة الله للعبد خيرُ معين وقتَ الفتن والأزمات.

7- من الواجب توفُّر ثقة الجندي بقائده.
8- صاحبُ الدعوة يعتبرها الأولويةَ الأولى في حياته، مهما دارت به الدوائر.
9- المسجدُ الأقصى من مقدسات المسلمين، وله حقٌّ كبير عليهم.
10- اللُّجوء إلى الله تعالى وقتَ الشدة يُيسِّر كلَّ عسير.
 
وختامًا:
لقد تأمَّل العلماء الربطَ بين إسراء النبي صلى الله عليه وسلم من مكة البيتِ الحرام إلى بيت المقدس؛ فذكروا أن مكةَ هي رمزٌ للإسلام لدين الله عز وجل، وبيت المقدس هو رمزٌ لحال المسلمين، فما يجري في تلك الأرض هو علامةُ صحوةِ المسلمين أو غفلتهم، وأنه ما زال فيها جيل، وأنه ما زالَتْ فيها الرغبةُ في أن تعودَ إلى الله عزَّ وجل، وأن تعودَ إلى زعامة محمدِ بن عبدالله صلى الله عليه وسلم، وبيتُ الله عز وجل لا يتحرَّر إلا على أيدٍ متوضِّئة، طاهرة كريمة، أما الأيدي التي يحمل أصحابها أفكارًا منحرفةً، وعقائد فاسدة، فمثل هذه الأيدي لا يباركُ اللهُ تعالى فيها، وحاشا لله أن يكتب لها النصر والتأييد.
 
• إن ذكرى الإسراء والمعراج لها دلالاتُها الاعتقاديَّة والسلوكية والأخلاقية، وإحياءُ هذه الذكرى إنما يعني: الالتزامَ بهذه المعتقدات، ومن ثَمَّ الانضباط الصادق بالسلوكيَّات المنبثقة عنها، وهكذا يكون صدقُ الاحتفاء بذكرى الإسراء والمعراج.
 
• وإننا لن نستطيعَ حصرَ الدروس المستفادة من الإسراء والمعراج، ولكنها إطلالةٌ سريعة، نُعذَرُ بها إلى الله سبحانه وتعالى؛ لنستفيد منها، ونُقدِّمها للأمة ودعاتها وشبابها؛ ليقتدوا برسولِهم صلى الله عليه وسلم في حياتهم العمليَّة، ويتَّخِذوا من المناسبات والأحداث الكبرى التي حدثت في سيرته العطرة صلى الله عليه وسلم نقطةَ انطلاقٍ للتغيُّرِ الإيجابي في حياتهم، قال تعالى: ﴿ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ ﴾ [إبراهيم: 5].
 
عاشرًا: ذكر ما ورد في فضل سورة الإسراء:
• روى النسائي عن عائشةَ رضي الله عنها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم حتى نقولَ: ما يريد أن يُفْطِرَ، ويُفْطِرُ حتى نقولَ: ما يريدُ أن يَصومَ، وكان صلى الله عليه وسلم يقرأُ في كلِّ ليلة بني إسرائيل "الإسراء" والزمر).



[1] الرحيق المختوم: صفي الرحمن المباركفوري.


[2] مختصر تفسير ابن كثير: محمد علي الصابوني - ج2 ص: 354.


[3] منهل: موضع.


[4] شَطَن فرسه: الشَّطَن هو: الحبل الذي تُشد به الدابة.

شارك الخبر

مشكاة أسفل ٢