أرشيف المقالات

القيامة في قصار المفصل ( سورة القارعة )

مدة قراءة المادة : 22 دقائق .
القيامة في قصار المفصل
(سورة القارعة)
 
الغفلة هي ما يجعل الإنسان يبطئ حركته، ويقلل سعيه، ويقصر جُهْدَه، وضِدُّ الغفلة الانتباه، فالمنتبه هو الذي يسرع الخطى، ويكثر سعيه، ويزيد جهده، أما المغشِيُّ عليه، فهو من لا حركة له، ولا سعي ولا جهد، وضده الذي يُفِيقُ من الغشاوة، فهو ينتبه فجأة، فهو مدهوش، فبالكاد يلحظ موقعه وأماكن الخطر من حوله، لكن إفاقته في مواطن الخطر، هي في ذاتها مصدر خطر عليه؛ حيث لا ينتبه لرد فعله، فيحتاج بعد الإفاقة إلى توعية بالتدريج حتى يستعيد صوابه، ومن ثم كان الوعي هو الإدراك الكامل للأمور، والتصرف معها بحكمة، والناس مع الله تعالى بين مغْشِيٍّ عليه، وغافل، ومن لا يزال يحاول استرداد وعيه، وواعٍ وعيًا كاملاً؛ فالمغشيُّ عليه قد يحتاج لصدمات كهربائية؛ لإنعاش قلبه متى توقف قلبه عن العمل، والغافل يحتاج إلى أجهزة تنبيه حتى ينتبه أو يُفيق.
 
وقد تناولت سورة القارعة مشهدين من مشاهد يوم القيامة، فذكَّرَتْنا بيوم البعث من القبور، وهو أمر لا يؤمِنُ به إلا القليل؛ يقول سبحانه: ﴿ إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ ﴾ [غافر: 59]، والمشهد الثاني هو مشهد ميزان الأعمال، ﴿ وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ ﴾ [الأعراف: 8، 9]، فهو مشهد ليس إلا نتيجةً لما حصَّلَهُ المرء من عمل، فهما مشهدان يسبقهما مشاهد وأحداث، وبينهما مشاهد وأحداث، وبعدهما كذلك، لكن اجتزاء هذين المشهدين من أحداث الدنيا أو القيامة أو الجزاء؛ لأجل تذكير الإنسان بما يجب عليه عمله، قبل أن يفوت وقت العمل، فهي سورة أقرب إلى قرع آذان المؤمنين؛ لكي يعملوا فيكثروا من الحسنات بما يثقل معه ميزان حسناتهم يوم القيامة، وتنبههم إلى هاوية جهنم؛ خشية أن يسقطوا فيها إذا خف العمل، فهذه السورة بمثابة تَذْكِرَةٍ خفيفة على الطريق لمن غفل؛ كي ينتبه ويجهد السير، ويُحسِن العمل، ويُسرِع الخطى، يقول سبحانه على لسان موسى: ﴿ وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى ﴾ [طه: 84]، ولذلك كان الخطاب فيها للنبي صلى الله عليه وسلم: ﴿ وَمَا أَدْرَاكَ ﴾ [القارعة: 3]؛ لكي يُذَكِّر أمَّتَه بما ذكَّرَهُ الله به.
 
يقول الله تعالى: ﴿ الْقَارِعَةُ * مَا الْقَارِعَةُ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ * يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ * وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ * فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ * فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ * نَارٌ حَامِيَةٌ ﴾ [القارعة: 1 - 11].
 
الآيات (1-3) قوله تعالى: ﴿ الْقَارِعَةُ * مَا الْقَارِعَةُ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ ﴾.

القارعة، والحاقَّة، والصَّاخَّة، والغاشية، والداهية، ويوم الدين، جميعها أسماء ليوم القيامة، ذلك اليوم الذي تُقْرَع فيه الآذان، فينتبه الموتى، ويَحْيون من جديد، ﴿ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ * قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ * إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ ﴾ [يس: 51 - 53]، وتقرَعُ قلوبَ الكفار فينتبهون إلى ما وقعوا فيه من جرأة على الله، قال تعالى: ﴿ وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ ﴾ [الرعد: 31]، وتقرع المؤمنين فيفزعون إلى الصلاة، وإلى عمل يَثْقُل معه الميزان؛ فعن حذيفة قال: "كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا حَزَبَه أمر صلى"[1]، وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل به هَمٌّ أو غَمٌّ، قال: يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث"[2]، وعن النبي صلى الله عليه وسلم: ((دعوات المكروب، اللهُمَّ رحمَتَك أرجو، ولا تكلني إلى نفسي طرفةَ عين، وأصلِحْ لي شأني كله، لا إله إلا أنت))[3].
 
إذن القوارع ثلاث: قارعة تصيب الموتى فيحيون من القبور، ويُبعَثُون كالفراش متفرقين، لا إلى وِجهة يَقْصِدون، ولا يدركون أين يذهبون؟ حتى إذا أُفِيقُوا اتجهوا لأرض محشرهم، حيث الحسابُ والميزان، وقارعةٌ تصيب الكافرين في الدنيا لينتبهوا ماذا يقولون؟ وماذا يفعلون؟ بعد أن طفح الكيل من تَجَرُّئِهم على الله تعالى، وقارعة ثالثة تجتاح الغافل، فهي كالإنذار الشديد حتى ينتبه من غفلته، فيعمل صالحًا بما يثقل معه الميزان، فإن لم ينتبه إلى خفة ميزان حسناته، فإنه على وشْك السقوط في هاوية جهنم.
 
وهذا التحذير الشديد لأهوال هذا اليوم، ليس إلا تصويرًا قرآنيًّا لغضب المولى سبحانه، والذي يُنفِّذُه بإهلاك الكون كله إلى فناء، فلا يبقى أرض ولا سماء، ﴿ كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ ﴾ [الرحمن: 26، 27]، وهذا هو مشهد الصعقة الأولى: ﴿ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ﴾ [الزمر: 68]، وبعده تأتي الصعقة الثانية التي هي صعقة البعث: ﴿ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ ﴾ [الزمر: 68]، وكلتاهما خَطْبُها شديد على الخلائق جميعًا، إلا من استثنى الله تعالى، بل إن الصعقة الثانية لا استثناء فيها لأحد؛ إذ تطوف الخلائقُ على الأنبياء، فيأتون آدم، ونوحًا، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، عليهم السلام؛ حتى يستشفعوا لهم عند الله، فيقول كل واحد منهم: ((إنَّ ربي قد غضب اليوم غضبًا لم يغضب قبْلَه مثله، ولن يغضبَ بعده مثْلَهُ))[4].
 
والسؤال: لماذا يغضب المولى سبحانه كل هذا الغضب؟ ولماذا يَصعَقُ الناسَ ويُحيي الموتى؟ والإجابة على هذا التساؤل في قوله تعالى: ﴿ تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا * أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا ﴾ [مريم: 90، 91]، فالسماء والأرض والجبال أكثر مظاهر الكون رسوخًا وثباتًا واستقرارًا، تكاد تهلِك لِجُرْمِ الإنسان في حق ربه، والافتراء عليه بما لا يليق، أفلا يغضب المولى سبحانه وتعالى لنفسه؟ شاءت مشيئته أن يغضب هذا اليوم لنفسه، لكن لما كانت رحمته سبقت غضبه، أجَّلَ هذا الغضب ليوم يُنفِّذه فيه، وذلك حتى تعمل البشرية جمعاء لهذا اليوم، ومن رحمته سبحانه أن يكشف لنا في هذه السورة عن بعض مظاهر هذا الغضب؛ حتى يجتهد أهل الحق في دفع الباطل لإرضاء المولى سبحانه، إلا أنه يأبى سبحانه إلا أن يدافع عن نفسه، ويغضب لذاته سبحانه، وينتقم - بحق- مِمَّن نسَب له ما لا يليق به سبحانه، أو أغضبه بما يفعل أو يقول.
 
الآيتان (4-5) قوله تعالى: ﴿ يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ * وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ ﴾.

أظهر المولى سبحانه وتعالى من أهوال يوم القيامة ما يكون وقْعُه وتأثيرُه شديدًا على الناس والجبال، وَقَرَنَ بينهما، وعلة ذلك في الناس أنهم المقصودون بهذا الأمر، يقول سبحانه: ﴿ خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ ﴾ [القمر: 7]، يقول القرطبي: "فهما صفتان في وقتين مختلفين، أحدهما عند الخروج من القبور، يخرجون فزعين لا يهتدون أين يتوجهون؟ فيدخل بعضهم في بعض، فهم حينئذ كالفراش المبثوث بعضه في بعض، لا جهة له يقصدها.
 
الثاني: فإذا سمعوا المنادي قصدوه، فصاروا كالجراد المنتشر؛ لأن الجراد له جهة يقصدها، أما الجبال، فذلك علامة على نهاية العالم كله لقوتها، وشدة صلابتها، يقول سبحانه: ﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا * فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا * لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا ﴾ [طه: 105 - 107].
إذ تتبدل خصائصها تلك أمام هذا الهول، وكأنها صوف متطاير من خفتها وهبائها، يقول سبحانه: ﴿ وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا ﴾ [الواقعة: 5].
 
الآيتان (6-7) قوله تعالى: ﴿ فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ ﴾.
تشير الآيات إلى أهمية إكثار المسلم من الحسنات، حتى يثقل بها الميزان مهما اقترف من سيئات، لعلها تذهب السيئات، قال سبحانه: ﴿ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ ﴾ [هود: 114]، فبعد أن يصاب الناس بأهوال القيامة، ويُوضَعُون على الميزان لتُوزَنَ أعمالهم، يتذكر كل إنسان ما عمل من خير أو شر، قال تعالى: ﴿ يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ مَا سَعَى ﴾ [النازعات: 35]، فيود أن تثقُلَ كفة حسناته مرتجفًا مرتعِشًا ﴿ وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ ﴾ [غافر: 18].
 
آملاً أن ترجح هذه الكفة، فما الذي يُثْقِل الميزان يوم القيامة؟
فكم من عمل يظُنُّ الإنسان أنه سوف يدخل به الجنة، ويظن الناس به كذلك، لكنْ ليست العبرة بكثرة الأعمال، وإنما بأحسنها، ﴿ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ ﴾ [الملك: 2]، فمن الصحابة من لم يُكْثِر العمل، بل لم يأبه أحد به لضعفه، أو فقره، لكنَّ منزلته عند الله تعالى عظيمة، فهذا هو عبدالله بن مسعود كادت الريح تُلقِيه من خفته وضعفه، مما أضحك أصحابه، ولكنَّ النبي صلى الله عليه وسلم أنصفه فقال: ((لهو أثقل عند الله يوم القيامة ميزانًا من أحد))[5]، وليست العبرة بثقل العمل عند الناس، وإنما الله سبحانه هو الذي يزن هذه الأعمال يوم القيامة بميزان الحق والعدل، فتلك الكلمات التي قد يَستصغِر عِظَمَ أجرِها كثيرٌ من الناس، هي عند الله تعالى ثقيلة في الميزان، قال صلى الله عليه وسلم: ((كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله العظيم، سبحان الله وبحمده))[6].
 
وأبشروا فلا يُثقِلُ الميزانَ غيرُ كلمة التوحيد متى وقرت في القلب، وصدَّقَها العمل المخلَص لله تعالى؛ لأنها تعني أنَّ خوف العبد وحُبَّه لا ينصرف إلا لله، وفي الله، وأنه لا يعمل أي عمل إلا لوجه الله تعالى، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن الله يستخلص رجلاً من أمتي على رؤوس الخلائق يوم القيامة، فيَنْشُر عليه تسعة وتسعين سِجِلاًّ، كُلُّ سِجِلٍّ مثلُ هذا، ثم يقول: أتُنْكِر من هذا شيئًا، أظَلَمَكَ كتبَتِي الحافظون؟ فيقول: لا يا رب، فيقول: أفَلَكَ عُذْرٌ؟ فيقول: لا يا رب، فيقول: بلى إن لك عندنا حسنةً، وإنه لا ظُلْمَ عليك اليوم، فيخرج بطاقة فيها: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، فيقول: يا رب، ما هذه البطاقةُ مع هذه السِجِلاَّت؟ فقال: إنك لا تُظْلَمُ، قال: فتُوضَعُ السِجِلاَّت في كفة، والبطاقة في كفة، فطاشت السِجِلاَّت، وثَقُلَت البطاقة، ولا يَثقُلُ مع اسم الله شيءٌ))[7].
 
والعيشة الراضية يحلم بها كل إنسان في الدنيا ويتمناها، فإذا عاشها بحق، فإنه سوف يعيشها يوم القيامة، ومَنْ حُرِمَهَا في الدنيا فلن يذوقها يوم القيامة، قال العلاَّمة ابن تيمية: "إن في الدنيا لَجَنَّةً، من لم يدخلْها، لم يدخلْ جنةَ الآخرة"[8]، فلأنه ظن الحساب، وعمل برضًا لهذا اليوم، فنال هذه العيشة الراضية يوم القيامة، قال سبحانه ﴿ إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ ﴾ [الحاقة: 20 - 24]، وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذه الجنة بقوله: ((إذا مررتم برياض الجنة فارْتَعُوا))، قالوا: وما رياض الجنة؟ قال: ((حِلَقُ الذِّكْرِ))[9]، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "ما يصنع أعدائي بي؟ أنا جنتي وبستاني في صدري، إن رُحْتُ فهي معي لا تفارقني، إنَّ حبسي خَلْوة، وقتلي شهادة، وإخراجي من بلدي سياحة"[10]، وكان يقول في محبسه في القلعة: "لو بذلت ملء هذه القاعة ذهبًا، ما عدل عندي شكرَ هذه النعمة، أو قال: ما جَزَيْتُهم على ما تسبَّبُوا لي فيه من الخير"، يقول ابنُ القيم الْجَوْزِيَّة: "وعَلِمَ اللهُ ما رأيتُ أحدًا أطيبَ عيشًا منه قطُّ، مع ما كان فيه من ضِيقِ العيش، وخلافِ الرفاهية والنعيم، بل ضدها، ومع ما كان فيه من الحبس والتهديد والإرهاق، وهو مع ذلك من أطيب الناس عَيشًا، وأشرَحِهِم صدْرًا، وأقواهم قلبًا، وأَسَرِّهِمْ نفْسًا، تلوح نضرةُ النعيم على وجهه، وكنا إذا اشتد بنا الخوفُ، وساءت منا الظنونُ، وضاقت بنا الأرضُ، أتيناه، فما هو إلا أن نراه، ونسمعَ كلامه، فيذهب ذلك كله، وينقلب انشراحًا وقوةً ويقينًا وطمأنينةً، فسبحان من أشهد عباده جنَّتَهُ قبل لقائه! وفتح لهم أبوابَها في دار العمل، فآتاهم من رَوْحِها ونَسِيمِها وطِيبِها ما استفرغ قواهم لطلبها، والمسابقة إليها"[11].
 
الآيتان (8-9) قوله تعالى ﴿ وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ * فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ ﴾.
وعلى النقيض مما تقدم، فإن الْمُقِلَّ من فعل الخيرات يكاد ينزلق في حافة الهاوية، ليسقُطَ في نار جهنم، والعياذ بالله، فهذا الذي يتكاسل عن صلاة السُّنَّة، وصيام التطوع، وصدقة التطوع؛ ظنًّا منه أنه يأتي الفرائض فحسب، ألا يخشى على نفسه من أن يخف ميزان حسناته يوم القيامة أمام ميزان سيئاته، إنه لا يدرك أن ركعة السنة التي قد تكاسل عنها في الدنيا، قد تُثقل الميزان يوم القيامة، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((يقول ربُّنا جل وعز لملائكته، وهو أعلم: انظروا في صلاة عبدي، أتَمَّها أم نَقَصَها؟ فإن كانت تامة، كُتِبَتْ له تامَّةً، وإن كان انتَقَص منها شيئًا، قال: انظروا هل لعبدي من تطَوُّعٍ، فإن كان له تطوُّعٌ، قال: أتِمُّوا لعبدي فريضته من تطَوُّعِهِ، ثم تؤخَذُ الأعمال على ذاكم))[12]، فَحَرِيٌّ بالمؤمن أن يجتهد في الطاعات قدر استطاعته، فلا يدري بأيِّ حسنةٍ يَثْقُل الميزانُ؟.
 
أما الذي يخف ميزانه من الموحِّدِينَ، حتى إنه ليكاد يقع في هُوَّة النار، فهو الذي يعبد الله تعالى دون أن يلزم جماعة المسلمين، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما من ثلاثة في قريةٍ ولا بدْوٍ، لا تقام فيهم الصلاة، إلا قد استحوذ عليهم الشيطانُ، فعليك بالجماعة؛ فإنما يأكلُ الذئب القاصيةَ))[13]، وعنه صلى الله عليه وسلم: ((الشيطان يَهُمُّ بالواحد والاثنين، فإذا كانوا ثلاثة لم يَهُمَّ بهم) [14]، فلا نجاة من ذلك إلا بالاعتصام بحبل الله تعالى وجماعة المسلمين، قال سبحانه: ﴿ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا ﴾ [آل عمران: 103]، فلم يُفْلِتْ أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من النار إلا بفضل هذا الاعتصام بالله تعالى، والحب في الله.
 
وهناك فارق بين خفة الميزان على النحو الذي أشرنا، ومن لا يُقيمُ لهم اللهُ يوم القيامة وزنًا، فكما أن كلمة التوحيد لا يَثْقُل معها شيء يوم القيامة، فإن الشرك يحبط العمل يوم القيامة، قال سبحانه: ﴿ وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا ﴾ [الفرقان: 23]، فالله سبحانه وتعالى لا يقبل من العمل إلا ما كان صالحًا وخالصًا لوجهه الكريم، فعن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إنه لَيأْتِي الرجل العظيم السمين يوم القيامة، لا يزن عند الله جناح بعوضة))، وقال: ((اقرؤوا إن شئتم: ﴿ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا ﴾ [الكهف: 105]))[15]، وذلك هو قوله سبحانه: ﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا ﴾ [الكهف: 105].
 
الآيات (10-11) قوله تعالى: ﴿ وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ * نَارٌ حَامِيَةٌ ﴾.
فليس الساقط هو ذلك الذي يخسر أمواله في تجارة لم يتمكن من تعويضها، ولا في شهادة دراسية فشل في تحصيلها، ولا في امرأة سعي وراءها فخاب أمله فيها...الخ، فكل ذلك هين ويسير، إن السقوط الحقيقي هو في قعر جهنم، فهو سقوط ليس بعده سقوط، حيث يحتاج من الزمن سبعين خريفا ليصل إلى قعرها، فعن أبي هريرة قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ سمع جَلَبَة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((تدرون ما هذا؟)) قال: قلنا: الله ورسوله أعلم، قال: ((هذا حجر رُمِيَ به في النار منذ سبعين خريفًا، فهو يهوي في النار الآن حتى انتهى إلى قعرها))[16]، فإذا كتب الله تعالى لأهل النار الخروج منها، فكم من وقت يحتاجونه للخروج منها؟!
 
إذن كان الناس بحاجة إلى قارعة، تُنَبِّهُهم خطر السقوط فيها، وَتُبَصِّرُهم ما يثقل به ميزان حسناتهم؛ حتى يحْظَوْا بعيشة راضية.

[1] رواه أبو داود: ج4 ص 88 رقم 1124، وحسنه الألباني: ج1ص884 رقم 8832، ورواه مسلم في صحيحه: ج13 ص 264 رقم 4909.

[2] رواه الحاكم في المستدرك: ج1 ص 689 رقم 1875، وحسنه الألباني من رواية الطبراني: الجامع الصغير ج1 ص893 رقم 8922.

[3] رواه البخاري في الأدب المفرد ج1 ص244 رقم 701 وحسنه الألباني: صحيح الأدب المفرد ج1 ص255 رقم 262

[4] رواه البخاري: ج 4 ص 1745 رقم 4435.

[5] مصنف ابن أبي شيبة: ج 6 ص 384 رقم 32229.

[6] رواه البخاري ج 5 ص 2352 رقم 6034

[7] رواه الحاكم في المستدرك ج 1ص 46 رقم 9، و قال: هذا حديث صحيح لم يخرج في الصحيحين و هو صحيح على شرط مسلم فقد احتج بأبي عبد الرحمن الحبلى عن عبد الله بن عمر بن العاص و عامر بن يحيى: مصري ثقة و الليث بن سعد: إمام و يونس المؤدب: ثقة متفق على إخراجه في الصحيحين – تعليق الذهبي قي التلخيص: هذا على شرط مسلم

[8] المستدرك على مجموع فتاوى شيخ الإسلام ج1ص153: جمعه ورتبه وطبعه على نفقته: محمد بن عبد الرحمن بن قاسم

[9] رواه الترمذي: ج11ص415 رقم 3432، وصححه الألباني: السلسلة الصحيحة ج6 ص 63 رقم 2562.

[10] المستدرك على مجموع فتاوى شيخ الإسلام ج1 ص 153 مرجع سبق ذكره.

[11] ابن القيم الجوزية: الوابل الصيب من الكلم الطيب: ج1 ص 67 لمؤلفه /محمد بن أبي بكر أيوب الزرعي.

[12] رواه أبو داود: ج3 ص 29 رقم 733، وصححه الألباني: الجامع الصغير ج1 ص434 رقم 4336.

[13] رواه أبو داود: ج 1 ص 205 رقم،547 وحسنه الألباني - قال زائدة قال السائب يعني بالجماعة الصلاة في الجماعة.

[14] رواه مالك في الموطأ ج 2ص 378.

[15] رواه البخاري: ج 4 ص 1759 رقم 4452.

[16] رواه مسلم: ج 4 ص 2184 رقم 2844.

شارك الخبر

ساهم - قرآن ٣