أرشيف المقالات

الإيمان بالكتب السابقة وآثاره

مدة قراءة المادة : 25 دقائق .
الإيمان بالكتب السابقة وآثاره

الحَمدُ للهِ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى رَسُولِ اللهِ، وَأَشهَدُ أَن لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبدُهُ وَرَسُولُهُ، وَبَعدُ:
فمن أركان الإيمان الستة التي يجب على المؤمن الإيمان بها: الإيمان بالكتب السماوية التي أنزلها الله على رسله، قَالَ تَعَالَى: ﴿ آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ ﴾ [البقرة: 285].

والإيمان بالكتب المنزلة على الرسل هو التصديق بأن هذه الكتب من عند الله أرسل بها رسله إلى الخلق لهدايتهم، وإقامة العدل بينهم، قَالَ تَعَالَى: ﴿ لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ﴾ [الحديد: 25]، وقَالَ تَعَالَى: ﴿ كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ ﴾ [البقرة: 213].

قال ابن أبي العز الحنفي شارح الطحاوية:
"وأما الإيمان بالكتب المنزلة على المرسلين، فنؤمن بما سمى الله تعالى منها في كتابه من التوراة، والإنجيل والزبور، ونؤمن بأن لله تعالى سوى ذلك كتبًا أنزلها على أنبيائه لا يعرف أسماءها وعددها إلا الله، وأما الإيمان بالقرآن فالإقرار به، واتباع ما فيه، وذلك أمر زائد على الإيمان بغيره من الكتب، فعلينا الإيمان بأن الكتب المنزلة على رسل الله أتتهم من عند الله، وأنها حق، وهدى، ونور، وبيان، وشفاء"[1].

قال تعالى عن التوراة وهي أعظم كتب بني إسرائيل أنزلها الله على موسى عليه السلام، قَالَ تَعَالَى: ﴿ إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ ﴾ [المائدة: 44]، وقَالَ تَعَالَى: ﴿ وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ ﴾ [الأعراف: 145]، قال جمع من المفسرين: إنها التوراة[2].

وقَالَ تَعَالَى: ﴿ وَلَمَّا سَكَتَ عَن مُّوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ ﴾ [الأعراف: 154]، قَولُهُ تَعَالَى: ﴿ وَفِي نُسْخَتِهَا ﴾: قال الشنقيطي رحمه الله: "أي: المكتوب فيها من التوراة من كلام رب العالمين، وفيه ﴿ هُدًى ﴾ أي: دلالة وإرشاد إلى الخير، ورحمة تقي عذاب الله، وسخطه لمن عمل به[3]، وقيل: إن التوراة هي صحف موسى".

أما الإنجيل فهو الذي أُنزل على عيسى وهو مصدق للتوراة، ومتمم لها، قال تعالى عنه: ﴿ وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِين ﴾ [المائدة: 46]، قال ابن كثير: "وجعلنا الإنجيل هدًى يُهتَدَى به، ﴿ وَمَوْعِظَة ﴾ أي: وزاجرًا عن ارتكاب المحارم والمآثم"[4].

والزبور هو الكتاب الذي أنزله الله على داود، قَالَ تَعَالَى: ﴿ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا ﴾ [النساء: 163].
وصحف إبراهيم هي الصحف التي أنزلها الله على إبراهيم، قَالَ تَعَالَى: ﴿ إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الأُولَى * صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى ﴾[الأعلى: 18-19].

والكتب السماوية السابقة أصابها التحريف، والتبديل، والتغيير، قال تعالى عن اليهود الذين نزلت عليهم التوراة: ﴿ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هِادُواْ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَـذَا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُواْ ﴾ [المائدة: 41].
قال ابن كثير رحمه الله: "الصحيح أنها نزلت في اليهوديَّين اللَّذَين زنيا، وكانوا قد بدَّلوا كتاب الله الذي بأيديهم من الأمر برجم من أحصن منهم، فحرَّفوا واصطلحوا فيما بينهم على الجلد مائة جلدة، والتحميم، والإركاب على حمار مقلوبين"[5].

وقَالَ تَعَالَى: ﴿ إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ اللّهِ ﴾ [المائدة: 44].
وساق القرطبي في تفسيره إلى يحيى ابن أكتم، قال: كان للمأمون - وهو أمير إذا ذاك - مجلس نظر، فدخل في جملة الناس رجل يهودي حسن الثياب، حسن الوجه، طيب الرائحة، قال: فتكلم، فأحسن الكلام والعبارة، قال: فلما تقوض المجلس، دعاه المأمون فقال له: إسرائيلي؟ قال: نعم، قال له: أسلم حتى أفعل لك وأصنع، ووعده، فقال: ديني ودين آبائي! وانصرف، قال: فلما كان بعد سنة جاءنا مسلمًا، قال: فتكلم على الفقه فأحسن الكلام، فلما تقوض المجلس، دعاه المأمون وقال: ألست صاحبنا بالأمس؟ قال له: بلى، قال: فما كان سبب إسلامك؟ قال: انصرفت من حضرتك، فأحببت أن أمتحن هذه الأديان، وأنت تراني حسن الخط، فعمدت إلى التوراة، فكتبت ثلاث نسخ، فزدت فيها ونقصت، وأدخلتها الكنيسة فاشتُريت مني، وعمدت إلى الإنجيل فكتبت ثلاث نسخ، فزدت فيها ونقصت، وأدخلتها البيعة، فاشتُريت مني، وعمدت إلى القرآن فعملت ثلاث نسخ، وزدت فيها ونقصت، وأدخلتها الوراقين فتصفحوها، فلما أن وجدوا فيها الزيادة والنقصان رموا بها، فلم يشتروها، فعلمت أن هذا كتاب محفوظ، فكان هذا سبب إسلامي، قال يحيى بن أكتم: فحججت تلك السنة، فلقيت سفيان بن عيينة، فذكرت له الخبر، فقال لي: مصداق هذا في كتاب الله عزَّ وجلَّ، قال: قلت: في أي موضع؟ قال: في قول الله تبارك وتعالى: ﴿ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ اللّهِ ﴾ [المائدة: 44]، فجعل حفظه إليهم فضاع، وقال عزَّ وجلَّ عن القرآن: ﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُون ﴾ [الحجر: 9]، فحفظه الله عزَّ وجلَّ علينا فلم يضع[6].
وقَالَ تَعَالَى: ﴿ قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاء بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِّلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا ﴾ [الأنعام: 91]، وقَالَ تَعَالَى: ﴿ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَـذَا مِنْ عِندِ اللّهِ ﴾ [البقرة: 79].

والكتب السابقة كانت وقتية، وخاصة بالأمم التي نزلت فيها، ولذلك لم تأخذ صفة الدوام، ولا تكفل الله بحفظها.

وقد بشرت الكتب السابقة بالنبي صلى اللهُ عليه وسلم، قَالَ تَعَالَى: ﴿ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ ﴾ [الأعراف: 157].
قال ابن كثير: "وهذه صفة محمد صلى اللهُ عليه وسلم في كتب الأنبياء بشروا أُممهم ببعثته، وأمروهم بمتابعته، ولم تزل صفاته موجودة في كتبهم، يعرفها علماؤهم، وأحبارهم"[7].

قَالَ تَعَالَى: ﴿ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمْ ﴾ [البقرة: 146].
ففي هذه الآية يخبر تعالى أن علماء أهل الكتاب يعرفون صحة ما جاءهم به الرسول صلى اللهُ عليه وسلم كما يعرف أحدهم ولده[8].
روى البخاري في صحيحه مِن حَدِيثِ عَطَاءِ بنِ يَسَارٍ قَالَ: "لَقِيتُ عَبْدَ اللهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رضي اللهُ عنهما، قُلْتُ: أَخْبِرْنِي عَنْ صِفَةِ رَسُولِ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم فِي التَّوْرَاةِ؟ قَالَ: أَجَلْ وَاللهِ إِنَّهُ لَمَوْصُوفٌ فِي التَّوْرَاةِ بِبَعْضِ صِفَتِهِ فِي الْقُرْآنِ، يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا، وَنَذِيرًا.
وَحِرْزًا لِلْأُمِّيِّينَ، أَنْتَ عَبْدِي وَرَسُولِي، سَمَّيْتُكَ المُتَوَكِّلَ، لَيْسَ بِفَظٍّ، وَلَا غَلِيظٍ، وَلَا سَخَّابٍ فِي الْأَسْوَاقِ، وَلَا يَدْفَعُ بِالسَّيِّئَةِ السَّيِّئَةَ، وَلَكِنْ يَعْفُو وَيَغْفِرُ، وَلَنْ يَقْبِضَهُ اللهُ حَتَّى يُقِيمَ بِهِ الْمِلَّةَ الْعَوْجَاءَ بِأَنْ يَقُولُوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَيَفْتَحُ بِهَا أَعْيُنًا عُمْيًا، وَآذَانًا صُمًّا، وَقُلُوبًا غُلْفًا"[9].

والقرآن آخر هذه الكتب وهو كلام الله، منه بدأ، وإليه يعود، وبه نسخت جميع الرسالات، والكتب التي قبله، وقد أنزله الله على نبينا محمد صلى اللهُ عليه وسلم، قَالَ تَعَالَى: ﴿ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ ﴾ [المائدة: 48].
وقَالَ تَعَالَى: ﴿ وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِين ﴾ [آل عمران: 85].

ولا ينبغي للمؤمن الاشتغال بالكتب السابقة، والقراءة فيها، فقد روى الإمام أحمد في مسنده مِن حَدِيثِ عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ رضي اللهُ عنه: "أَنَّهُ أَتَى النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم بِكِتَابٍ أَصَابَهُ مِنْ بَعْضِ أَهْلِ الْكُتُبِ، فَقَرَأَهُ عَلَى النَّبِيِّ صلى اللهُ عليه وسلم فَغَضِبَ وَقَالَ: أَمُتَهَوِّكُونَ[10] فِيهَا يَا ابْنَ الْخَطَّابِ؟! وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ جِئْتُكُمْ بِهَا بَيْضَاءَ نَقِيَّةً، لَا تَسْأَلُوهُمْ عَنْ شَيْءٍ فَيُخْبِرُوكُمْ بِحَقٍّ فَتُكَذِّبُوا بِهِ، أَوْ بِبَاطِلٍ فَتُصَدِّقُوا بِهِ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَوْ أَنَّ مُوسَى كَانَ حَيًّا، مَا وَسِعَهُ إِلَّا أَنْ يَتَّبِعَنِي"[11].

من آثار الإيمان بالكتب السابقة:
1- العلم برحمة الله تعالى وعنايته بخلقه، حيث أنزل لكل قومٍ كتابًا يهديهم به.

2- ظهور حكمة الله تعالى، حيث شرع في هذه الكتب لكل أمة ما يناسبها وكان خاتم هذه الكتب القرآن العظيم، مناسبًا لجميع الخلق في كل عصر ومكان إلى يوم القيامة.

3- المستند لهذه الأمة في شهادتها على الأمم السابقة، أن الله أقام عليها الحجة بإرسال الرسل وإنزال الكتب.

4- أن الإيمان بالكتب السابقة المنزلة على الرسل لا يقتضي إقرار ما يوجد بأيدي اليهود والنصارى من التوراة والإنجيل، فإنها بدلت وحرفت، والذي لم يصل إليه التحريف نسخ بالقرآن وهذا بيان من اللجنة الدائمة لموقف المسلم من هذه الكتب والأديان السماوية السابقة، وقد اشتمل على إيضاح أن الدعوة إلى وحدة الأديان كفر صريح وردة عن الإسلام:
وحدة الأديان الفكر الهدام ﴿ وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ ﴾ [آل عمران: 85].

الحمد لله، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
فإن اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء استعرضت ما ورد إليها من تساؤلات وما ينشر في وسائل الإعلام من آراء ومقالات بشأن الدعوة إلى "وحدة الأديان": دين الإسلام، ودين اليهود، ودين النصارى، وما تفرع عن ذلك من دعوة إلى بناء مسجد، وكنيسة، ومعبد في محيط واحد، في رحاب الجامعات، والمطارات، والساحات العامة، ودعوة إلى طباعة القرآن، والإنجيل في غلاف واحد إلى غير ذلك من آثار هذه الدعوة، وما يُعقد لها من مؤتمرات، وندوات، وجمعيات في الشرق، والغرب، وبعد التأمل والدراسة فإن اللجنة تقرر ما يلي:
أولًا: فإن من أصول الاعتقاد في الإسلام المعلومة من الدين بالضرورة: والتي أجمع عليها المسلمون، أنه لا يوجد على وجه الأرض دين حق سوى دين الإسلام، وأنه خاتمة الأديان، وناسخ لجميع ما قبله من الأديان والملل، والشرائع، فلم يبق على وجه الأرض دين يُتعبد الله به سوى الإسلام، قال الله تعالى: ﴿ وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِين ﴾ [آل عمران: 85]، والإسلام بعد بعثة محمد هو ما جاء به دون ما سواه من الأديان.

ثانيًا: ومن أصول الاعتقاد في الإسلام أن كتاب الله تعالى "القرآن الكريم" هو آخر كتب الله نزولًا: وعهدًا برب العالمين، وأنه ناسخ لكل كتاب أُنزل من قبل من التوراة، والإنجيل وغيرها، ومهيمن عليها، فلم يبقَ كتابٌ يُتَعَبَّدُ به سوى "القرآن الكريم".
قال الله تعالى: ﴿ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْحَقِّ ﴾ [المائدة: 48].

ثالثًا: يجب الإيمان بأن "التوراة" و"الإنجيل" قد نُسخا بالقرآن الكريم: وأنه قد لحقهما التحريف، والتبديل، والزيادة، والنقصان كما جاء بيان ذلك في آيات من كتاب الله الكريم.

منها: قول الله تعالى: ﴿ فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَىَ خَآئِنَةٍ مِّنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمُ ﴾ [المائدة: 13]، وقوله تعالى: ﴿ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَـذَا مِنْ عِندِ اللّهِ لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُون ﴾ [البقرة: 79]، وقوله سبحانه: ﴿ وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُم بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُون ﴾ [آل عمران: 78].

ولهذا فما كان منها صحيحًا فهو منسوخ بالإسلام، وما سوى ذلك فهو محرَّف، أو مبدَّل، وَقَد ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ صلى اللهُ عليه وسلم أَنَّهُ غَضِبَ حِينَ رَأَى مَعَ عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ رضي اللهُ عنه صَحِيفَةً فِيهَا شَيءٌ مِنَ التَّورَاةِ، وَقَالَﮔ: "أَفِي شَكٍّ أَنتَ يَا ابنَ الخَطَّابِ؟ أَلَم آتِ بِهَا بَيضَاءَ نَقِيَّةً؟! لَو كَانَ أَخِي مُوسَى حَيًّا مَا وَسِعَهُ إِلَّا اتِّبَاعِي"[12].

رابعًا: ومن أصول الاعتقاد في الإسلام أن نبينا ورسولنا محمد هو خاتم الأنبياء والمرسلين، كما قال الله تعالى: ﴿ مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ ﴾ [الأحزاب: 40]، فلم يبقَ رسول يجب اتباعه سوى محمد صلى اللهُ عليه وسلم، ولو كان أحد من أنبياء الله ورسله حيًّا لما وسعه إلا اتباعه - وأنه لا يسع أتباعهم إلا ذلك - كما قال الله تعالى: ﴿ وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُواْ أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِين ﴾ [آل عمران: 81]، ونبي الله عيسىﮔ إذا نزل في آخر الزمان يكون تابعًا لمحمد وحاكمًا بشريعته، قال الله تعالى: ﴿ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ ﴾ [الأعراف: 157].

كما أن من أصول الاعتقاد في الإسلام أن بعثة محمد عامة للناس أجمعين، قال الله تعالى: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُون ﴾ [سبأ: 28]، وقال سبحانه: ﴿ قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا ﴾ [الأعراف: 158] وغيرها من الآيات.

خامسًا: ومن أصول الإسلام أنه يجب اعتقاد كفر كل من لم يدخل في الإسلام: من اليهود، والنصارى، وغيرهم وتسميته كافرًا، وأنه عدو لله ورسوله والمؤمنين، وأنه من أهل النار، كما قَالَ تَعَالَى: ﴿ لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَة ﴾ [البينة: 1]، وقال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّة ﴾ [البينة: 6] وغيرها من الآيات.
وثبت في صحيح مسلم: أَنَّ النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم قَالَ: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَا يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ يَهُودِيٌّ، وَلَا نَصْرَانِيٌّ، ثُمَّ يَمُوتُ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ، إِلَّا كَانَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ"[13].

ولهذا: فمن لم يُكَفِّرِ اليهود والنصارى فهو كافر، طردًا لقاعدة الشريعة: "مَن لَم يُكَفِّرِ الكَافِرَ فَهُوَ كَافِرٌ".

سادسًا: وأمام هذه الأصول الاعتقادية والحقائق الشرعية: فإن الدعوة إلى "وحدة الأديان" والتقارب بينها، وصهرها في قالب واحد دعوة خبيثة ماكرة، والغرض منها خلطُ الحق بالباطل، وهدمُ الإسلام وتقويضُ دعائمه، وجرُّ أهله إلى ردة شاملة، ومصداق ذلك في قول الله سبحانه: ﴿ وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ ﴾ [البقرة: 217]، وقوله تعالى: ﴿ وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَاء ﴾ [النساء: 89].

سابعًا: وإن من آثار هذه الدعوة الآثمة: إلغاء الفوارق بين الإسلام، والكفر، والحق، والباطل، والمعروف، والمنكر، وكسر حاجز النفرة بين المسلمين والكافرين، فلا ولاء، ولا براء، ولا جهاد ولا قتال لإعلاء كلمة الله في أرض الله، والله جل وتقدس يقول: ﴿ قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُون ﴾ [التوبة: 29]، ويقول تعالى: ﴿ وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِين ﴾ [التوبة: 36].

ثامنًا: أن الدعوة إلى "وحدة الأديان " إن صدرت من مسلم: فهي تعتبر ردة صريحة عن دين الإسلام؛ لأنها تصطدم مع أصول الاعتقاد، فترضى بالكفر بالله عزَّ وجلَّ، وتبطل صدق القرآن ونسخه لجميع ما قبله من الكتب، وتبطل نسخ الإسلام لجميع ما قبله من الشرائع والأديان، وبناء على ذلك فهي فكرة مرفوضة شرعًا، محرمة قطعًا بجميع أدلة التشريع في الإسلام من قرآن، وسنة، وإجماع.

تاسعًا: وتأسيسًا على ما تقدم:
1- فإنه لا يجوز لمسلم يؤمن بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد نبيًّا ورسولًا، الدعوة إلى هذه الفكرة الآثمة، والتشجيع عليها، وتسليكها بين المسلمين، فضلًا عن الاستجابة لها، والدخول في مؤتمراتها وندواتها والانتماء إلى محافلها.

2- لا يجوز لمسلم طباعة التوراة والإنجيل منفردين، فكيف مع القرآن في غلاف واحد! فمن فعله أو دعا إليه فهو في ضلال بعيد، لما في ذلك من الجمع بين الحق "القرآن الكريم" والمحرف أو الحق المنسوخ "التوراة" و"الإنجيل".

3- كما لا يجوز لمسلم الاستجابة لدعوة بناء مسجد، وكنيسة، ومعبد في مجمع واحد، لما في ذلك من الاعتراف بدين يُعبد الله به غير الإسلام، وإنكار ظهوره على الدين كله، ودعوة مادية إلى أن الأديان ثلاث، لأهل الأرض التدين بأي منها، وأنها على قدم التساوي، وأن الإسلام غير ناسخ لما قبله من الأديان، ولا شك أن إقرار ذلك أو اعتقاده أو الرضا به كفر وضلال؛ لأنه مخالفة صريحة للقرآن الكريم والسنة المطهرة وإجماع المسلمين، واعتراف بأن تحريفات اليهود والنصارى من عند الله، تعالى الله عن ذلك.
كما أنه لا يجوز تسمية الكنائس "بيوت الله" وأن أهلها يعبدون الله فيها عبادة صحيحة مقبولة عند الله؛ لأنها عبادة غير دين الإسلام، والله تعالى يقول: ﴿ وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِين ﴾ [آل عمران: 85]؛ بل هي بيوت يُكفر فيها بالله، نعوذ بالله من الكفر، وأهله.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: "ليست - أي: البيع والكنائس - بيوت الله، وإنما بيوت الله المساجد، بل هي بيوت يُكفر فيها بالله، وإن كان قد يذكر فيها، فالبيوت بمنزلة أهلها، وأهلها كفار، فهي بيوت عبادة الكفار"[14].

عاشرًا: ومما يجب أن يعلم: أن دعوة الكفار بعامة، وأهل الكتاب بخاصة إلى الإسلام واجبة على المسلمين بالنصوص الصريحة من الكتاب والسنة، ولكن ذلك لا يكون إلا بطريق البيان، والمجادلة بالتي هي أحسن، وعدم التنازل عن شيء من شرائع الإسلام، وذلك للوصول إلى قناعتهم بالإسلام ودخولهم فيه، أو إقامة الحجة عليهم ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حيّ عن بيّنة، قال الله تعالى: ﴿ قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُون ﴾ [آل عمران: 64].
أما مجادلتهم، واللقاء معهم ومحاورتهم لأجل النزول عند رغباتهم، وتحقيق أهدافهم، ونقض عُرى الإسلام ومعاقد الإيمان فهذا باطل يأباه الله ورسوله صلى اللهُ عليه وسلم والمؤمنون، والله المستعان على ما يصفون، قَالَ تَعَالَى: ﴿ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللّهُ إِلَيْكَ ﴾ [المائدة: 49].

وإن اللجنة إذ تقرِّر ذلك وتبيِّنه للناس، فإنها توصي المسلمين بعامة، وأهل العلم بخاصة بتقوى الله تعالى، ومراقبته، وحماية الإسلام، وصيانة عقيدة المسلمين من الضلال، ودعاته، والكفر وأهله، وتحذرهم من هذه الدعوة الكفرية الضالة "وحدة الأديان" ومن الوقوع في حبائلها، ونعيذ بالله كل مسلم أن يكون سببًا في جلب هذه الضلالة إلى بلاد المسلمين، وترويجها بينهم.
نسأل الله سبحانه بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يعيذنا جميعًا من مضلات الفتن، وأن يجعلنا هداة مهتدين، حماة للإسلام على هدى ونور من ربنا حتى نلقاه وهو راض عنا.

وبالله التوفيق، وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحبِهِ أَجمَعِينَ.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء.

وَالحَمدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ، وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحبِهِ أَجمَعِينَ.



[1] "العقيدة الطحاوية" (2 /424-425).


[2] "الجامع لأحكام القرآن" (9 /328).


[3] "العَذْب النَّمِير من مجالس الشنقيطي في التفسير" (4 /190).


[4] "تفسير ابن كثير" (5 /243).


[5] "تفسير ابن كثير" (5 /220).


[6] "الجامع لأحكام القرآن" (12 /180-181).


[7] "تفسير ابن كثير" (6 /407).


[8] "تفسير ابن كثير" (2 /121).


[9] "صحيح البخاري" (برقم 2125).


[10] قال أبو عبيدة: يقول: أَمُتَحَيِّرُونَ أنتم في الإسلام، لا تعرفون دينكم حتى تأخذونه من اليهود والنصارى؟! "غريب الحديث" (3 /29).


[11] "مسند الإمام أحمد" (23 /349) (برقم 15156)، وصححه الشيخ الألباني رحمه الله في "إرواء الغليل" (6 /34-36) (برقم 1589).


[12] سبق تخريجه.


[13] "صحيح مسلم" (برقم 153).


[14] "مجموع الفتاوى" (162/22).

شارك الخبر

ساهم - قرآن ٣