الصليب
مدة
قراءة المادة :
5 دقائق
.
للشاعر لامرتين
بقلم الأستاذ محمد أنور ولاية
(ماتت ألفير في 18 ديسمبر 1817 وهي جوليا في قصته رفائيل بعد أن عانت آلاماً مبرحة وقد حمل أحد أصدقاء لامرتين إليه من التي كان يحبها الصليب الذي كانت ممسكة به ساعة النزع. فنظم هذه الأبيات بعد مضي عام.
ولكنها لم تنشر إلا في عام 1823 في مؤلفه (التأملات الثانية)، وربما أدخل عليها المشاعر في تلك المدة بعض التعديل كعادته) أنتَ الذي التقطتك من فوق فمها وهي تكابد غصص الموت، في ساعة الوداع وهي تلفظ النفس الأخير إنك رمز قدسي لصورة الإله، ومنحة من يدها وهي نفارق الحياة كم دمعة ذرفتُها تحت قدميك اللتين أعبدهما، ومنذ الساعة المقدسة قد تسلمتك يداي المرتعشتان وأنت ما تزال دافئاً من نفسها الأخير، المنبعث من أحشاء هذه الشهيدة. كانت المشاعل المقدسة ترسل شعلة أخيرة، وكان القس يتمتم بأغاني الموت العذبة، الشبيهة بتلك الأغاني ذوات الأنين المؤثر التي ترددها المرأة للطفل المسترسل في النوم. لقد انطبع على جبينها أثر ذلك الأمل، المنطوي على الورع والتقوى. وعلى أسايرها التي بدت في جمال رائع، طبع الألم الهارب بهاءه والموت جلاله. وهذه الريح التي كانت تداعب جدائل شعرها، كانت تكشف لي عن محياها آناً وتحجبه آناً، كما تموج ظلال شجر السرو السوداء على قبر ناصع البياض. كانت إحدى ذراعيها متدلية من فراش الموت، والأخرى منثنية على قلبها بتراخ كأنها ما زالت تبحث عن صورة المنقذ لتضمها إلى فمها. فتحت فاها لتعانقه ثانية، ولكن روحها ولت الأدبار وهي تطبع عليه هذه القبلة الإلهية كالعطر الرقيق المنبعث من البخور الذي تلتهمه النيران قبل أن يتأجج. والآن هدأ كل شيء على فمها. وأخلد النفَس إلى السكون في أحشائها الهامدة. وعلى عينها اللتين خبا بريقهما أسبلت جفنيها حتى أضحتا مغمضتين نصف إغماض. تملكني فزع لا أعرف كنهه حين كنت ماثلاً أمامها، وكنت لا أجسر على الاقتراب من هذا التراث المعبود كنت لا أجسر.
! ولكن أنصت الكاهن إلى سكوني وأمسك بيديه المثلجتين الصليب وصاح بي: (هو ذا التذكار.
هو ذا الرجاء.
خذه يا بني.
!) نعم ستبقى لي أيها الإرث المحزن. منذ ذلك اليوم بدّلَت الشجرة التي زرعتُها على قبرك وريقاتها سبع مرات ولكنك لم تهجرني. كنت قائماً إلى جانب هذا القلب وا أسفاه حيث كل شيء سائر إلى الزوال. فحنيتها من النسيان على مر الزمن. وطبعت عيناي وهما تذرفان القطرة تلو القطرة أثرهما على العاج الذي لان. يا من باحت إليه الروح المدبرة بسرها الأخير تعال.
وتربع على قلبي وتكلم أيضاً وبثني حديثها لك عندما أصبح صوتها الضعيف لا يصل إلا إلى مسامعك. وفي هذه الساعة المريبة حيث النفس خاشعة، وهي تتوارى تحت النقاب الذي يبدو كثيفاً لأعيننا، خارج نطاق حواسنا المثلجة، تنكمش رويداً رويداً غير منصتة إلى الوداع الخير. وبينما هي على نهاية الحياة في انتظار الموت كالثمرة التي تنفصل من الفرع لثقلها ترتعش روحنا المعلقة عند كل زفرة على ظلام القبر وحين تكف أغاني وتنهدات النشيد المضطرب عن إيقاظ عقلنا النائم إذ بك ملتصق على الشفاه في ساعة النزع كآخر صديق إنك تعرفين كيف تموتين، وأن دموعك الإلهية التي ذرفتها في تلك الليلة المخيفة، حيث كنت تصلين عبثاً، قد روت شجرة الزيتون المقدسة من المساء إلى الفجر. وعندما ألقت عيناك نظرة على الصليب لتسبر غور هذا سر العظيم رأيت أمك تجهش بالبكاء والطبيعة تلبس الحداد لقد فارقتِ أصدقاءك على الأرض كما هجرت جسدك في القبر سأبحث عن الموضع الذي زفر عليه فمها منك وداعها الأخير وهي تسلم الروح لعل نفسها تُقبل لهداية نفسي الهائمة في حب إله واحد ألا من حبيب يلبس الحداد يلتقط الإرث المقدس من فوق فمي وأنا على فراش الموت وقد اعتراني الاكتئاب والهدوء معاً كملاك مولّه الفؤاد. فيسدد خطواته ويأتنس به في ساعته الأخيرة فتنتقل تلك الوديعة المقدسة المنطوية على الحب والأمل من المرتحل إلى المقيم؛ وهكذا دواليك إلى أن يأتي يوم تخترق فيه الأموات القبة المظلمة يناديك صوت من السماء سبع مرات فيوقظ هؤلاء الذين ينامون في ظل الصليب الأبدي (الإسكندرية) محمد أنور ولاية