تلك المساجد!!
مدة
قراءة المادة :
10 دقائق
.
تلك المساجد!!"وفي طريقِنا إلى المدينة العميقةِ ذاتِ الأصولِ العريقةِ والمواهبِ والسَّليقةِ، وكنَّا نمتطي ظهرَ سيارةٍ من نوع حمار ذي الأذنين[1]، استوقفنا أذانُ صلاةِ العصرِ في بلد مصر، فسألنا عن أقربِ مسجدٍ جامعٍ فأُحِلنا إلى مسجد جميلٍ، في حي راقٍ جدًّا، وملوث جدًّا، وهادئ جدًّا، وغريبٍ جدًّا، يبعد عن موقفِنا بألف كيلو متر، وطريقُهُ صعبٌ جدًّا، ملتوٍ كثيرًا، موصوفٌ عندَ الرَّحالةِ بطريق الأفاعي، نسبةً لالتفافِه، وقيل كثرة أفاعيه.
عقلنا سَيَّارتَنا تحت ظلِّ شجرةٍ وارفة الظِّلال، منبسطةِ الأغصان، منشرحة انشراحة الجذلان، وطلبنا منها أن تحرُسَها من الأفاعي الضارية، والوحوشِ الكاسرة، وأسرابِ الطيور الغازية، فقبلتْ طلبَنا، وانطلقنا نمشي التؤدةَ نذكر اللهَ في أنفسِنا، ندعوه أن يُجِيرَنا من العذاب، فقطعنا الكيلومترات، في ظرفٍ وجيز جدًّا من غير تعبٍ ولا نصب.
ولما وصلنا المسجدَ مُنِعنا من دخولِه؛ وكان مسجدًا من الطرازِ العالي، محفوفًا بالحدائقِ الغنَّاء، والأشجارِ الخضراء، والأزهارِ الصفراء والحمراء، يحرسُه الحرسُ الآليون، والرِّجال الآدميون، محاطة بالكاميراتِ أسوارُه، وبالراداراتِ جنباتُه، فاستفسرنا عن سببِ منعنا من دخولِه، فأُخبرْنا بأننا لم نؤدِّ ثمنَ التذكرةِ، ولم نحصل على التأشيرة، فعجبنا من هذا الأمرِ عجبًا، ولم نكد نصدقْ ما يجري؛ لأنَّنا لم نألفْ أداءَ ثمن التذاكرِ إلا في الملاعبِ، لا في المساجد!
خاطبت المسؤولَ عن التذاكرِ قائلاً: هل تمزحُ معنا أيها الرجل؟
قال بصوت خشنٍ عنيف: لا مجالَ للمزحة عندنا، نحن قومٌ جادون في العملِ مجدُّون، نقول القليلَ ونفعلُ الكثير، نتجاوزُ القديم، ونعضُّ بالنَّواجذِ على الجديد، لسانُنا سديد، وقولُنا كالحديد.
قلت: لم نألفْ ذلك، إنا ورثنا الفقرَ والذِّلةَ والمهانة في زمنِ الرأسمالية والعدالة الاجتماعية؛ فنحن ضحايا مناهجِها الطَّاغية، وقروضها الرِّبوية، وأساليبها الملتوية، فجرحنا غائر ولما يلتئم.
قال: هل أنتم من هذا الكوكب؟
قلت: لسنا من أهلِه، فقد كان أجدادُنا - رحمهم الله - يسكنون الكوكبَ الآخر.
قال: سأوضِّحُ لكم القصة، فعُوا عنِّي ما أقولُ، وليبلِّغِ الشَّاهدُ منكم الغائبَ: "إنَّ هذا المسجد خاص؛ تمتلكُه شركةٌ متعددة الجنسيات؛ عابرةٌ للكواكب[2] والقارات، والبحار والمجرات، تستثمر في كلِّ شيء حتى في المساجد، إنه مسجدٌ نظيفٌ طاهرٌ ساكنٌ تخشعُ فيه الأنفس أي خشوع، وتستريحُ فيه الأفئدةُ أي استراحة، وليس كباقي المساجد".
وفهمتُ من مكنون إشاراتِه، ومن فحوى تلويحاتِه وكناياتِه، أنَّ مراحيضَه طاهرةٌ، وزرابيه المفروشة مريحةٌ.
قلت: كم ثمن التذكرة؟
فذكر مبلغًا كبيرًا جدًّا أدهشني.
قلت: إنه مبلغٌ لا يُطاق، ونحن قومٌ فقراء لم نرثْ عن أجدادِنا مالاً كثيرًا ولا تجارةً مربحةً، وورثنا عنهم علمًا قليلاً ونزرًا من الفهمِ يسيرًا، ونعم ما ورثنا.
قال: بئس ما ورثتم، فالعلمُ الذي لا يجرُّ مالاً ولا جاهًا لا فائدةَ منه، فعلمكم أعماكم، وعن الطَّريقِ أضلكم؛ فتهتمْ عن السربِ وضاعت أمانيكم، فالعلم الذي لا يجرُّ ثراءً عددناه هراءً.
قلت: فما الحلُّ إذًا؟
قال: عليكم بالمساجدِ العمومية المجانية، فإنَّها أصلحُ لكم وأنفع، وأقوم لكم وأهدى.
ونحن في حيرةٍ من أمرنا؛ نقدِّمُ رجلاً ونؤخِّرُ أخرى، تفضَّل علينا أحدُ إخواننا الأحبة فأدَّى عنَّا ثمنَ التذكرة، ففتح البابَ بضغطةِ زر واحدةٍ، ثم دخلنا المسجدَ فردًا فردًا، فقصدتُ الركن الخاص بالوضوء قصدًا، وجريتُ إليه جريًا، فاعترضني معترضٌ وطلب مني أداء التذكرة.
قلت: لقد أديتُ ثمنَ الدخول.
قال: لكنَّك لم تؤدِّ ثمنَ الوضوء - فهذا جناحٌ خاص مستقل عن الأول، ثم اعلم أنَّك ستكون مُلزمًا بأداءِ ثمن الخروج؛ إذ تمتاز مجموعةُ المساجدِ التابعة لشركتنا بخاصيةٍ فريدةٍ تكاد تكون عجيبةً؛ وهي الأداء عند الدخولِ وعند الخروج[3].
فألجأتني الضرورةُ الملحة لأداءِ ثمن التذكرة والحصول على التأشيرة؛ لأنِّي في أمسِّ الحاجة إلى الوضوء، وفتح الباب فدخلتُ أقصد المراحيضَ قصدًا مهرولاً إليها مسرعًا، فقضيتُ حاجتي وتوضأتُ وضوئي للصَّلاة.
رمقت عيني:
في الزاويةِ اليسارية للمسجد رمقتُ بعيني رجالاً ونساءً عاكفين؛ يتدارسون أمورًا ومسائل، ويتصفحُّون كتبًا ورسائل؛ يقلِّبون الصفحاتِ تقليبًا، يتناقشون ويتصايحون، يكادون يتناطحون، ظننتُهم سياسيين يتفاوضون في قضايا الشعب يتنازعون، لكن هيهات هيهات، فسألتُ عنهم فأُخبرتُ بأنَّهم حداثيون، وبنيويون، وتفكيكيون، وداديون، وسرياليون، وآخرون، تحدَّثوا عن موتِ الكاتبِ، واللَّعبِ الحر، وإنكار القصدية، والثورة، سمعتُهم يتكلَّمون بألسنتِهم يلوكون عباراتٍ ملتوية، وأساليب غريبة غربية فرنسية وإنجليزية.
فعجبنا من وجودِهم في المسجد؛ لأنا لَم نألفْ ذلك، فاستفسرنا أمرَهم، واستشكلنا وجودَهم، ووُعِدنا بأن نتلقَّى من إدارةِ المسجد جوابًا واضحًا، وتفصيلاً في الموضوعِ شافيًا.
وكانت إمامةُ المسجدِ امرأةً ذات هيبةٍ ووقارٍ، يناهز عمرُها التسعين أو المائة، يظهر من تحركاتِها أنها رياضيةٌ بارعةٌ، وبطلةٌ في الجمباز سابقةٌ، عمرها كعمرِ جدتي، وخفتها أفضلُ من خفتي، جهورية الصوت؛ إذ أدتْ بنا صلاةَ العصر جهرًا، فلما كبَّرتُ لأنبهَها على سهوِها - ظننتها سهت - وكزتني بمرفقِها أو عكَّازِها مصليةٌ بمحاذاتي، ثم نبهتُها ثانية فجرَّني مسؤولٌ في المسجدِ جرًّا كاد يمزِّقُ ثوبي، فأخرجني وألقى بي خارجَ المسجد.
قلت: إنَّ هذه ليست بصلاة: تأمُّنا امرأةٌ، وتصلِّي العصرَ جهرًا، فضلاً عن أنه مسجدٌ مختلطٌ!
قال: إنك لا تحسنُ صلاة ما بعد الحداثية.
فسقتُ له ما تيسَّر معي من الأدلةِ الشرعية الدالة الدلالة القطعية على أنَّ صلاةَ العصرِ صلاةٌ سرية، وإمامة المرأة غير شرعية، فلم يأبه لكلامي، والتفَّ من خلفي ومن أمامي، يسخرُ مني طورًا، ويلمزني طورًا آخر، وما بين سخريتِه ولمزه صفعاتٌ تديرُ خدي جهةَ اليمين تارة، وجهة الشمال تارة أخرى.
قال: إني مسؤولٌ أنفذُ التعليماتِ التحررية، والمنهجيةَ الحداثية، وأساليبَ ما بعد العقلانية.
وبينا أنا في البيانِ والتوضيح مسهبًا ومفصلاًَ، جاءت سيارة مسرعة تابعة لإدارةِ المسجد، فخرج منها رجلان قويان ضخمان، أحدهما فاقع البياضِ، والثاني أسود كليلِ تهامة، وكان الأسْودُ أرأف عليَّ من الأبيض، رغم أني من أصحابِ البشرة الصفراء، فحملت وغُلِّقتِ الأبواب إغلاقًا، وأحكمت المنافذُ إحكامًا، مربوطةً يداي، مغلولةً رجلاي، مشدودًا عنقي إليهما شدًّا، وانطلقتِ السيارةُ مسرعةً كأنَّها سيارةُ إسعافٍ تحمل مريضًا مرضًا مميتًا، في بلد يُحترم فيه البشر[4].
وصفتني إدارةُ المسجدِ المركزية بالإرهابي المجنون، وأودعتني في زنزانةٍ كتب على بابِها "خاصٌّ بالإرهابيين المجانين"، دخلتُ الزنزانة مدفوعًا إليها دفعًا، مجرورًا إليها جرًّا، رافعًا رأسي غير خائف ولا هائب، فوجدتُ فيها عصابةً من المسجونين من الإنسِ والجن الصَّالحين؛ منهم أفراد من القرنِ العشرين والواحد والعشرين والثاني والعشرين، عرفت بعضَهم ولم أعرفْ أغلبَهم، وقد كانوا من حكماءِ القوم وأعقلهم وألطفهم بالعبادِ وأرأفهم، ثلتهم صالحة وجمعهم مبارك، رضي اللهُ عنهم وأرضاهم، والجنةَ أدخلهم، وعن النَّارِ أبعدهم.
ثم جاؤوني بورقةِ الحكم الغيابي، مرقونة بمدادٍ من ذهب[5]؛ كتب عليها ما نصُّه: "حكمتِ المحكمةُ غيابيًّا على الإرهابي المجنون بألف سنة سجنًا نافذًا، وغرامةٍ مالية قدرها مائة جمرةٍ[6]، فلم أعجب من هذا الحكمِ الصادر من القاضي الآلي[7]؛ لأنِّي قد ألفتُ الجورَ في زمن حكم القضاة البشر، فالتجربة السابقة علمتني دروسًا لا يُستهان بها، وفوائد لا يستغنى عنها، أخذت ورقةَ الحكمِ ثم مزقتُها إربًا إربًا، فمضغتها مضغًا مضغًا، ثم مججتها مجًّا مجًّا.
وفي هذه الأثناءِ جيء بالزمرةِ الأحبة المرافقين لي في الرحلةِ، وأودعوا في زنزانتي وفي الزنزانةِ المجاورة المكتوب على بابِها: "خاصٌّ بالحمقى المقلدين"، فائتلف شملُنا، وانشرحت صدورُنا، وأدركنا أنَّها النهاية السعيدة، بداية النهاية".
تنهدتُ واستيقظتُ من نومي، وأيقظتُ ابني ليوقظَ ابنَه، فتوضأنا وذهبنا نقصدُ مسجدَ الحي العتيق، عسى أن ندركَ صلاةَ الفجر مع الجماعة، فنفوز بسبع وعشرين درجة، وانطلقت وأنا أعبر حلمي طورًا، وأذكرُ اللهَ في نفسي طورًا آخر، فقدَّر اللهُ - سبحانه وتعالى - أن أفتحَ مذياعَ سيارتي فأسمع قارئًا يرتِّل سورةَ "العصر"، ثم ردَّدها كلُّ من معنا في السيارة، فأوصينا بعضَنا بالعملِ الصَّالح، والصَّبرِ في السَّراءِ والضراء.
ولمَّا وصلنا إلى بيتنا[8]، تأهبنا للسفرِ المقرَّر، فأودعنا حقائبنا في السيارةِ وفوقها، وشددنا الرِّحالَ إلى مسقطِ رأسنا ومنبت شعرنا، نلف يمنةً ويسرةً، نصعدُ الجبالَ، ونركب الهضاب ونشق التلال، نعبرُ البحار ونقطع الأودية، ووقتما سمعنا الأذانَ نتوقَّفُ لنصلي مع الجماعة، قلَّتِ الجماعةُ أو كثرتْ، فكان ذلك دأبنا حتى وصلنا، فخرج الأحبة يستقبلوننا، فصافح رجالُنا رجالَهم، وصافحت نساؤنا نساءَهم، وتعانق الأطفالُ وفرح الصبيان، تحينت فرصةَ اجتماعِ شمل الأحبة، من أرضِ المشرق والمغرب؛ لأروي لهم روايةَ حلمي عسى أن أجدَ فيهم مؤولاً بارعًا أو مفسِّرًا فطنًا، فوجدتُ فيهم خيرًا كثيرًا وعلمًا غزيرًا، فجازاهم الله عن الأمَّةِ خيرَ الجزاء.
[1] سيارة المستقبل طبيعيةٌ صديقةٌ للبيئة، وهي من أسرع السيارات على الإطلاق.
[2] هنالك كواكب سيستعمرها الإنسان في المستقبل.
[3] وعند الخروج تُقَدِّم إدارةُ المسجدِ للمصلين الهدايا من ورود وأزهار ورياحين وأشياء في علب مكسوة بورق لامع.
[4] أما البلاد الذي لا يحترم فيها البشرُ فتأتي سياراتُ الإسعاف والطوارئ - في أفضل الأحوال - متأخرة، وقد لا تأتي، أو تأتي وتتعطل في طريقها.
[5] لا قيمةَ للذهب في تلك الأيام؛ إذ سيصبح الماءُ عملةَ الناس.
[6] الجمرة: عملة المستقبل ستكون بدل الدولار واليورو، عملة موحدة معمول بها في سائرِ بقاع الأرض، كما سيكون معمولاً بها في بعضِ الكواكب التي سيستعمرها الإنسان.
[7] تعرضُ المسائلُ القضائيةُ والوثائق والأدِلَّة على القاضِي الآلي ليبث فيها بطريقةٍ رقمية أوتوماتيكية.
[8] مساحةُ بيتنا لا تتجاوزُ 40 مترًا، ويتألف من بيتين صغيرين ومطبخٍ وحمامٍ.
فنحنُ من ضحايا الرأسماليةِ المتوحشة.