أرشيف المقالات

ذلك الدين القيم (5)

مدة قراءة المادة : 4 دقائق .
ذلك الدين القيم (5)
 
وإذا كان التوازنُ يشمل أمرين مهمَّين، هما:
1- التوازُن في التفكير.
2- التوازُن في السلوكِ والعَمل.
وإذ قدْ عرَفْنا تلك الإشارات إلى الأوَّل، فلنقفْ مع التوازن في نوعه الثاني (السلوك والعمل).
 
إنَّ تصرُّفاتِ الإنسان لا تخلو مِن حالة مِن ثلاث حالات:
• فإمَّا أن تكونَ مطبوعةً أو موسومةً بالتقصير أو التفريط؛ بحيث لا يأتي بالمطلوبِ أو يأتي به ناقصًا.
• وإمَّا أن تكونَ موسومةً بالزيادة والغُلوَّ فوقَ ما هو مطلوب.
• وإمَّا أن تكونَ وسطًا وفقَ المطلوب.
وهذه الحالات تشمل حقوقَ الله وحقوقَ العباد.
 
فالصلاة مثلاً - وهي مِن حقوق الله - قد يقصِّر فيها المسلمُ فلا يأتي بها كاملةً، فهذا يُسمَّى تفريطًا.
وقدْ يَزيد فيها ما ليس منها كالجهر بالنيَّة مثلاً، فإنَّه بدعة زائدة، وذلك إفراط.
وقد يأتي بها على الوجه المشروع، فيكون قدْ أقامها كما أمَرَه الله، وهو الوسَطُ المشروع.
أمَّا فيما يتعلَّق بحقوقِ العباد، فيشرع فيها العدْل والقِسط، وهو الإنصاف، دون نقْص أو ظُلم.
كما يُشرَع أيضًا البِرُّ والإحسان والعفو، وهذا فيه زيادةٌ عنِ المطلوب، ولكنها زيادةٌ مشروعة غير مذمومة.
 
وبهذا يتبيَّن أنَّ ثمَّة فرقًا بيْن حقوقِ الله وحقوق عباده، فأمَّا الأول فلا بدَّ من التقيُّد بالمشروع، وأنَّ الزيادة غلوٌّ مذموم، كما قال - تعالى - مخاطبًا أهل الكتاب: ﴿ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ ﴾ [النساء: 171].
 
وفي الحديث: ((هلَك المتنطِّعون))[1].
قال النوويُّ - رحمه الله -: المتنطِّعون: المتعمِّقون المشدِّدون في غيرِ موضع التشديد، وجاء التوجيه النبويُّ الكريم بالتسديد والمقارَبة بقوله: ((سدِّدوا وقارِبوا...)).
والتسديد: هو الاعتدالُ مع الكمال.
أمَّا المقارَبة، فهي محاولةُ الوصولِ إلى ذلك.
وهذا هو عينُ التوازن، أمَّا ما عَدَاه، فهو غلوٌّ وإسراف وإفراط مذموم.
 
وإذا كان هذا النَّوع مِن الإفراط قد يوجد عندَ أصحاب الفِكر المنغلِق الضيِّق، أو أهل التشاؤم والنظرة القاتمة للمجتمع، فإنَّني أحسب أنَّه قليل في عصرنا - إن شاء الله.
أمَّا ما يظنُّه كثيرٌ من الناس - متابعة للإعلام والاتجاه الغربي - في تفسيرهم للغلوِّ أو ما يُسمَّى بالتطرف بأنَّه التزام سُنة النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - في الاعتقادِ والعبادة والأخلاق والمعامَلة، فهو ظنٌّ خاطئ، بل هو خطيئة متعمَّدة.
 
لكن ما يُمكن أن نعتبرَه غلوًّا على الحقيقة هو فيما يتعلَّق بمعاملة الناس، وذلك باتِّخاذ خِصال الجفاء والغِلظة والنُّفرة وسوء الظنِّ مسلكًا في التعامل مع جميعِ الخَلْق، وإن كانوا مسلمين أتقياء أو علماء، أو دُعاةً أو فضلاء، ولا شكَّ أنَّ هذا انحرافٌ في التوازن في المعاملة؛ إذ كيف يعتبر ذلك منهجًا إسلاميًّا، وكيف يعتبر خُلقًا حسنًا، والله تعالى يأمر بخِلاف ذلك؛ حيث يقول: ﴿ وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا ﴾ [آل عمران: 103]، وقال في صفة المؤمنين: ﴿ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ ﴾ [المائدة: 54]، وقال: ﴿ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ ﴾ [الفتح: 29].
ذلك عنِ النوع الأوَّل، وهو حقوق الله، وأمَّا النوع الآخر، وهو حقوقُ العِباد، فيجوز فيها الإحسان والمعروف والزِّيادة، وذلك ليس غلوًّا كما عرفنا.



[1] رواه مسلم، الحديث رقم (2670).

شارك الخبر

المرئيات-١