حجة تاريخية
مدة
قراءة المادة :
10 دقائق
.
4 - حجة تاريخية
للدكتور جواد علي
وتتخذ الصهيونية من الصلات الثقافية التي كانت تربط اليهود على زعمها بفلسطين دليلا على وجوب إحياء تلك الثقافة. ونحن لا ننكر على الصهيونية قولها هذا ولكن الثقافة اليهودية لم تظهر بفلسطين وحدها ولم تقتصر على هذه البقعة فقط.
والواقع أن أكثر فصول التوراة كانت قد كتبت في الأرض المقدسة. غير أن قسماً من هذه الأسفار التي يتألف منها الكتاب المقدس كان قد كتب ووضع في العراق في إقليم بابل أثناء السبِّي مثل سفر حن قيال وربما (مراثي أرمياء) و (التثنية ويشوع كذلك وبعض أجزاء من المزامير). ويقوم (التلمود) عند اليهود مقام (الحديث) عند المسلمين وبموجب هذا الكتاب يحكمون.
(والتلمود البابلي) هو المعول عليه عند اليهود حتى اليوم.
على حين أنهم لا يعملون (بالتلمود اليورشلجي) أي التلمود الذي وضع في فلسطين. وضعه أحبار العبرانيين وعلماؤهم في منقطة (طبريا) على الأخص. وقد وضع التلمود البابلي في العراق في وادي الفرات وقد اشترك في وضعه وإتمامه جماعة من أحبار بابل استمروا على ذلك حتى أوائل القرن السادس للميلاد.
وعلى التلمود البابلي الطابع العراقي الخاص الذي يتجلى في نزعته العقلية الحرة وفي استعمال الرأي والقياس والاستنباط على عكس التلمود الفلسطيني الذي يمثل عقلية الفلسطينيين القدماء في محافظتهم وميلهم إلى الأخذ بالحديث والأخبار.
وهذا مما يدل على أن الثقافة العبرانية القديمة التي تريد الصهيونية إحياءها لم تكن ثقافة (عبرانية) خالصة نقية من كل شائبة بل كانت متأثرة بالمحيط.
فهي عراقية تمثل عقلية العراقيين في العراق وهي فلسطينية تمثل عقلية سكان فلسطين في فلسطين وهي مصرية تمثل طبع قدماء المصريين في مصر. ثم إن الكتب الخمسة الأولى من التوراة وهي التي يقال لها (أسفار موسى) وهي التكوين والخروج واللاويين والعدد والتثنية) كانت قد نزلت على موسى وموسى لم يكن قد دخل فلسطين فتكون هذه الكتب قد نزلت خارج الأرض المقدسة. وقد جاءت في الكتاب المقدس بعض الاصطلاحات والكلمات الآرامية التي تدل على تأث العبرانيين بهذه اللغة التي أصبحت اللغة اليومية لليهود منذ أيام السبي، والتي حلت محل (العبرانية) التي هجرها سواد الشعب وفضل الآرامية عليها، فاقتصر أمرها على رجال الدين وطبقة الكهنوت فقط وقد ترك الشعب اليهودي العبرانية مختاراً مفضلا (السريانية) لغة الثقافة التي شاعت في كل أنحاء الهلال الخصيب حتى أن أسفار العهد الجديد القديمة كانت قد دونت بهذه اللغة. وقد استعمل علماء اليهود ومثقفوهم هذه اللغة في كتاباتهم كما استعملوا بعد ذلك اللغة اليونانية التي دخلت إلى فلسطين وسوريا مع اليونانيين فألف بهذه اللغة المؤرخ اليهودي (يوسفوس) (جوزيفوس) المعصب لقوميته وهو من مواليد القدس في القرن الأول للمسيح والذي خلد تاريخ قومه في كتبه المهمة التي ألفها في تاريخ (الآثار اليهودية) و (الحروب اليهودية) والذي يعود إليه الفضل في أكثر ما نعرفه عن تاريخ اليهود مما لم يرد في التوراة إلى القرن الأول للمسيح.
لم يجد هذا المؤرخ اليهودي المتعصب لقوميته غضاضة من استعمال اللغة اليونانية في تدوين تاريخ قومه، مما يدل على أن العبرانيين لم يكونوا يستعملون تلك اللغة إلا بصورة محدودة ضيقة، وعلى أنهم لم يكونوا يعنون بها العناية اللازمة، وأنهم لم يكونوا يعتبرونها لغة ثقافة أو لغة أدب وكتابة وإنما هي لغة دين، على عكس ما يدعيه الصهيونيون في دعواهم الحديثة. وقد استخدم اليهود بعد انتشارهم في الأقطار الخارجية اللغات المحلية، حتى في الشروح الدينية والتفاسير فكتبوا باليونانية واللاتينية والعربي في القرون الوسطى ولا سيما في الأندلس حيث كانوا يكتبون كتبهم باللغة العربية ولكن بأحرف عبرية كالذي فعله الفيلسوف اليهودي موسى بن ميمون، مما يدل على أن العبرانيين كانوا يفكرون في كل مكان نزلوا به بعقلية ذلك المكان ولو جمعنا ما أنتجه العقل اليهودي منذ أيام السبَّي لوجدنا أن اليهود كانوا قد ساهموا في الثقافة العالمية جمعاء فكونوا ثقافات مختلفة وكانت لهم ثقافة دينية هي الثقافة التي كونها الأنبياء وشرَّاح التوراة والتلمود ومعنى هذا أن الثقافة اليهودية كانت ثقافة عالمية ولم تكن ثقافة إقليمية اقتصرت على فلسطين، وأن من الممكن لليهود تكوين ثقافة يهودية في الأقطار التي يسكنون فيها على نحو ما هو جار في الوقت الحاضر. وقد ذكر المؤرخ اليهودي (سيمون دبنوف) وهو أعظم المؤرخين المحدثين على الإطلاق أن اليهود كانوا قد تأثروا إلى حد كبير بثقافة البابليين وأن في الكتاب المقدس فصولا كثيرة أخذت من الثقافة البابلية كما يظهر ذلك من المقارنة بين الكتابات المسمارية وما ورد في التوراة. ظل اليهود يغادرون فلسطين للسكنى في الخارج في أيام الفرس وفي أيام اليونانيين والرومان وعلى الرغم من الحركات اللاسامية التي كانت تظهر في الإمبراطورية البيزنطية الرومانية فإن اليهود فضلوا البقاء في الخارج.
ولم يظهروا أي رغبة في العودة إلى هذه الأرض.
ولم يبقى في فلسطين في العصور المسيحية غير بعض الجاليات التي سكنت في منطقة الجليل و (طبرية) على الأخص.
ومما يلاحظ أنهم ساعدوا الجيش الفارسي الذي جاء سنة 614 للميلاد لفتح سوريا وفلسطين ولطرد اليونانيين.
فساعدوهم في فتح القدس وفي مقاتلة إخوانهم المسيحيين الذين كانوا من اليهود قبل نشر الدعوة المسيحية. ولم يترك كتاب اليهود من بعد (يوسفوس) أي أثر يشير إلى وجود جاليات يهودية كبيرة في فلسطين، ولما فتح الفرس فلسطين وعذبوا المسيحيين وأخذوا معهم الصليب المقدس وساعدوا الجاليات اليهودية الصغيرة التي كانت هناك لم نسمع من أخبار اليهود في الأراضي المقدسة ما يدل على أنهم كانوا أصحاب كلمة مسموعة وأن عددهم كان محسوساً بينما كان عددهم كبيراً في روما وفي فرنسا وفي المدن اليونانية والمصرية وكانت حالتهم المالية حسنة جداً كذلك. ولما استعاد القيصر هرقل (فلسطين) من أيدي الفرس لم تبق في أيدي الروم أمداً طويلا إذ ضجر سكانها من حكم اليونان وفاوض العرب النصارى المسلمين لتخليصهم من أيدي المستعمرين وقد كانت غالبية السكان في هذا العهد من القبائل العربية المتنصرة مثل جذام وكلب وقضاعة ولخم وغسان وكانت مخيمة ومستقرة في كل أنحاء سورية كذلك. وقد فصلت كتب (المغازي والفتوحات) كيفية دخول الجيوش الإسلامية أرض فلسطين وكيف سلم (بطريرك) القدس مفتاح المدينة إلى الخليفة عمر صلحاً.
ولم تشر إلى اليهود مما يدل على أن الأراضي المقدسة كانت خلواً منهم، وهناك إشارة مهمة وردت في كتاب (ثيوفانس) وهو من خيرة الكتاب اليونانيين المطلعين على شؤون فلسطين في هذا العهد وهي ضد مزاعم الصهيونيين تماماً.
إذ يقول هذا الكاتب الذي عاش في هذا العصر (لم تكن حكمة الخلفاء هي التي فتحت أبواب سوريا وفلسطين لجيوش المسلمين بل المسيحيين العرب الذين كونوا قوة عظيمة تقدمت في طليعة الجيوش الإسلامية تقاتل الجيوش اليونانية مع أنها كانت تدين مثلها بنفس الدين). وليست لدينا معلومات حسنة عن علاقات الرسول بهذه القبائل، والظاهر أنها كانت سيئة فإن معركة (مؤتة) تشير إلى أنهم كانوا يحاربون إلى جانب البيزنطيين. غير أن الأوضاع تبدلت فيما بعد منذ معركة (تبوك) فانحازوا إلى جانب إخوانهم في الجنس المسلمين وصاروا يقاتلون إخوانهم في الدين البيزنطيين. وقد أظهر الآراميون وطنية عظيمة وحماسة كبيرة للجيوش الإسلامية، فإنهم ساعدوهم مساعدة كبيرة، وحاربوا في صفوفهم مع أنهم كانوا من المسيحيين. وقد ذكر (البلاذري) أن المسلمين حينما حاصروا (قيصرية) وكان سكانها من السامريين وهم فرع من أصل يهودي ولكنهم يختلفون عن سائر اليهود ويكرهونهم خرج يهودي كان يقيم في المدينة واسمه (يوسف) إلى المسلمين وأرشدهم إلى موضع نفق سري يؤدي إلى المدينة فدخل منه المسلمون. وقد أسلم من أسلم من أهل فلسطين وظل من أراد الاحتفاظ بدينة وقد عاملهم المسلمون معاملة حسنة وعاشوا مع المسلمين إخواناً وأعواناً حتى أنهم اشتركوا معهم في محاربة (الصليبيين) وقد لاحظ العالم المتخصص بفلسطين (جيمس فرازر) أن ملامح الفلسطينيين القدماء الذين كانوا يقطنون هذه البلاد قبل مجيء العبرانيين لازالت ظاهرة على الفلاحين المسلمين والمسيحيين على حد سواء وإن هؤلاء الفلاحين هم من أقدم السلالات البشرية التي كانت تقيم في الأرض المقدسة وهم أنفسهم الذين يحاربون الصهيونية في الوقت الحاضر دفاعاً عن أرضهم وأملاكهم. وعندما استولى الأسبان على أرض الأندلس وأجبروا المسلمين واليهود على حد سواء على اعتناق النصرانية أو مغادرة البلاد فضل أكثرهم الهجرة إلى فرنسا وإيطاليا وشمال إفريقية ولم يذكر منهم أي أحد أرض فلسطين ولو كان اليهود يعطفون على الوطن القومي وعلى إعادة ملك سليمان لكانوا قد فضلوا الذهاب إلى أرض (الميعاد) حيث كانوا يعيشون عيشة راضية.
نعم لقد كانوا يعلمون أن أرض فلسطين هي أرض مقدسة كما هي أرض المسيحيين المقدسة وأرض المسلمين.
ولكنهم لم يكونوا يشعرون بهذه القومية الاعتدائية المتطرفة التي دعا إليها الصهيونيون. جواد علي