حقيقة انتشار الإسلام بالسيف (2) - ياسر منير
مدة
قراءة المادة :
15 دقائق
.
تعرّضنا في المبحث السابق إلى الرد على فِرْيَة انتشار الإسلام بالسيف من خلال توضيح أخلاق الإسلام بصورة عامة، وفي ساحة الوغى بصورةٍ خاصة.
واليوم نأتي على هذه الكَذبة النَّكْراء من القواعد، من خلال الحديث عن الجانب الأخلاقي للإسلام بعد الانتصار.
الإسلام بعد الانتصار:
إن موقف الإسلام بعد الانتصار موقف عظيم سامق -أيضََا- نوجزه في النقاط التالية:
أ- تحريم قتل النساء والشيوخ والأطفال وكل من لا يحارب، والنهى عن التمثيل بالقتلى، فقد قال صلّى الله عليه وسلم: «اغْزُوا باسمِ اللّهِ، وَفِي سَبيلِ اللهِ، قَاتِلُوا مَنْ كَفَرَ بِاللهِ، اغْزُوا وَلا تَغْدِرُوا، وَلا تَغُلّوا، وَلا تُمَثِّلُوا، وَلا تَقْتُلُوا وَلِيدًا» (رواه ابن ماجة في سننه؛ كتاب الجهاد ، باب: "وصية الإمام"، ص: [485]، رقم: [2858].
وأبو داود في سننه، كتاب الجهاد، باب: "في دعاء المشركين"، ص: [459]، رقم: [2613].
وهو صحيح من حديث بُرَيْدة).
ب- مَنْعُ التَّعَدِّي على المدنيين الذين لا يشتركون في الحرب، من شيوخ ونساء وعَجَزَة، وعُبَّاد منقطعين للعبادة، وعلماء منقطعين للعلم، إلا إذا قاتلوا، أو كان لهم في تدبير الحرب رأي ومكيدة، ويُسمِّيهم ابن تيمية أهل الممانعة؛ لأن القتال لمَنْ يُقاتِلُ المسلمين (رواه ابن حزم في المُحَلَّي؛ ج7، ص: [296].
تحقيق الشيخ عبد الرحمن الجزيري.
ط 1، 1349هـ.
المطبعة المنيرية – القاهرة.
وأيضًا: ابن تيمية السياسة الشرعية؛ ص: [87]).
جـ - إحسان معاملة الأسرى، من ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: «أَطْعِمُوا الجَائِعَ، وَعُودُوا المَرِيضَ، وَفُكُّوا العَانِي -الأسير-» (رواه البخاري في الجامع الصحيح؛ كتاب المرضى، باب: "وجوب عيادة المريض"، ص: [1110]، رقم: [5649]).
وفي قصة إسلام ثُمامة بن أُثَال الحنفي، نجد الرسول صلى الله عليه وسلم قد أحسن معاملته، ولم يُجبِره على الإسلام، وأطلقه بدون مقابل أو فداء، قائلاً: «أَطْلِقُوا ثُمَامَةَ» (رواه البخاري في الجامع الصحيح؛ كتاب الصلاة، باب: "الاغتسال إذا أسلم"، ص: [110].
رقم: [462]).
وقد أراد الفقهاء أن يضعوا دستورًا للعهود التي يعقدها الحكام المسلمون مع أهل الذمة لا يتعداه المتعاهدون.
وسأكتفي بمثالٍ نتبين منه تسامح أئمة المسلمين مع الذميين، من ذلك العهد الذي وضعه الإمام الشافعي ، يقول:
"وَأَعْقِدَ لَك وَلَهُمْ ما يُعْقَدُ لِأَهْلِ الذَّمَّةِ على ما أَعْطَيْتنِي وَشَرَطْتُ لَك وَلَهُمْ وَعَلَيْك وَعَلَيْهِمْ فَأَجَبْتُك إلَى أَنْ عَقَدْت لَك وَلَهُمْ عَلَيَّ وَعَلَى جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ الْأَمَانُ ما اسْتَقَمْتَ وَاسْتَقَامُوا بِجَمِيعِ ما أَخَذْنَا عَلَيْكُمْ، وَذَلِكَ أَنْ يَجْرِيَ عَلَيْكُمْ حُكْمُ الْإِسْلَامِ لَا حُكْمُ خِلَافِهِ بِحَالٍ يُلْزِمُكُمُوهُ وَلَا يَكُونُ لَكُمْ أَنْ تَمْتَنِعُوا منه في شَيْءٍ رَأَيْنَاهُ نُلْزِمُكُمْ بِهِ...
وَلَكُمْ أَنْ نَمْنَعَكُمْ وما يَحِلُّ مِلْكُهُ عِنْدَنَا لَكُمْ مِمَّنْ أَرَادَكُمْ من مُسْلِمٍ أو غَيْرِهِ بِظُلْمٍ بِمَا نَمْنَعُ بِهِ أَنْفُسَنَا وَأَمْوَالَنَا وَنَحْكُمُ لَكُمْ فيه على من جَرَى حُكْمُنَا عليه بِمَا نَحْكُمُ بِهِ فِي أَمْوَالِنَا وما يَلْزَمُ الْمَحْكُومَ فِي أَنْفُسِكُمْ.
فَلَيْسَ عَلَيْنَا أَنْ نَمْنَعَ لَكُمْ شيئًا مَلَكْتُمُوهُ مُحَرَّمًا من دَمٍ وَلَا مَيْتَةٍ وَلَا خَمْرٍ وَلَا خِنْزِيرٍ، كما نَمْنَعُ ما يَحِلُّ مِلْكُهُ وَلَا نَعْرِضُ لَكُمْ فيه إلَّا أَنَّا لَا نَدَعَكُمْ تُظْهِرُونَهُ في أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ، فما نَالَهُ منه مُسْلِمٌ أو غَيْرُهُ لم نُغَرِّمْهُ ثَمَنَهُ؛ لِأَنَّهُ مُحَرَّمٌ وَلَا ثَمَنَ لِمُحَرَّمٍ، وَنَزْجُرُهُ عن الْعَرْضِ لَكُمْ فيه فَإِنْ عَادَ أُدِّبَ بِغَيْرِ غَرَامَةٍ فِى شَيْءٍ منه.
وَعَلَيْكُمْ الْوَفَاءُ بِجَمِيعِ ما أَخَذْنَا عَلَيْكُمْ وَأَلَا تَغشوا مُسْلِمًا وَلَا تُظَاهِرُوا عَدُوَّهُمْ عليهم بِقَوْلٍ وَلَا فِعْلٍ عَهْدُ اللَّهِ وَمِيثَاقُهُ وَأَعْظَمُ ما أَخَذَ اللَّهُ على أَحَدٍ من خَلْقِهِ من الْوَفَاءِ بِالْمِيثَاقِ، وَلَكُمْ عَهْدُ اللَّهِ وَمِيثَاقُهُ وَذِمَّةُ فُلَانٍ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ وَذِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ بِالْوَفَاءِ لَكُمْ.
وَعَلَى من بَلَغَ من أَبْنَائِكُمْ ما عَلَيْكُمْ بِمَا أَعْطَيْنَاكُمْ ما وَفَّيْتُمْ بِجَمِيعِ ما شَرَطْنَا عَلَيْكُمْ فَإِنْ غَيَّرْتُمْ أو بَدَّلْتُمْ فَذِمَّةُ اللَّهِ، ثُمَّ ذِمَّةُ فُلَانٍ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُسْلِمِينَ بَرِيئَةٌ مِنْكُمْ، وَمَنْ غَابَ عن كِتَابِنَا مِمَّنْ أَعْطَيْنَاهُ ما فيه فَرَضِيَهُ إذَا بَلَغَهُ فَهَذِهِ الشُّرُوطُ لَازِمَةٌ لَهُ وَلَنَا فيه وَمَنْ لم يَرْضَ نَبَذْنَا إلَيْهِ" (أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي (ت 204هـ): كتاب الأم؛ ج4، ص: [197-198]، ط2، 1393 هـ.
دار المعرفة – بيروت).
والوثائق التاريخية كثيرة في وصية الخلفاء لقادة الجيوش، وفي المعاهدات التي أُبرِمَت في التاريخ الإسلامي ، وعند الفتوحات لبلاد غير المسلمين، ويأتي في مقدمتها الوثيقة العمرية مع أهل بيت المقدس لإعطائهم الأمان على حياتهم وكنائسهم، وعدم إلحاق الضرر بهم، أو إكراههم على تغيير دينهم.
وقد جاء في الوثيقة العمرية: "هَذَا مَا أَعْطَى عُمرُ بن الخطَابِ أهلَ إيلياء من الأمانِ: أعطاهم أمَانًا لأنفسهم وكنائسهم وصلبانهم، لا ُتسكنُ كنائِسُهم، ولا تُهدَمُ...
لا يُكْرَهون على دينهم، ولا يُضارّ أَحَدٌ منهم" (د.
محمد الزحيلي: الحرية الدينية في الشريعة الإسلامية "أبعادها وضوابطها"؛ ص: [17]).
ومن أقوى أدلة سماحة الإسلام مع خصومه أنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم لمَّا دخل المدينة سَالَمَ الطوائف المختلفة في المدينة، ولم يُحارِب إلا مَنْ غَدَرَ ولم يَفِ بعهده.
ووضع وثيقة يمكن تسميتها -بلغةِ العصر- دستور المدينة، وكان من بنود هذه الوثيقة: «إنه من تبعنا من يهود فإن له النصر والأسوة غير مظلمومين، ولا متناصر عليهم» والمتأمِّل لهذه الوثيقة -التي لا ترقى بمجموعها إلى مرتبة الأحاديث الصحيحة- يجدها تناولت حقوقًا لليهود تجاوزت عشرة، مما يدل على سماحة الإسلام (د.
أكرم ضياء العُمري؛ المجتمع المدني في عهد النبوة، ص: [120-121]).
ومن خلال المُنْطلقات السابقة يتبين لنا أن رسالة الإسلام جاءت للإنقاذ من الظلم وللابتعاد عن القسوة، وفي ذات الوقت لتحقيق العدل والرحمة ونشر الطمأنينة والسعادة.
وقد فَطِن لسخف ادِّعاء انتشار الإسلام بالسيف كاتب غربي هو توماس كارليل (الملقب بنبي الكتاب)، حيث نفى انتشار الإسلام بالسيف، مُبينًا أنّه لا يجوز في الفَهْم مثل هذا التصور، وأن هذا القول بلغ الغاية في الغثاثة (العقاد؛ ما يُقال عن الإسلام، ص: [168]، د.
ت.
مكتبة دار العروبة – القاهرة).
وليس أدلّ على سَخَافَةِ قول انتشار الإسلام بالسيف ممّا رواه ابن عبد الحكم، قائلاً: "وكان بالإسكندرية أسقف للقبط يُقال له أبو ميامين -وكان هاربًا في الصحراء بسبب الاضطهاد المذهبي الذي تعرَّض له الأقباط على يد الرومان النصارى-، فلما بلغه قدوم عمرو بن العاص رضي الله عنه إلى مصر ؛ كتب إلى القبط يُعلِمَهم أنه لا تكون للروم دولة، وأن ملكهم قد انقطع، ويأمرهم بتلقي عمرو.
فيقال: إن القبط الذين كانوا بالفرما -وهي مدينة بلوزيوم القديمة Pleusuim بالقرب من مدينة بورسعيد حاليًا- كانوا يومئذٍ لعمرو أعوانًا" (أبو القاسم عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الحكم (ت 257 هـ)؛ فتوح مصر وأخبارها؛ ص: [67]، ط 1920م.
تحقيق: أ.
محمد الحجيري، ط 1.
1416هـ/1996م.
دار الفكر – بيروت).
وقد شَهِدَ البطريق عيشويابه بأنَّ "العرب الذين مكّنهم الربّ من السيطرة على العالم يُعامِلوننا كما تعرفون.
إنهم ليسوا أعداء للنصرانية، بل يمتدحون مِلتنا، ويُوقِّرون قديسنا وقسيسنا، ويمدون يد المعونة إلى كنائسنا وديننا" (د.
أحمد الحوفي؛ سماحة الإسلام، ص: [210].
ط 1422هـ/2001م.
المجلس الأعلى للشئون الإسلامية – القاهرة).
والمستشرقون الذين يزعمون أن الإسلام انتشر بحدِّ السيف وحزّ الرأس أقول لهم:
إن قولكم بأن النصرانية تدعو إلى السلام، وتُنْكِر القتال على الإطلاق، يحتاج إلى مراجعة؛ لأنه ورد منسوبًا إلى المسيح: "لا تظنّوا أني جئت لألقي سلامًا على الأرض، ما جئت لألقي سلامًا، بل سيفًا.
فإني جئتُ لأُفرّق الإنسان ضدّ أبيهِ، والابنة ضد أمِّها، والكنَّة ضدَّ حماتها" (متَّى 10: 34-35).
ومما يجدر ذكره هو أنّ القاضي عبد الجبار المعتزلي استخدم ما يُسمّى في علم النفس الحديث بالإسقاط[1] Projection -وهو أسلوب من أساليب الدفاع عن النفس، وتبرير تصرّفاتها- في ردّه على دعوى النّصارى أنّ الإسلام انتشر بالسيف، فقد أثبت القاضي أنّ هذه الدعوى باطلة مردودة، وأنّ ملوك النصارى هم الذين حملوا السيف، وأدخلوا النّاس في النّصرانية بالقهر والغَلَبَة، لكنهم أسقطوا ذلك على الإسلام، وبعد أن أَمَاطَ هذه الشبهة عن الإسلام، وبيّن صِدق التصاقها بالنصرانية نجده يقول: "...
وما ها هنا سيف حُمِلَ بباطل إلا سيف النصرانية من أوّل أمرها إلى هذه الغاية" (انظر: تثبيت دلائل النبوة؛ ج1، ص: [185-186]).
ومما يؤكد كلام القاضي، ويدل على العنف في النصرانية؛ ما ذكره لنا المطران "برتولومي دي لاس كازاس" من اجتياح النصارى الإسبان للقارة الأمريكية، وإبادة عشرات الملايين من البشر، بوحشيةٍ لا مثيل لها؛ جعلت المطران يشكُّ في آدمية هؤلاء الإسبان (انظر له: المسيحية والسيف؛ ص: [21-30]، ترجمة: أ.
سميرة عزمي الزين.
د.
ت.
منشورات المعهد الدولي للدراسات الإنسانية).
ومن أفظع قصص الوحشية في تاريخ النصرانية ما فعلته محكمة التفتيش في إسبانيا من إحراق أكثر من 31000 نسمة.
وكذلك المذابح التي أقامها الكاثوليك ضد البروتستانت في باريس سنة 1572م (انظر: بين الإسلام والنصرانية لمجموعة من العلماء والمفكرين؛ ص: [359].
ط2.
1413هـ/1992م.
الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد – الرياض).
والمُلاحظ أن الأنبياء السابقين -أيضًا- قتلوا الكفار وسبَوا نسائهم وذراريهم.
ولا تختص هذه الأمور بشريعة محمد صلى اللّه عليه وسلم.
كما لا يخفى على من طالع كتب العهدين.
انظر: (الخروج 23: 23، 24.
34: 12، 13؛ العدد: 33: 51-56.
ورسالة يوحنَّا الأولى 3: 15...
إلخ).
وخلاصة الردّ أن السيف فُرِض عليه، ولو قَدَرَ النبي صلى الله عليه وسلم على استصلاح عباد الله من غير حاجة إلى سفك دماء بعضهم لكان ذلك هو الآثر عنده؛ إذ "متى تتبّعنا حال محمد صلى الله عليه وسلم في حروبه ووقائعه وجدناه جاعلاً لقُصَارى غرضه من الثبات القويِّ في مصَافِّ القتال كلمة يبذلها خَصْمهُ قريبةً من الإقرار بوحدانية من له الخلق والأمر، والتصديق بما أرسل إليه من عنده جلَ جلاله حتى إذا وجدها منه أغمد عنه سيفه، وأوجب على نفسه حمايته ..." (العامري؛ الإعلام بمناقب الإسلام، ص: [156]).
كما يلفتنا العامري إلى أمر بالغ الأهمية، وهو أنّهُ ليس لأحدٍ أن يَقْدح في الإسلام ورسوله؛ لأنّ أعداءه قد ينالون منه أحيانًا، وذلك لأنّ الأنبياء عليهم السلام قد يُنْكَبُون -أحيانًا- في محارباتهم مع أعدائهم، لكن العبرة بخواتيم الأمور "وكل مَنْ سَعِدَ بصلاح العواقب فقد اغْتُفِرَ له سَوَالفُ المكاره".
وقد كفل الله تعالى لأنبيائه عليهم السلام الغلبة والنَّصر على أعدائهم، مِصداقًا لقوله تعالى: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ .
إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ} [الصافات:171-172] (أبو الحسن العامري؛ الإعلام بمناقب الإسلام؛ ص: [191-192]).
وكلام العامري هذا يُذكِّرنا بالحوار الذي دار بين أبي سفيان وهرقل عظيم الروم حين سأله: "فكيف كان قتالكم إيَّاه؟".
فقال أبو سفيان: "الحرب بيننا وبينه سِجَالٌ: يَنَالُ مِنَّا، وننال منه" (البخاري؛ الجامع الصحيح، كتاب بدء الوحي، باب: كيف بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه السلام؟ ص: [23]، رقم: [7]).
آمل أن أكون قد استطعت من خلال هذا العرض الموجز أن أكون قد ذَبَبْتُ عن الإسلام هذه الإسقاطة التي رمى بها الأعداء في ساحة الإسلام النقية على طريقة "رمتني بدائها وانسلَّت".
هذا، والحمد لله ربِّ العالمين.
ــــــــــــ
المراجع:
[1]- (انظر: المعجم الفلسفى؛ حرف الألف، ص: [13].
مصطلح "إسقاط"، رقم: [79]).