شرح زاد المستقنع باب إحياء الموات [2]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.

أما بعد:

فيقول المصنف رحمه الله:

[ ومن غير إقطاع لمن سبق بالجلوس ما بقي قماشه فيها وإن طال ].

هذه المسألة؛ ما فائدتها وتعلقها؟!

المصنف رحمه الله رتب المسائل:

فتكلم عن مسائل الإحياء وحقيقة الإحياء، ثم تكلم عن الإقطاع؛ لأن الإقطاع تكون الملكية فيه بعد الإحياء، فأثبت للمقطع الحق في السبق، ثم بين أنه لا يملك، وبين أن الإقطاع إما أن يكون للأرض من أجل أن تحيا، وإما أن يكون لأرض من أجل الجلوس، فبعد أن بين الإقطاع الأخف -وهو الذي للجلوس- شرع في مسألة المجالس، فمن يستحق المجلس ويقدم على غيره؟ ومتى يحكم للشخص بأنه أحق بهذا المكان الذي جلس فيه، بحيث لا يجوز لغيره أن يزاحمه فيه؟

نتكلم عن هذه المسألة: فأولاً: نذكر الأحقية بالسبق، وثانياً: هل هذه الأحقية تثبت؟

هناك أماكن إذا جلس فيها الإنسان وسبق إليها يبقى على الدوام، مثل أماكن البيع، مثلاً: شخص من عادته أن يبسط بسطته في أول الطريق، ما أقطعه أحد، لكن يأتي ويضع فراشه في هذا المكان، ويبسط بسطته، ويأتي البائع الثاني بجواره والثالث والرابع، فما دام قماشه موجوداً -كما ذكر المصنف- فهو أحق، فهو عادة يبسط بالنهار، فإذا غابت الشمس حمل متاعه وذهب وجاء في اليوم الثاني، فمن أهل العلم من يقول: كل مكان سبق إليه إنسان، وجرى العرف بجلوسه فيه لبيع أو غرض غير محرم شرعاً، فهو أحق به، وقد يكون هذا الغرض مما يتناوب، فالأماكن التي تكون ليلية ويأتي الشخص فيها ليلاً ويبسط قماشه فيها كل ليلة، ويداوم على ذلك المكان، فهو أحق به من غيره، فلو جاء في الليلة الثانية وقد سبقه جاره وجلس في مكانه فإنه لا يستحقه، فما دام أنهما في صنعة واحدة وفي عمل واحد وسبق هذا فيحكم له بالسبق ما داما في هذا المكان، ثم يفصل فيه على الأحوال، فإذا كانوا يبيعون في الليل فهو أحق به ليلاً، وإذا كانوا يبيعون في النهار فهو أحق به نهاراً، وهذا مذهب طائفة من العلماء رحمهم الله فيرون أن مداومته على المكان في هذه المدة المؤقتة تثبت أحقيته فيه.

وهذا بالنسبة للأمور الدنيوية مثل: البسطات المعروفة في زماننا للبيع، وقد تكون بعربية يوقفها في هذا المكان، أو بسيارته يوقفها في هذا المكان، فالمسألة واحدة، ففي القديم كان القماش، وفي زماننا السيارة، والعربية، وأي شيء يكون به عرض السلع على حسب اختلاف المبيعات واختلاف الأعراف فيما تحمل به تلك المبيعات.

السبق إلى المسجد

هذا بالنسبة لأمور الدنيا، يبقى السؤال عن المسألة إن تعلقت بالسبق في أمور الدين، فمثلاً المساجد فيها أماكن يجلس الإنسان فيها للصلاة وللذكر ولقراءة القرآن، ويجلس فيها لطلب العلم، ويجلس فيها للفتوى حيث يأتي من يستفتيه، وقد ذكرنا أن من انتاب مكاناً واعتاد عليه، وأصبح ديدنه أنه يجلس في هذا المكان، ولهذا المكان مواسم معينة؛ فهو أحق به، وفرع على ذلك بعض الأئمة رحمة الله عليهم مسألة المسجد، فقال: من كان من عادته أن يداوم على الصلوات المفروضة في مكان معين، بحيث أن هذا المكان ما يسبقه إليه أحد، فإنه في هذه الحالة يكون أحق بهذا المكان، ويشمل ذلك مكان الصلاة، أو المعتكف، فالمعتكف إذا جلس في هذا المكان، واستوطن هذا المكان، ثم خرج بعد ذلك ورجع، فالمكان له على هذا القول، وكذلك إذا خرج بعد الفروض إلى بيته ثم رجع إلى ذلك المكان في فرض العصر والظهر والمغرب والعشاء والفجر فإنه أحق به.

وفي الحقيقة أن هذا القول لا يخلو من نظر؛ لأنه ورد النهي عن توطن الإنسان لمكان معين في المسجد لا يصلي إلا فيه، ولو قيل بهذا القول فلا شك أنه بعيد عن ظاهر السنة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ليليني منكم أولو الأحلام والنهى)، والمراد بذلك: أن يبكروا بالحضور للمساجد، وألا يسبقهم من هو دونهم، وكان عليه الصلاة والسلام يحب أن يليه أولو الأحلام والنهى والعقول حتى يعقلوا عنه، ولهذا يستحب عند أهل العلم أن يقرب منهم الأكبر؛ لأنهم أكثر وعياً وأضبط، لكن لا يمنع أن الأصغر يتقدم، حتى في الصف الأول ما دام أنه سبق، وكان ابن عباس رضي الله عنهما من أسبق الصحابة، وكان يقدمه عمر رضي الله عنه ويجعله في مقدمة المجلس، وأجلسه النبي صلى الله عليه وسلم عن يمينه، فهذا لا يمنع إذا عرف فضل الشخص، لكن نحن نتكلم عن الغالب، والذي يظهر -والله أعلم- أن المسألة لا تنضبط في المساجد، ولا يفتح الباب لكل من جلس إلى سارية أو جلس في مكان من المسجد أن يصبح هذا المكان محجوراً عليه؛ فإن المساجد لها حرمة عظيمة، والناس فيها سواسية، وجعل التفضيل فيها بالتقوى، أما أمور الدنيا فلا بأس فيها عند الحاجة دفعاً للضرر عن الناس، أما أمور الدين فلا، والقياس في هذا لا يخلو من نظر، ولذلك لم يجر عمل السلف على ترتب أماكنهم في المساجد، إذ لو كان هذا لفعله الصحابة رضوان الله عليهم، مع النبي صلى الله عليه وسلم، ولفعله مع الخلفاء ولعرفت أماكنهم.

فنقول: من سبق إلى المكان فهو أحق به، سواء كان سبق غيره في فرض غير هذا الفرض أو لا، ونبقي المساجد على حرمتها، ويشدد في المساجد أكثر من غيرها، فإن المساجد بيوت الله عز وجل، وأمور الدين لا ينبغي أن يفضل فيها أحد إلا بتقوى الله عز وجل، والناس في بيوت الله سواسية، ليس من حق أحد أن يحجز مكاناً بفراش أو يحجزه بشخص يستأجره للجلوس فيه، فإذا فعل ذلك فإنه يعتبر آثماً من وجهين:

الوجه الأول: ظلمه لإخوانه المسلمين بمنعهم من الصلاة في هذا المكان، وتعطيله من ذكر الله عز وجل.

الوجه الثاني: عدم رعايته لحرمة المسجد، ولذلك يقول بعض العلماء: الأذية في المسجد أعظم من الأذية خارج المسجد؛ لأن الإثم فيها أعظم لمكان حرمة المكان، ولا يجوز للإنسان أن يحجز مكاناً في المسجد إلا في حالة واحدة، وهي ما ثبت في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من قام من مجلسه لحاجته ثم عاد إليه فهو أحق به) وأضاف بعض العلماء -كالإمام النووي رحمه الله- كلمة: (في المسجد)، لكن لا أعرفها مرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقد تكون هناك روايات، لكن الرواية مطلقة: (من قام من مجلسه لحاجته ثم عاد إليه فهو أحق به) وقوله: (لحاجته)، فسرها جمهرة الشراح على قضاء الحاجة، ومعنى ذلك أنه مرابط في المسجد، أي: جالس في المسجد، والله يعلم أنه ما قام من هذا المكان إلا من أجل أن يقضي حاجته، فهو مضطر، أو من أجل أن يتوضأ كأن يحدث وهو جالس فيخرج للوضوء، فهذا هو الذي يرخص له، أما لو قام لحلقة علم ووضع سجادة في مكانه فلا يجوز له ذلك؛ لأن المسجد أرضه كلها مقصود عمارتها بذكر الله عز وجل، فمن جلس في هذا المكان يذكر الله فهو أحق به مدة جلوسه، فإذا قام عنه لقضاء الحاجة فهو أحق به إذا عاد للنص، بشرط: أن يتغيب بقدر الحاجة، ولا يزيد على ذلك حتى لا يضر بالناس، أما إذا قام لطاعة مثل طلب العلم أو السلام على إنسان أو تشييع جنازة أو نحو ذلك فإنه مخير بين أمرين: الجلوس في المكان ومراعاة فضل الجلوس فيه، أو الذهاب إلى هذه الطاعة، فإن اختار الذهاب إلى الطاعة من طلب علم وشهود جنازة ونحو ذلك لم يجز له أن يمنع غيره من عمارة المكان بذكر الله عز وجل؛ ولذلك لا يجوز حجز الأماكن في المساجد إلا لهذا الأمر خاصة، وأما غيره فإنه محرم، ومن ذلك واستئجار الناس ووضع الناس أو السجاجيد ونحوها لحجز الأماكن، فيذهب إلى بيته ليأكل ويشرب وربما ينام -نسأل الله السلامة والعافية- ثم يرجع إلى المسجد، فإذا وجد أحداً في مكانه سبه وشتمه وأضره، ولربما ركض ظهره أمام الناس، وربما حصل من الفتنة ما الله به عليم في بيوت الله عز وجل، حتى في الحرمين الذين هما أعظم حرمة عند الله سبحانه وتعالى، وقد يكون هذا في الصفوف الأول، وقد يكون هذا من أناس لا ينبغي لمثلهم أن يحدث هذا ككبار السن ونحوهم الذين هم أهل العقل وأهل الروية، فيحدث من الضرر ما الله به عليم بسبب هذا الحجز، وقد نص شيخ الإسلام ابن تيمية -وهذا قول بعض أهل العلم- أنه لو وضع سجادته وذهب إلى بيته لغير ما استثني في الشرع -أنه يعتبر غاصباً للأرض، وشكك في صحة صلاته؛ لأن مذهب الإمام أحمد رحمة الله عليه وطائفة من السلف أن الأرض المغصوبة لا تصح الصلاة عليها، فإذا غصب مكاناً وصلى فيه -سواء في المسجد أو خارجه- لم تصح صلاته، فالأمر عظيم، وإن كان مذهب الجمهور أن الصلاة صحيحة، لكن نقول: انظروا كيف شدة السلف رحمهم الله وتعظيمهم لبيوت الله وتعظيمهم لحرمتها!

فالواجب على المسلم أن يتقي الله عز وجل فيها، وألا يتسبب في الإضرار بغيره، فهذا المكان هو وغيره فيه على حد سواء ما لم يخرج لقضاء حاجته ثم يعود، فإنه أحق به من غيره كما هو نصه عليه الصلاة والسلام.

اعتبار التخصيص شرعاً

ويتفرع على مسألة حجز مكان في المسجد، حجز مكان لدرس الشيخ، فهل يجوز حجز مكان له أو لا؟

فعلى القول الأول أنه اعتاد أن يأتي واعتاد أن يجلس فيه يصبح له رخصة، وعلى القول الثاني هل نترخص أو نأخذ بالأصل؟

هذه المسألة كان أحد المشايخ رحمة الله عليه يلاطف فيها ويقول: مما يدل على جوازه للشيخ أن النفوس طابت، يعني: النفوس تطيب بذلك، ولذلك يوسع فيه أكثر من غيره، فيجوز للشيخ والمفتي أن يختص بمكان من أجل أن يعرفه الناس داخل المسجد فيقصدونه للفتوى، لا سيما في المساجد الكبيرة كالحرمين ونحوها، ولابد أن يكون ذلك له مكان معين حتى يكون ذلك أسهل للناس لو أرادوا السؤال والفتوى، وقد كان بعض السلف رحمهم الله لا يجلس إلى سارية بعينها، ومنهم الإمام إبراهيم النخعي رحمه الله، مع أنه كان آية في العلم والفتوى، وممن ورث علم عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وأرضاه، فكان هذا الإمام العظيم لا يجلس إلى سارية بعينها خوفاً من الشهرة، لكن في ذلك الزمان كان العلماء موجودين، والأئمة متناثرين، لكن في زماننا الأمر صعب، وقد يأتي السائل وقد تعلق به سفره، وتعلقت به رفقة، وحصل حرج، وقد يأتي السائل قبل أن يؤدي عمرته كما في المسجد الحرام ويحتاج إلى أسئلة مباشرة وعاجلة، فإذا كان لا يعرف مكان من يفتي، ولا يعرف مكان من يوجهه؛ فإن هذا يضر بمصالح الناس، فخففوا في هذا لتعلق حاجة المصلين به، حتى أن أحد المشايخ رحمة الله عليه قال لبعض المشايخ ممن يقوي القول بأنه لا يستحق المكان حتى ولو عاد: إن قلت بهذا فلا تقدم إماماً؛ لأن الإمام في الأصل يحجز له هذا المكان؛ لأنه سيتقدم ويصلي بهم، فتعلقت به مصلحة الجماعة، فرأى شيخنا رحمه الله أن تعلق مصلحة الجماعة بالإمام، وإذن الشرع به، يدل على أن كل إنسان تعلقت به مصلحة دينية داخل المسجد فلا بأس باختصاصه بمكان، ويكون الأمر على السعة، ويدخل فيه القارئ تبعاً للشيخ، ويقاس عليه من هذا الوجه؛ لأن الإذن بالشيء إذن بلازمه، فلابد أن يكون له مكان قريب حتى يتسنى له أن يسمع الحاضرين.

القرعة بين سابقين إلى مباح

قال رحمه الله: [وإن سبق اثنان اقترعا].

(إن سبق اثنان) يعني: تنافس اثنان على مكان، (اقترعا) يعني: أجريت القرعة بينهما لتحديد المستحق،

وقد ذهب جمهور العلماء رحمهم الله إلى أن القرعة من حيث الجملة يحتكم إليها، وهذا في حالة ضرورة أو حاجة، والأصل في شرعية القرعة قوله تعالى: فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ [الصافات:141]، وذلك أن يونس بن متى عليه الصلاة والسلام لما كان في المركب قالوا: لا نجاة لنا إلا برمي واحد منا، فاستهموا فخرجت القرعة على يونس -بلاء من الله عز وجل- فرمي في البحر، والمساهمة هنا هي: الاقتراع، فأخذ العلماء رحمهم الله مشروعية القرعة عند الازدحام، فلو كان أناس -مثلاً- في مركب وتعرضوا للغرق، ولا نجاة لهم إلا أن يغرق واحد لنجاة الجماعة، فقال بعض أهل العلم رحمة الله عليهم: يقرع بينهم، ويلقى من خرجت عليه القرعة، ونحن لا نفتي بهذا، لكن نقول: إنه قد جرى لدى أهل العلم إعمال القرعة، ومن ذلك أيضاً: لو أن اثنين ازدحما في مكان وجاءا في وقت واحد، ولا نعرف من منهما السابق، فالمكان لا يقبل التشريك، أو الاستحقاق لا يقبل التشريك، فدخلا معاً، ولا فضل لأحدهما على الآخر، فما الحكم؟ يفصل بينهما بالقرعة، وقالوا: القرعة خيار من الله، فمن اختاره الله لذلك فهو أحق به.

هذا بالنسبة لأمور الدنيا، يبقى السؤال عن المسألة إن تعلقت بالسبق في أمور الدين، فمثلاً المساجد فيها أماكن يجلس الإنسان فيها للصلاة وللذكر ولقراءة القرآن، ويجلس فيها لطلب العلم، ويجلس فيها للفتوى حيث يأتي من يستفتيه، وقد ذكرنا أن من انتاب مكاناً واعتاد عليه، وأصبح ديدنه أنه يجلس في هذا المكان، ولهذا المكان مواسم معينة؛ فهو أحق به، وفرع على ذلك بعض الأئمة رحمة الله عليهم مسألة المسجد، فقال: من كان من عادته أن يداوم على الصلوات المفروضة في مكان معين، بحيث أن هذا المكان ما يسبقه إليه أحد، فإنه في هذه الحالة يكون أحق بهذا المكان، ويشمل ذلك مكان الصلاة، أو المعتكف، فالمعتكف إذا جلس في هذا المكان، واستوطن هذا المكان، ثم خرج بعد ذلك ورجع، فالمكان له على هذا القول، وكذلك إذا خرج بعد الفروض إلى بيته ثم رجع إلى ذلك المكان في فرض العصر والظهر والمغرب والعشاء والفجر فإنه أحق به.

وفي الحقيقة أن هذا القول لا يخلو من نظر؛ لأنه ورد النهي عن توطن الإنسان لمكان معين في المسجد لا يصلي إلا فيه، ولو قيل بهذا القول فلا شك أنه بعيد عن ظاهر السنة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ليليني منكم أولو الأحلام والنهى)، والمراد بذلك: أن يبكروا بالحضور للمساجد، وألا يسبقهم من هو دونهم، وكان عليه الصلاة والسلام يحب أن يليه أولو الأحلام والنهى والعقول حتى يعقلوا عنه، ولهذا يستحب عند أهل العلم أن يقرب منهم الأكبر؛ لأنهم أكثر وعياً وأضبط، لكن لا يمنع أن الأصغر يتقدم، حتى في الصف الأول ما دام أنه سبق، وكان ابن عباس رضي الله عنهما من أسبق الصحابة، وكان يقدمه عمر رضي الله عنه ويجعله في مقدمة المجلس، وأجلسه النبي صلى الله عليه وسلم عن يمينه، فهذا لا يمنع إذا عرف فضل الشخص، لكن نحن نتكلم عن الغالب، والذي يظهر -والله أعلم- أن المسألة لا تنضبط في المساجد، ولا يفتح الباب لكل من جلس إلى سارية أو جلس في مكان من المسجد أن يصبح هذا المكان محجوراً عليه؛ فإن المساجد لها حرمة عظيمة، والناس فيها سواسية، وجعل التفضيل فيها بالتقوى، أما أمور الدنيا فلا بأس فيها عند الحاجة دفعاً للضرر عن الناس، أما أمور الدين فلا، والقياس في هذا لا يخلو من نظر، ولذلك لم يجر عمل السلف على ترتب أماكنهم في المساجد، إذ لو كان هذا لفعله الصحابة رضوان الله عليهم، مع النبي صلى الله عليه وسلم، ولفعله مع الخلفاء ولعرفت أماكنهم.

فنقول: من سبق إلى المكان فهو أحق به، سواء كان سبق غيره في فرض غير هذا الفرض أو لا، ونبقي المساجد على حرمتها، ويشدد في المساجد أكثر من غيرها، فإن المساجد بيوت الله عز وجل، وأمور الدين لا ينبغي أن يفضل فيها أحد إلا بتقوى الله عز وجل، والناس في بيوت الله سواسية، ليس من حق أحد أن يحجز مكاناً بفراش أو يحجزه بشخص يستأجره للجلوس فيه، فإذا فعل ذلك فإنه يعتبر آثماً من وجهين:

الوجه الأول: ظلمه لإخوانه المسلمين بمنعهم من الصلاة في هذا المكان، وتعطيله من ذكر الله عز وجل.

الوجه الثاني: عدم رعايته لحرمة المسجد، ولذلك يقول بعض العلماء: الأذية في المسجد أعظم من الأذية خارج المسجد؛ لأن الإثم فيها أعظم لمكان حرمة المكان، ولا يجوز للإنسان أن يحجز مكاناً في المسجد إلا في حالة واحدة، وهي ما ثبت في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من قام من مجلسه لحاجته ثم عاد إليه فهو أحق به) وأضاف بعض العلماء -كالإمام النووي رحمه الله- كلمة: (في المسجد)، لكن لا أعرفها مرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقد تكون هناك روايات، لكن الرواية مطلقة: (من قام من مجلسه لحاجته ثم عاد إليه فهو أحق به) وقوله: (لحاجته)، فسرها جمهرة الشراح على قضاء الحاجة، ومعنى ذلك أنه مرابط في المسجد، أي: جالس في المسجد، والله يعلم أنه ما قام من هذا المكان إلا من أجل أن يقضي حاجته، فهو مضطر، أو من أجل أن يتوضأ كأن يحدث وهو جالس فيخرج للوضوء، فهذا هو الذي يرخص له، أما لو قام لحلقة علم ووضع سجادة في مكانه فلا يجوز له ذلك؛ لأن المسجد أرضه كلها مقصود عمارتها بذكر الله عز وجل، فمن جلس في هذا المكان يذكر الله فهو أحق به مدة جلوسه، فإذا قام عنه لقضاء الحاجة فهو أحق به إذا عاد للنص، بشرط: أن يتغيب بقدر الحاجة، ولا يزيد على ذلك حتى لا يضر بالناس، أما إذا قام لطاعة مثل طلب العلم أو السلام على إنسان أو تشييع جنازة أو نحو ذلك فإنه مخير بين أمرين: الجلوس في المكان ومراعاة فضل الجلوس فيه، أو الذهاب إلى هذه الطاعة، فإن اختار الذهاب إلى الطاعة من طلب علم وشهود جنازة ونحو ذلك لم يجز له أن يمنع غيره من عمارة المكان بذكر الله عز وجل؛ ولذلك لا يجوز حجز الأماكن في المساجد إلا لهذا الأمر خاصة، وأما غيره فإنه محرم، ومن ذلك واستئجار الناس ووضع الناس أو السجاجيد ونحوها لحجز الأماكن، فيذهب إلى بيته ليأكل ويشرب وربما ينام -نسأل الله السلامة والعافية- ثم يرجع إلى المسجد، فإذا وجد أحداً في مكانه سبه وشتمه وأضره، ولربما ركض ظهره أمام الناس، وربما حصل من الفتنة ما الله به عليم في بيوت الله عز وجل، حتى في الحرمين الذين هما أعظم حرمة عند الله سبحانه وتعالى، وقد يكون هذا في الصفوف الأول، وقد يكون هذا من أناس لا ينبغي لمثلهم أن يحدث هذا ككبار السن ونحوهم الذين هم أهل العقل وأهل الروية، فيحدث من الضرر ما الله به عليم بسبب هذا الحجز، وقد نص شيخ الإسلام ابن تيمية -وهذا قول بعض أهل العلم- أنه لو وضع سجادته وذهب إلى بيته لغير ما استثني في الشرع -أنه يعتبر غاصباً للأرض، وشكك في صحة صلاته؛ لأن مذهب الإمام أحمد رحمة الله عليه وطائفة من السلف أن الأرض المغصوبة لا تصح الصلاة عليها، فإذا غصب مكاناً وصلى فيه -سواء في المسجد أو خارجه- لم تصح صلاته، فالأمر عظيم، وإن كان مذهب الجمهور أن الصلاة صحيحة، لكن نقول: انظروا كيف شدة السلف رحمهم الله وتعظيمهم لبيوت الله وتعظيمهم لحرمتها!

فالواجب على المسلم أن يتقي الله عز وجل فيها، وألا يتسبب في الإضرار بغيره، فهذا المكان هو وغيره فيه على حد سواء ما لم يخرج لقضاء حاجته ثم يعود، فإنه أحق به من غيره كما هو نصه عليه الصلاة والسلام.

ويتفرع على مسألة حجز مكان في المسجد، حجز مكان لدرس الشيخ، فهل يجوز حجز مكان له أو لا؟

فعلى القول الأول أنه اعتاد أن يأتي واعتاد أن يجلس فيه يصبح له رخصة، وعلى القول الثاني هل نترخص أو نأخذ بالأصل؟

هذه المسألة كان أحد المشايخ رحمة الله عليه يلاطف فيها ويقول: مما يدل على جوازه للشيخ أن النفوس طابت، يعني: النفوس تطيب بذلك، ولذلك يوسع فيه أكثر من غيره، فيجوز للشيخ والمفتي أن يختص بمكان من أجل أن يعرفه الناس داخل المسجد فيقصدونه للفتوى، لا سيما في المساجد الكبيرة كالحرمين ونحوها، ولابد أن يكون ذلك له مكان معين حتى يكون ذلك أسهل للناس لو أرادوا السؤال والفتوى، وقد كان بعض السلف رحمهم الله لا يجلس إلى سارية بعينها، ومنهم الإمام إبراهيم النخعي رحمه الله، مع أنه كان آية في العلم والفتوى، وممن ورث علم عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وأرضاه، فكان هذا الإمام العظيم لا يجلس إلى سارية بعينها خوفاً من الشهرة، لكن في ذلك الزمان كان العلماء موجودين، والأئمة متناثرين، لكن في زماننا الأمر صعب، وقد يأتي السائل وقد تعلق به سفره، وتعلقت به رفقة، وحصل حرج، وقد يأتي السائل قبل أن يؤدي عمرته كما في المسجد الحرام ويحتاج إلى أسئلة مباشرة وعاجلة، فإذا كان لا يعرف مكان من يفتي، ولا يعرف مكان من يوجهه؛ فإن هذا يضر بمصالح الناس، فخففوا في هذا لتعلق حاجة المصلين به، حتى أن أحد المشايخ رحمة الله عليه قال لبعض المشايخ ممن يقوي القول بأنه لا يستحق المكان حتى ولو عاد: إن قلت بهذا فلا تقدم إماماً؛ لأن الإمام في الأصل يحجز له هذا المكان؛ لأنه سيتقدم ويصلي بهم، فتعلقت به مصلحة الجماعة، فرأى شيخنا رحمه الله أن تعلق مصلحة الجماعة بالإمام، وإذن الشرع به، يدل على أن كل إنسان تعلقت به مصلحة دينية داخل المسجد فلا بأس باختصاصه بمكان، ويكون الأمر على السعة، ويدخل فيه القارئ تبعاً للشيخ، ويقاس عليه من هذا الوجه؛ لأن الإذن بالشيء إذن بلازمه، فلابد أن يكون له مكان قريب حتى يتسنى له أن يسمع الحاضرين.

قال رحمه الله: [وإن سبق اثنان اقترعا].

(إن سبق اثنان) يعني: تنافس اثنان على مكان، (اقترعا) يعني: أجريت القرعة بينهما لتحديد المستحق،

وقد ذهب جمهور العلماء رحمهم الله إلى أن القرعة من حيث الجملة يحتكم إليها، وهذا في حالة ضرورة أو حاجة، والأصل في شرعية القرعة قوله تعالى: فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ [الصافات:141]، وذلك أن يونس بن متى عليه الصلاة والسلام لما كان في المركب قالوا: لا نجاة لنا إلا برمي واحد منا، فاستهموا فخرجت القرعة على يونس -بلاء من الله عز وجل- فرمي في البحر، والمساهمة هنا هي: الاقتراع، فأخذ العلماء رحمهم الله مشروعية القرعة عند الازدحام، فلو كان أناس -مثلاً- في مركب وتعرضوا للغرق، ولا نجاة لهم إلا أن يغرق واحد لنجاة الجماعة، فقال بعض أهل العلم رحمة الله عليهم: يقرع بينهم، ويلقى من خرجت عليه القرعة، ونحن لا نفتي بهذا، لكن نقول: إنه قد جرى لدى أهل العلم إعمال القرعة، ومن ذلك أيضاً: لو أن اثنين ازدحما في مكان وجاءا في وقت واحد، ولا نعرف من منهما السابق، فالمكان لا يقبل التشريك، أو الاستحقاق لا يقبل التشريك، فدخلا معاً، ولا فضل لأحدهما على الآخر، فما الحكم؟ يفصل بينهما بالقرعة، وقالوا: القرعة خيار من الله، فمن اختاره الله لذلك فهو أحق به.




استمع المزيد من الشيخ محمد بن محمد مختار الشنقيطي - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح زاد المستقنع كتاب البيع [4] 3707 استماع
شرح زاد المستقنع باب الرجعة [1] 3623 استماع
شرح زاد المستقنع باب ما يختلف به عدد الطلاق 3445 استماع
شرح زاد المستقنع باب صلاة التطوع [3] 3378 استماع
شرح زاد المستقنع واجبات الصلاة 3345 استماع
شرح زاد المستقنع باب الإجارة [10] 3322 استماع
شرح زاد المستقنع باب التيمم [1] 3277 استماع
شرح زاد المستقنع باب صوم التطوع [2] 3232 استماع
شرح زاد المستقنع باب شروط القصاص 3187 استماع
شرح زاد المستقنع باب نفقة الأقارب والمماليك [6] 3172 استماع