شرح زاد المستقنع باب شروط الصلاة [3]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على المبعوث رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد:

فيقول المصنف رحمه الله: [ويجب فوراً قضاء الفوائت مرتباً].

قوله: [يجب فوراً]: بمعنى أن تُبادر مباشرةً.

وقوله: (قضاء الفوائت) معناه أنه قد خرج الوقت، فإذا خرج وقت الصلاة لمعذورٍ ثم زال عذره، كأن يكون نائماً فأفاق بعد طلوع الشمس يجب عليه فوراً أن يصلي الصبح، وهذه المسألة للعلماء فيها قولان:

فقالت طائفةٌ من العلماء: إذا استيقظ الإنسان من نومه بعد خروج وقت الصبح، أو خروج وقت أي فريضةٍ، أو زال عذره، فإنه يجب عليه أن يبادر مباشرةً إلى فعل الفريضة، وإذا أخَّر وهو غير معذورٍ، كأن يكون استيقظ الساعة التاسعة صباحاً، وقد خرج وقت الفجر، فيلزمه مباشرةً أن يتوضأ، وأن يصلي الفجر.

فلو جلس إلى العاشرة بدون عذرٍ، قالوا: يأثم، وهذا مذهب من يقول: إن القضاء على الفور لا على التراخي، ولا يجوز له أن يتراخى إلا من عذر، وهو قول الجمهور.

وقال بعض العلماء: إنه إذا استيقظ الإنسان من نومه، أو كان معذوراً وزال عذره بعد خروج الوقت لا يجب عليه القضاء فوراً، وإنما يصلي ما لم يدخل وقت الثانية، وهذا يتأتَّى في الصبح، فإنك إذا نظرت إلى الوقت فما بين طلوع الشمس وما بين زوال الشمس وقتٌ متسع، فعندما نقول: يلزمه الفور، أي: حين يستيقظ، ولكنه ينوي القضاء.

وأما بالنسبة للقول الثاني فمن حقه أن يؤخِّر ما لم تَزُل الشمس، وهذا القول الثاني أحد الوجهين عند الشافعية رحمة الله عليهم، ودليله حديث حذيفة في الصحيحين: (أن النبي صلى الله عليه وسلم عرَّس -أي: سار إلى آخر الليل- قال: فوقعنا وقعةً ما ألذ منها على المسافر، فقال صلى الله عليه وسلم: يا بلال اكلأ لنا الليل)، ومراده أنهم من شدة التعب والإعياء وقعوا -بمعنى ناموا- وقعةً ما ألذ منها على المسافر، أي: شعرنا بلذة النوم لمشقة السفر وعناء السهر، قال: فقام صلى الله عليه وسلم: (يا بلال اكلأ لنا الليل)، قال: فقام بلال فلم يشعر الصحابة، ثم طلعت الشمس، ثم استيقظ عمر رضي الله عنه -كما في الرواية- وجعل يكبِّر، وفي رواية أن النبي صلى الله عليه وسلم استيقظ من حر الشمس صلوات الله وسلامه عليه -والتعبير بالحر يدل على أن الشمس قد ارتفعت- فلما استيقظ قال: (يا بلال ما شأنك؟ فقال رضي الله عنه: (أخذ بعيني الذي أخذ بعينك يا رسول الله) أي: ما أنا إلا بشر ضعيف، فقال صلى الله عليه وسلم: إن الشيطان أتى بلالاً حتى نام)، أي: ما زال يهدئه، ويقول له: الصبح باق، حتى نام رضي الله عنه وأرضاه، ثم قال عليه الصلاة والسلام: (ليأخذ كل رجل برأس راحلته، فإنه منزلٌ حضرنا فيه الشيطان)، أي: ارتحلوا فأمرهم أن يرتحلوا عن الوادي الذي ناموا فيه، وقال: (إنه منزلٌ حضرنا فيه الشيطان)، ثم لما ارتحلوا حتى قطعوه أمر بلالاً فأذن، ثم توضأ فصلى رغيبة الفجر ثم صلى الفجر.

ووجه الدلالة أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصلِّ مباشرة، فما بين قيامهم من النوم وصلاتهم أمد الارتحال، ومعلوم أن الجيش إذا ارتحل يأخذ وقتاً، فإذا شدوا رِحالهم، ووضعوا الرَّحل، فهذا يحتاج إلى عناء ووقت، فليس هو باليسير، خاصة أنه كان هذا في غزاته الأخيرة عليه الصلاة والسلام في العسرة، فإن هذا يحتاج إلى وقت وعناء، وبناءً على ذلك معناه أنهم قد أخذوا وقتاً ليس باليسير.

وبناءً عليه فكون النبي صلى الله عليه وسلم يؤخر إلى هذا الوقت الذي هو ليس باليسير يدل على أنه يجوز أن يؤخِّر الإنسان، ولا حرج عليه ما لم يدخل وقت الظهر.

والذين قالوا بأنه لا يجوز التأخير، قالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم أخَّر وقتاً يسيراً، والحقيقة أنَّ النفس تميل إلى أن قول من قال: إنه يجوز له التأخير أقوى؛ لأن التعليل بكونه منزل حضره الشيطان لا يدل على بطلان الصلاة فيه، بل العجيب أن بعض العلماء يقول: إنه مكانٌ كمَعَاطِن الإبل التي نُهِي عن الصلاة فيها، وقال: (حضرنا فيه الشيطان)، وهذا محل نظر؛ لأن هناك فرقاً بين قوله: (منزل شيطانِ)، و(منزلٌ حضرنا فيه الشيطان)، فإن قوله: (حضرنا فيه الشيطان) أي تسلط على بلال فنام حتى ذهب الصبح، وليس المراد أنه منزلٌ فيه الشياطين؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (حضرنا فيه الشيطان)، والكلمات دلائلها معتبرة في أخذ معانيها وما يُستنبط منها، فكونه عليه الصلاة والسلام يقول: (حضرنا فيه الشيطان)، ويعدل إنما هو على سبيل الندب والاستحباب، لا على سبيل الحتم والإيجاب، كأنه كرِه هذا المنزل الذي حصل فيه التفويت للصلاة، وهذا من كمال طاعته لله عز وجل، وهذا شأن كمال الطاعة لا شأن الإلزام، ولذلك لو قلنا: إنه كمعاطن الإبل لقال العلماء من نام في غرفةٍ وفاتته صلاة الفجر يجب عليه ألا يصلي فيها، ولا قائل بهذا.

فبناءً على ذلك لا وجه أن نقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم امتنع لعذرٍ؛ لأن هذا ليس بعذر، وإنما هو من باب الكمال، وإذا كان من باب الكمال والفضيلة، فإن تأخيره -لو كان القضاء على الفور- لا يتأتى أن يَتْرك الفورية الواجبة لفضيلةٍ غير لازمة.

فمن هنا صح أخذ وجه الدلالة على أنه يجوز للإنسان إذا استيقظ من نومه أن يؤخِّر، ولا حرج عليه، ولكن الأفضل والأكمل أن الإنسان يخرج من الخلاف، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم بادر بفعل الصلاة، ولذلك نقول: الأفضل والأكمل أنه يبادر بالصلاة، حتى يخرج من خلاف العلماء رحمة الله عليهم.

وأما لو أخَّر الساعة والساعتين ما لم يدخل وقت الظهر فإنه لا حرج عليه لدلالة السنة على هذا.

قال المصنف رحمه الله: [ويسقط الترتيب بنسيانه]

أي: يجب على المكلف أن يرتِّب بين الصلوات، والدليل على ذلك قوله تعالى: إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا [النساء:103] والمؤقت: المحدد، تقول: أَقَّت الشيء يُؤَقِّته تأقيتاً. إذا حدده زماناً أو مكاناً أو صفةً، فلا يصح أن تصلي الظهر ولم تصل الفجر، ولا يصح أن تصلي العصر ولم تصل الظهر، ومن أدلة الإلزام بالترتيب ما ثبت في الحديث الصحيح (أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه جاء يوم الخندق بعد ما غربت الشمس، فقال: يا رسول الله! ما كدت أن أصلي حتى كادت الشمس أن تغرب. قال النبي صلى الله عليه وسلم: والله ما صليتها. فنزلنا مع النبي صلى الله عليه وسلم بطحان فتوضأ للصلاة وتوضأنا لها، فصلى العصر بعد أن غربت الشمس، ثم صلى المغرب).

فكونه عليه الصلاة والسلام يراعي الترتيب مع أن الوقت وقت المغرب يدل على الإلزام، وقد قال: (صلوا كما رأيتموني أصلي)، ولذلك يدل هذا على أن الإلزام مُعتَبر، ومن هنا أخذ العلماء أنه لا يصح لك أن تصلي العصر قبل الظهر، وهذا صحيحٌ من جهة النظر، فإن المكلف إذا وجبت عليه صلاة الظهر فقد تعلقت ذمته بخطاب الظهر، ولا يُخاطب بالعصر إلا بعد أن تفرغ ذمته بفعل الظهر، ولذلك أصبح مُلزَماً بالترتيب من هذا الوجه، فلا يصح أن يصلي العشاء قبل المغرب.

وبناءً عليه فمن كان في سفر، ودخل إلى مسجدٍ والقوم يصلون العشاء، فإنه يدخل وراءهم وينويها نافلة، ثم إذا انتهوا أقام للمغرب فصلاها، ثم صلى العشاء، فهذا مذهب من يقول بالترتيب.

لكن لو دخل وهم يصلون العصر، وكان قد أخر الظهر يريد أن يجمع، فلما دخل على الناس وجدهم يصلون العصر، فينوي وراءهم الظهر، ولا حرج عليه؛ لأن صورة الصلاتين متحدة، ولا اختلاف في الأفعال.

أما في المغرب والعشاء فستختلف الأفعال والأركان، ولذلك لا يتأتى إيقاع إحدى الصلاتين تلو الأخرى، وبناءً على ذلك يُلزم بالترتيب على ظاهر دليل التأقيت في الكتاب والسنة.

فلو أن إنساناً صلى صلاة العصر قبل الظهرلم تصح صلاته، فتكون صلاة العصر منه نافلة، فيُلزَم بإعادة الظهر وإيقاع العصر بعدها.

لكن لو نسي فللعلماء قولان:

قال بعض العلماء: من صلى العصر ناسياً الظهر، ثم تذكر بعد صلاة العصر يقيم للظهر ويصلي، ولا حرج عليه لمكان النسيان، واختاره المصنف وجمعٌ من أهل العلم، واحتجوا بظاهر قوله تعالى: رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا [البقرة:286].

وقال جمعٌ من أهل العلم الذين يقولون بوجوب الترتيب: يلزمه أن يعيد الظهر ثم العصر، وذلك لأن المؤاخذة في قوله تعالى: (لا تُؤَاخِذْنَا) لا تُسقِط الضمان بالحق، ولذلك الناسي يسقط عنه الإثم، ويبقى الأصل بالمطالبة، إذ لو أخذنا بظاهر قوله تعالى: (لا تُؤَاخِذْنَا) على أنه يدل على إسقاط الترتيب لدلّ على إسقاط الصلاة كلها؛ لأنه قد نسيها.

وبناءً على ذلك يلزم بفعل الصلاة مع أنه ناسٍ ويلزمه قضاء الصلاة، وحينئذٍ يلزمه أيضاً أن يوقعها مرتبة، كما استثنيتم من قوله تعالى: (رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا) الصلاة نفسها، فبناءً على الدليل يلزمكم استثناء الترتيب بدليل الترتيب نفسه.

فمن نسي الترتيب يُطالَب به، ويسقط عنه الإثم؛ لأن قوله تعالى: (لا تُؤَاخِذْنَا) رفعٌ للمؤاخذة، والمؤاخذة: الإثم، وليس المراد بها رفع المطالبة، إذ لو أخذ بقوله تعالى: (رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا) على أن المراد به عدم المطالبة حتى بالترتيب، نقول أيضاً: لا يُطالَب بالصلاة؛ لأنه نص عام على عدم المؤاخذة، فكما أنه طولِب بحق الله بفعل الصلاة، فحينئذٍ يُطَالَب بحق الله في إيقاعها مرتبة، وهذا أعدل الأقوال وأقواها.

فالاستدلال بقوله تعالى: (رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا) وقوله عليه الصلاة والسلام: (رفِع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه) مقيد بإسقاط الإثم دون إسقاط الضمان، ودليله واضح، ألا ترى الإنسان لو قتل إنساناً خطأً لوجب عليه الضمان لحق الله، فيُطَالب بالكفارة وهي عتق الرقبة، فإن لم يستطع صام شهرين متتابعين، مع أنه مخطئ، والله يقول : لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا [البقرة:286]، فدلّ على أن المؤاخذة المرفوعة في الآية مؤاخذة الإثم التي لا يفوت بها حق الله وحق المكلَّف.

وهذا أعدل أقوال الأصوليين في هذه المسألة المشهورة وهي: هل المرفوع في قوله: (رُفِع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه) الفعل والإثم، أو أحدهما وهو الإثم؟ فالمرفوع هو الإثم حتى يدل الدليل على رفع الاثنين معاً.

قال المصنف رحمه الله: [وبخشية خروج وقت اختيار الحاضرة].

تقدم معنا أن من الفرائض ما له وقت اختيارٍ ووقت اضطرار، فلو أن إنساناً نام عن صلاته حتى استغرق نومه، فمرَّت عليه صلاة الظهر وصلاة العصر حتى بقي من وقت العصر قدر يسير ثم ينتهي وقت الاختيار، قالوا يبدأ بالعصر فيؤديها، ثم يقيم للظهر فيصليها.

ووجه ذلك أنهم قالوا: إننا لو أمرناه بالترتيب لذهب وقت الاختيار للحاضرة، ولذلك نقول: سقط الترتيب تحصيلاً للصلاة الحاضرة، فيؤدي الصلاة الحاضرة في وقتها؛ لأنه إذا ازدحمت الفروض، فبعضهم يقول: يُراعَى صفة الفرض؛ إذ الحاضرة مزدحمة مع التي قبلها، فإذا قلت له: رتِّب الصلوات بناءً على الأصل الشرعي، فإن معنى ذلك أنه سيقضي الصلاتين، فتصبح صلاته للظهر موجبة لخروجه من وقت الاختيار إلى الاضطرار، فبناءً على ذلك قالوا: إنه يكون في حكم المفوِّت لوقت الاختيار، فيلزمه حينئذٍ أن يصلي الحاضرة في وقت الاختيار، ثم يصلي الفائتة.

وهكذا قالوا لو لم يبق من وقت الحاضرة إلا قدر أدائها، كأن يستيقظ قبل طلوع الشمس بقدرٍ يصلي فيه الصبح، وكان قد نام عن العشاء والصبح، قالوا: فلو أمرناه بصلاة العشاء لفاتت عليه صلاة الصبح، فنأمره بصلاة الصبح حاضرة، ثم بعد طلوع الشمس يصلي العشاء الفائتة؛ لأن العشاء مقضية على كل حال، سواءٌ أصليت قبل الصبح أم بعده.

وذهب طائفةٌ من العلماء إلى أنه يصلي العشاء أولاً مراعاةً لدليل الشرع، حيث قالوا: تأخر لعذر، وأخر الصلاة الحاضرة لعذر، فيصلي العشاء أولاً استناداً إلى أصول الشريعة التي لم تستثن ولم تفرق، فنأمره بصلاة العشاء حتى ولو خرج وقت الفجر، فإذا خرج وانتهى من قضاء العشاء أقام وصلى الفجر؛ لأنه كالشخص الذي قد خرج عليه الوقت.

فهذا الوقت اليسير الذي لا يسع إلا للصبح هو -حكماً- بمثابة من استيقظ بعد خروج الوقت؛ لأنه ملغي بأمر الشرع بالترتيب، وهذا القول من ناحية الأصول أوفق.

لكن هناك مخرجٌ لطيف لبعض العلماء، قال: يستحب له أن يصلي الفجر إدراكاً للوقت، ثم يقيم فيصلي العشاء ويعيد الفجر احتياطاً، قالوا: فيكون بهذا قد احتاط لأمره؛ لأنه سيكون قاضياً في كل الأحوال، فإن كان في القدر المتسع اليسير فضل يكون قد أدركه بالصلاة الأولى، وإن لم يكن له فضل يكون قد استبرأ ذمته بالاحتياط لواجب الشرع.

حكم من تعمد تأخير الصلاة حتى خرج وقتها

السؤال: إذا أخر رجلٌ الصلاة عن وقتها متعمداً حتى خرج الوقت، فهل يقضي الصلاة أم لا؟

الجواب: باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:

فهذه المسألة فيها خلافٌ بين العلماء رحمة الله عليهم، فبعض أهل العلم يرى أن من أخَّر الصلاة حتى خرج وقتها وهو متعمد لا يطالب بالقضاء، خاصةً على مذهب من يرى أنه قد كفر بإخراج الصلاة عن وقتها.

والقول الثاني أنه لا يكفر، ويُلزم بفعل الصلاة بعد خروج الوقت إن أخرها متعمداً، وهو الأقوى والصحيح إن شاء الله تعالى.

والدليل على ذلك أنه إذا اختلف العلماء رحمهم الله: هل يطالب بالفعل أو لا يطالب بالفعل رُجِع إلى الأصل، فإن الأصل فيمن دخل عليه وقت الصلاة أنه مطالبٌ بها لتوجه خطاب الشرع عليه بالفعل، فكونه قد أخرها إلى أن خرج الوقت لا يوجب إسقاطها عنه إلا بدليل يدل على أن المتعمد لا يُطالب بفعل الصلاة بعد خروج الوقت، وليس هناك دليلٌ في الكتاب والسنة يدل صراحةً على أنه إذا خرج الوقت لا يطالب بفعل الصلاة، وغاية ما استدل به أصحاب هذا القول أنهم قالوا: إن الصلاة محددةٌ ببداية ونهاية، وإذا كانت محددة بالبداية والنهاية فإنه إذا خرج عن نهايتها لا يُطَالَب بفعلها وهذا محل نظر؛ ألا ترى النائم يطالب بفعلها بعد انتهاء وقتها؟!

ألا ترى المعذور -وهذا بالإجماع- يُطَالَب بالفعل بعد انتهاء وقتها.

فإذا كان هذا مقرَّراً، وهو أن المعذور مطالبٌ بالفعل بناءً على أصل دليل الخطاب، فإنه يدل على أنهم مسلِّمون بوجود الخطاب بعد انتهاء الوقت، وأصبح التأقيت يحتاج إلى دليلٍ من الكتاب والسنة يدل على عدم إلزام المكلف بالفعل بعد خروج الوقت، ولذلك الأقوى أنه يُطَالَب بالفعل، وقد ثبت بدليل السنة الصحيحة أن النبي صلى الله عليه وسلم نزَّل حقوق الله كحقوق العباد، فقال عليه الصلاة والسلام: (أرأيتِ لو كان على أمك دينٌ أكنت قاضيته؟ قالت: نعم، قال: فدين الله أحق أن يقضى)، فجعل الصوم، وجعل الحج بتوجه الخطاب ديناً على المكلف؛ لأنه فريضة.

يقول الجمهور: فالصلاة دينٌ على المكلف؛ لأنه مكلفٌ بها بتوجه الخطاب، كالصوم والحج إذا ثبت أنه دَيْن: (فإن دين الله أحق أن يقضى).

وكما أن حقوق العباد يُطَالب الإنسان بقضائها حتى ولو أنكرها وجحدها وامتنع مِن الفعل وماطل فيها بعد وقتها وهو قادرٌ على السداد، كذلك حق الله يطالب بأدائه ولو خرج عن وقته؛ لأن السداد مأمورٌ به، وهو القيام بفعل الصلاة، فالذي تطمئن إليه النفس مطالبته بالفعل، والله تعالى أعلم.

وقد قالوا في الحج: لو أخر مفرِّطاً فيجوز أن يحج عنه، فلو أن إنساناً غنياً ثرياً أخَّر الحج حتى مات وهو قادر على أن يحج، قالوا: يُطالَب بالحج عنه من ماله، بناءً على قوله عليه الصلاة والسلام: (أرأيتِ لو كان على أمك دين، أكنت قاضيته؟ قالت: نعم. قال: فدين الله أحق أن يقضى)، فجعل الحج في ذمة هذا الميت -مع أنه مفرِّط ومتعمدٌ للتأخير- ديناً في ذمته، مع أنه أخرجه عن الوقت المعتبر؛ لأنه بالإجماع على أنه إذا توجه الخطاب على الإنسان بالحج، وهو قادرٌ مستطيع أنَّه واجبٌ عليه، ولكن اختُلِف في مسألة التأخير وعدم التأخير، فقالوا: إنه يُطالَب بالفعل ويترتب على المطالبة إلزام الذمة.

وبناءً على هذا فإن الصلاة أُلزِمت ذمته بفعلها، وليس عندنا دليل على أنه إذا أخَّر حتى خرج الوقت سقطت عنه، ثم جاء دليل النظر والقياس الصحيح، وهو ما يسمى عند العلماء: قياس الأولى، وقياس الأولى من أقوى الحجج، حتى إن بعض العلماء يقول: الخلاف بين الظاهرية والجمهور في الأقيسة لا يشمل قياس الأولى.

فيقولون: إذا كان المعذور الذي عذر ونام حتى فاتت عنه الصلاة يُطالَب بالإعادة، فكيف بإنسانٍ متعمد؟! فإنه أحرى أن يُطالَب بالإعادة، وهذا يسمونه: قياس الأولى، فإذا كان صح هذا وهو أن المعذور يطالَب بالفعل مع كونه معذوراً، فمن باب أولى غير المعذور، ولذلك تميل النفس إلى المطالبة بالقضاء، والله تعالى أعلم.

حكم قضاء النوافل

السؤال: هل تقضى الفوائت من النوافل؟

الجواب: أما قضاء الفوائت من النوافل فإنه سنة، ودل على ذلك حديث حذيفة في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم في قضائه لراتبة الفجر.

وقال العلماء: إن راتبة الفجر هي آكد الرواتب، وتقضى قولاً واحداً عند العلماء، وتأكُّد قضائها لقوله عليه الصلاة والسلام: (لا تدعوها ولو طلبتكم الخيل).

ولثبوت الخبر الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم بقضائها مع الصحابة، فإنه لما بات في الوادي الذي ذكرنا أمر بلالاً فأذَّن، ثم صلى ركعتين وهي رغيبة الفجر، ثم أمره فأقام فصلى الصبح.

فدل قضاؤه لها على مسألتين: أما المسألة الأولى فسنِّيَّة قضاء الرواتب، والمسألة الثانية: هل يطالب بالقضاء على الفور أم على التراخي؟

ذلك أنه لو كان مطالباً بالفور لصلى الصبح أولاً، ثم صلى بعده الرغيبة، ولَمَا اشتغل بالنافلة قبل الفريضة، فهذا يؤكد ما ذكرناه مِن أن القضاء ليس على الفور؛ إذ لو كان على الفور لما قدَّم النافلة على الفرض.

وبناءً على هذا فإنهم قالوا: إنه يُشرَع قضاء النوافل.

ومن الأدلة حديث عائشة الصحيح: (يا رسول الله! رأيتك تصلي ركعتين لم أرك تصليهما من قبل؟ قال: أتاني ناس من عبد القيس، فشغلوني عن الركعتين اللتين بعد الظهر، فهما هاتان).

وأما حديث أم سلمة أنها لما سألته فقالت: (أفنقضيهما إذا فاتتا؟ قال: لا)، الذي رواه أحمد في مسنده فهو ضعيف، والصحيح أنه يُشرع قضاء الرواتب، وأنه سنة ولا حرج على الإنسان في فعله.

وفي الحديث الصحيح عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا فاته حِزبُه من الليل صلى بالنهار ثنتي عشرة ركعة)، فقضى عليه الصلاة والسلام صلاة الليل مع أنها نافلة، فدل هذا على مشروعية القضاء.

وفي الصحيح أيضاً قوله عليه الصلاة والسلام: (من نام عن حزبه أو عن شيء منه فقرأه فيما بين صلاة الفجر وصلاة الظهر كتب له كأنما قرأه من الليل)، وهذا يدل على سعة رحمة الله عز وجل، وعظيم فضله، خاصةً عند وجود العذر، والله تعالى أعلم.

وقت صلاة الضحى

السؤال: نرى بعض المصلين يصلون صلاة الضحى قبل الظهر بقرابة ربع ساعة، فهل نبيِّن لهم أن هذا وقت نهي؟ مع رجاء تحديد وقت النهي بالدقائق قبل أذان صلاة الظهر.

الجواب: هذا فيه مسألتان: المسألة الأولى: تأخيرهم للضحى إلى هذا الوقت، فلو أن إنساناً أخَّر الضحى إلى ما قبل صلاة الظهر، سواءٌ إلى وقت انتصاف النهار المنهي عنه، أم إلى ما قبل وقت انتصاف النهار، فهل هذا من السنة؟

الجواب: لا؛ لأن الضُّحى شيء، والضَّحَى شيء، فإذا أشرقت الشمس فهناك وقت يسمى الضُّحى، وهو أول النهار إلى اشتداد الشمس بحيث تقرُب من الهاجرة، ثم يأتي وقت قبل انتصاف النهار يُقارب الساعة إلى الساعة والنصف يختلف بحسب طول النهار وقصره صيفاً وشتاءً، ففي الصيف يكون أطول، وفي الشتاء يكون أقصر، فهذا الوقت الذي هو قبل أن تنتصف الشمس في كبد السماء يسمى الضَّحَى، وهو المراد بحديث البخاري : (كنا نصلي مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم الجمعة، ثم تكون القائلة).

فهذا هو وقت القيلولة قبل الظهر بساعة ونصف إلى ساعة، فغالباً هذا الوقت الذي هو قبل الظهر يعين بإذن الله عز وجل على قيام السحر.

وقالوا: هو المراد بقوله صلى الله عليه وسلم: (قيلوا فإن الشياطين لا تقيل)، فكانت قيلولتهم قبل منتصف النهار، فهذا الوقت يسمى الضَّحَى بالفتح، والذي قبله ما بين طلوع الشمس قيد رمح إلى اشتداد النهار يسمى الضُّحَى، وهو الذي أقسم به الله عز وجل: وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى [الضحى:1-2]، فانظر إلى قوله تعالى: (والليل إذا سجى) أي: جعل بداية الليل وإرخاء سدوله ما يكون عند وجود الشفق إلى سقوط الشفق بحيث يسجِّي الليل، مثل الشخص الذي تسجِّيه، أي: تُغَطِّيه.

فقوله تعالى: (الليل إذا سجى) أي: غَطَّى بظلامه، فجعل الوقتان متقابلان.

فصلاة الضُحى بداية وقتها بعد طلوع الشمس بقيد رمح، أما أثناء الطلوع إلى ارتفاع قيد رمح فهو داخل في المنهي عنه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أخَّر صلاة العيد إلى ارتفاع الشمس قيد رمح، فدل على أن ما قبله باقٍ على الأصل من النهي، وبناءً على هذا لا ينبغي تأخير صلاة الضُحى إلى هذا الوقت.

وأفضل ما تقع صلاة الضُحى بعد ارتفاع النهار، فإذا ارتفعت الشمس قيد رمح بدأ وقت الجواز، فإذا اشتد النهار قليلاً بعد إشراق الشمس بقدر ساعة فهو أفضل؛ لأن الغفلة من الناس تكون في مثل هذا الوقت، وهو وقت طلب التجارة والكسب، فكون الإنسان يترك التجارة والكسب ويُقبِل على الله في مثل هذا الوقت فهذا فضل عظيم.

وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذا المعنى بقوله: (صلاة الأوابين حين ترمض الفصال)، والفصيل: ولد الناقة، و(ترمض الفصال) أي: يدركها حر الرمضاء، وهذا يدل على أن الشمس قد ارتفعت، وأن صلاة الأوابين هي الضُحى التي وعد الله أهلها بالمغفرة: َإِنَّهُ كَانَ لِلأَوَّابِينَ غَفُورًا [الإسراء:25]، فالإضافة المراد بها مثل هؤلاء الذين أثني عليهم بالآية، قالوا: فلا تكون إلا بعد ارتفاع النهار بساعة إلى ساعة ونصف، وما قبل الظهر بساعة إلى ساعة ونصف، فهو أشبه ما يكون بقضاء الضُّحى، وليس بالضُّحى أداءً، وينبني على قضاء النوافل من حيث إنه سائغ أو غير سائغ.

فإذا بدأ وقت الضَّحى إلى أن تنتصف الشمس في كبد السماء، فهذا وقت جواز يجوز للإنسان أن يُصلي فيه، وحملوا عليه قوله عليه الصلاة والسلام: (رحم الله امرأً صلى قبل الظهر أربعاً)، على أن المراد بقبل الظهر قبل وقتها، وليس المراد به الراتبة. قالوا: لقوله: (إنها ساعة رحمة تفتح فيها أبواب السماء)، ولما سئل عنها قال: (إنها ساعة تفتح فيها أبواب السماء، وأحب أن يصعد لي فيها عمل صالح)، فهذا قبل انتصاف النهار. وبعض المؤذنين يحتاطون بقدر ربع ساعة ما بين زوال الشمس وصلاة الظهر، فيقولون: الوقت في الظهر داخل بقدر ربع ساعة.

وبناءً على هذا فإذا أذن للظهر في الساعة الثانية عشر والنصف، فمعناه أن الزوال ابتدأ في الثانية عشر والربع، وبناءً على هذا فمن جاء يصلي في مثل هذا الوقت الذي تنتصف فيه الشمس في كبد السماء فإنه حينئذ لا يجوز له، لما ثبت في الحديث: (ثلاث ساعات كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهانا أن نصلي فيهن، أو أن نقبر فيهن موتانا: حين تطلع الشمس بازغة حتى ترتفع، وحين يقوم قائم الظهيرة حتى تميل الشمس، وحين تضيف الشمس للغروب حتى تغرب).

وقال عليه الصلاة والسلام في حديث مسلم: (فإذا طلعت الشمس فصل، فإن الصلاة حاضرةٌ مشهودة، فإذا انتصفت -في كبد السماء- فأمسك، فإنها ساعةٌ تسجر فيها نار جهنم) .

و(تسجر) أي: يشتد لهيبها، فهي ساعة عذاب وليست بساعة رحمة، ولذلك نُهِي فيها عن دفن الموتى، وعن صلاة النافلة، فمثل هذا الوقت لا تصلى فيه صلاة الضُحى، ولذلك قالوا: إن إيقاع النافلة في الأوقات المنهي عنها وجوده وعدمه على حدٍ سواء، إلا عند من يستثني ذوات الأسباب، والله تعالى أعلم.

فينبغي تنبيه هؤلاء -الذين يصلون في هذه الأوقات المنهي عنها- على أمرين: أولاً: أن وقت الضُحى من بعد طلوع الشمس قيد رمح، أي: بما يقارب -احتياطاً- اثنتي عشرة دقيقة، فبعدها يغلب على الظن دخول وقت جواز صلاة النافلة، ووقت الفضيلة يبتدئ إذا كان طلوعها السادسة والربع إلى ما يقارب السابعة والنصف إلى الثامنة، وكلما تأخر قليلاً كان أفضل؛ لأنه تكون غفلة الناس باشتغالهم بالدنيا أكثر، والله تعالى أعلم.

حكم من لا يعرف عدد ما فاته من الصلوات

السؤال: فاتتني كثيرٌ من الصلوات بعد بلوغي، وصليت بعضها جنباً خجلا، وكل ذلك لجهل والدي عن تعليمي ما يجب عليَّ، وهي كثيرةٌ جداً ولا أحصي عددها، ولا أستطيع الاجتهاد في معرفتها، فماذا يلزمني تجاه ذلك؟

الجواب: هذا السؤال فيه مسائل: أولاً: إذا تركت الصلاة في أمدٍ من بعد بلوغك ولم تكن تصلي -والعياذ بالله- بعد البلوغ إلى أن التزمت بطاعة الله وشريعة الله فلا يلزمك القضاء؛ لأن تركك على هذا الوجه آخذٌ حكم الترك الموجب للكفر، فمن ترك الصلاة والعياذ بالله ولم يصل ولم يركع فإنه يصدق عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم: (العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر).

وإذا حكم بكفر تارك الصلاة على هذا الوجه فلا يُلزَم بقضاء، بقوله صلى الله عليه وسلم: (أسلمت على ما أسلفت من خير)، وقال في الحديث الصحيح: (الإسلام يجُبُ ما قبله)، فتكون بالتزامك بالصلاة كأنك قد دخلت في حظيرة الإسلام بأدائها، وبناءً على ذلك لا تُطالب بقضاء ما مضى.

ثانياً: أما لو كنت تصلي أحياناً وتترك أحياناً، فحديث عبادة في قوله عليه الصلاة والسلام: (ومن لم يحافظ عليهن لم يكن له عند الله عهد، إن شاء عذبه، وإن شاء غفر له) يدل على عدم الكفر، وبناءً على ذلك تجتهد، وتبني على غلبة الظن، وقولك: لا أستطيع الاجتهاد. غير وارد، فلو قدرت السنة التي التزمت فيها بشرع الله، وأصبحت محافظاً فيها على الصلاة بثلاث سنوات من الآن مثلاً ومن بلوغك إلى الآن لك قرابة سبع سنوات مثلاً، فحينئذٍ تقول: هي أربع سنوات.

فأكثر في الصلوات، وصلِ مع كل صلاةٍ حتى تحتاط بقضاء هذا الأمد كاملاً.

وأما الأمر الثالث في سؤالك فهو قولك: إنك كنت تصلي وأنت جنب. فلا يجوز هذا، ولذلك قال بعض العلماء: من صلى وهو على غير طهارته عالماً بحرمة ذلك مستخفاً بهذا التحريم فإنه يكفر -والعياذ بالله- وإن كان الصحيح أنه لا يكفر إلا إذا قصد الاستهزاء، ولكن انظر إلى تشدد العلماء رحمة الله عليهم من شدة تعظيمهم لأمر الصلاة، فينبغي حينئذٍ للإنسان أن يحتاط.

ولو أن إنساناً دخل في صلاة الظهر، ثم تذكر أنه أجنب، وقال: لو خرجت الآن فإن الناس تراني أو صلى بهم وهو إمام، فقال: كيف أخرج من الصلاة؟! فينبغي أن تكون خشية الله في قلبك أعظم من خشية الناس، وأن تعلم أنه لا يغني عنك أحدٌ من الله شيئاً، وأنه لا يُجيرك من الله ومن سطوته ومن غضبه أحد، فقد يكون استخفافك بعظمة الله وهيبتك للناس أكثر من هيبتك لله سبباً في غضب الله عليك، فاتق الله عز وجل، فبمجرد ما تشعر أنك غير متوضئ فاخرج من الصلاة، ولتنعم عينك بطاعة الله عز وجل، ولك من هدي النبي صلى الله عليه وسلم الرخصة والتوسعة أن تمسك بأنفك وتخرج، فإن الذي أمرك بدخول المسجد أمرك أن تخرج من المسجد، ولا تبالِ بالصغير ولا بالكبير، ولا بالجليل ولا بالحقير، فلتتق الله عز وجل، ولتكن هيبة الله في قلبك أعظم وأجل وأكبر من أن تهاب غيره فتستخف بعظمة الله فتصلي بين يديه على غير طهارة.

ولا يجوز للمسلم أن يصلي على غير طهارة، ولا يجوز له أن يستبيح الصلاة وهو جنُب، لما فيه من الاستخفاف بعظمة الله، ولو كان إماماً فإنه يَسحب من وراءه ويستخلف ويخرج، ولتنعم عينه بطاعة الله، فإن الله يثيبه، والله يبتلي، وقد مر هذا علينا، ومر على بعض العلماء من قبلنا، فالله يبتلي إيمان العبد؛ لأنه لا يمكن أن تخرج من هذه الدنيا حتى يظهر كمال إيمانك من نقصه، ومن الإيمان خشية الله، ولن تخرج من هذه الدنيا حتى تظهر خشيتك لله كاملةً أو ناقصة.

فإذا جاءتك مثل هذه المواقف فاعلم أن الله يمتحنك، وأن الله يريد أن يبتليك بخشيته بالغيب، فإن الناس لا يعلمون أنك جُنُب، ولا يعلمون أنك على غير طهارة، ولكن الله وحده هو الذي يعلم، فهو علام الغيوب، فإذا جئت بإيمانٍ منك وصدق وخوف ويقين من الله سبحانه وتعالى تخرج أمام الناس لا تستحيي منهم ولا تهابهم ولا تخشاهم كان ذلك أصدق ما يكون في خشيتك لله سبحانه وتعالى، وهذا أمر شائع ذائع، فإن كثيراً من الناس يقول: صليت وأنا على غير طهارة، أو كنت على غير طهارة وأنا جالس في المسجد فاستحيت أن أخرج؛ وهذا لا يجوز، فينبغي أن تكون عظمة الله فوق كل شيء، قال تعالى: أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ [التوبة:13]، فالله أحق أن يُخشى ويهاب، وأحق أن تكون له الرغبة والرهبة، فنسأل الله العظيم أن لا ينزع من قلوبنا خشيته، وأن يرزقنا الخوف منه وإجلاله وإعظامه على الوجه الذي يرضيه عنا، والله تعالى أعلم.

تذكر صلاة الظهر في آخر وقت العصر

السؤال: إذا فاتت المسلم صلاة الظهر ولم يتذكرها إلا في آخر وقت العصر، والوقت لا يكفي إلا لصلاة العصر فحسب، فهل يلزمه الترتيب أم لا؟

الجواب: هذه المسألة فيها خلاف، فبعض العلماء -رحمة الله عليهم- يقول: إذا أدركت آخر وقت الثانية، بحيث لا يسع إلا بقدر أن تصلي الثانية حاضرة وأنت لم تصلِ الأولى، فعليك أن تراعي ترتيب الشرع، وتصلي الأُولى ولو خرج الوقت؛ لأن وقت الثانية ساقط عنك بانشغالك بفرض وهذا هو الأصل، وهو قولٌ مبني على اعتبار دليل الترتيب، وقال به جمع من العلماء رحمة الله عليهم.

وقال بعضهم: يقدم الحاضرة على الفائتة، وذلك لأنه إذا صلَّى الفائتة كان قاضياً، فاستوى أن يؤديها في وقت الأولى، أو يؤديها في وقت الثانية وهذا القول محل نظر؛ أولاً: لثبوت السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح من حديث عمر: (أنه جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يوم الخندق، وقال: يا رسول الله ما كدت أن أصلي حتى كادت الشمس أن تغرب. قال النبي صلى الله عليه وسلم: والله ما صليتها).

فانظر رحمك الله إلى قوله: (ما كدت أصلي العصر حتى كادت الشمس أن تغرب) بمعنى: صليتها فغربت الشمس مباشرة، حتى إنه لا يدري هل الصلاة سبقت أو الغروب، فمعنى ذلك أنه قد غابت الشمس، ثم احسب وقتاً لذكره لله عز وجل بعد أدائه للصلاة، ثم قيامه إلى النبي صلى الله عليه وسلم يشتكى، فيحتمل أن الوقت إلى دخول وقت المغرب بقدر لمكان هذا الذي ذكرناه، فاحسب حساب كون عمر يخاطب النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم له: (والله ما صليتها)، ثم قال: (قوموا بنا إلى بطحان قال: فنزل فتوضأ فصلى العصر ثم المغرب والعشاء)، ووجه الدلالة أنهم قالوا: وقت المغرب ضيق وهذا الحديث يرده؛ لأنك لو حسبت تجد أن النبي ذهب إلى وادي بطحان، ثم نزل به ومعه الجيش، ثم توضأ، ثم صلى العصر، وهذا كله يأخذ وقتاً ليس بالقليل مع أن عمر قد جاءه بعد مغيب الشمس، فاحسب كلامه له بعد ذهابه إلى النبي صلى الله عليه وسلم بعد المغيب، ثم شكواه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وجوابه، ثم أمره عليه الصلاة والسلام بالذهاب إلى بطحان، ثم وقت الوضوء، ثم القيام إلى الصلاة، فهذا وقت ليس باليسير، خاصة وأن عدد الناس معه لا يقلون عن ألف، فهؤلاء الصحابة رضوان الله عليهم يصلون معه عليه الصلاة والسلام.

فالغالب أن وقت المغرب خرج أو كاد يخرج، قالوا: فصلى العصر أولاً، ثم أتبعها بالمغرب، ثم صلى العشاء، ولذلك ما ورد في الحديث أنه انتظر إلى دخول العِشاء قالوا: هذا يؤكد على أنه صلى الله عليه وسلم كان حريصاً على التقديم حتى على الأقل مع خوف خروج الوقت، وهذا يؤكد ما ذكرناه أنه يبدأ بالفائتة قبل الحاضرة.

والذين قالوا: إنه يبدأ بالحاضرة قبل الفائتة اضطرب قولهم، فهم يقولون بوجوب الترتيب، ثم يأتون في هذه المسألة ويقولون: لا يجب الترتيب، وإنما يلزم بفعل الحاضرة قبل الفائتة؛ لأنه إذا صلى الحاضرة أدَّى، وإذا صلى الفائتة قضى في كلتا الصلاتين.

والذي تطمئن إليه النفس أنه يبدأ بالفائتة، ثم يتبعها بالحاضرة ولو خرج الوقت؛ لأن التأخير لعذرٍ شرعي، وهو أمر الشرع بفعل الصلاة، ألا ترى أنهم يقولون: إنه لا يصح أن يوقع صلاة العصر حتى يصلي الظهر، فكونه يقول: فائتة أو حاضرة لا تأثير له في الوصف الشرعي، أي: لا يقوى على الاستثناء من الأدلة التي دلت على وجوب الترتيب من التأقيت الذي ذكرناه من دليل الكتاب والسنة، وعلى هذا يقوى القول الذي يقول إنه يبدأ بالفائتة قبل الحاضرة.

لكن بعض العلماء ذكر مَخرجاً لطيفاً، فقال: الأفضل أن الإنسان يخرج من الخلاف، فيصلي الحاضرة في وقتها، ثم يقيم فيصلي الفائتة، ويصلي بعدها الحاضرة، قالوا لأنه إذا كان معذوراً بعدم مراعاة الترتيب فقد أوقع الصلاة في وقتها، فإن كانت معتبرة فقد أدرك الإجزاء والاعتبار، وإن كانت غير معتبرة فقد احتاط لدينه بإعادتها بعد الوقت، وهذا أفضل المخارج، والذي تميل إليه النفس أنه يحتاط، لكن الأصل والأرجح أنه يطالب بفعل الفائتة قبل الحاضرة.

آخر وقت سنة العشاء

السؤال: ما هو آخر وقت سنة العشاء؟

الجواب: تتأقت الراتبة البعدية بآخر وقت الفريضة نفسها التي رُتِّبت عليها، فإن كنت في الظهر فآخر وقت الظهر، وإن كنت في المغرب فآخر وقت المغرب، وإن كنت في العشاء فآخر وقت العشاء، فعلى القول بأن وقت العشاء إلى نصف الليل تتأقَّت الراتبة إلى نصف الليل، فتصلي الراتبة إلى منتصف الليل، وعلى القول بأنه إلى الفجر فلك أن تصلي راتبة العشاء ما لم يتبين الفجر الصادق.

حكم صلاة العاري إذا وجد الساتر قبل خروج الوقت

السؤال: لو أن إنساناً صلى وهو عارٍ لانعدام السترة، ثم جاءت السترة قبل خروج الوقت، فهل يجب عليه الإعادة؟

الجواب: إن صلى عارياً فقد مضت صلاته وصحَّت، لكن إذا غلب على ظنه أنه يجد السترة قبل خروج الوقت ينتظر، ومذهب طائفة من العلماء أنه يُستحب له أن يُعيد ولا يجب عليه وهذا أفضل.

حكم تشمير الثوب عند الهوي للسجود في الصلاة

السؤال: هل من كف الثياب ما يفعله بعض المسلمين من رفع ثوبه عند الهوي للسجود؛ لأن ذلك يمكّن الإنسان من السجود بكماله؟

الجواب: نعم. هذا يدخل فيه، فذكر بعض العلماء رحمهم الله أن هذا يعتبر من كف الثوب؛ لأنه إذا سجد يكون في حكم من كف طرف الثوب من أجل أن لا يتَّسخ، فيكون تشميره للثوب فيه إخلال من وجهين:

أولاً: لأنه حركة زائدة في الصلاة؛ لأن رفعه للثوب ينافي خشوعه، فهذه الحركة في الصلاة زائدة عما قصده الشرع من الخشوع والسكون؛ لقوله تعالى: وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ [البقرة:238] فقالوا: هذا لا يناسب القنوت.

والأمر الثاني: كونه يأنف عن سجوده بهذا الثوب لله عز وجل، فأن يترك الثوب على حالته أبلغ لقربته لله عز وجل وطاعته، والله تعالى أعلم.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.