خطب ومحاضرات
تفسير سورة الأنعام [143-150]
الحلقة مفرغة
قال تعالى: ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأُنثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ [الأنعام:143]. قوله: (( ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ )) ثمانية بدل من قوله: حَمُولَةً وَفَرْشًا [الأنعام:142]، ويمكن أن يكون مفعولاً به لقوله: (كلوا) يعني: يباح لكم أكل (ثمانية أزواج). وقوله: (أزواج) الأزواج: جمع زوج، والزوج هو ما معه آخر من جنسه يزاوجه، كما قال تعالى: وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى [النجم:45] وقد يقال بمجموعهما، والمراد الأول، أي أن كلمة الزوج تطلق أحياناً على المجموع، ويمكن أن يطلق على كل واحد منهما أنه زوج الآخر. ثم فصل عز وجل فقال: (( ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ )) . قوله: (( مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ )) يعني: من الضأن زوجين اثنين. أي: ذكراً وأنثى، وهو الكبش الذكر والنعجة الأنثى. وقوله: (( وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ )) وهما التيس والعنز، والتيس هو ذكر الماعز، والعنز هي الأنثى. قال تعالى: (قل) تبكيتاً لهم وإظهار لانقطاعهم عن الجواب (( آلذَّكَرَيْنِ )) يعني: من الضأن والمعز (( حَرَّمَ أَمِ الأُنْثَيَيْنِ )) وقوله: (آلذكرين) المراد هنا الكبش والتيس، وهما من الضأن والمعز. وقوله: (( حَرَّمَ أَمِ الأُنْثَيَيْنِ )) يعني: حرم الله عليكم -أيها المشركون- الأنثيين منهما، وهما النعجة والعنز؟! وقوله: (( أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأُنثَيَيْنِ )) أي: أم ما حملت إناث الجنسين ذكراً كان أو أنثى، أي: الجنين، كما قالوا: مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ [الأنعام:139]. وقوله: (( نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ ))، أي: أنتم تحرمون وتحللون، وتقولون: هذا ما أحل الله سبحانه وتعالى، وهذا ما حرمه، فماذا فعلتم أنتم؟ وهذا تسكيت لهم. وقوله: (بعلم) يعني: بدليل نقلي من كتب أوائل الرسل، أو عقلي في الفرق بين هذين النوعين والنوعين الآتيين. وقوله: (إن كنتم صادقين) يعني: في دعوى التحريم فائتوني بدليل. وفي قوله تعالى: (نبئوني بعلم) تكرير للإلزام، وتثنية للتبكيت والإفحام.
وفي الآية التي بعدها أضاف الأربعة الأخرى، فالمجموع ثمانية أزواج، فقال: وَمِنَ الإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأُنثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأُنثَيَيْنِ أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [الأنعام:144]. قوله: (ومن الإبل اثنين) عطف على قوله تعالى: ( من الضأن اثنين ) أي: وأنشأ من الإبل اثنين، يعني: زوجين، وهما: الجمل والناقة، ( ومن البقر اثنين ) يعني: ذكر البقر وأنثاه. وقوله: (قل) يعني: قل لهم إفحاماً حتى في هذين النوعين أيضاً، كما سبق إفحامهم فيما مضى: ( آلذكرين حرم ) أي: آلذكرين من الإبل ومن البقر: (( حَرَّمَ أَمِ الأُنثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأُنثَيَيْنِ )) يعني: من ذينك النوعين، والمعنى: إنكار أن الله سبحانه وتعالى حرم عليهم شيئاً من الأنواع الأربعة، وإظهار كذبهم في ذلك، وتفصيل ما ذكر من الذكور والإناث وما في بطونها للمبالغة في الرد عليهم بإيراد الإنكار على كل مادة من مواد افترائهم، فإنهم كانوا يحرمون ذكور الأنعام تارة وتارة أخرى يحرمون إناثها، ويحرمون أولادها كيفما كانت الأجنة، سواء أكانت ذكوراً أم إناثاً، ويسندون هذا كله إلى تشريع الله سبحانه وتعالى، ويزعمون أن الله هو الذي أمرهم بهذا، وإنما عقب تفصيل كل واحد من نوعه الصغار ونوعه الكبار بما ذكر من الأمر بالاستفهام والإنكار مع حصول التسكيت بإيراد الأمر عقيب تفصيل الأنواع الأربعة مبالغة في الرد عليه. أي: لم يقل تبارك وتعالى: قل: آلذكور حرم أم الإناث أم ما اشتملت عليه أرحام الإناث. بل فصل؛ لما في التسمية والتكرير من المبالغة في التسكيت والإلزام، ومبالغة في الرد عليهم بإنكار كل مادة من مواد افترائهم، فلم يذكرها الله سبحانه وتعالى مجملة، بل فصلها؛ لما علم من أن في ذلك تسكيتهم وتوبيخهم وإظهار كذبهم. ثم كرر الإفحام فقال عز وجل: (( أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا )) فقوله: (أم كنتم شهداء) يعني: حاضرين ( إذ وصاكم الله بهذا ) أي: حين وصاكم بتحريم بعض وتحليله؟! فهذا من التهكم، يعني: أنتم تزعمون أن الله حرم هذا، فهل شهدتم هذا؟! وهل كنتم حاضرين حينما شرع الله لكم ذلك كما تزعمون؟! وقوله: ( فمن أظلم ممن افترى على الله كذباً ) يعني: فنسب إليه تحريم ما لم يحرم. أي: أنه نسب إلى الله وزعم أن الله حرم ما لم يحرمه الله عز وجل ( ليضل الناس بغير علم ) يعني: بغير دليل. ثم ختم الله الآية بقوله: ( إن الله لا يهدي القوم الظالمين ). قال ابن كثير : أول من دخل في هذه الآية عمرو بن لحي بن قمعة؛ لأنه أول من غير دين الأنبياء، وأول من سيب السوائب، ووصل الوصيلة، وحمى الحامي، كما ثبت ذلك في الصحيح، والحديث أخرجه البخاري بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (رأيت عمرو بن عامر الخزاعي يجر قصبه في النار -يعني: أمعاءه-؛ كان أول من سيب السوائب)، أي أنه هو الذي سن هذه السنن السيئة، فعليه وزرها ووزر من عمل بها، والوصيلة هي الناقة البكر تبكر في أول نتاج الإبل، ثم تثني بعده بأنثى، وكانوا يسيبونها لطواغيتهم إن وصلت إحداهما بالأخرى وليس بينهما ذكر، والحامي: فحل الإبل يضرب الضراب المعدود، فإذا قضى ضرابه ودعوه، أي: تركوه للطواغيت، وعفوه من الحمل فلم يحملوا عليه شيئاً، وسموه الحامي، ولذلك قال أبو السعود في تفسير هذه الآية: ( إن الله لا يهدي القوم الظالمين ) المراد: كبراؤهم المقرون لذلك، أو: عمرو بن لحي ؛ لأنه هو المؤسس لهذا الشرع، أو الكل سواء عمرو بن لحي وكل من اقتدى به فيما زعم؛ لاشتراكهم في الافتراء على الله سبحانه وتعالى. قال السيوطي رحمه الله: دلت الآية على إباحة أكل لحوم الأنعام، وذلك معلوم من الدين بالضرورة، وكذلك الانتفاع بالركوب فيما يركب، والافتراش للأصواف والأوبار والجلود، وعلى رد ما كانت الجاهلية تحرمه بغير علم.
ثم أمر تعالى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد إلزام المشركي وتسكيتهم وبيان أن ما يتقولونه في أمر التحريم افتراء بحت بأن يبين لهم ما حرمه عليهم، فقال سبحانه: قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [الأنعام:145]. وقوله: (قل لا أجد فيما أوحي إلي محرماً) يعني: طعاماً محرماً. وهذا يفهم من قوله: (على طاعم يطعمه) يعني: قل: لا أجد فيما أوحي إلي طعاماً محرماً من المطاعم على طاعم يطعمه. أي: على آكل يأكله، سواء أكان ذكراً أم أنثى، رداً على قولهم: (محرم على أزواجنا) فهم كانوا يفرقون بين الرجال والنساء، فرد تعالى عليهم بقوله: (قل لا أجد فيما أوحي إلي محرماً). وقوله: ( على طاعم يطعمه ) لفظ (يطعمه) لزيادة التقرير، وقوله: ( إلا أن يكون ميتة ) أي: إلا أن يكون ذلك الطعام ميتة؛ لأن الموت سبب الفساد، فهو منجس بالموت، إلا أن يمنع من تأثير تنجيس الموت لهذه الأطعمة مانع، مثل ذكر الله سبحانه وتعالى، أو إسالة الدم؛ لأنها تطهر الميتة، أو كونه من الماء، كالسمك، فإنه ميتة، لكنه مباح، كما قال صلى الله عليه وسلم في البحر: (هو الطهور ماؤه، الحل ميتته)، فقوله تعالى: (إلا أن يكون ميتة).. لأن الميتة منجسة، إلا ما استثني من الميتة، وكلمة الموت عامة هنا، تشمل ما ذكي، وتشمل ما ذبح. أي: كأن الموت ينجس إلا أن يمنع من تأثير الموت بالتنجيس مانع، مثل ذكر اسم الله عليه، أو كونه من البحر أو من الماء؛ لأن البحر (هو الطهور ماؤه، الحل ميتته)، أو غيرهما. وقوله: (أو دماً مسفوحاً)، أي أن المحرم هو الميتة أو الدم المسفوح، والمسفوح هو السائل لا كبداً ولا طحالاً؛ لأنه وإن كان من الدم لكن ليس بسائل. وقوله: (أو لحم خنزير فإنه رجس) لأن الخنزير يتعود أكل النجاسات. وقوله: (أو فسقاً أهل لغير الله به) هذه الآية تفسير الآية في قوله تعالى: وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ [الأنعام:121]، فإنه يترجح تفسير قوله تعالى: (ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه) بأنه لا يؤكل مما ذكر عليه اسم غير الله؛ لأن هذا فسق وهذا فسق، فيستويان. فقوله: (( أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ )) أصل الفسق هو الخروج، والمقصود الخروج عن الدين، فقوله: (أو فسقاً) يعني: خروجاً عن الدين الذي هو كالحياة المطهرة، وقوله: (أهل لغير الله به) أي: ذبح على اسم الأصنام، ورفع الصوت على ذبحه باسم غير الله، وإنما سمي ما أهل به لغير الله فسقاً لتوغله في باب الفسق، ومنه قوله تعالى: وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ [الأنعام:121]، فالإنسان إذا أكل ميتة أو دماً مسفوحاً أو لحم خنزير فهذا كله أيضاً داخل في معاني الفسق والخروج عن طاعة الله وعن الشريعة، لكن هذه وصفها بالرجس، وخص ما أهل به لغير الله بوصف الفسق مع اشتراك كل ما مضى في وصف الفسق؛ لأن الذبيحة التي يذكر عليها غير اسم الله موغلة في الفسق؛ إذ إن ذلك من مظاهر الشرك. وقوله: فَمَنِ اضْطُرَّ أي: أصابته الضرورة الداعية إلى تناول شيء مما ذكر. وقوله: غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ [البقرة:173] يعني: غير باغٍ على مضطر مثله تارك لمواساته، فهذا من البغي، (ولا عادٍ) يعني: متجاوز قدر حاجته من تناوله؛ لأن الضرورة تبيح ما يسد الرمق، فلو أن الإنسان أشرف على الموت وأمامه ميتة إن لم يأكل هذه الميتة سيموت وسيهلك، فإنه يباح له الأكل، لكن هل يباح له الأكل حتى يشبع؟ الجواب: لا، وإنما يباح له ما يسد رمقه، أي: ما يحفظ عليه حياته، لكن لا يأكل ويتمادى في الأكل حتى يشبع ويقول: قد أبيحت لي، وإنما يباح له من الضرورة ما يدفع الحاجة أو الضرورة التي أحلت له هذا الحرام؛ فلذلك قال تعالى: (ولا عادٍ) يعني: غير متجاوز حد الضرورة في تناول هذا المحرم، لكن يقتصر على قدر حاجته التي تحفظ عليه الحياة حتى لا يموت، ولا يتمادى في الأكل؛ فإن الضرورة تقدر بقدرها. وقوله: (غير باغٍ) أي: غير باغٍ على شخص آخر، فقد يكون الاثنان مضطرين، فيعتدي الباغي على المضطر الآخر ويأكل -مثلاً- ما معه من الطعام الذي سينقذ به روحه، أو يكون معه طعام ثم يبغي على جاره المضطر أيضاً بأن يمنعه من المواساة ولا يواسيه فيما معه. فقوله: (فمن اضطر) أي: أرغمته الضرورة الداعية إلى تناول شيء مما ذكر، (غير باغٍ) أي: على مضطر مثله تارك لمواساته، (ولا عادٍ) أي: متجاوز قدر حاجته من تناوله، (( فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ )) يعني: لا يؤاخذه، وقد تقدم تفسير هذه الآية في سورة البقرة والمائدة بما فيه الكفاية. قال ابن كثير رحمه الله تعالى: الغرض من سياق هذه الآية الكريمة الرد على المشركين الذين ابتدعوا ما ابتدعوه من تحريم البحيرة والسائبة والوصيلة والحام ونحو ذلك، فأمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم أن يخبرهم أنه لا يجد فيما أوحاه إليه أن ذلك محرم: قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ... إلى آخره، فإن الذي حرمه الله سبحانه وتعالى بالوحي هو الميتة والدم المسفوح ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به، وما عدا ذلك فلم يحرم، وإنما هو عفو مسكوت عنه، فكيف تزعمون أنه حرام؟! أي: أنتم تقولون بتحريم السائبة والوصيلة والحام وغير ذلك من عند أنفسكم، فإذا كنتم تزعمون ذلك فإني رجعت إلى الوحي الذي أنزله الله علي فلم أجد فيما أوحي إلي محرماً مما تذكرون إلا ما وجدت فيه من تحريم كذا وكذا وكذا مما ذكر الآن، فكيف تزعمون أنه حرام؟! ومن أين حرمتموه ولم يحرمه الله تعالى؟! وهذا لا ينفي تحريم أشياء أخر بعد ذلك، أي: في هذا الوقت لم يكن قد حرم في الوحي غير هذه الأشياء، فهل معنى ذلك أن نأخذ بظاهر هذه الآية الكريمة ونقول: إنه لا يحرم أبداً من المطاعم إلا ما ذكر في هذه الآية؟ الجواب: لا؛ لأنه ثبتت نصوص -سواء في القرآن أو في السنة- بتحريم أشياء أخر غير الأشياء المذكورة في هذه الآية بعد ذلك، كما جاء النهي عن لحوم الحمر الأهلية، ولحم كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير، فهذه حرمت وهي غير مذكورة في الآية، فمعنى ذلك أنها لم تكن حرمت في ذلك الوقت، لكن بعد ذلك جاءت النصوص بتحريمها، فلا تعارض. وبالجملة فالآية تدل على أنه صلى الله عليه وسلم لم يجد فيما أوحي إليه إلى تلك الغاية غيرها، فقوله: (( قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ )) أي: في ذلك، الوقت الذي كان يخاطبهم فيه فالوحي كان يشتمل على تلك المحرمات إلى تلك الغاية في ذلك الوقت الذي كان القرآن يحاور المشركين في هذه القضية، ففي ذلك الوقت لم يكن حرم إلا هذه الأشياء، فهل يتعارض هذا مع ما حرم بعد ذلك؟ الجواب: لا، بل هو مقيد بغاية زمنية معينة، ولا يمنع أن يأتي تحريم بعد ذلك في شيء آخر، كما قال تعالى في سورة المائدة: وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالأَزْلامِ [المائدة:3] وذلك لأن سورة الأنعام مكية، وسورة المائدة مدنية، فما عدا ما ذكر تحريمه فيها مما حرم -أيضاً- هو طارئ، فالمحرمات غير المنصوص عليها في هذه الآية تحريمها طارئ نزل بعد ذلك، لكن في وقت نزول هذه الآية لم يكن حرم إلا ما وجده الرسول في الوحي. وقيل: إذا حرم غير ما ذكر كان نسخاً لما اقتضته هذه الآية من تحريم. أي: أن بعض العلماء قالوا: إن معنى ذلك أنكم تقولون بالنسخ؛ لأن المنخنقة والموقوذة والمتردية طبقاً لهذه الآية التي في سورة الأنعام كانت مباحة؛ لأنها لم تكن حرمت، فمعنى ذلك أنه حينما نزل التحريم نسخ هذه الإباحة. وجوابه أن ذلك زيادة تحريم، وليس بنسخ لما في الآية؛ لأن الآية نصت على أنواع محددة، وهذه الأنواع بقي حكمها كما هو؛ لأنه لم ينته هذا الحكم حتى يسمى نسخاً، وإنما حصلت زيادة في التحريم، وليس هذا بنسخ لما في الآية. فإذاً: يصح تحريم كل ذي ناب من السبع ومخلب من الطير، ومن الناس من يسمي هذا نسخاً بمعنى أن النسخ يأتي بمعنى التوضيح، والتفصيل بعد الإجمال، ورفع إشكال بعد الإيهام، فهذا كله يطلق عليه نسخ، فالسلف يستعملون اصطلاح النسخ بمرادات كثيرة، وليس بالمعنى الأصولي الذي هو الإزالة ورفع الحكم تماماً. واحتج بهذه الآية كثير من السلف في إباحة ما عدا المذكور فيها، فمن ذلك الحمر الأهلية، فقد أخرج البخاري عن عمرو بن دينار قال: قلت لـجابر بن يزيد : يزعمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الحمر الأهلية! فقال: قد كان يقول ذلك الحكم بن عمرو الغفاري عندنا بالبصرة، ولكن أبى ذلك البحر -أي: ابن عباس - وقرأ: (( قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ )) إلى آخره، يعني: ليس في الآية الحمر الأهلية. وأخرج أبو داود عن ابن عمر أنه سئل عن أكل القنفذ فقرأ: (قل لا أجد فيما أوحي إلي محرماً على طاعم يطعمه) وهذا الحديث ضعيف. ونحن قلنا: إن هذا التحريم هو إلى غاية نزول قوله تعالى: (قل لا أجد فيما أوحي إلي محرماً) أي: حتى الآن، والوحي كان ما يزال ينزل، فيحتمل أن يحصل تحريم بعد ذلك، فلا ينبغي الاستدلال بها على تعميم إباحة كل ما عدا ما ذكر في هذه الآية. وأخرج ابن أبي حاتم وغيره بسند صحيح عن عائشة أنها كانت إذا سئلت عن كل ذي
ثم بين تعالى أنه حرم على اليهود أشياء أخرى غير هذه الأربعة تحقيقاً لافتراء المشركين فيما حرموه إذ لم يوافق شيئاً مما أنزله الله تعالى، يعني: ما حرمتموه لا الوحي الذي عندي حرمه، ولا الوحي عن الأنبياء السابقين حرمه، وذكر اليهود فقال سبحانه وتعالى: وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ [الأنعام:146]. قوله: (وعلى الذين هادوا) يعني: على اليهود خاصة (حرمنا كل ذي ظفر) قال سعيد بن جبير: هو الذي ليس منفرج الأصابع. يعني: لا توجد له أصابع متميزة، لكن تكون أظفاره متميزة، كالجمل والوبر والأرنب، فإنها من ذوات الأظفار غير المشقوقة، أي: غير منفرجة، وأما ذو الظفر المشقوق -وهو البهائم- فلم يحرم عليهم، فقوله: ( وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر ) يعني: الذي ليس منفرج الأصابع. وقوله: (ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما) يعني: لا لحومهما. ففي البقر والغنم بالذات كان يحرم على اليهود أن يأكلوا شحوم البقر والغنم، لكن اللحوم كانت حلالاً لهم. وقوله: (إلا ما حملت ظهورهما) أي: ما علق في الظهر من الشحوم، فما كان من الشحوم على الظهر فهو حلال، وما عدا ذلك من الشحوم في البقر والغنم فقد كان حراماً على اليهود. وقوله: ( أو الحوايا ) يعني: الأمعاء والمصارين؛ لأن الأمعاء والمصارين تختلط بها الشحوم، فالمقصود أن الشحوم التي تختلط بالأمعاء كانت حلالاً لهم. وقوله: (أو ما اختلط بعظم) يعني: كالمخ والعصب. وقوله: (ذلك) يعني تحريم تلك الأطايب عليهم (جزيناهم ببغيهم) يعني: بسبب ظلمهم، وهو قتلهم الأنبياء بغير الحق، فكانوا يعاقبون بهذه التشريعات التي فيها تشديد عليهم، وكان الله يشدد عليهم -لعنهم الله- لما كانوا يرتكبون من الجرائم. وقوله: (ذلك جزيناهم ببغيهم) هذا كما قال تبارك وتعالى في سورة النساء: فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا * وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا [النساء:160-161]، فالباء هنا سببية، يعني: بسبب ظلمهم وبغيهم وهذه الجرائم التي ارتكبوها عوقبوا بالتغليظ عليهم في شريعتهم وبهذه الأغلال وهذه الآصار، أما هذه الأمة المرحومة فرفعت عنها هذه الأغلال وهذه الآصار. قال المهايمي : أي: ولم يكن لغيرهم ذلك البغي، فلا وجه لتحريمها عليهم مع كونها قائمة في أنفسهم. يعني: لأنهم بغوا حرمت عليهم، أما الذين لم يبغوا فلم تحرم عليهم هذه الطيبات. وقوله: (وإنا لصادقون) يعني: إنا لصادقون في كل ما نخبر به من الأخبار التي من جملتها هذا الخبر، وهذا الخبر هو تخصيص التحريم بسبب بغيهم، فالله سبحانه وتعالى حرم عليهم هذه الأشياء عقاباً لهم على بغيهم، لا كما زعموا بأن إسرائيل هو الذي حرمها على نفسه، وقد ألقمهم الله سبحانه وتعالى الحجر في قوله تعالى: كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [آل عمران:93].
قال تعالى: فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ [الأنعام:147]. قوله: (فإن كذبوك) الضمير إما لليهود؛ لأنهم أقرب ذكراً، وإما للمشركين، والأقرب أن الضمير في قوله: (فإن كذبوك) عائد على اليهود؛ لأنه جاء مباشرة بعد قوله: وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ [الأنعام:146]. فقوله: (فإن كذبوك) يعني: اليهود، والذي يؤيد ذلك أنه لما أراد أن يتكلم عن المشركين في الآية الثانية قال: (( سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا ))، فوصفهم بوصف الإشراك، فالضمير هنا إما لليهود، وهذا الأقرب، وإما للمشركين، وإما للفريقين معاً، يعني: فإن كذبتك اليهود وزعموا أن تحريم الله لا ينسخ، وأصروا على ادعاء قدم التحريم، أو كذبك المشركون فيما فصل من أحكام التحليل والتحريم، أو هما فقل: إن الله يمهلكم على التكذيب، فلا تغتروا بإمهاله، فإنه لا يهمل، فهذا معنى قوله: (( فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ )) ومن رحمته الواسعة أنه يمهلكم رغم أنكم تكذبونه وتفترون عليه الكذب، لكن لا تغتروا بهذه الرحمة الواسعة؛ فإنه لا يهمل، فقوله: (فإن كذبوك فقل ربكم ذو رحمة واسعة) أي: سيمهلكم ويعطيكم مهله، لكن (( وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ ))، يعني أنه مع رحمته وحلمه ذو بأس شديد، وفيه ترغيب في ابتغاء رحمة الله الواسعة، باتباع رضوانه، وترهيب من المخالفة.
قال تعالى: سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ [الأنعام:148]. ليعلم أن المشركين لما لزمتهم الحجة ببطلان ما كانوا عليه من الشرك بالله وتحريم ما لم يحرمه الله أخبر تعالى عنهم بما سيقولون له من شبهة يتشبثون بها لشركهم وتحريم ما حرموا، فهنا أخبر الله سبحانه وتعالى مقدماً قبل أن يقولوا، أنهم سيقولون ذلك، فهذا من التسليح بالحجج قبل أن تقع مثل هذه المجادلة، فإنهم وقد ألقموا الحجر وقد أبطلت مزاعمهم في كل الآيات السابقة فزعوا إلى حيلة أخرى، أو إلى أسلوب آخر يتنكرون به مما فعلوه من الإشراك، فلما لزمتهم الحجة وبطل ما كانوا عليه من الشرك وتحريم ما لم يحرمه الله أخبر تعالى أنهم بما سيقولونه من شبهة يتشبثون بها لشركهم وتحريم ما حرموا، وفائدة الإخبار بما سوف يقولون له توطين النفس على الجواب، ومكافحتهم بالرد، وإعداد الحجة قبل أوانها، وهذه آخر حيلة عند المشركين. فقوله: (( سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا )) أي: كل شيء بقدر الله، وكل شيء بمشيئة الله، فنحن نشرك، وشركنا هو بإرادة الله. فأبطل القرآن الكريم شركهم، وأبطل تحريمهم ما أحل الله، فقوله: (سيقول الذين أشركوا) يعني مشركي قريش والعرب ( لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء )، أي أنهم فزعوا إلى الاحتجاج بالقدر، وقالوا: لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا، ولو شاء الله ما حرمنا ما حرمناه أو ما حرمه آباؤنا من البحائر والسوائب والوصيلة والحامي وغير ذلك. وقوله: ( كذلك كذب الذين من قبلهم حتى ذاقوا بأسنا ) يعني أنهم ظلوا يقولون ذلك حتى نزل عليهم عذاب الله. وقوله: ( قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا ) أي: هل عندكم أمر معلوم يصح الاحتجاج به فيما قلتم فتظهروه لنا؟ وقوله: ( إن تتبعون إلا الظن ) أي: فيما أنتم عليه من الشرك وتحريم ما حرمتم، ( وإن أنتم إلا تخرصون ) أي: تكذبون.
قال تعالى: قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ [الأنعام:149]. قوله: (الحجة البالغة) أي: البينة الواضحة التي بلغت غاية المتانة والقوة على الإثبات، ومنه قولك: أيمان بالغة، أي: أيمان مؤكدة، أو البالغة هي: التي بلغ بها صاحبها صحة دعواه، فتكون من باب (عيشة راضية)، أي: مرضية. وقوله: (فلو شاء لهداكم أجمعين)، ولكنه لم يشأ ذلك، ولم يشأ أن يهديكم، وإنما هدى غيركم، فشاء هداية بعض؛ فصرف اختيارهم إلى سلوك طريق الحق، وشاء ضلالة آخرين، فصرف قلوبهم إلى خلاف ذلك، من غير صارف يلويهم ولا عاطف يثنيهم، فوقع ذلك على الوجه الذي شاء، وهذه الآية في مشركي العرب، حيث قالوا ذلك حين لزمتهم المناقضة، وانقطع حجاجهم في تحريم ما حرموا من الأشياء وأضافوا ذلك إلى الله، فلما لزمتهم المناقضة وانقطع حجاجهم فزعوا إلى هذا القول (لو شاء الله ما أشركنا)، وقصدهم الاعتذار عن كل ما يقدمون عليه من الإشراك وتحريم الحلال، فهم يقولون: إن الله سبحانه وتعالى لم يشأ الترك، وشاء الفعل، ففعلنا طوع مشيئته، وهو لا يشاء إلا الحق؛ لأنه خالق، فلو لم يكن حقاً يرضاه لمنعنا منه، وهو لم يمنعنا منه، فهو حق. وفي حكاية هذه المناظرة والمجادلة بيان لنوع من كفرهم شنيع جداً. وقضية الاحتجاج بالقدر لها تفصيل واسع في بحثنا (القضاء والقدر)، والقاسمي، وقد عقد فصلاً كبيراً جداً في بيان هذا الأمر، فمن شاء فليراجعه في تفسير القاسمي ، أو يراجع كتاب (القضاء والقدر) للدكتور عمر الأشقر. ونقول هنا باختصار شديد: إن القدر لا يصلح حجة، فهذا الكلام الذي قالوه صحيح، لكن ما قالوه من أجل الإقرار بالقدر، وإنما قالوه من أجل الاحتجاج بالقدر، فالقدر نحن نؤمن به، لكن لا نحتج به، فيجب عليك أن تؤمن بالقدر، وأن كل شيء بمشيئة الله، وكل شيء يقع في الكون بإرادة الله عز وجل، لكن لا يجوز لك أن تحتج بالقدر على المعاصي، وإلا فلو كان القدر حجة لكان حجة لكل أحد، فمثلاً: الشخص الذي يسرق مالك ويقول لك: أنا سرقت بقضاء الله وقدره هو صادق في إثبات القدر، فكل شيء يجري بمشيئة الله، لكنه ضال في الاحتجاج بالقدر على مخالفة الشرع؛ لأن الله حرم عليه السرقة ونهاه عنها، فلو كان القدر يصلح حجة له فيما فعل فهو حجة لك أنت أيضاً إذا ضربته، فاضربه وقل: وأنا أضربك -أيضاً- بقضاء الله وقدره. ولذلك روي عن عمر أنه لما أراد أن يقطع يد سارق، قال له: سرقت بقضاء الله وقدره، فقال: (وأنا أقطع يدك بقضاء الله وقدره). فإذاً: القدر لو كان حجة لأحد لكان حجة لكل الناس، فغالب الناس الذين يحتجون بالقدر يحتجون بالقدر في صفهم فقط. فهذه الآية تكرر مجيئها في التنزيل الكريم في عدة سور، وهي من الآيات الجديرة بالتدبر لتمحيص الحق في المراد منها، فقد زعم المعتزلة أن فيها دلالة واضحة لمذهبهم من أن الله لا يشاء المعاصي والكفر، ومعلوم أن من عقيدة الفرقة الناجية: الإيمان بأن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وأنه ما في السموات والأرض من حركة ولا سكون إلا بمشيئة الله سبحانه وتعالى، لا يكون في ملكه إلا ما يريد، وهو خالق لأفعال العباد، وخالف في ذلك عامة القدرية الذين سماهم النبي صلى الله عليه وسلم مجوس هذه الأمة، لأنهم يقولون بخالقين، فقالوا: لا إرادة إلا بمعنى المشيئة، وهو سبحانه لم يرد إلا ما أمر به، ولم يخلق شيئاً من أفعال العباد. فعندهم أن أكثر ما يقع من أفعال العباد على خلاف إرادته تعالى، ولما كان قولهم هذا في غاية الشناعة تبرأ منهم الصحابة، وأصل بدعتهم -كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية - كانت من عجز عقولهم عن الإيمان بقدر الله والإيمان بأمره ونهيه.
ثم قال تبارك وتعالى: قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ [الأنعام:150]. قوله: (قل هلم شهداءكم) يعني: أحضروا شهداءكم، وقوله: (( الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا )) يعني: يشهدون على ما تقولون وما تزعمون تحريمه من الأنعام والحرث، والمراد بشهدائهم قدواتهم الذين ينصرون قولهم. وإنما أمروا باستحضارهم لتلزمهم الحجة، ويظهر انقطاعهم وضلالتهم، وأنه لا متمسك لمن يقلدهم، فيحق الحق ويبطل الباطل. وقوله: (فإن شهدوا) يعني: حتى لو حضر رؤساؤهم وقدواتهم وأتوا وشهدوا أن الله حرم هذا (فلا تشهد معهم) ولا تصدقهم ولا تسلم لهم ما شهدوا به؛ لما علمت من افترائهم على الله، ومشيهم مع أهوائهم. وقوله: (( وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ )) وضع المظهر موضع المضمر، أي: قال: (ولا تتبع أهواء الذين كذبوا بآياتنا) بدل أن يقول: ولا تتبع أهواءهم، وإنما وصفهم بأنهم (كذبوا بآياتنا) للدلالة على أن من كذب بآيات الله وعدل به غيره -أي: سوى به الأصنام- فهو متبع للهوى لا غير؛ لأنه لو اتبع الدليل لم يكن إلا مصدقاً بالآيات موحداً لله تعالى.
استمع المزيد من الشيخ الدكتور محمد إسماعيل المقدم - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
تفسير سورة التوبة [107-110] | 2819 استماع |
تفسير سورة المدثر [31-56] | 2621 استماع |
تفسير سورة البقرة [243-252] | 2584 استماع |
تفسير سورة البلد | 2567 استماع |
تفسير سورة الطور [34-49] | 2564 استماع |
تفسير سورة التوبة [7-28] | 2562 استماع |
تفسير سورة الفتح [3-6] | 2504 استماع |
تفسير سورة المائدة [109-118] | 2439 استماع |
تفسير سورة الجمعة [6-11] | 2412 استماع |
تفسير سورة آل عمران [42-51] | 2404 استماع |