أرشيف المقالات

الحصانة الشرعية ودورها في تشكيل الشَّخصيَّة الإسلاميَّة

مدة قراءة المادة : 59 دقائق .

يعيش المسلمون في زمن انفتحت فيه الدنيا على مصراعيها، فقد تعدَّت مقولة العيش في قرية واحدة مرحلتها، وصرنا في حقيقة الأمر نعيش في عالم يجتمع في غرفة واحدة، فالقنوات الفضائية دخلت البيوت، والمواقع الإلكترونية استقطبتها أروقة الدور والعمل، فصار المرء يتلقَّى آراء عديدة، وتوجهات متغايرة، تجعله يتابعها وهو في غرفته ليل نهار! وفي خِضَمِّ هذه التحديات، والاختلافات البينيَّة يجدر بالمسلم، أن تكون لديه رؤية ناضجة في كيفية التعامل مع هذه التحديات، فإنَّ فيها الحق والباطل، ومواجهتنا لهذه التحديات الثقافية تتطلَّبُ منَّا قوَّة عقدية، وركائز ثابتة، تأخذنا لبرِّ الأمان، وشاطئ النجاة.
وليس من شكٍّ أنَّ الله تعالى قد منَّ علينا بنعمة عظيمة، وهي: نعمة العقل، والتي يُعرف من خلالها -في كثير من المسائل- الخير من الشر، والهدى من الضلالة، والصواب من الخطأ، بيد أنَّ الإنسان إذا استقلَّ بها وأعرض عن الوحي، فسيرتكب ما تهواه النفس، ولذا نزلت الشريعة الإلهية على عباد اللَّه، لتميِّز للناس ما يفيدهم ويضبط عقولهم، فتتوازن الحياة، وتنضبط المسيرة، والعقل على شرف منزلته لن يستقلَّ بالهداية إلاَّ باتِّباعه لشريعة الإسلام، وشريعة الإسلام لن تتبين مراداتها إلّا بواسطة العقل، فكلا الأمرين يحتاج أحدهما الآخر، ولن يعارض العقل الصحيح النقل الصريح أبداً كما بيَّنه علماء الإسلام.

* التعريف بـ: (الحصانة الشرعية):
من أهمِّ القضايا العلميَّة في دين الإسلام معرفة حقائق الأشياء وتعريفاتها، لتكون الصورة واضحة في الذهن، جليَّة في الفكر: "إذ المرء ما لم يحط علماً بحقائق الأشياء التي يحتاج إليها يبقى في قلبه حسكة" كما يقول ابن تيمية (1).

ومن خلال تأمُّل فكري لاستخراج تعريف لهذا المفهوم: (الحصانة الشرعية) وتبيين المقصود منه، أرى أنَّه: (البناء العقدي المتين من خلال الفهم الناضج لمنهاج الله كتاباً وسنَّة، ووقاية الفكر والعقل عن كلِّ ما يخلُّ بهما من الآراء الفاسدة، المخالفة لمنهج أهل السنَّة والجماعة في التلقي والاستدلال) فالحصانة الشرعيَّة مشابهة لجهاز مناعة واقٍ من أن يتسرَّب إليه شيء من الخلل والعطب، فيفسده ويخلُّ به.

وهكذا المسلم، فإنَّه محتاج لما يحوط عقيدته ويرعاها حقَّ رعايتها من أن تتلقَّى شيئاً من شبه أهل الضلال، فيقع في قلبه شيء من الانخداع بها، فيزيغ قلبه -عياذاً بالله من ذلك- فيهلك مع الهالكين.
ومنذ خروج المرء من بطن أمِّه، فليس في ذهنه رصيد معرفي، ولا خبرة عملية، كما قال الله تعالى: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ} [النحل: 72].
فالمرء المسلم ما دام أنَّه سيبدأ بالتلقي والاتصال مع بني الإنسان، فسيجد اختلافات في الآراء، وتباينات في المناهج، وكلٌّ يدَّعي الحق والصواب، فما موقفه إذن من هذه التضاربات الفكرية؟ وكيف يستطيع أن يميِّز بين الصواب والخطأ؟ هناك خطوات لتحقيق ذلك، وستَتَجلَّى في هذه الورقة بإذن الله.

* ضرورة تلقي العلم من منابعه الأصيلة:
ليس من شك في أنَّ الإنسان المسلم إذا لم يتلقَّ العلم من منابعه الأصيلة، وروافده الصحيحة، أخذاً من الكتاب والسنة على هدي السلف الصالح، فإنَّه سيخبط خبط عشواء ويتلقَّى العلم من جهات لا يعلم توجُّهاتها العقدية، ولا أصولها الشرعية، ويقع في عدة مزالق يتباين حجم خطئها وضلالها، ولهذا كان علماؤنا السابقون يوصون بتلقي العلم ممَّن صدقوا الله في تعلمهم وتعليمهم، ولاحت قوة حججهم أمام خصومهم، وفي المقابل يحذِّرون طلابهم من أهل الزيغ والهوى، لئلا يقعوا فيما وقع فيه أولئك المبتدعة.

فكان الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود -رضي اللَّه عنه- يقول: "لا يزال النَّاس بخير ما أخذوا العلم عن الأكابر، وعن أمنائهم وعلمائهم، فإذا أخذوا من صغارهم وشرارهم هلكوا".
قال ابن المبارك -رحمه اللَّه- في تفسير(الأصاغر): "يعني أهل البدع" (2).
وهذا الإمام عبد الله بن المبارك -رحمه الله- يوصي طالب العلم قائلاً له: أيها الطالب علماً ائت حمَّاد بن زيد
فاكتسب علماً وحلماً ثمَّ قيِّده بقيد
ودع الفتنة من آثار عمرو بن عبيد(3)

وممَّن نبَّه على ذلك الإمام الغزالي -رحمه الله- حيث ألمح للمسلم الذي يريد أن يكون ذا عقليَّة واعية بأنَّه لا بد أن يعمل على حصانة عقليته من الانحرافات الفكرية، وخصوصاً إن كان في منطقة يكثر بها أهل البدع والهوى، فقال: "فإن كان في بلد شاع فيه الكلام وتناطق الناس بالبدع فينبغي أن يصان في أول بلوغه عنها بتلقين الحق، فإنه لو أُلقي إليه الباطل لوجبت إزالته عن قلبه وربما عسر ذلك، كما أنه لو كان هذا المسلم تاجراً وقد شاع في البلد معاملة الربا وجب عليه تعلم الحذر من الربا" (4).

وحين يفتش المراقب ضلال من ضلَّ وحادَ عن طريق الهدى وعلائم الحق، فسيجد أنَّ من أسباب ذلك ضعف الحصانة الشرعية، ممَّا يؤدِّي لولوج المشتبهات في فكره وعقله، وقد نبَّه على ذلك الإمام ابن بطَّة العكبري فقال: "اعلموا إخواني أني فكرت في السبب الذي أخرج أقواماً من السنة والجماعة واضطرهم إلى البدعة والشناعة، وفتح باب البلية على أفئدتهم وحجب نور الحق عن بصيرتهم فوجدت ذلك من وجهين: أحدهما: البحث والتنقير وكثرة السؤال عما لا ينبغي، ولا يضر العاقل جهله، ولا ينفع المؤمن فهمه.
والآخر: مجالسة من لا تؤمن فتنته، وتفسد القلوب صحبته" (5).

وقد يتساءل بعض المستشكلين عن علَّة الاهتمام والتَّشبُّث تجاه مصادر التلقي، والسبب في ذلك، لئلاَّ تختلط المناهج في الذهن، وتتضارب التصورات، فتكون النتيجة المنطبعة بعد ذلك في العقل الإسلامي منهجاً غوغائياً لا تلزمه ضوابط، ولا تحكمه قيود، فالمطلوب لمن أراد الهداية والتثبيت على سلَّم الشريعة، ليدفع بها الأهواء، ومكائد أهل الضلال، أن يكون معتنياً بحماية عقله، بسياج الشريعة الإسلاميَّة وأصولها، والتي تكوِّن له ثوابت عقدية تحميه -بعون الله- من سريان الأفكار المضلِّلَة إلى منهجه، من أهل الأهواء والعصرنة والعلمنة.

أمَّا أن يظنَّ العبد بنفسه حين قرأ شيئاً في عقيدة أهل السنة والجماعة أنَّه صار مدركاً لها بالكليَّة، أو مفكِّراً ألمعياً، ثمَّ يطالع كتب أولي الأهواء والبدع، ويشاهد بعض البرامج الدينية أو الفكرية في بعض القنوات الفضائية، بحجَّة الاستنارة وعدم التعصُّب الفكري، أو بغية العثور على فكرة ضالة، فيبدأ مشاهداً ومطالعاً متوجساً من كلام المتحدث، وما أن تمضي عدَّة شهور أو سنوات، حتَّى يدمن ذاك الذي ظنَّ أنَّه قد أحاط علماً بأصول الإسلام، على مشاهدة الفضائيات وملاحقة الصحف والمنتديات الثقافية.

فتبدأ الشبهات تقع في ذهنه، لقلَّة علمه، بل قد يأتي بعضهم لأهل العلم في مجالس خاصة أو عامة يحدثونهم سراً أو علانية، بأنَّ في ذلك البرنامج الفلاني، أو الصحيفة الفلانيَّة، ذكر الكاتب كذا، وأقام الأدلة على حديثه، فهل كلامه صواب؟ وكيف نرد عليه؟! والحقُّ أنَّ هؤلاء أحسنهم، وإلاَّ فقد ينخدع هؤلاء ببعض أهل الهوى ممَّن أوتوا فصاحة وبياناً بل علماً، فتختلط المعايير لديهم، ويضطربون فكرياً، ثمَّ يلتفتون مرَّة أخرى إلى منهجهم الذي ساروا عليه سنوات فيدَّعون أهمِّية نقضه ونسفه، ومعاودة النظر في كلام علمائه بحجَّة أنَّهم رجال وعلماء السلف رجال، لأنَّه لم يقم على الأصول العلمية الصحيحة!

صدق عمر بن عبد العزيز -رضي الله عنه- القائل: "من جعل دينه غرضاً للخصومات أكثر التنقل" (6).

* الحذر من مخالفة منهج أهل السنَّة والجماعة:
من يتابع مسيرة سلفنا الصالح -رضوان الله عليهم- يجدهم يتحاشون الاستماع لأهل البدع والهوى، أو محادثتهم، أو مجالستهم، وفي هذا يقول سفيان الثوري: "من أصغى بسمعه إلى صاحب بدعة، وهو يعلم، خرج من عصمة الله ووكل إلى نفسه" وقال كذلك: "من سمع بدعة فلا يحكها لجلسائه، لا يلقها في قلوبهم".
علَّق الإمام الذهبي على مقولة الإمام سفيان الثوري بقوله: "أكثر الأئمة على هذا التحذير يرون أن القلوب ضعيفة والشُّبه خطَّافة" (7).
وقد أحسن من قال:
  لا تستمع إلاَّ لـقـول صـادق *** يغنيك عن خطل من الأقوال.
فالأذن نافذة العلوم وخيرها *** أذنٌ وعت ذكراً تلاه التالي


يُقال ذلك لحفظ عقول المسلمين، والاحتياط لدينهم من سماع كلام أهل الضلال، استدلالاً بقوله تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [الأنعام: 68].
وقوله تعالى: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} [النساء: 140].

ومن الأدلَّة على ذلك قوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «وإنَّه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافاً كثيراً فعليكم بسنَّتي وسنَّة الخلفاء الراشدين المهديِّين، تمسَّكوا بها وعضُّوا عليها بالنواجذ وإيَّاكم ومحدثات الأمور، فإنَّ كلَّ محدثة بدعة وكلُّ بدعة ضلالة» (8).
فإنَّه صلَّى الله عليه وسلَّم حذَّرنا من محدثات الأمور، ودعانا إلى اجتنابها.

ومن الأدلة كذلك ما رواه عمران بن حصين عنه عليه الصلاة والسلام أنَّه قال: «من سمع بالدجَّال فلينأ عنه، من سمع بالدجَّال فلينأ عنه، من سمع بالدجَّال فلينأ عنه، فإنَّ الرجل يأتيه وهو يحسب أنَّه مؤمن، فما يزال به بما معه من الشبه حتَّى يتَّبعه» (9).
بل إنَّ المصطفى عليه الصلاة والسلام حين أتاه عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- بكتاب أصابه من بعض أهل الكتاب فقرأه عليه، غضب عليه الصلاة والسلام وقال: «أوفيَّ شكٌّ يا ابن الخطَّاب؟! لقد جئتكم بها بيضاء نقيَّة، لا تسألوهم عن شيء فيخبرونكم بحق فتكذبوا به، أو بباطل فتصدقوا به.
والذي نفسي بيده، لو أنَّ موسى كان حيَّاً ما وسعه إلاَّ أن يتبعني» (10).

كان ذلك منه عليه الصلاة والسلام تربية لأصحابه على أن يكون الينبوع الذي يتلقون منه واحداً عذباً نقيَّاً: (يسقى بماء واحد) ليفارقوا أهل الضلالة ويستقوا المنهج من غيرهم، لأنَّ مفارقتهم منهج لأهل السنة والجماعة، وليست من إنشاءات بعض المتشدِّدين كما يزعمه بعضهم، ويكفينا أنَّه سبحانه وتعالى يقول في محكم التنزيل لمن يطلب النظر في غير كتاب بدعوى عدم الحجر الفكري: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ} [العنكبوت: 51].

وأمَّا ما يدَّعيه بعضهم من أولي التوجهات الحديثة العصريَّة: "بأنَّ ذلك التحفظ من باب الحجر على الأفكار، والاسترقاق الفكري، والإرهاب الثقافي تجاه الناس" وأنَّه لا بأس بأن يستمع من شاء إلى من يشاء، سواء أكان سنِّيَّ المنهج أو نقيضه، بلا توجيه أو رعاية أو تربية وعناية، بزعم أنَّ الحق أبلج ناصع، ومن خلال نصاعة الحق سيتبين للناس أنَّه حق ويأخذون به، لأنَّ الله يقول: {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ} [الرعد: 17].
ويقولون: "إنَّه ليس من إشكال أن يقلِّب المرء بصره في كلام الناس، ويستمع لجدال المجادلين، ثمَّ يرى من كان كلامه حقاً فيأخذ به.

فالجواب عن ذلك: بأنَّ هذا الطرح متولد من العقلية الغالية في تحكيم النصوص، والتي تزايد في إعطاء العقل ما لا يقدر عليه، ولم يُبْنَ على الأصول الشرعية، وإلَّا فإنَّ هدي رسول الهدى صلَّى الله عليه وسلَّم، والصحابة والتابعين ممن بعده يقوم على تحصين الأفكار، وصيانة العقول من الاستماع لكلِّ من هبَّ ودبَّ، وعلى هذا قام منهج أهل السنَّة والجماعة.

ورحم الله عمر بن عبد العزيز، حين قال: "سنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وولاة الأمر بعده سنناً، الأخذ بها تصديق لكتاب الله، واستكمال لطاعته، وقوَّة على دين الله، ليس لأحد تغييرها ولا تبديلها، ولا النظر في رأي من خالفها، فمن اقتدى بما سنُّوا فقد اهتدى، ومن استبصر بها بصر، ومن خالفها واتَّبع غير سبيل المؤمنين ولاَّه الله ما تولى وأصلاه جهنَّم وساءت مصيراً" (11).
وحين جاء رجل للإمام الأوزاعي -رحمه الله- فقال: "أنا أجالس أهل السنَّة، وأجالس أهل البدع".
قال الأوزاعي: "هذا رجل يريد أن يساوي بين الحقِّ والباطل" (12).

وكم أعجبتني فتوى الشيخ العلاَّمة السيد محمد رشيد رضا -رحمه الله- حين سئل: "ما هو حكم الله فيمن يطالع الكتب السماوية الأخرى مثل التوراة، بقصد الإحاطة خبرًا بما جاء في غير شريعتنا وهل كان النهي عن قراءتها عامًّا، وإذا سلمنا ذلك تكون الشعوب غير الإسلامية متميزة على المسلمين بعدم منع أنفسهم إجالة النظر في القرآن، فيستفيدون مما جاء فيه من الآيات البينات، ويحتجّون به علينا، ونحن لا نقدر أن نقابلهم بالمثل، لأن كتبهم مغلقة في وجوهنا" أفيدونا بما علمكم الله؟

فأجاب فضيلته: "بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
الأمور بمقاصدها، فمن يطالع كتب الملل بقصد الاستعانة على تأييد الحق وردّ شبهات المعترضين ونحوه وهو مستعد لذلك، فهو عابد لله تعالى بهذه المطالعة، وإذا احتيج إلى ذلك، كان فرضًا لازمًا، وما زال علماء الإسلام في القديم والحديث يطلعون على كتب الملل ومقالاتهم، ويردّون بما يستخرجونه منها من الدلائل الإلزامية، وناهيك بمثل ابن حزم وابن تيمية في الغابرين، وبرحمة الله الهندي صاحب إظهار الحق في المتأخرين، أرأيت لو لم يقرأ هذا الرجل كتب اليهود والنصارى، هل كان يقدر على ما قدر عليه من إلزامهم وقهرهم في المناظرة، ومن تأليف كتابه الذي أحبط دعاتَهُم في الهند وغير الهند، أرأيت لو لم يفعل ذلك هو ولا غيره أما كان يأثم هو وجميع أهل العلم، وهم يرون عوام المسلمين تأخذهم الشبهات من كل ناحية ولا يدفعونها عنهم؟ نعم إنه ينبغي منع التلامذة والعوام من قراءة هذه الكتب لئلا تشوش عليهم عقائدهم وأحكام دينهم، فيكونوا كالغراب الذي حاول أن يتعلم مشية الطاووس فنسي مشيته ولم يتعلم مشية الحجل، والله أعلم".

ولنفترض جدلاً أنَّ علماء أهل السنَّة والجماعة فتحوا المجال للنَّاس أجمعين ليطالعوا ما يشاؤون، ويشاهدوا ما يريدون، فالظنُّ أنَّه سيخرج كلُّ واحد منهم بمنهج يدَّعي أنَّه الحق الذي لا مرية فيه، وخاصة إذا استصحبنا أنَّ في القلوب ركيزة الهوى، وتزيين السوء باسم المصلحة تارة والحق أخرى ووجهة النظر ثالثة والحرية رابعة، وتكون النتيجة المحصِّلة لنا من هذه الآراء، التمذهب بمذهبية الـ(حيص بيص!) في المعتقدات والأفهام، والكل يقول أنا الذي! دع عنك حبَّ الاستئثار بالرأي لدى البشر، وتعظيمهم لأقوالهم، ومن ثمَّ إخراجهم للكتب والمؤلفات لنصرة رأيهم، والانتصار لفكرتهم "وكم كتاب صنع ليطعن حقَّا" (13).
كما قال الشيخ محمد الخضر حسين.

والحقيقة أنَّنا إذا نظرنا فيمن يعظِّم الذي يظنُّ أنَّه عقلاني، فسنجدهم قد صاروا إلى أقوال متباينة، وأفكار غريبة، وقلَّ أن نراهم يوافقون الحق والصواب المدَّعى من قِبَلِهم، لأنَّ المعيار بلا معيار لا يكون، والعقول تختلف، والآراء تتباين، والأفكار تتضارب، فتتكون لديهم رؤية مبعثرة غير متَّزنة، تسفُّها الرياح العاتية، وتتلاعب بها الأعاصير الجارفة، وقد قيل: "للناس بعدد رؤوسهم آراء!" ولهذا فلم نرَ من كبارهم إلَّا الندم والحسرة على تلك الأيام التي خلت حين كانوا يضربون الأخماس في الأسداس في ماهية المنهج الصائب، حتَّى انتهوا بلا نهاية، وقالوا:
  ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا *** سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا

وللَّه درُّ الإمام ابن قتيبة حيث قال عن هؤلاء المتَّبعين للمنهج (الأرأيتي): "وقد كان يجب -مع ما يدَّعونه من معرفة القياس وإعداد آلات النظر- أن لا يختلفوا كما لا يختلف الحُسَّاب والمسَّاح، والمهندسون، لأن آلتهم لا تدلُّ إلاَّ على عدد واحد، وإلا على شكل واحد، وكما لا يختلف حذَّاق الأطبَّاء في الماء وفي نبض العروق، لأنَّ الأوائل قد وقفوهم من ذلك على أمر واحد، فما بالهم أكثر الناس اختلافاً، لا يجتمع اثنان من رؤسائهم على أمر واحد في الدين" (14).
وصدق الله: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا}[النساء: 82].

وأمَّا ما ادَّعاه بعضهم من صحَّة الفكرة القائلة: "بأن يقلِّب المرء ناظريه بين الأقوال المتضاربة، ويرى الحق الذي يبدو له في بعضها فيختاره، ثم يرى أنَّ هناك شخصاً تَعَقَّبَ ذلك الحق الذي اتَّبعه فجعله باطلاً، ثمَّ أبدى ما لديه من حق، فيأتي المرء ليختار الحق الذي اختاره ذلك الشخص المتعقب لكلام من قبله، ثمَّ يأتي شخص ثالث فيبطل القولين ويصوِّب القول الذي اختاره بعناية وتحقيق، فيأتي هذا المرء المسافر بين عقول هؤلاء ليختار قول هذا الرجل، لأنَّه قوي في المناظرة، رابط الجأش في المجادلة، وهكذا....

فإنَّ هذا الرأي المطروح ليس صواباً، لأنَّ دين الله لم يأت ليحاكمه العقل البشري، بل ليسمع له ويطيعه، ولهذا فإنَّ المنهج العقلي وإنْ صوِّر لأصحابه في البداية بأنَّه منهج المنطقية والعقلانية، إلاَّ أنَّه في الحقيقة منهج الحيرة والضلالة، لأنَّ هذا المنهج وإن كانت له قيود، فقيوده متفلِّتة، وقواعده متسيِّبة، فينتج من ذلك ثلاثة أمور:

1ـ إمَّا أن يصاب أصحابه بتبلّد الإحساس فيختاروا قولاً، يبقون عليه إلى أن يُقْبَضُوا مع تعصب مقيت، وهوى متَّبع.

2ـ وإمَّا أن يصطدموا بما لا طاقة لعقولهم به فيردُّوا الشريعة جملة وتفصيلاً.
3ـ وإمّا أن يصاب أصحابه بالارتحال الفكري، والتجوال بين عقول البشر، ومناهج الفلاسفة أو المفكرين العصريين، فيعانوا من الدُّوار مع القلق الفكري، وتغلب عليهم الحيرة والاضطراب المنهجي -عياذاً بالله من ذلك- وقد ابتلي بعض من سار على هذا المنهج بذلك مثل: (الفخر الرازي، والشهرستاني، والجويني، والكرابيسي، والخونجي، وشمس الدين الخسروشاهي، وابن واصل الحموي، والآمدي، وإبراهيم الجعبري، وغيرهم..) وإن كان بعض هؤلاء قد منَّ الله عليهم بالرجوع لمنهج أهل السنة والجماعة قبل وفاتهم -ولله الحمد والمنَّة-.

وحين جاء رجل للإمام مالك يقال له أبو الجويرية -متَّهم بالإرجاء- فقال له: "اسمع منِّي، فقال مالك: احذر أن أشهد عليك فقال هذا الرجل: والله ما أريد إلَّا الحق، فإن كان صواباً فقل به، أو فتكلَّم.
فقال مالك: فإن غلبتني؟ فقال الرجل: اِتَّبِعْني.
فقال مالك: فإن غلبتك؟ قال: اتَّبعتك.
فقال مالك: فإن جاء رجل فكلَّمنا، فغلبنا؟ قال: اتَّبعناه.
فقال مالك: يا هذا، إنَّ الله بعث محمداً صلَّى الله عليه وسلَّم بدين واحد، وأراك تتنقل!" (15).

ولا يعني ذلك بحال ألاَّ يتطلب المسلم الحق ويبحث عنه، فإنَّ هذا الأمر غير ذاك، والفارق بينهما أن من يريد تتبع الحق في أصول الإسلام وقضاياه الكلية يرجع إلى كتاب الله، وسنَّة رسوله صلَّى الله عليه وسلَّم فيستقي منهما الحقَّ والصواب، على طريقة علماء أهل السنَّة والجماعة، ومنهجيَّتهم في الاستدلال.

* حتى لا نقع في الانحرافات:
صفة متَّبع الحق أنه يدور مع الأدلة الشرعية حيث تدور، فهمُّه التسليم لكلام الله ورسوله، لأنه عابدٌ لله، ولا يكون العبد مسلماً لله إلا إذا ابتعد عن هواه وسلَّم عقله ونفسه لحكم الله وأمره، أمَّا من يريد تتبع الحق لأقوال من عرفوا بالزيغ والهوى، فإنَّه قلَّ أن يصل للمنهج الإسلامي الصحيح، ومن دلائل معرفة هؤلاء أنَّهم يبعدون النجعة كثيراً عن الأدلة الشرعية، ولا يتحاكمون إلاَّ إلى عقولهم ومن ثمَّ يختارون من الشريعة ما يوافق هواهم، بل لو قيل لبعضهم: "إنَّ هذا القول خطأ والدليل عليه من كتاب الله كذا وكذا، لضجُّوا وأكثروا وقالوا أنت رجل مماحك، فما أشبههم بقوله تعالى: {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} [الزمر: 45].
نسأل الله العافية والسلامة!

ومن هنا يلزم كلِّ متبع لمنهج أهل السنة أن يكون فكره مبنياٌ على كتاب الله وسنة رسول الله بالفهم المنضبط على منهج أهل السنة والجماعة، خشية الوقوع في الشبهات ووصولها إلى ذهنه، ومن ثمَّ صعوبة الانفكاك عنها، حيث ترسَّخت في العقل، ولعلَّ هذا يفسِّر لنا ما ذكره الإمام أبو بكر بن العربي عن أبي حامد الغزالي -رحمهما الله- حيث إنَّه من المعلوم أنَّ الإمام الغزالي تنقل في عدة أطوار عقدية ومنهجية من اعتزالية فلسفيَّة، فكُلاَّبيَّة، فصوفية، فأشعريَّة، ثمَّ أراد الانفكاك عنها والخروج من لوازمها، لكنَّه لم يستطع أن يتقيأ كلَّ ما انغرس في فكره من تلك العقائد البدعية.

فقال عنه أبو بكر بن العربي: "شيخنا أبو حامد دخل في بطن الفلاسفة، ثمَّ أراد أن يخرج منهم فما قدر" (16).
وكذا الإمام أبو الحسن الأشعري فقد كان معتزليَّاً، ثم تبنَّى الفكر الأشعري.
وبعد هذه التنقلات الفكرية ترك أبو الحسن الأشعري ذلك كلَّه وأقبل على منهج أهل السنَّة والجماعة وألَّف كتابين جليلين هما: (الإبانة عن أصول الديانة) وكتاب: (مقالات الإسلاميين واختلاف المصلِّين) ولكنَّه مع ذلك لم يخل من بعض الأخطاء بسبب التكوين العقدي المركَّب في عقله، وممَّن ألمح لذلك شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- حيث قال: "لم يستطع التخلُّص من مذهب المعتزلة لأنَّه نشأ عليه مع قلَّة خبرته بمذهب أهل السنَّة وعدم تمكنه من علم الكتاب والسنة" (17).

عرضت هذين النموذجين لأبيِّن دور البناء والتأصيل للتكوين العقدي في الخريطة الذهنية لدى الفرد المسلم، وأنَّ الانفكاك عن كلِّ ما يثبت بالذهن من الأخطاء العقديَّة قد يكون صعباً، إلاَّ من أراد الله له ذلك وتفلَّت فكره من كلِّ مخالفة شرعيَّة.

* استدراك لابدَّ منه:
لا يعني التحذير من القراءة لكتب أهل الزيغ والهوى، أو متابعة آرائهم وأفكارهم بأي حال، ألاَّ يُنتَدَب أناس منَّ الله عليهم بالعمق العلمي في معرفة منهج أهل السنة، ورصانة الدفاع عنه، مع ما آتاهم الله من قوة وحجَّة في الكلام، وجزالة في المعاني والتبيان، بالتصدِّي لأهل البدع والضلالات، وكشف زيف شبههم، فإنَّ أهل السنة محتاجون أشد الحاجة لأولي العلم الربانيين المتمكِّنين، وخاصة في هذا الزمان، الذي كثرت فيه الشبهات وتسلط فيه الجهال على منابر الإعلام، وانتشر فيه الرويبضات الذين ينطقون في أمر العامة.

فإننَّا بحاجة ماسَّة لمن منَّ الله عليهم بذلك وتكونت لديهم الحصانة العقدية، لأن يُنتدَبوا لجدال الزائغين، ومناقشة المغرضين، وقد كان في السابق من أهل العلم من ينتدب لذلك إذا رأى الشبهات قد كثرت، بل قد يناظر ويجادل أمام العامة، إذا خشي أن تتسرب الفكرة الضالة إلى عقولهم من أهل الضلال، حماية لهم منهم، ورداً لكيد الضُّلاَّل في نحورهم، كما ناقش الإمام أحمدُ ابنَ أبي دؤاد، وكما جادل الكنانيُّ بِشْرَ المريسي، وابنُ تيميةَ علماءَ الأشاعرة، وغيرهم كثير.

وكانت هذه الحالة عند العلماء استثنائية، من أصل عدم مناظرة هؤلاء، أو الاستماع إليهم، إلاّ إن اضطروا إلى ذلك، وخشوا أن تستفحل الفتنة أكثر فأكثر، فإنَّ أهل السنَّة استحبُّوا أن ينتهض الربَّانيون لمجادلة الضلاَّل، وممَّن نبه على ذلك من علماء الإسلام: الآجرِّي -رحمه الله- بقوله عن أهل الضلالة والبدع: "فإن قال قائل: فإن اضطر في الأمر وقتاً من الأوقات إلى مناظرتهم، وإثبات الحجة عليهم ألا يناظرهم؟ قيل: الاضطرار إنَّما يكون مع إمام له مذهب سوء، فيمتحن الناس، ويدعوهم إلى مذهبه، كفعل من مضى، في وقت الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله:

ثلاثة خلفاء امتحنوا الناس، ودعوهم إلى مذهبهم السوء، فلم يجد العلماء بدَّاُ من الذبِّ عن الدين، وأرادوا بذلك معرفة الحق من الباطل، فناظروهم ضرورة لا اختياراً، فأثبت الله عزَّ وجل الحق مع الإمام أحمد بن حنبل، ومن كان على طريقته، وأذلَّ الله العظيم المعتزلة وفضحهم، وعرفت العامة أنَّ الحقَّ ما كان عليه أحمد بن حنبل ومن تابعه إلى يوم القيامة" (18).
ولهذا فلا يُذْكَر أن أُفحِمَ أهل السنة في مناقشاتهم لأهل البدع، أو مناظراتهم لهم -ولله الحمد والمنة- لأنَّ الله هاديهم، ومنوِّر طريقهم، وحقَّاً:
  إذا تلاقى الفحول في لَجَبٍ *** فكيف حال البعوض في الوسط

أمَّا من أرادوا جرَّ أهل البدع والهوى لمناقشات لا يحسنون الجدل معهم فيها، بل يلقون في أذهانهم شبهاً تلجلج في عقولهم أيَّاماً حتى يفرجها الله بإزالة تلك الإشكالات من أهل العلم الربانيين، بعد أن يطوف عليهم هؤلاء المغمورون...
إنَّ هؤلاء القوم لا يقال لهم إلاَّ: "لا تعرضوا أنفسكم للفتنة، فتكونوا للناس فتنة، حين لا يجدوا لديكم قوَّة في الحجَّة، وعمقاً في المناظرة، وكم أُتي أهل السنة والجماعة من أمثال هؤلاء!".

وقد قيل: "كثيراً ما يكون الباطل أهلاً للهزيمة، ولكنَّه لا يجد من هو أهل للانتصار عليه".
وحين كان يتحدَّث الإمام ابن تيميَّة عن مناظرة أهل السنة لأهل البدع والهوى، بيَّن -رحمه الله- أنَّ أهل السنة والجماعة لا يؤيِّدون أن يتصدى لمناظرة أهل البدع من كان قليل العلم، فقال: "وقد ينهون عن المجادلة والمناظرة إذا كان المناظر ضعيف العلم بالحجَّة وجواب الشبهة، فيخاف عليه أن يفسده ذلك المضلُّ، كما يُنهى الضعيف في المقاتلة أن يقاتل علجاً قويَّاً من علوج الكفَّار، فإنَّ ذلك يضرُّه ويضرُّ المسلمين بلا منفعة" (19).

وعلَّة ذلك أنَّه حين النقاش يظهر السنِّي أمام أهل الضلال والهوى بمظهر ضعف، وعدم قوَّة في الاحتجاج والطرح، فيسبِّب ذلك له ولبعض أهل السنَّة حيرة وفتنة في دينهم، وقد تحدَّث ابن تيمية في موضع آخر حول هذه القضيَّة قائلاً: "وكثيراً ما يعارضهم من أهل الإسلام من لا يحسن التمييز بين الحقِّ والباطل، ولا يقيم الحجَّة التي تدحض باطلهم، ولا يبيِّن حجَّة الله التي أقامها برسله، فيحصل بسبب ذلك فتنة" (20).

* حلُّ إشكال قد يقع في البال!
قد يقول بعض إنَّنا نعيش في زمن الانفتاح، والقرية الكونية، التي فرضت نفسها على المجتمعات، وقد يصلح ما أكتبه لبعض المجتمعات المنغلقة على كينونتها الخاصَّة بها، أو أزمنة سابقة، وكثير من الناس يعيش في بلاد يكثر بها أهل الهوى والابتداع، فليس من بدٍّ إلا أن يستمع للأفكار حسنها وسيئها، وقد يكون غير محصَّنٍ فكرياً وعقدياً، كما تزعم أهميَّته، فما قولك؟!

فالجواب عن هذا الإيراد: أنَّ هذا الطرح فيه شيء صحيح وباطل، فأمَّا الصحيح فإنَّ هناك مجتمعات لها خصوصيَّتها الفكرية والعقدية، وهناك مجتمعات تكثر فيها المذاهب العقديَّة، والآراء الفكرية المغايرة لمنهج أهل السنَّة والجماعة، ولكن..هل نقف عند هذا الحد، ولا ننتقي ونختار علماء أهل السنَّة الموجودين في كلَّ مكان من الأرض، ممَّا يساعدنا على البناء العقدي المتين؟ ثمَّ من الذي قال لهؤلاء احضروا لمن تشاؤون، لقلَّة أهل السنَّة والجماعة الموجودين في أراضيكم؟

أليس النَّبيُّ عليه الصلاة والسلام أخبرنا بأنَّه سيأتي زمان القابض فيه على دينه كالقابض على الجمر؟! وذلك لأنَّ صحابة رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يجدون على الخير أعواناً وهؤلاء القابضون على الجمر لا يجدون على الحقِّ أعواناً، ألم يخبرنا بأنَّه لا يأتي زمان إلا والذي بعده شرٌّ منه حتى نلقى ربنا؟ وأوصانا بأن نصبر حتَّى نلقاه على الحوض غير مبدلين ولا مغيرين؟ كما قال القائل:
  تزول الجبال الراسيات وقلبه *** على العهد لا يلوي ولا يتغيَّر

ثمَّ هناك فرق بين أن يجلس إنسان مسلم في مجلس فيتحدَّث متحدثٌ بكلام خاطئ، ويكون المسلم الجالس في ذلك المجلس عَرَضَاً لا قصداً، فإنَّ الأعمال بالنيَّات كما أخبرنا المصطفى صلَّى الله عليه وسلَّم والأمور بمقاصدها، وقد رُفِعَ الحرج عن هذا وأمثاله حين حضر هذا المجلس، ولكن ليس له إن علم ضلال قول ذلك المتحدِّث أن يبقى جالساً في المجلس ذاك، بل يجب عليه مفارقته، وخاصَّة إن كان قليل العلم، وقد قال أبو قلابة -رحمه الله-: "لا تجالسوا أهل الأهواء، ولا تجادلوهم، فإنِّي لا آمن أن يغمسوكم في ضلالتهم، أو يلبِّسوا ما تعرفون" (21).

إنَّ فرضيَّات الواقع والتي يغلب عليها اللغة الانهزاميَّة، والأفكار المضلِّلة، تقتضي أن نكون أشدَّ إصراراً في مفاصلاتنا العقدية، وأصلب عوداً في التلمُّس الجاد لوجود أهل السنة المعينين لنا بالإبقاء على استنبات الفطرة التي ولدنا عليها، وأهميَّة معرفة مصادر التلقي لنتصورها ونعتقدها مستمسكين بها، ولدينا أهل العلم وحملته الربانيُّون، فلنسألهم ولنستوضح منهم ما أشكل من أصول ديننا.

* حلول وأصول في حماية العقل المسلم من شبهات المغرضين:
بعد هذه الأطروحة التي عرضت قضيَّة أحسب أنَّها من مهمَّات قضايا الفكر الإسلامي، فلا بد لسائل أن يقول: وكيف نحصِّن أنفسنا وفكرنا من الداخل، خشية أن يضلَّنا ما هو زائغ عن المنهج القويم، وما الأسس والأصول التي تكوِّن لدينا حصانة شرعيَّة، نستطيع -بإذن الله- بعدها أن نردَّ الغلط إذا أوردت الشبهات، وخصوصاً في ظلِّ ما يمارس الآن من الحرب الإعلاميَّة الغازية للأفكار والعقول المسلمة؟ لعلَّ الجواب يكمن في عدَّة نقاط أرى أنَّها -بإذنه تعالى- تساهم في بناء الحصانة الشرعية للعقليَّة الإسلامية، وهي كالتالي:

1ـ التعلُّق باللَّه عزَّ وجل، والاستعانة والاستعاذة به، وسؤاله الهداية والثبات والممات على دين الإسلام من غير تبديل ولا تغيير، ولنا في رسول الله أسوة وقدوة، فقد كان يسأل ربَّه الهداية، وكان كثيراَ ما يسأله الثبات على هذا الدين، وعدم تقلُّب قلبه عن منهج الإسلام، ويستعيذ به من أن يضلَّ أو يُضلَّ، كما كان -عليه السلام- يستعيذ من الفتن ما ظهر منها وما بطن، فالدعاء الملازم لذلك والانطراح على عتبة العبوديَّة، وملازمة القرع لأبواب السماء بـ: (ربَّنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنَّك أنت الوهاب) إذا اجتمعت هذه كلَّها، فلاشكَّ أنَّ رحمته سبحانه سابقة لغضبه وعقابه، ومحال أن يتعلق العبد بربِّه حقَّ التعلُّق، ويعرض عنه الله -سبحانه وبحمده- وهو الكريم الوهاب.

2ـ الثِّقة بمنهج الله ووعده وحكمه وأوامره، واليقين به ومراقبته، والشعور بالمسؤوليَّة عن حفظ الدين من شبهات المغرضين، وعدم خلطه بالباطل، أو لبسه إياه، ومن ثمَّ الصبر على مكائد المنفِّذين والمسوِّغين للشُّبهات، فإنَّه سبحانه وتعالى يقول: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} [آل عمران: 120].
وقد قال الإمام سفيان الثوري: "بالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين" وممَّا يشهد لذلك قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة: 24].

3ـ تلقِّي العلم عن العلماء الربَّانيين، وإرجاع المسائل المشكلة إليهم ليحلُّوها ويوضِّحوا ما أبهم على صاحبها، فلا يستعجل في قبول فكرةٍ أطلقها من لا يؤمن فكره، ولا يبقي تلك الشُّبهة في صدره حتَّى تعظم، بل ينبغي عليه أن يضبط نفسه بالرجوع للراسخين من أهل العلم، فإن الله تعالى يقول: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43].
وذلك لأنَّ هذا العلم دين يدين به العبد لربَّه ويلقاه به إذا مات عليه، ولهذا قال الإمام محمد بن سيرين -رحمه الله-: "إنَّ هذا العلم دين، فانظروا عمَّن تأخذون دينكم" (22).

4ـ البناء الذاتي بمعرفة مصادر التَّلقي، ومناهج الاستدلال الصحيحة، وملء القلب بنور الوحي من الكتاب والسنَّة، مع ملازمة إجماع أهل السنَّة والجماعة، فإنَّ هذه المصادر عاصمة من قاصمة الوقوع في الخطأ والانحراف والزلل، وسبب أكيد لسدِّ باب الشبهات المظلمات، وذلك -بعونه تعالى- مساعدٌ لحماية العقل المسلم من مضلاَّت الفتن.

قال أبو عثمان النيسابوري: "من أمرَّ السُّنَّة على نفسه قولاً وفعلاً نطق بالحكمة، ومن أمرَّ الهوى على نفسه قولاً وفعلاً نطق بالبدعة لأنَّ الله تعالى يقول: {..وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا..}" [النور: 54].
(23).
ومن ذلك إرجاع المجمل إلى المبيَّن، والمطلق إلى المقيَّد، والمؤوَّل إلى الظاهر، والجمع بين الأدلَّة التي ظاهرها التعارض، بالرجوع لكتب أهل العلم، واستقاء معاني الألفاظ من العلماء الربَّانيين، وكذا برد المتشابه إلى المحكم.

وقد روت عائشة -رضي الله عنها- أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قرأ: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} [آل عمران: 7].
ثم قال صلَّى الله عليه وسلَّم: «فإذا رأيت الذين يتبعون ما تشابه منه، فأولئك الذين سمَّى الله، فاحذروهم» (24).

5ـ التعلَّق بكتاب الله قراءة وفقهاً وتدبُّراً وعملاً، ولو أقبل الخلق على كتاب الله والانتهاج بنهجه، لأجارهم سبحانه من الفتن، فالقرآن شفاء لما في الصدور، ومن يعرض عنه فسيصيبه من العذاب بقدر ابتعاده عنه {وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا .
لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا}
[الجن: 16، 17].
ورضي الله عن ابن عبَّاس إذ قال: "من قرأ القرآن فاتَّبع ما فيه هداه الله من الضَّلالة في الدنيا، ووقاه يوم القيامة الحساب" (25).

وصدق الله: {..فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى .
وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى}
ويكفي أنَّ آثاراً كثيرة وردت عن السلف بأنَّه من ابتغى الهدى من غير كتاب الله، فإنَّ الله سيضلُّه، لقد قال صلَّى الله عليه وسلَّم قال: («إنَّ هذا القرآن سبب طرفه بيد الله، وطرفه بأيديكم، فتمسَّكوا به، فإنَّكم لن تضلُّوا ولن تهلكوا بعده أبداً» (26).
وأخبر صلَّى الله عليه وسلَّم بقوله: «تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبداً: كتاب الله وسنتي» (27).
  كـتـاب الله عـزَّ وجـلَّ قـولي *** وما صحَّت به الآثار ديني
فدع ما صدَّ من هذي وخذها *** تكن منها على عين اليقين(28)

6ـ إصلاح القلب ومجاهدته، ومن حاول ذلك وجدَّ واجتهد في تحصيله، فليبشر بالهداية واليقين، فاللَّه تعالى يقول: {وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت: 69].
7ـ معرفة مقاصد الشريعة، ومرامي الدين الإسلامي، لأنَّها تمنح المسلم قوَّة منهجيَّة كبيرة، ولقاحاً ضدَّ الانحرافات.

8ـ تكثيف البرامج التوجيهيَّة، وأخصُّ بالذكر وسائل الإعلام بشتَّى أصنافها، ومحاولة زرع الثقة في قلوب المسلمين بالاعتزاز بدينهم وعقيدتهم، وتمكين قواعد الإسلام في قلوبهم، والرد على ما يضادها، وحتماً سيولِّد ذلك قناعة بأولويَّة الأصول الإسلاميَّة في قلوب المسلمين، وبناء الرسوخ العقدي في قلوبهم، وذاك التحصين الذي نريد.

9ـ إنشاء مراكز الأبحاث والدراسات المعنيَّة برصد الانحرافات الفكريَّة، والتعقيب عليها بتفنيد الشُّبه، والجواب عن الشكوك والشبهات التي يثيرها بعض المارقين من قيم الإسلام ومبادئه، والجهاد الفكري ضدَّها، من منطلق قوله تعالى: {..وَجاهِدْهُمْ بِهِ جِهادًا كَبِيرًا} [الفرقان: 52].
وتفعيل هذه المراكز بقوَّة البحوث، وضخِّ المال الداعم لها، وتوظيف الباحثين المتمكِّنين فيها، وإعطاءها قدراً من الشهرة والانفتاح على الوسائل الإعلاميَّة.

10ـ فسح المجال من وسائل الإعلام بشتَّى صورها وألوانها، للمنتمين لمدرسة أهل السنَّة بالخروج الإعلامي، وعرض رأيهم تجاه الآراء الأخرى، وبخاصَّة من الأقوياء المتمكِّنين منهم، وإنَّ ممَّا يؤسف له، أن تجد بعضاً من وسائل الإعلام، تستضيف رجلاً بأفكار منحرفة، وتقابله بآخر من المنتسبين لمنهج أهل السنَّة لا يكون مستواه في الطرح الفكري بتلك القوَّة اللاَّزمة، ممَّا يؤثر سلباً تجاه الناظرين لتلك المحطَّات الإعلاميَّة لطرح هذا الرجل السُّنِّي.

كما أنَّه من اللازم حقيقة لبعض أهل العلم أن لا ينأى بنفسه عن تلك المواجهات بل يغلِّب جانب المصلحة العظمى والكبرى في نصرة أهل السنَّة وقضاياهم، على عدم الخروج بسبب بعض السلبيات أو المفاسد الصغرى، مع الإدراك والمعرفة بأنَّ كثيراً من المهيمنين على الوسائل الإعلاميَّة يأتوننا بمفكرين ومنتسبين للعلم، ليفصِّلوا لنا إسلاماً على المزاج الغربي، أو ما يسمُّونه بـ(الإسلام الليبرالي)! وما الدعوات السيئة التي تخرج منهم أو من بعض أذنابهم بما يسمى بـ(تطوير الخطاب الديني) إلاَّ ليصدوا المسلمين عن تمسكهم بدينهم الحق، وليستبدلوا به الانهزامية والتراخي.

والذي لن ينصر حقاً ولن يكسر باطلاً، بل مقصوده الأساس تحريف المفاهيم لدى المسلمين، وتحريف المفاهيم أشدُّ خطراً من الهزيمة العسكرية، ومن هنا كانت مخطَّطات أعداء الإسلام "لأنَّ هزيمة الأمَّة في أفكارها تجرِّدها من الحصانة وتتركها فريسة لأي مرض أو وباء فيسهل بعد ذلك احتواؤها وتفكيك معتقديها" كما يقول الأستاذ المفكِّر: محمد قطب -حفظه الله- في واقعنا المعاصر: (ص:356).

11ـ ملازمة الجلوس مع الصالحين، والمنتمين لمنهج أهل السنَّة، وقد نهانا رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم عن صحبة ضعاف الإيمان، وأمرنا بصحبة المؤمنين فقال: «لا تصاحب إلاَّ مؤمناً» (29) فينبغي الحذر من الجلوس إلى أهل الزيغ والهوى والالتفات إليهم، وخاصَّة إن كانت الخلفيَّة لذاك الجالس مهلهلة في الجانب العقدي، وقد كان أهل السنَّة يوصون تلاميذهم بمجالسة الأخيار والصالحين، والإعراض عن أهل الزيغ والفسق والهوى، ورحم الله الإمام أبو الحسن البربهاري حين قال: "وعليك بالآثار، وأهل الآثار، وإياهم فاسأل، ومعهم فاجلس، ومنهم فاقتبس" (30).

ويكفي أنَّ من فضائل ذلك أنَّ أصحاب الخير يدلُّون رفقائهم على سبل الهدى، ولهذا فحين كان ابن القيم يورد على شيخ الإسلام ابن تيميَّة بعض كلام أهل الهوى إيراداً بعد إيراد، أوصاه ابن تيميَّة قائلاً: "لا تجعل قلبك للإيرادات والشبهات مثل السِّفِنْجَة، فيتشربها، فلا ينضحَ إلاَّ بها، ولكن اجعله كالزجاجة المُصمَتَة تمُرُّ الشبهات بظاهرها، ولا تستقرُّ فيها، فيراها بصفائه، ويدفعها بصلابته، وإلاَّ فإذا أَشْرَبْت قلبك كلَّ شبهة تمر عليها صار مقراً للشبهات أو كما قال" ـ ثمَّ قال ابن القيم: "فما أعلم أني انتفعت بوصيَّة في دفع الشبهات كانتفاعي بذلك" (31).

12ـ الدراسة الواعية والناقدة للأفكار والملل والنحل المغايرة لمنهج أهل السنَّة، مع الحذر من أهلها، وتمكين العقلية الإسلاميَّة من أدوات الفهم والنظر والمعرفة لرصد الانحرافات الفكرية، ومعالجتها على ضوء الشريعة، وممَّا يبيِّن أهميَّة ذلك أنَّ الله تعالى فصَّل لنا وسائل وأساليب وحجج المجرمين، وردَّ عليها داحضاً لها، فمعرفة وفقه المداخل التي يدخل بها أهل الزيغ والهوى لإقناع من يريدون ضمَّه إليهم، أصلٌ نبَّه عليه تعالى فقال: {وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ} [الأنعام: 55].
ولهذا يقول حذيفة بن اليمان: "كان الناس يسألون رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم عن الخير، وكنت أسأله عن الشرِّ مخافة أن يدركني" (32) فمعرفة الشرِّ وأهله منهج أساس لأهل السنة والجماعة وكشف خُدَعه، كما يقول قائلهم:
  عرفت الشَّرَّ لا للشَّر لكن لتوقيه *** ومن لا يعرف الخير من الشَّر يقع فيه

13ـ إذا شعر المرء أو غلب على ظنِّه بأنَّه قد يفتن في دينه، فلا ينبغي له قراءة كتب أهل الهوى والزيغ، ولو قصد بذلك الردَّ عليهم، ومناقشة شبههم، لأنَّ درء المفاسد عن هذا المرء مقدَّمة على جلب المصالح في الذبِّ عن هذا الدين، بل ينأى المسلم بنفسه عن الشبهات، ولا يجعلها متهافتة على قبولها، ويجعل نفسه مطمئنَّة إلى الاستيقان بعظمة هذا الدِّين، وثبات أصوله، فيخلِّي قلبه ونفسه من متابعة الشبهات، ولا يجعلها لاقطة لأي تشكيك في دين الإسلام.

ومن تأمَّل قوله تعالى: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [الصف: 5].
وقوله: {..وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ..} [الحديد: 14].
علم أنَّ بعض النفوس تتطاير على منافذ الشبهات والضلالات -عياذاً باللَّه- وحين بلغ عمر بن الخطَّاب -رضي الله عنه- أنَّ رجلاً يقال له: صبيغ بن عسْل قدم المدينة وكان يسأل عن متشابه القرآن، بعث إليه عمر بن الخطَّاب -رضي الله عنه- وقد أعد له عراجين النخل، فلما دخل عليه وجلس قال: من أنت؟ قال: "أنا عبد الله صبيغ.
قال عمر: وأنا عبد الله عمر، وأومأ عليه، فجعل يضربه بتلك العراجين، فما زال يضربه حتى شجه، وجعل الدم يسيل عن وجهه، قال: حسبُك يا أمير المؤمنين! فقد والله ذهب الذي أجد في رأسي" (33).

14ـ التربية للنشء بما يرضي الله، والتحاور معه بتبيين فساد شبهات أهل الزيغ والهوى، مع قوَّة الإقناع وأدب الحوار، فالتنشئة الصحيحة على التحصين العقدي هي أول عمليَّة في التربية، بتربيتهم على العقيدة الصحيحة، وحماية ذواتهم من العبث الفكري، وبناء الشخصية الإسلاميَّة التي لا تؤثِّر فيها تيَّارات التشكيك، وإرسالهم إلى المربِّين الثقات لتربيتهم على أصول ديننا، وقد قال أيوب السختياني: "إنَّ من سعادة الحدث والأعجمي، أن يوفِّقهما الله لعالم من أهل السنَّة" (34).
ليكون أهل التربية معينين لهم على تقوية عقيدتهم، ودرء عبث غزاة الأفكار والعقول عنها، مع التحذير الملازم لهم بخطر الأخذ عن غير أهل السنَّة، وإن استطعنا منعهم من ذلك فهو الأحسن.

إلاَّ أنَّ المنع لا بد أن يكون بإقناع لهم، وقد يكون منعهم متعذراً في هذا الزَّمن، لأنَّهم قد يمنعوا فتأتيهم ردَّة فعل تجعلهم يصرُّون على ما سيطالعونه أو يسمعونه، ولكن الأسلوب التربوي يرجِّح أن يناقش الأب أو المربِّي ذلك الشاب، ويبيِّن له أوجه الخطأ التي وقع بها أهل الضلال، فلا منع مطلق، ولا إباحة مطلقة، بل إباحة وفق ضوابط وتحذير ودعم تربوي.

وقد يقول قائل: "إنَّ منهج جمع من السلف الصالح منع الناس من سماع البدع والشبهات" وحقَّاً فإنَّ ذلك الأفضل ولا شك، ولكنَّ السلف الصالح في ذاك الزمن كانت قاعدته هي الإسلام وقيمه ومبادئه، وكان الأمر إليهم وبيدهم، وأمَّا الآن ليس لنا من قوَّة الإسلام ما كان، وحقيقة فإنَّ النَّاس في هذا الزمن للفتنة أقرب منهم للإسلام، وتربيتهم الآن تكون بقوَّة الكلمة الحقَّة التي تصنع المنهج، وتقنع المخاطب..

إنَّها حكمة في الأمور وتربية تستدعي التَّأمل والنظر في المآلات {ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور} فمن الضروري إذاً أن نبني جيلاً محصَّناً -بإذن الله- من لقاحات الشبهات، وطُعمِ الشكوك، ليكونوا على قوَّة في دينهم تجاه الهجمات الشرسة التي يواجهها أهل الإسلام من أعدائه.

ولعلِّي في هذا المقام أذكر قصَّة حدَّثتني بها إحدى القريبات الداعيات، توضح كيف أنَّ العامل الثقافي له دوره الرئيس في تشكيل هويَّة النشء، فقد كانت هذه القريبة مدرسة للمواد الشرعيَّة، وفي إحدى الأيَّام دخلت على أحد صفوف المرحلة الابتدائيَّة الأولى لتدرِّس الطلاب كتاب التوحيد، وحين بدأت بشرح عقيدة المسلمين بأنَّ الله عالٍ على عرشه، انتفض أحد الطلاَّب وقال: "كلا يا أستاذة، فلا يجوز لنا أن نقول: إنَّ الله فوق السماء عالٍ على عرشه، بل هو في كلِّ مكان، ومن قال بأنَّ الله فوق السماء، فقد كفر!" فأجابته المعلِّمة قائلة له: "لا يجوز أن تقول ذلك لأنَّ اعتقاد المسلمين، أنَّ الله عال على عرشه وهو جلَّ وتعالى فوق خلقه، ومن خالف هذه العقيدة فإنَّه كافر، وإياك أن تقول هذا الكلام مرَّة أخرى، فأجابها ذلك الطالب قائلاً: "كلا سأقول ذلك، لأنَّ هذه عقيدتي وهكذا ربَّاني والدي وهو شيخ، وأنا مقتنع بكلامه".

وبقيت هذه المعلمة تجادل ذلك الطالب، وفي اليوم التالي جاءت المعلمة للفصل، وحين قالت للطلاب: "أخرجوا كتاب التوحيد" رفض بعض الطلاَّب وقالوا: "يا أستاذة: كيف تدرِّسيننا هذا الكتاب وفيه كفر، ووالد هذا الطالب شيخ وهو يقولُ بأنَّ كتابنا فيه كفر" وفي زمن حديث الطلاب مع معلمتهم حول ذلك، كان الطالب يشير لأصدقائه الطلاب بإشارات النصر، ويوافقهم على حديثهم، ويؤيدهم على ألاَّ يخرجوا الكتاب من الدرج!

الشاهد الذي أحببت التنبيه إليه، أنَّ هذا الطالب تبيَّن أنَّه من فرقة الأحباش الضَّالَّة، التي جمعت من الكفر والضلال الشيء الكثير، ولو تأمَّلنا كيف أنَّ أهل البدع يدرِّسون أبناءهم العقائد الضَّالة، ويحصِّنوهم من أي عقيدة واردة عليهم، بل يدعوهم لمناقشة من يخالفهم، فضلاً عن التحذير منهم ومن كتبهم، ويعلمون أبناءهم حقَّ الرد والجرأة في الدعوة لملَّتهم ونحلتهم، لرأينا من ذلك شيئاً عجباً، فأين أهل السنَّة من دعوة أبنائهم بمثل ذلك؟

وأين هم من ترسيخ العقيدة الصافية في عقول أبنائهم وتعليمهم كيف يثبتون عليها ويناضلون عنها؟ إنَّ من المهمات التي يجدر التنبيه عليها، ما للوالدين من كبير الأثر على تنشئة الولد تنشئة إسلاميَّة خالصة من كدر الشبهات والشهوات قدر المستطاع، وتعميق الإسلام وأسسه العقدية في أنفسهم، ووصيَّتهم بالثبات عليه، وممَّا يستدلُّ به لذلك ما قاله تعالى عن الأنبياء والمرسلين حين كانوا يوصون أبناءهم بالثبات على الإسلام، ومن ذلك: {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [البقرة: 132].

وكل مولود يولد على فطرة الإسلام، فإن كان الوالدان مسلمين حصَّنوه بترسيخ الإسلام، وإن كانا كافرين فإنَّه لا بدَّ أن يكون لهما دور كبير في تحريف فطرة ذلك المولود، وقد أخبرنا صلَّى الله عليه وسلَّم بذلك فقال: «كلُّ مولود يولد على الفطرة، وإنَّما أبواه يهوِّدانه أو يمجِّسانه، أو ينصرانه» (35).

ومن جميل الكلام حول طريقة ترسيخ الوجود العقدي في النشء، ما قاله الإمام الغزالي: "وليس الطريق في تقويته وإثباته أن يعلم صنعة الجدل والكلام، بل يشتغل بتلاوة القرآن وتفسيره، وقراءة الحديث ومعانيه، ويشتغل بوظائف العبادات، فلا يزال اعتقاده يزداد رسوخاً بما يقرع سمعه من أدلَّة القرآن وحججه، وبما يَرِدُ عليه من شواهد الأحاديث وفوائدها، وبما يسطع عليه من أنوار العبادات ووظائفها" (36).

وختاماً: ممَّا يحسن التنبيه إليه: أنَّ المستمسك بهذا المنهج يجب أن يكون قوياً في طرحه لدى الناس بتعامل لطيف، مبيناً له بلا عنف، عارفاً للحق، راحماً للخلق، يريد لهم الهداية بلا جباية أو وصاية، فالحق أبلج، والباطل لجج، وماذا بعد الحقِّ إلَّا الضلال!

نسأله تعالى أن يمنَّ علينا بهدايته، وأن يثبتنا على دينه، وأن يحفظنا من مضلاَّت الفتن ما ظهر منها وما بطن، وأن يهيئ لنا من أمرنا رشداً، وعياذاً بالله أن نكون ممَّن قال فيهم ربُّهم: {..وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [المائدة: 41] والله المستعان.

---------------------------------
[1] قاله الإمام ابن تيميَّة "الفتاوى: 10/368".
[2] أخرجه عبد الرزاق في المصنَّف: (20446 و20483، بسند صحيح).
[3] ديوان ابن المبارك للدكتور: مجاهد مصطفى: ص 45
[4] إحياء علوم الدين للغزالي: (1/29).

[5] الإبانة: 1/390
[6] تأويل مختلف الحديث لابن قتيبة ص: 115.
[7] السير: للذهبي: 7/261"

[8] أخرجه أحمد في مسنده (4/126) والترمذي برقم (2676) وقال: حديث حسن صحيح.
[9] أخرجه الإمام أحمد في المسند: (4/431) بسند صحيح، وجوَّد إسناده الإمام ابن مفلح في الآداب الشرعية (1/220).
[10] أخرجه أحمد في مسنده (3/338)، وابن أبي شيبة في مصنَّفه (6/228) بسند حسَّنه الألباني.
[11] أخرجه الآجري في الشريعة ص: 48.
[12] أخرجه ابن بطَّة في الإبانة: (2/456) والَّلالكائي: (252) في شرح أصول اعتقاد أهل السنَّة والجماعة.

[13] في كتابه: نقض كتاب الشعر الجاهلي ص:4.
[14] تأويل مختلف الحديث: ص 63
[15] سير أعلام النبلاء: 8/99ـ106.
[16] "درء تعارض العقل والنقل1/5"
[17] مجموع فتاوى ابن تيميَّة.

[18] الشريعة للآجرِّي، ص: 66.
[19] درء تعارض العقل والنقل: (7/173).
[20] مجموع الفتاوى: (35/190).
[21] (الإبانة2/437).

[22] أخرجه مسلم في مقدِّمة صحيحه: (1/14).
[23] مجموع الفتاوى: (14/241).
[24] أخرجه البخاري برقم: (7454).
[25] أخرجه عبد الرزاق في المصنَّف: (6033)
[26] أخرج ابن أبي شيبة في المصنَّف (12/165) وصحَّحه الألباني في الصحيحة (713).

[27] أخرجه مالك وأحمد في مسنده.
[28] البيتان السابقان في: نفح الطيب للمقَّري 2/127.
[29] أخرجه الترمذي (4/600) برقم (2395) وأحمد في مسنده (3/38) و(4/143) وصحَّحه الحاكم في المستدرك (4/143) وابن حبَّان في صحيحه (2/314) وحسَّنه الترمذي و ابن مفلح في الآداب الشرعيَّة، وكذا الألباني في صحيح الجامع الصغير برقم: (7341).

[30] شرح السنة للبربهاري: ص 102.
[31] مفتاح دار السعادة: (1/443).
[32] أخرجه البخاري في صحيحه برقم:(7084) ومسلم برقم:(1847)
[33] أخرجه الآجرِّي في الشريعة: ص 75، واللالكائي بسنده في شرح أصول اعتقاد أهل السنة: (4/ 703) وقد صحَّح ابن حجر إحدى روايات هذا الأثر في الإصابة: (5/169) كما ذكره محقِّق كتاب اللالكائي.

[34] شرح أصول اعتقاد أهل السنَّة والجماعة للالكائي: (1/60)
[35] أخرجه البخاري ومسلم.
[36] (إحياء علوم الدين1/94ـ95).
 


شارك الخبر

المرئيات-١