شرح كتاب فضل الإسلام [2]


الحلقة مفرغة

قال رحمه الله تعالى: [ باب وجوب الإسلام.

وقول الله تعالى: وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ [آل عمران:85]، وقوله تعالى: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ [آل عمران:19]، وقول الله تعالى: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ [الأنعام:153] الآية.

قال مجاهد : السبل: البدع والشبهات.

وعن عائشة رضي الله عنها، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد) أخرجاه، وفي لفظ: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد).

وللبخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى، قيل: ومن يأبى؟ قال: من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى).

وفي الصحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أبغض الناس إلى الله ثلاثة: ملحد في الحرم، ومبتغٍ في الإسلام سنة جاهلية، ومطّلب دم امرئ مسلم بغير حق ليهريق دمه) رواه البخاري .

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: قوله: (سنة جاهلية) يندرج فيها كل جاهلية مطلقة أو مقيدة، أي: في شخص دون شخص، كتابية أو وثنية أو غيرهما، من كل مخالفة لما جاء به المرسلون.

وفي الصحيح عن حذيفة رضي الله عنه قال: يا معشر القراء! استقيموا، فإن استقمتم فقد سبقتم سبقاً بعيداً, فإن أخذتم يميناً وشمالاً فقد ضللتم ضلالاً بعيداً.

وعن محمد بن وضاح أنه كان يدخل المسجد، فيقف على الحلق فيقول: فذكره، وقال: أنبأنا سفيان بن عيينة عن مجالد عن الشعبي عن مسروق قال: قال عبد الله يعني ابن مسعود رضي الله عنه: ليس عام إلا والذي بعده شر منه، لا أقول: عام أمطر من عام، ولا عام أخصب من عام، ولا أمير خير من أمير، لكن ذهاب علمائكم وخياركم، ثم يحدث أقوام يقيسون الأمور بآرائهم، فيُهدم الإسلام ويثلم ].

بيان أن الإسلام الذي أوجبه الله تعالى هو السنة وأدلة ذلك

أراد شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله أن يبيّن أن الإسلام الذي أوجبه الله عز وجل هو السنة كما سترون.

فقوله: (باب وجوب الإسلام) أدرج تحته من النصوص والآثار ما يدل على أنه جعل الإسلام يتمثل بالسنة بعد ظهور البدع، وهذا حق، ولا يعني ذلك خروج المبتدعة والمبدّلين الذين لم يخرجوا من الملة، لا يعني خروجهم من الإسلام، لكن يعني بذلك أن الله عز وجل كما أوجب الإسلام بالعموم فقد أوجب الاستمساك بحقيقة الإسلام عند اختلاف الناس وعند ظهور الأهواء والبدع، ولذلك فسّر الإسلام في النصوص التالية بالسنة، وهذا من عظيم فقهه؛ لأنه في جميع مؤلفاته كان يترسّم مناهج السلف بدقّة ويزن بها الواقع الذي كان عليه الناس، ولذلك أورد في الآية الأولى قوله عز وجل: وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ [آل عمران:85]، وهنا قصد الإسلام العام والإسلام الخاص، والإسلام بمعناه العام هو الذي بعث الله به جميع المرسلين، فإن الآية لها عموم، ولها مفهوم خاص، أما الآية في عمومها فإنها تعني أن الله عز وجل لا يقبل من أمة من الأمم إلا الإسلام الذي جاء به النبيون والمرسلون؛ ثم الآية خاصة بهذا الدين؛ لأن الأديان السابقة غُيّرت وبُدّلت ونسخت، فكان بالضرورة أن الآية أصبحت تتوجه إلى هذا الدين الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، فمنذ أن بُعث النبي صلى الله عليه وسلم ومن بلغه الإسلام فإنه إن ابتغى غير الإسلام فلن يُقبل منه، وهو في الآخرة من الخاسرين، والإسلام الذي هو هذا الدين الخاتم، وهذا ما قصد به الشيخ من وجوب الإسلام، وأن الإسلام واجب على جميع العباد، وأن الله لا يقبل غيره.

ثم في الآية التالية كذلك قوله عز وجل: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ [آل عمران:19] أي: أن الدين المقبول والدين الحق هو الإسلام، وهذه الآية لها عموم وخصوص، فهي عامة في جميع الديانات الشرعية التي أنزلها الله على رسله، فإن الله لا يقبل من جميع الأمم إلا الإسلام، وأنه لا يمكن أن يكون الدين بالمفهوم الشرعي المقبول عند الله عز وجل حق إلا ما جاءت به الرسل، ثم الآية خاصة بهذا الدين بعد أن نسخ الله الأديان السابقة وختم الله الديانات بهذا الدين وبمحمد صلى الله عليه وسلم، فإن الدين عند الله هو الإسلام الذي هو السنة وما تستلزمه.

ثم ذكر قوله عز وجل: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ [الأنعام:153] معناه: أن اتباع الإسلام واجب، وصراط الله المستقيم هو هذا الدين المتمثل بسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ [الأنعام:153] وهذا تأكيد في وجوب التزام الإسلام المتمثّل بالسنة.

ثم ذكر قول مجاهد بأن السبل: البدع والشبهات، وهذا هو ما فسّر به السلف معنى السبل، فالسبل ليست طرائق الناس في الحياة، ولا المناهج الاجتهادية التي يسوغ فيها الخلاف، إنما السبل هي الاختلاف في الأصول، وهي البدع التي يخرج بها الناس عن السنة، جزئية كانت أو كلية فإنها سبل، وأغلب السبل هي أصول الفرق؛ لأنها بدأت من أمور صغيرة ثم انتهت إلى أصول ومناهج، فتمثّلت في سبل نعبّر عنها بالأصول والمناهج والطرائق.

ثم ذكر حديث عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)، ولو نظرنا علاقة هذا الحديث بباب وجوب الإسلام لوجدنا أنها واضحة، لأن الإسلام الذي أمرنا بوجوب التزامه هو التزام السنة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما بلّغ الأمانة وأدى الرسالة قال: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد) إذاً: يجب أن نلتزم بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، ويجب أن نبتعد عما يخالفه، ولذلك فمن جاء بما يخالف الإسلام بأي أمر من الأمور وسواء كان صغيراً أو كبيراً فهو مردود على صاحبه، فيجب التزام الإسلام الذي هو نهج السنة.

ثم ذكر للبخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى)، ثم ذكر أن من عصاه فقد أبى، وأن من أطاعه فقد دخل الجنة.. وارتباط هذا بوجوب الإسلام هو أن هذا الحديث يحقق فيه التزام طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم، وأنه يتمثّل بها وجوب الإسلام، فالإسلام لا يتحقق إلا بطاعة النبي صلى الله عليه وسلم، فمن تحقيق وجوب الإسلام طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم.

ثم ذكر الحديث الذي يليه: (أبغض الناس إلى الله ثلاثة)، وذكر منهم: (ومبتغٍ في الإسلام سنة جاهلية) فهنا يؤكد على أن الإسلام الذي يجب التزامه هو الأخذ بالسنة.

وذكر تفسير شيخ الإسلام ابن تيمية في ذلك وهو قوله: (سنة جاهلية) أنه يندرج فيها كل جاهلية وسواء كانت مطلقة أو مقيدة، أي: في شخص دون شخص، كتابية أو وثنية أو غيرهما، من كل مخالفة لما جاء به المرسلون.

فكل ما خالف ما جاءت به الرسل فهو جاهلي، وهذا يعني أنه يجب على الناس أن يلتزموا الإسلام ويتركوا كل ما جاء به المخالفون للرسل، وأن كل ما خولف به الإسلام وجاء على خلاف مقتضى سنة النبي صلى الله عليه وسلم فهو جاهلية، أي: أن الجاهلية المطلقة ترجع إلى الجهل.

وذكر قول حذيفة رضي الله عنه: يا معشر القراء استقيموا، فقد سبقتم سبقاً بعيداً، يعني: باتباعكم للسنة، فإن أخذتم يميناً وشمالاً لقد ضللتم ضلالاً بعيداً. أي: بترك السنة، لأن وجوب الإسلام يتمثل بالتزام السنة، والاستقامة عليها.

ثم ذكر قول ابن مسعود في الأثر الأخير، قال: ثم يحدث أقوام يقيسون الأمور بآرائهم، فيُهدم الإسلام ويثلم، لأن الناس قد يجهلون حقيقة وجوب الإسلام فيخرجون من السنة رويداً رويداً، ثم يضعف الإسلام ما بين زمن وزمن، وأن ضعف الإسلام يكون بذهاب العلماء؛ لأن العلماء هم الذين يعرفون الإسلام الذي يجب التزامه، فإذا قل العلماء جهل الناس، والعلماء لا ينقطعون أبداً، لكن قد يقلّون.. وقد يكثر العلم ويقل الفقه أيضاً كما هو في عصرنا هذا، فالعلم كثير، لكن قلت بركته، وأكثر الذين أخذوا العلم الشرعي أخذوه على غير أصول صحيحة وعلى غير مناهج سليمة، فصاروا إن أفتوا أفتوا بغير علم، وصاروا لا ينفعون أنفسهم بعلمهم ولا ينفعون غيرهم، فهذا معنى ذهاب العلماء، ولذلك فسّره ابن مسعود بقوله: يحدث أقوام يقيسون الأمور بآرائهم، قد يرفعون راية العلماء فيهدم الإسلام وينثلم، وهو يشير بهذا إلى وجوب التزام السنة، وأن من أسباب خروج كثير من المسلمين عن السنة ومقتضى الإسلام والضعف الذي ذُكر ما بين عام وآخر راجع إلى إحداث مناهج في الدين منبعها الرأي، وهذا هو ما عليه جميع الفرق الكبرى التي ضلّت في تاريخ هذه الأمة، ابتداء من الخوارج، وما أفسد على الخوارج دينهم إلا التزام رأيهم، حيث جعلوا النصوص محكومة برأيهم، ثم جاءت بعدهم الرافضة والقدرية والجهمية والمعتزلة والمرجئة ومن سلك سبيلهم.. وهؤلاء كلهم منهجهم قياس أمور الدين بالآراء؛ وهذه هي مناهج المخالفين للإسلام، فلذلك هُدم الإسلام وثُلم، والمقصود بهدم الإسلام هنا هو خروج السبل التي تخرج عن السنة، وليس المقصود بهدم الإسلام القضاء عليه أو انقراضه، فالإسلام باقٍ بحفظ الله له، لكن هُدم الإسلام في نفوس كثير من المسلمين بسبب هذه المناهج القياسية، التي تقيس بالآراء والعقول.

وقوله: (وينثلم) أي: أن الإنثلام أقل من الهدم، بمعنى أنه يخرج أناس إلى البدع فتنثلم عندهم السنة، ويخرجون إلى الأهواء فينثلم عندهم الإسلام الكامل في نفوس المسلمين وليس في الواقع، فإنه في الواقع أن الإسلام لا يمكن أن ينقطع لكنه قد يقل أو يكثر في واقع المسلمين.