شرح كتاب فضل الإسلام [9]


الحلقة مفرغة

قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: [ (ما من مولود يولد إلا على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء، هل تحسون فيها من جدعاء، حتى تكونوا أنتم تجدعونها)، ثم قرأ أبو هريرة رضي الله عنه: فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا [الروم:30]، متفق عليه.

وعن حذيفة رضي الله عنه قال: (كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير، وأنا أسأله عن الشر مخافة أن يدركني، فقلت: يا رسول الله! إنا كنا في جاهلية وشر، فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: نعم. فقلت: وهل بعد ذلك الشر من خير؟ قال: نعم وفيه دخن. قلت: وما دخنه؟ قال: قوم يستنون بغير سنتي، ويهدون بغير هديي، تعرف منهم وتنكر. قلت: فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: نعم. فتنة عمياء ودعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها، قلت: يا رسول الله! صفهم لنا. قال: قوم من جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا. قلت: يا رسول الله! ما تأمرني إن أدركت ذلك؟ قال: تلزم جماعة المسلمين وإمامهم. قلت: فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال: فاعتزل تلك الفرق كلها، ولو أن تعض على أصل شجرة حتى يأتيك الموت وأنت على ذلك) أخرجاه.

وزاد مسلم : (ثم ماذا؟ قال: ثم يخرج الدجال معه نهر ونار، فمن وقع في ناره وجب أجره وحط عنه وزره، ومن وقع في نهره وجب وزره وحط أجره. قلت: ثم ماذا؟ قال: هي قيام الساعة).

وقال أبو العالية : تعلموا الإسلام، فإذا تعلمتموه فلا ترغبوا عنه، وعليكم بالصراط المستقيم فإنه الإسلام، ولا تحرفوا عن الصراط يميناً ولا شمالاً، وعليكم بسنة نبيكم صلى الله عليه وسلم وإياكم وهذه الأهواء. انتهى.

تأمل كلام أبي العالية رحمه الله تعالى هذا ما أجله واعرف زمانه الذي يحذر فيه من الأهواء التي من اتبعها فقد رغب عن الإسلام، وتفسير الإسلام بالسنة والإسلام، وخوفه على أعلام التابعين وعلمائهم من الخروج عن السنة والكتاب، يتبين لك معنى قوله تعالى: إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ [البقرة:131]، وقوله: وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [البقرة:132]، وقوله تعالى: وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ [البقرة:130].

وأشباه هذه الأصول الكبار التي هي أصل الأصول والناس عنها في غفلة، وبمعرفته يتبين معاني الأحاديث في هذا الباب وأمثالها، وأما الإنسان الذي يقرؤها وأشباهها وهو آمن مطمئن أنها لا تناله، فيظنها في قوم كانوا فبانوا، أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ [الأعراف:99]. وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: (خط لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطاً، ثم قال: هذه سبيل الله، ثم خط خطوطاً عن يمينه وعن شماله، ثم قال: هذه سبل على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه، وقرأ: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [الأنعام:153]) رواه أحمد والنسائي ].

هذا الكلام والنصوص متمم لما سبق تحت الباب الأصل وهو، فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا [الروم:30]، وهنا ساق الشيخ عدة نصوص وأقوال وآثار للعلماء هي امتداد لتفسير معنى الحنيفية والدين، وأيضاً ما أمر الله به من الاستقامة على الفطرة والإسلام، وللشيخ وقفات عجيبة ولمحات تدل على قوة فقهه في السنة والنصوص، فهو أورد الحديث ليبين أن الإسلام هو دين الفطرة (ما من مولود يولد إلا على الفطرة).

ثم أشار إلى أن الأصل في الناس كلهم أنهم على الفطرة، وعلى الإسلام بمعناه العام، فإذا وفق الإنسان لأن ينشأ في بيئة مسلمة ويتربى على يد أبوين مسلمين فإنه يتحقق له الإسلام بمعناه الخاص وهذه درجة ثانية، ودرجة ثالثة وهي إذا وفق العبد للاستقامة على السنة وربي عليها وبقي له معنى الإسلام الصحيح الكامل وإن لم يوفق فقد ينحرف عن السنة ولو لم يخرج من مسمى الإسلام بمفهومه العام الشامل، ولذلك لما تكلم الشيخ بعد ذلك عن هذه الأمور فصل فيها على هذا النحو.

ثم ذكر حديث حذيفة رضي الله عنه في مسألة موقف المسلم من الفتن إذا كثرت، ومن غربة الإسلام إذا صارت، وقد كثر كلام أهل العلم حول هذا الحديث وما الذي قصده النبي صلى الله عليه وسلم بمثل هذا الحديث، والنبي صلى الله عليه وسلم حينما أخبر وأوصى حذيفة ووصى بعض الصحابة بمثل هذه الأمور أوصاهم على أمر سيكون، لكن إذا تأملنا الوصاية التي أوصى النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث وجدناها تخصص بأحوال؛ لأن هناك نصوصاً أخرى تفسر معاني هذه الوصاية، فلو تأملنا قوله صلى الله عليه وسلم حينما سئل عن الشر الذي كان قبل الجاهلية وهل سيحدث مثله أو سيعود مرة أخرى: (فهل بعد هذا الخير) أي: هذا الإسلام الذي جاء في عهد النبي صلى الله عليه وسلم حينما سئل (هل بعده من شر؟ قال: نعم) وبهذا نفهم أنه ليس المقصود بالشر عودة الجاهلية بكاملها لكنه شر نسبي، وهذا التفسير يشمل نصوصاً وأخباراً كثيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، مثل: نفي الإسلام عن بعض الأحوال، ونفي الإسلام عن بعض الأشخاص، ونفي الإسلام عن بعض الفئات، لابد أن يخصص لما جاء له، كذلك سيكون شر لكنه نسبي فتنة أو فتن تقع لكنها لا تزيل جذور الإسلام ولا تستبيح بيضة الإسلام والمسلمين، إنما هو أمر جزئي يقع لفتنة عارضة أو لأمور تحدث في بعض فئات المسلمين دون البقية، ودليل ذلك: الأخبار المؤكدة بأن الله عز وجل سيحفظ هذا الدين، والأخبار المؤكدة بأنه لا تزال طائفة من هذه الأمة على الحق ظاهرين، حتى مع وجود الشر النسبي الذي سيكون على طوائف من الأمة أو يكون في أحوال تكون الفتنة هي السائدة، ولكن هذه ومضات وإلا فالخير باقٍ إلى قيام الساعة وإلى أن يقاتل المسلمون الدجال كما في آخر الحديث.

إذاً: لابد من تخصيص مثل هذه النصوص التي تحكي وجود الشر، وهيمنة الفتنة والغربة لابد من تخصيصها بالنصوص الأخرى وتفسيرها بالنصوص الأخرى.

ولذلك لما قال: (وهل بعد الشر من خير؟) معناه أنه يمر على الأمة مراحل تسود فيها الفتن ويسود فيها بعض الشرور، لكن تبقى جذوة السنة وتبقى الطائفة المنصورة ويبقى الحق ظاهراً بيناً كما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم في حديث آخر: (تركتكم على المحجة أو على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك)، فهذه البيضاء معناها أنها كالشمس الطالع لا تغيب.. فالشمس الظاهرة لا يمكن أن تخفى على الناس، (فقال: نعم، وفيه دخن)، فلو أخذنا أنموذجاً لتطبيق هذا الحديث لوجدنا أنه بعد هذا الحديث حدثت فتنة في عهد عثمان رضي الله عنه وهذه الفتنة صار فيها شيء من الأمور التي جعلت بعض الصحابة لا يستطيع أن يجزم بالحق في أمر ما حدث بين الأمة فوقفوا؛ فمنهم من أخذ بهذه الوصية واعتزل؛ لأنه لم يستبصر الأمر فاعتزل لكن هذا الاعتزال لم يحكم الأمة كلها، فمن الصحابة من استبصر الأمر وصار الأمر عنده واضحاً كما حدث من علي رضي الله عنه ومن كانوا معه، ومنهم من تأول كـمعاوية رضي الله عنه ومن كان معه، ومنهم من قال: لا أدري؛ لأن هؤلاء صحابة وهؤلاء صحابة وليس عندنا ما نجزم به، وهؤلاء يريدون الحق ولا نستطيع أن نتهم دين أحد، فهؤلاء عملوا بمقتضى الحديث في ذلك الوقت المبكر.

لكن أثناء تطبيقهم لمقتضى الحديث: هل زال الإسلام وزالت السنة؟ لا، الإسلام كان قوياً والسنة كانت ظاهرة، لكن بعد هذه الفتنة وبعد انجلائها تبين الأمر أكثر من قبل، وأعقبها خير، والخير الذي فيه الدخن هو ظهور الفرق.

فالخير يكون فيه دخن ولبس وخلط، أي: يعرفون فيه نوعاً من المخالفات والبدع، ويكون الناس يرجعون للإسلام ولكن يبقى مخالفات البدع في طوائف من الأمة وليس في كل الأمة، ولذلك ينبغي أن نحذر من تفسير بعض المعاصرين لهذا الحديث حين قال: يجب أن نقبل من المسلمين ما هم عليه، فصاحب البدعة نقبل بدعته، وصاحب الفساد والفسق والفجور نقبل منه ذلك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أخبرنا أنه سيعود الخير وفيه دخن، فلابد أن نقبل ما عند الناس ولا داعي أن نقول: السنة هكذا أو الحق هكذا أو النهج الذي كان عليه السلف هو الذي ينبغي أن يلتزم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر بأن الحق أو الخير يعود وفيه دخن! نقول له: لا، هذا فقه قاصر، فليس كل الحق يكون فيه دخن، إنما معنى ذلك أنه بعد الفتن وبعد ما يحدث على الأمة أحياناً في بعض الظروف تخرج طوائف من الأمة عن السنة، فهذا الدخن في مجموع الأمة لا في كلها، فبعد الفتنة على عثمان رضي الله عنه وبعدما حدث الشجار بين الصحابة ظهرت فرق، وهذه الفرق هي الدخن، لكن بقية المسلمين على السنة وليس في عقائدهم لبس، ولا عندهم دخن في الدين، بل كانوا على السنة الظاهرة.

ثم فسر الدخن، (قال: وما دخنه؟ قال: قوم يستنون بغير سنتي، ويهتدون بغير هديي، تعرف منهم وتنكر) وهم أهل البدع والظلم والفسق والفجور وهذا يدل على أن الأمة ليس كلها تقع في هذا الالتباس ولا كل الإسلام يعود بالدخن، الإسلام يبقى ناصعاً والسنة تبقى ظاهرة، ثم ذكر: (هل بعد هذا الخير من شر؟ قال: نعم، فتنة عمياء ودعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها) وهذا يشمل ما حدث في تاريخ الأمة من البدع والأهواء والافتراق، وما حدث من المخالفات لكن ربما يخص زمناً من الأزمنة أكثر من غيرها.

فالفتنة العمياء وصف مجمل لا ندري متى تكون هذه الفتنة العمياء ولا فيمن تكون وهل هي محصورة في جيل دون جيل؟ ليس عندنا دليل، إنما هذا بيان مجمل يدل على أنها تقع في الأمة فتن، وأن الفتن إذا وقعت فإنه يعمى فيها الحق على كثير من الناس، وأن الفتن التي تحدث للأمة سواء فتن القتال والحروب وهذه يصحبها أهواء أو فتن البدع والأهواء والخروج على السنة وهي الغالب، وهذه الفتن كلها يصحبها رايات الدعاة إلى أبواب جهنم.

فعلى هذا لا يصح الجزم بأن هذا الحديث يخص فترة من الفترات، وربما يكون في فترة في آخر الزمان يكون معنى هذا الحديث أكثر من غيره من الفتن التي سبقت.

لزوم جماعة المسلمين عند ظهور الفتن

أيضاً: في قوله صلى الله عليه وسلم: (تلزم جماعة المسلمين)، لما قال: (قلت: يا رسول الله! ما تأمرني إن أدركت ذلك؟ قال: تلزم جماعة المسلمين وإمامهم)، وهذه وصية عامة لكل مسلم يحدث له مثل ذلك في أي زمان وفي أي مكان إذا رأى الأمر يوجد فيه شيء مما يخفى فيه الحق، فإذا حدثت فتنة بين المسلمين أياً كان نوع هذه الفتنة، فعليه أن يلزم ما عليه جماعة المسلمين؛ لأن كلاً يدعي أنه الجماعة، وفي الأزمنة الأخيرة خصوصاً ضاعت مسألة المفاهيم الشرعية في أذهان الناس، فقد يقول قائل: ما الجماعة؟ وهذا حق وكل يدعي اليوم مفهوم الجماعة فظهرت نابتة تدعي أن المسلمين كلهم هم جماعة مسلمة، وأن الفرق المفارقة هي أولى بأن تكون جماعة المسلمين ممن يسمون السلف، وهذه دعوى من أكبر الدعاوى العريضة الفاتنة للناس، ولكن هناك ضابط شرعي للجماعة، فالجماعة لها مفاهيم كلها ينطبق عليها هذا الوصف، ومن هذه المفاهيم أولاً: أن جماعة المسلمين هم الذين اجتمعوا على إمام له بيعة، والمسلم يجمع على البيعة، فهذه من الأوصاف التي تعرف بها الجماعة، حتى وإن كانوا على رأي مرجوح، وإن كان فيهم شيء من الخلل والتقصير ما دامت كلمتهم مجتمعة على إمام مسلم، فلابد أن تتمثل بهم الجماعة في مثل هذه الوصية التي ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم وأوصى بها.

ثانياً: أن جماعة المسلمين يتمثلون بأهل الحق، وأهل الحق أيضاً دعوى ولكن نعرفها بما كان عليه العلماء أصحاب الثقة والرسوخ العلماء، والعلماء أيضاً وصف اعتباري له شروطه وضوابطه، يهبه الله عز وجل لمن يشاء ممن يوفق بأن يكون له من العلم والفضل والاعتبار في قلوب المسلمين، فالعالم القدوة الذي يكون له الرأي هذا معنى من معاني جماعة المسلمين ولا ينفك عن الأول، فالمسلمون الذين تحت إمام أو حاكم مسلم لابد أن يمثلهم علماؤهم، فيجتمع المعنيان على هذا المعنى، جماعة المسلمين الذين لهم بيعة بإمام مسلم ومن فيهم من العلماء هم داخلون على رأس الجماعة، ثم يدخل في مفهوم الجماعة من يصدرون عن العلماء وعن الحاكم المسلم من أهل الحل والعقد أهل الرأي والمشورة من أمراء وولاة وقواد ورؤساء عشائر ومطاعون في الأمة، هؤلاء يتمثل بمجموعهم جماعة المسلمين أو في بعضهم إذا فقد البعض الآخر، فقد تجتمع هذه المعاني جميعاً أو بعضها.

إذاً: المسلم إذا أشكل عليه أمر وظهرت الأقوال المتضاربة وظهرت الفتنة، عليه أن يلزم جماعة المسلمين وإمامهم على حالهم التي كانوا عليها بعيداً عن النظرة المثالية كما يحدث من بعض الناس الذين يجهلون أحكام الشرع، وبعيداً عن العواطف وبعيداً عن الاعتداد بالرأي.

ومما ينبغي التنبه له: أن الجماعة في بعض الأزمان والأمكنة التي يجب الاعتصام بها قد لا تكون على الحال الأمثل وقد لا تكون في خلافة راشدة، قد تكون في ملك عضوض وقد لا يكون العلماء فيها بالصورة التي نسمع بها في القرون الثلاثة الفاضلة، وقد لا يكون الناس في جملتهم على الاستقامة، وقد يكون عندهم شيء من الانحرافات في الجملة لكن لا يضيع الحق بينهم.

العزلة زمن الفتن

ثم ذكر الشيخ بعد ذلك توجيهاً آخر فيما إذا لم يجد المسلم في بيئة من البيئات أو مكان من الأمكنة جماعة ولا إماماً، وهذا قد ينطبق على عصرنا أكثر من غيره، فقد مر على المسلمين فترات في السابق ويحدث في بعض الأزمان والأمكنة مثل هذا الحال لا يكون للمسلمين في بلد ما أو في مكان ما، لا جماعة ولا إمام ولكنه في زماننا أكثر، وقد يوجد في بعض بيئات المسلمين وفي بعض الأمكنة وفي بعض الظروف أن المسلم عندما يتأمل يجد أنه لا يتحقق في البيئة التي هو فيها معنى الجماعة الشرعي ولا الإمام، ولكن هذا لا يكون في الأمة كلها لوجود طائفة على الحق ظاهرين، والأمة كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم لا تجتمع على ضلالة، وأنه لا يضيع الحق، وأن الحق يبقى كالبيضاء ليلها كنهارها إلى آخره من النصوص التي نجزم قطعاً بأن الحق لا يضيع في مجموع الأمة بكل مكان وفي زمان واحد لا يمكن إلى أن تقوم الساعة، لكن الحديث يحكم حالات محدودة لأفراد محدودين وفي بيئات محدودة وفي زمن محدود، فإذا حدث مثل ذلك فعلى المسلم أن يعتزل هذه الفرق؛ لأنه لا يجد واحدة على السنة ولو وجد واحدة على السنة لما وسعه أن يعتزل، ويجوز له أن يعتزل، لكن ما وجد أحداً على السنة، ولا وجد إماماً يسمع له ويطيع ويخضع، فمن هنا عليه أن يعمل بهذه الوصية، وهذه حالات نادرة تحدث في الأمة.

قال عليه الصلاة والسلام: (فاعتزل تلك الفرق كلها ولو أن تعض على أصل شجرة حتى يأتيك الموت وأنت على ذلك) ولذلك لما تأول بعض الصحابة رضي الله عنهم ما شجر بين الأمة في ذلك الوقت ونظروا في فقه هذا الحديث أبعدوا عن الحاضرة وذهب بعضهم إلى البادية والأرياف بعيدين عن المدن، واعتزلوا الفتنة أخذاً بمثل هذه الوصية، لكن ليس لجميع أفراد الأمة وإنما لمن لم يستبن له الأمر.

ثم ذكر بعد ذلك قال: (ثم يخرج الدجال معه نهر) وهذا فيه إشارة والله أعلم إلى أن الحال الأخيرة تحدث قبيل ظهور الدجال أكثر من غيرها، وإلا فإنها تحدث على فترات التاريخ، ثم قبل خروج الدجال .

أيضاً: في قوله صلى الله عليه وسلم: (تلزم جماعة المسلمين)، لما قال: (قلت: يا رسول الله! ما تأمرني إن أدركت ذلك؟ قال: تلزم جماعة المسلمين وإمامهم)، وهذه وصية عامة لكل مسلم يحدث له مثل ذلك في أي زمان وفي أي مكان إذا رأى الأمر يوجد فيه شيء مما يخفى فيه الحق، فإذا حدثت فتنة بين المسلمين أياً كان نوع هذه الفتنة، فعليه أن يلزم ما عليه جماعة المسلمين؛ لأن كلاً يدعي أنه الجماعة، وفي الأزمنة الأخيرة خصوصاً ضاعت مسألة المفاهيم الشرعية في أذهان الناس، فقد يقول قائل: ما الجماعة؟ وهذا حق وكل يدعي اليوم مفهوم الجماعة فظهرت نابتة تدعي أن المسلمين كلهم هم جماعة مسلمة، وأن الفرق المفارقة هي أولى بأن تكون جماعة المسلمين ممن يسمون السلف، وهذه دعوى من أكبر الدعاوى العريضة الفاتنة للناس، ولكن هناك ضابط شرعي للجماعة، فالجماعة لها مفاهيم كلها ينطبق عليها هذا الوصف، ومن هذه المفاهيم أولاً: أن جماعة المسلمين هم الذين اجتمعوا على إمام له بيعة، والمسلم يجمع على البيعة، فهذه من الأوصاف التي تعرف بها الجماعة، حتى وإن كانوا على رأي مرجوح، وإن كان فيهم شيء من الخلل والتقصير ما دامت كلمتهم مجتمعة على إمام مسلم، فلابد أن تتمثل بهم الجماعة في مثل هذه الوصية التي ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم وأوصى بها.

ثانياً: أن جماعة المسلمين يتمثلون بأهل الحق، وأهل الحق أيضاً دعوى ولكن نعرفها بما كان عليه العلماء أصحاب الثقة والرسوخ العلماء، والعلماء أيضاً وصف اعتباري له شروطه وضوابطه، يهبه الله عز وجل لمن يشاء ممن يوفق بأن يكون له من العلم والفضل والاعتبار في قلوب المسلمين، فالعالم القدوة الذي يكون له الرأي هذا معنى من معاني جماعة المسلمين ولا ينفك عن الأول، فالمسلمون الذين تحت إمام أو حاكم مسلم لابد أن يمثلهم علماؤهم، فيجتمع المعنيان على هذا المعنى، جماعة المسلمين الذين لهم بيعة بإمام مسلم ومن فيهم من العلماء هم داخلون على رأس الجماعة، ثم يدخل في مفهوم الجماعة من يصدرون عن العلماء وعن الحاكم المسلم من أهل الحل والعقد أهل الرأي والمشورة من أمراء وولاة وقواد ورؤساء عشائر ومطاعون في الأمة، هؤلاء يتمثل بمجموعهم جماعة المسلمين أو في بعضهم إذا فقد البعض الآخر، فقد تجتمع هذه المعاني جميعاً أو بعضها.

إذاً: المسلم إذا أشكل عليه أمر وظهرت الأقوال المتضاربة وظهرت الفتنة، عليه أن يلزم جماعة المسلمين وإمامهم على حالهم التي كانوا عليها بعيداً عن النظرة المثالية كما يحدث من بعض الناس الذين يجهلون أحكام الشرع، وبعيداً عن العواطف وبعيداً عن الاعتداد بالرأي.

ومما ينبغي التنبه له: أن الجماعة في بعض الأزمان والأمكنة التي يجب الاعتصام بها قد لا تكون على الحال الأمثل وقد لا تكون في خلافة راشدة، قد تكون في ملك عضوض وقد لا يكون العلماء فيها بالصورة التي نسمع بها في القرون الثلاثة الفاضلة، وقد لا يكون الناس في جملتهم على الاستقامة، وقد يكون عندهم شيء من الانحرافات في الجملة لكن لا يضيع الحق بينهم.

ثم ذكر الشيخ بعد ذلك توجيهاً آخر فيما إذا لم يجد المسلم في بيئة من البيئات أو مكان من الأمكنة جماعة ولا إماماً، وهذا قد ينطبق على عصرنا أكثر من غيره، فقد مر على المسلمين فترات في السابق ويحدث في بعض الأزمان والأمكنة مثل هذا الحال لا يكون للمسلمين في بلد ما أو في مكان ما، لا جماعة ولا إمام ولكنه في زماننا أكثر، وقد يوجد في بعض بيئات المسلمين وفي بعض الأمكنة وفي بعض الظروف أن المسلم عندما يتأمل يجد أنه لا يتحقق في البيئة التي هو فيها معنى الجماعة الشرعي ولا الإمام، ولكن هذا لا يكون في الأمة كلها لوجود طائفة على الحق ظاهرين، والأمة كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم لا تجتمع على ضلالة، وأنه لا يضيع الحق، وأن الحق يبقى كالبيضاء ليلها كنهارها إلى آخره من النصوص التي نجزم قطعاً بأن الحق لا يضيع في مجموع الأمة بكل مكان وفي زمان واحد لا يمكن إلى أن تقوم الساعة، لكن الحديث يحكم حالات محدودة لأفراد محدودين وفي بيئات محدودة وفي زمن محدود، فإذا حدث مثل ذلك فعلى المسلم أن يعتزل هذه الفرق؛ لأنه لا يجد واحدة على السنة ولو وجد واحدة على السنة لما وسعه أن يعتزل، ويجوز له أن يعتزل، لكن ما وجد أحداً على السنة، ولا وجد إماماً يسمع له ويطيع ويخضع، فمن هنا عليه أن يعمل بهذه الوصية، وهذه حالات نادرة تحدث في الأمة.

قال عليه الصلاة والسلام: (فاعتزل تلك الفرق كلها ولو أن تعض على أصل شجرة حتى يأتيك الموت وأنت على ذلك) ولذلك لما تأول بعض الصحابة رضي الله عنهم ما شجر بين الأمة في ذلك الوقت ونظروا في فقه هذا الحديث أبعدوا عن الحاضرة وذهب بعضهم إلى البادية والأرياف بعيدين عن المدن، واعتزلوا الفتنة أخذاً بمثل هذه الوصية، لكن ليس لجميع أفراد الأمة وإنما لمن لم يستبن له الأمر.

ثم ذكر بعد ذلك قال: (ثم يخرج الدجال معه نهر) وهذا فيه إشارة والله أعلم إلى أن الحال الأخيرة تحدث قبيل ظهور الدجال أكثر من غيرها، وإلا فإنها تحدث على فترات التاريخ، ثم قبل خروج الدجال .