حينئذ إذا جاء دليل فصرفنا الظاهر إلى المعنى الباطن أو المرجوح ويكون لنص، وهذا إنما يحتمل في الأحكام، وأما في الأخبار ومنها آيات نصوص الصفات والأسماء فحينئذٍ تبقى على ظاهرها، ويقال ظاهرها هو المراد، ولا تحتمِل معنى باطنًا ولا يصح تحريف اللفظ عن ظاهره إلى ذلك المعنى الْمُدَّعَى، وقد يكون ثَمَّ لفظ وله معانٍ متعددة في لسان العرب، لكن لا ينبغي حمله إلا على ظاهره كما هو شأنه في اليد، {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة: 64] فاليد تطلق بمعنى النعمة، وبمعنى القدرة، وقد يكون المراد بها ظاهر اللفظ، فيدل على أن الظاهر هو المتبادر، وما عداه فهو معنى مرجوح، ولا يمكن حمل اللفظ على معناه المرجوح إلا بدليل، وقد دل دليل هنا على اعتبار المعاني الظاهرة، دون المعاني المرجوحة، ومنها الاستواء هنا، المراد بالرب جل وعلا به العلو الخاص كما سيأتي. وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله لما قضى الخلق كتب عنده فوق عرشه إن رحمتي سبقت غضبي» . رواه البخاري. «كتب عنده» عنده هنا على أصلها، لأن المراد بها قرب المكان، «فوق عرشه إن رحمتي سبقت غضبي» . وفيه إثبات «عند» وهذا دليل على الاستواء، وفيه إثبات العرش، وأجمع السلف على ذلك، إثبات استواء الله تعالى على عرشه، استواءً يليق بجلاله، من غير تحريف ولا تعطيل، ولا تكييف ولا تمثيل، وهو استواء معناه كما هو الوارد في لسان العرب: أن استوى إذا تعدَّى بـ (على) فإنما معناه العلو والاستقرار، ونزيد عليه: على وجهٍ يليق بالرب جل وعلا، ... {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} العرش في اللغة: هو السرير الخاص بالملك، وفي الشرع: العرش العظيم الذي استوى عليه الرحمن جل وعلا، وهو أعلى المخلوقات، والسقف المحيط بالمخلوقات {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ} [البقرة: 255] وهل نعلم مادته؟ نقول: لا، لا نعلم مما خلقه الله عز وجل. وإنما نؤمن بما ذكره الرب تعالى، ولا نُدخل أذهاننا وعقولنا فيما لم يرد فيه نص، فنقول العرش مخلوق، ونثبت أنه مخلوق، وهو أعلى المخلوقات، وهو مخلوق عظيم، وأما مادته؟ ومما خُلق؟ فهذا نقول: الله أعلم به، وكذلك الكلام في كيفيته، وصفه الله سبحانه وتعالى بأنه عظيم، {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} [التوبة: 129] ذو العظمة، وبأنه كريم {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} ... [المؤمنون: 116] الكريم وصف للعرش، وبأنه مجيد، {ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ} [البروج: 15] (المجيدِ) بالخفض على أنه نعت للعرش، إذًا هذا العرش مخلوق ولا نعلم مادته، الله أعلم بها، لعدم الدليل الوارد، ونصفه بما وصفه الله تعالى في كتابه بأنه عظيم، وبأنه كريم، وبأنه مجيد، والكرسي غير العرش، لأن العرش هو ما استوى عليه الرب جل وعلا، والكرسي هو موضع قدميه، لقول ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: ... (الكرسي موضع القدمين، والعرش لا يقدر أحد قدره) .