الشاهد هنا أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- بيّن حاله وألان له، ثم قال: (إن شر الناس منزلة عند الله من تُرك أو وَدَعه الناس اتقاء فحشه) ؛ الرسول كان يلين له القول حتى يكف أذاه عن الناس، لكن الرسول -صلى الله عليه وسلم- لم يسكت عن منكر فعله عيينة بن حصن، ولم يسكت على شيء باطل. هو فقط دخل فألان له القول ثم ذهب. يعني لم يحدث أمر باطل ولم يأتِ عيينة بشيء باطل أمام الرسول، لكن بشّ له وتكلم له بلين وبيّن حاله، لأن الرسول هو الذي يبلغ عن ربه.
الشاهد هنا هو يقول أن هذه مداراة، يعني تلين له القول وتتلطف معه وترفق به لأنه جاهل في التعلم وهكذا.
ولذلك بعض العلماء تكلموا في هذه المداراة في التفريق بينها وبين المداهنة، بعضهم قال:"المداراة درء الشر المُفسد بالقول اللين وترك الغلظة، والإعراض عن الشرير إذا خيف شره أو حصل منه ضرر أكبر مما هو مُلتبَس به. والمداراة مشروعة لأنها دفع للشر ورد له أو تخفيف له، ولأن في استعمالها بُعدًا عن الفحش والتفحش، ولأنها من باب ارتكاب أخف الضررين وأدنى المفسدتين وفعل أعلى المصلحتين". كما في الحديث الذي تكلمنا عنه حديث عيينة بن حصن، وهناك حديث آخر: (شركم من اتقاه الناس خشية فُحشه) .
إذًا هذا هو الكلام عن المداراة.
أما المداهنة، فالمداهنة من الادهان، يعني كأنه يدهن. وحقيقة هذا الفعل أن يجعل للشيء دهنًا، كأنك تطلي شيئًا، إما لتليينه أو لتلوينه، ولذلك اشتق منها كلمة الادهان أو المداهنة.
ولذلك يقول القاضي عياض عن المداهنة:"إنما هي إعطاء بالدِّين ومصانعة بالكذب والتزيين للقبيح". يعني أنت تدهن شيئًا قبيحًا فتستره وتزينه. وهذه الخلاف المداراة. فالمداهنة محظورة شرعًا، لقول الله -عزَّ وجلَّ-: {فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ، وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} [القلم] فجعل المداهنة صفة للمكذبين، ويرومون حدوثها في كل زمان ومكان من الرسل.