عزل معاوية رضي الله عنه مروان بن الحكم عن المدينة وولى عليها الوليد بن عتبة بن أبي سفيان، وهو الذي حج بالناس في هذه السنة، لأنه صارت إليه إمرة المدينة، ولم يزل عليها واليا حتى مات معاوية رضي الله عنه.


هي هند بنت أبي أمية سهيل بن المغيرة بن عبد الله، وأمها عاتكة بنت عامر بن ربيعة، كانت تحت أبي سلمة عبد الله بن عبد الأسد بن هلال، كانت أول من هاجر إلى الحبشة هي وزوجها، ويقال أيضا: إن أم سلمة أول ظعينة هاجرت إلى المدينة، تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم بعد بدر، وقيل: بعد أحد.

وقصتها يوم الحديبية حيث أشارت على النبي صلى الله عليه وسلم بأن يحلق هو وينحر دون أن يكلم أحدا، فلما فعل تسارع الصحابة إلى فعل ما كانوا قد أحجموا قبل عن فعله لما أمرهم به النبي صلى الله عليه وسلم، توفيت في المدينة، وقيل كانت وفاتها عام 61 للهجرة.


هو عبد الملك بن مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية، أبو الوليد الأموي أمير المؤمنين، ولد سنة ست وعشرين بالمدينة, شهد الدار –يعني يوم مقتل عثمان-مع أبيه، وله عشر سنين، وهو أول من سار بالناس في بلاد الروم سنة ثنتين وأربعين، وكان أميرا على أهل المدينة وله ست عشرة سنة، ولاه إياها معاوية، وكان يجالس الفقهاء والعلماء والعباد والصلحاء, بويع بالخلافة في سنة خمس وستين في حياة أبيه، في خلافة ابن الزبير، وبقي على الشام ومصر مدة سبع سنين، وابن الزبير على باقي البلاد ثم استقل بالخلافة على سائر البلاد والأقاليم بعد مقتل ابن الزبير، وقد كان عبد الملك قبل الخلافة من العباد الزهاد الفقهاء الملازمين للمسجد، التالين للقرآن، وكان ربعة من الرجال أقرب إلى القصر.

قال عنه نافع: رأيت المدينة وما فيها شاب أشد تشميرا، ولا أفقه ولا أقرأ لكتاب الله من عبد الملك بن مروان.

قال عبد الملك: كنت أجالس بريرة قبل أن ألي هذا الأمر، فكانت تقول: يا عبد الملك، إن فيك خصالا، وإنك لجدير أن تلي أمر هذه الأمة، فاحذر الدماء ; فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن الرجل ليدفع عن باب الجنة أن ينظر إليها على محجمة من دم يريقه من مسلم بغير حق.

كان فقهاء المدينة أربعة: سعيد بن المسيب، وعروة، وقبيصة بن ذؤيب، وعبد الملك بن مروان قبل أن يدخل في الإمارة.

لم يزل عبد الملك مقيما بالمدينة حتى كانت وقعة الحرة، واستولى ابن الزبير على بلاد الحجاز، وأجلى بني أمية منها، فقدم مع أبيه الشام، ثم لما صارت الإمارة مع أبيه وبايعه أهل الشام أقام في الإمارة تسعة أشهر، ثم عهد إليه بالإمارة من بعده.

بويع عبد الملك بالخلافة في مستهل رمضان سنة خمس وستين، واجتمع الناس عليه بعد مقتل ابن الزبير سنة ثلاث وسبعين.

كان عبد الملك له إقدام على سفك الدماء، وكان عماله على مذهبه; منهم الحجاج، والمهلب، وغيرهم، وكان حازما فهما فطنا، سائسا لأمور الدنيا، لا يكل أمر دنياه إلى غيره، وكان عبد الملك يقول: أخاف الموت في شهر رمضان، فيه ولدت وفيه فطمت وفيه جمعت القرآن، وفيه بايع لي الناس، فمات في النصف من شوال حين أمن الموت في نفسه.

وكان عمره ستين سنة، وقيل: ثلاثا وستين سنة.

وكانت خلافته من لدن قتل ابن الزبير ثلاث عشرة سنة وأربعة أشهر إلا سبع ليال، وقيل: وثلاثة أشهر وخمسة عشر يوما.

ودفن خارج باب الجابية.

صلى عليه ابنه الوليد وولي عهده من بعده.


لما دفن عبد الملك بن مروان انصرف الوليد عن قبره فدخل المسجد وصعد المنبر واجتمع إليه الناس فخطبهم وقال: إنا لله وإنا إليه راجعون، والله المستعان على مصيبتنا لموت أمير المؤمنين، والحمد لله على ما أنعم علينا من الخلافة، قوموا فبايعوا، فكان أول من عزى نفسه وهنأها؛ وكان أول من قام لبيعته عبد الله بن همام السلولي.


كان سبب ذلك أن عمر بن عبد العزيز كتب إلى الوليد يخبره عن أهل العراق أنهم في ضيم وضيق مع الحجاج من ظلمه وغشمه، فسمع بذلك الحجاج فكتب إلى الوليد: إن عمر ضعيف عن إمرة المدينة، وإن جماعة من أهل الشقاق من أهل العراق قد لجأوا إلى المدينة ومكة، وهذا وهن وضعف في الولاية، فاجعل على الحرمين من يضبط أمرهما.

فكتب الوليد إلى الحجاج: أن أشر علي برجلين.

فكتب إليه يشير عليه بعثمان بن حيان، وخالد بن عبد الله، فولى خالدا مكة، وعثمان المدينة، وعزل عمر بن عبد العزيز، فخرج عمر بن عبد العزيز من المدينة في شوال فنزل السويداء، وقدم عثمان بن حيان المدينة لليلتين بقيتا من شوال من هذه السنة.


هو محمد بن سيرين أبو بكر بن أبي عمرو الأنصاري، مولى أنس بن مالك النضري، كان أبوه من سبي عين التمر، أسره في جملة السبي خالد بن الوليد، فاشتراه أنس بن مالك ثم كاتبه.

ولد ابن سيرين لسنتين بقيتا في خلافة عثمان، كان من جلة التابعين، قال هشام بن حسان: هو أصدق من أدركت من البشر.

ولما مات أنس بن مالك أوصى أن يغسله محمد بن سيرين، قال ابن عون: كان محمد يأتي بالحديث على حروفه.

قال أشعث: كان ابن سيرين إذا سئل عن الحلال والحرام تغير لونه حتى يكون كأنه ليس بالذي كان.

قال مورق العجلي: ما رأيت أحدا أفقه في ورعه ولا أورع في فقهه من محمد بن سيرين.

كان مشهورا في تعبير الرؤى والأحلام، وأما الكتاب الموجود اليوم على أنه من تأليفه فغير صحيح، فهو لم يؤلف كتابا في تفسير الرؤى، وتعبيراته للرؤى مبثوثة في كتب التراجم والتاريخ.


هو الإمام، الصادق، شيخ بني هاشم، أبو عبدالله جعفر بن محمد الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب، القرشي، الهاشمي، العلوي، النبوي، المدني، أحد الأعلام من التابعين, وكان يلقب بالصابر، والفاضل، والطاهر، وأشهر ألقابه الصادق، ولد سنة 80, وأمه أم فروة بنت القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق, وأمها: هي أسماء بنت عبد الرحمن بن أبي بكر، ولهذا كان يقول: ولدني أبو بكر الصديق مرتين.

قال الذهبي: "كان يغضب من الرافضة، ويمقتهم إذا علم أنهم يتعرضون لجده أبي بكر ظاهرا وباطنا, ثم قال: هذا لا ريب فيه، ولكن الرافضة قوم جهلة، قد هوى بهم الهوى في الهاوية، فبعدا لهم" وقال: "أن الصادق رأى بعض الصحابة، أحسبه رأى: أنس بن مالك، وسهل بن سعد".
حاول المنصور أن يظفر به، لكنه لم يقدر عليه وانثنى عن ذلك، كان من أجلاء التابعين؛ فقيها عالما جوادا كريما زاهدا عابدا، قال ابن خلكان: " أحد الأئمة الاثني عشر على مذهب الإمامية، وكان من سادات أهل البيت ولقب بالصادق لصدقه في مقالته وفضله أشهر من أن يذكر، وله كلام في صنعة الكيمياء والزجر والفأل".

أورد الذهبي بإسناد قال إنه صحيح، عن سالم بن أبي حفصة قال: "سألت أبا جعفر محمد بن علي وابنه جعفرا عن أبي بكر وعمر، فقالا: يا سالم، تولهما وابرأ من عدوهما؛ فإنهما كانا إمامي هدى.

وقال لي جعفر: يا سالم، أيسب الرجل جده؟! أبو بكر جدي، فلا نالتني شفاعة محمد يوم القيامة إن لم أكن أتولاهما وأبرأ من عدوهما!" توفي في المدينة ودفن في البقيع.

 


ظهر الحسين بن علي بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب بالمدينة، وذلك أنه أصبح يوما وقد لبس البياض وجلس في المسجد النبوي، وجاء الناس إلى الصلاة، فلما رأوه ولوا راجعين، والتف عليه جماعة فبايعوه على الكتاب والسنة والرضا من أهل البيت, وكان سبب خروجه أن متولي المدينة خرج منها إلى بغداد ليهنئ الخليفة الهادي بالولاية ويعزيه في أبيه.

ثم جرت أمور اقتضت خروجه، والتف عليه جماعة وجعلوا مأواهم المسجد النبوي، ومنعوا الناس من الصلاة فيه، ولم يجبه أهل المدينة إلى ما أراده، بل جعلوا يدعون عليه لانتهاكه المسجد، حتى ذكر أنهم كانوا يقذرون في جنبات المسجد، وقد اقتتلوا مع المسودة مرات، فقتل من هؤلاء وهؤلاء.

ثم ارتحل إلى مكة فأقام بها إلى زمن الحج، فبعث إليه الهادي جيشا فقاتلوه بعد فراغ الناس من الموسم، فقتلوه وقتلوا طائفة من أصحابه، وهرب بقيتهم وتفرقوا شذر مذر, منهم إدريس بن عبدالله الذي أسس دولة الأدارسة العلوية بالمغرب, وكان موقع المعركة يسمى فخ بمكة عبارة عن فج من فجاجها.


فتح الرشيد هرقلة، وكان سبب مسيره إليها ما حصل سنة سبع وثمانين ومائة، من غدر نقفور، فحاصر الرشيد هرقلة ثلاثين يوما وسبى أهلها، وكان قد دخل البلاد في مائة ألف وخمسة وثلاثين ألفا من المرتزقة، سوى الأتباع والمتطوعة، ومن لا ديوان له، وأناخ عبد الله بن مالك على ذي الكلاع، ووجه داود بن عيسى بن موسى سائرا في أرض الروم في سبعين ألفا، ففتح الله عليه، وفتح شراحيل بن معن بن زائدة حصن الصقالبة ودلسة، وافتتح يزيد بن مخلد الصفصاف وملقونية، كما أجبر نقفور على دفع جزية كبيرة للمسلمين وإلزامه بها، فبعث نقفور بالخراج والجزية عن رأسه أربعة دنانير، وعن رأس ولده دينارين، وعن بطارقته كذلك، وكتب نقفور إلى الرشيد في جارية من سبي هرقلة كان خطبها لولده، فأرسلها إليه.


كان سبب ذلك أن إبراهيم قبض على عيسى بن محمد بن أبي خالد وحبسه، وأخذ عدة من قواده وأهله، فحبسهم ونجا بعضهم، وفيمن نجا أخو عيسى العباس بن محمد، ومشى بعض أهله إلى بعض، وحرضوا الناس على إبراهيم، وكان أشدهم العباس بن محمد، وكان هو رأسهم، فاجتمعوا وطردوا عامل إبراهيم على الجسر، والكرخ وغيره، وظهر الفساق والشطار، وكتب العباس إلى حميد بن عبد الحميد يسأله أن يقدم عليهم حتى يسلموا إليه بغداد، فقدم عليهم، وسار حتى أتى نهر صرصر فنزل عنده.

وخرج إليه العباس وقواد أهل بغداد، فلقوه، ووعدهم أن يصنع لهم العطاء يوم السبت في الياسرية على أن يدعوا للمأمون بالخلافة يوم الجمعة، ويخلعوا إبراهيم، فأجابوه إلى ذلك.

ولما بلغ إبراهيم الخبر أخرج عيسى ومن معه من إخوته من الحبس، وسأله أن يرجع إلى منزله، ويكفيه أمر هذا الجانب، فأبى عليه.

ثم بعد ذلك رضي فخلى سبيله، وأخذ منه كفلاء، وكلم عيسى الجند، ووعدهم أن يعطيهم مثل ما أعطاهم حميد بن عبد الحميد، فأبوا ذلك، وشتموه وأصحابه، وقالوا: لا نريد إبراهيم، فقاتلهم ساعة، ثم ألقى نفسه في وسطهم، حتى أخذوه شبه الأسير، فأخذه بعض قواده، فأتى به منزله، ورجع الباقون إلى إبراهيم، فأخبروه الخبر، فاغتم لذلك.

ثم اختفى إبراهيم بن المهدي؛ وكان سبب ذلك أن أصحاب إبراهيم وقواده تسللوا إلى حميد بن عبد الحميد فصار عامتهم عنده، وأخذوا له المدائن.

فلما رأى إبراهيم فعلهم أخرج جميع من بقي عنده حتى يقاتلوا فالتقوا على جسر نهر ديالى، فاقتتلوا فهزمهم حميد وتبعهم أصحابه، حتى دخلوا بغداد، وذلك نهاية ذي العقدة.

فلما كان الأضحى اختفى الفضل بن الربيع، ثم تحول إلى حميد بن عبد الحميد، وجعل الهاشميون والقواد يأتون حميدا واحدا بعد واحد، فلما رأى ذلك إبراهيم سقط في يديه، وشق عليه، اختفى ليلة الأربعاء لثلاث عشرة بقيت من ذي الحجة.

وكانت أيام إبراهيم سنة وأحد عشر شهرا واثني عشر يوما.


لما فعل الروم ما فعلوا بأهل زبطرة وغيرها، وكانت فتنة بابك قد انتهت، سار المعتصم بجيشه قاصدا فتح عمورية؛ إذ كانت تعد من أقوى مدن الروم، بل ربما كانت بمكانة القسطنطينية، فكان أول الأمر أن التقى الأفشين مع الروم وهزمهم شر هزيمة، ثم سار المعتصم والأفشين وأشنان، كل على رأس جيش، متوجهين إلى عمورية وكانت حصينة ذات سور منيع وأبراج تحصن أهلها فيها، فنصب المنجنيق وهدم السور من جهة كانت ضعيفة دلهم عليها أحد الأسرى، فبعث نائب البلد لملك الروم كتابا يعلمه بالأمر، ولكن الكتاب لم يصل حيث قبض على الغلامين اللذين كان معهما الكتاب، ثم زاد الضرب بالمنجنيق حتى انهدم ذلك الجزء، لكنه لا يزال صغيرا على دخول الجيش، ثم إن الموكل بحفظ ذلك البرج من الروم لم يستطع الصمود، فنزل للقتال ولم يعاونه أحد من الروم, فأمر المعتصم المسلمين أن يدخلوا البلد من تلك الثغرة التي قد خلت من المقاتلة، فركب المسلمون نحوها، فجعلت الروم يشيرون إليهم ولا يقدرون على دفاعهم، فلم يلتفت إليهم المسلمون، ثم تكاثروا عليهم ودخلوا البلد قهرا، وتتابع المسلمون إليها يكبرون، وتفرقت الروم عن أماكنها، فجعل المسلمون يقتلونهم في كل مكان حيث وجدوهم، وقد حشروهم في كنيسة لهم هائلة ففتحوها قسرا وقتلوا من فيها وأحرقوا عليهم باب الكنيسة، فاحترقت فأحرقوا عن آخرهم، ولم يبق فيها موضع محصن سوى المكان الذي فيه النائب، وهو مناطس في حصن منيع، ثم أنزل مهانا وأخذ المسلمون من عمورية أموالا لا تحد ولا توصف، فحملوا منها ما أمكن حمله، وأمر المعتصم بإحراق ما بقي من ذلك، وبإحراق ما هنالك من المجانيق والدبابات وآلات الحرب؛ لئلا يتقوى بها الروم على شيء من حرب المسلمين، ثم انصرف المعتصم راجعا إلى ناحية طرسوس.


فتح المسلمون مدينة قصريانة، وهي المدينة التي بها دار الملك بصقلية، وكان الملك قبلها يسكن سرقوسة، فلما ملك المسلمون بعض الجزيرة نقل دار الملك إلى قصريانة لحصانتها.

وسبب فتحها أن العباس بن الفضل- أمير صقلية- سار في جيوش المسلمين إلى مدينة قصريانة، وسرقوسة، وسير جيشا في البحر، فلقيهم أربعون شلندي للروم، فاقتتلوا أشد قتال، فانهزم الروم، وأخذ منهم المسلمون عشر شلنديات برجالها، وعاد العباس بن الفضل إلى مدينته.

فلما كان الشتاء سير سرية، فبلغت قصريانة، فنهبوا وخربوا، وعادوا ومعهم رجل كان له عند الروم قدر ومنزلة، فأمر العباس بقتله، فقال: استبقني، ولك عندي نصيحة، قال: وما هي؟ قال: أملكك قصريانة، والطريق في ذلك أن القوم في هذا الشتاء وهذه الثلوج آمنون من قصدكم إليهم، فهم غير محترسين، ترسل معي طائفة من عسكركم حتى أدخلكم المدينة.

فانتخب العباس ألفي فارس أنجاد أبطال، وسار إلى أن قاربها، وكمن هناك مستترا وسير عمه رباحا في شجعانهم، فساروا مستخفين في الليل، فنصبوا السلاليم، وصعدوا الجبل، ثم وصلوا إلى سور المدينة، قريبا من الصبح، والحرس نيام، فدخلوا من نحو باب صغير فيه، فدخل المسلمون كلهم، فوضعوا السيف في الروم، وفتحوا الأبواب.

وجاء العباس في باقي العسكر، فدخلوا المدينة وصلوا الصبح يوم الخميس منتصف شوال، وبنى فيها في الحال مسجدا ونصب فيه منبرا وخطب فيه يوم الجمعة، وقتل من وجد فيها من المقاتلة، وأخذوا ما فيها من بنات البطارقة بحليهن، وأبناء الملوك، وأصابوا فيها ما يعجز الوصف عنه، وذل الشرك يومئذ بصقلية ذلا عظيما.

ولما سمع الروم أرسل ملكهم بطريقا من القسطنطينية في ثلاثمائة شلندي وعسكر كثير، فوصلوا إلى سرقوسة، فخرج إليهم العباس من المدينة، ولقي الروم وقاتلهم، فهزمهم، فركبوا في مراكبهم هاربين، وغنم المسلمون منهم مائة شلندي، وكثر القتل فيهم، ولم يصب من المسلمين ذلك اليوم غير ثلاثة نفر بالنشاب.


كان مقتل الخليفة المتوكل على الله على يد ولده المنتصر، وكان سبب ذلك أن المتوكل أمر ابنه عبد الله المعتز أن يخطب بالناس في يوم جمعة، فأداها أداء عظيما بليغا، فبلغ ذلك من المنتصر كل مبلغ، وحنق على أبيه وأخيه، وزاد ذلك أن المتوكل أراد من المنتصر أن يتنازل عن ولاية العهد لأخيه المعتز فرفض، وزاد ذلك أيضا أنه أحضره أبوه وأهانه وأمر بضربه في رأسه وصفعه، وصرح بعزله عن ولاية العهد، فاشتد أيضا حنقه أكثر مما كان، فلما كان يوم عيد الفطر خطب المتوكل بالناس وعنده بعض ضعف من علة به، ثم عدل إلى خيام قد ضربت له أربعة أميال في مثلها، فنزل هناك ثم استدعى في يوم ثالث شوال بندمائه على عادته في سمره، ثم تمالأ ولده المنتصر وجماعة من الأمراء على الفتك به فدخلوا عليه ليلة الأربعاء لأربع خلون من شوال، وهو على السماط، فابتدروه بالسيوف فقتلوه، وكانت مدة خلافته أربع عشرة سنة وعشرة أشهر وثلاثة أيام، ثم ولوا بعده ولده المنتصر، وبعث إلى أخيه المعتز فأحضره إليه فبايعه المعتز، وقد كان المعتز هو ولي العهد من بعد أبيه، ولكنه أكرهه، وخاف فسلم وبايع، ومن المعروف أن الأتراك الذين كان قد قربهم الواثق وجعلهم قواده الأساسيين قد حقدوا على المتوكل، فكان ذلك من أسباب تمالئهم على قتله، وباغتيال المتوكل يعتبر العصر العباسي الأول قد انتهى، وهو عصر القوة، وبدأ العصر الثاني- عصر الضعف والانحدار- بالمنتصر؛ وذلك لأن الخلافة أصبحت صورة ظاهرية، والحكم الحقيقي هو للقواد العسكريين.


هو أمير المؤمنين أبو الفضل بن المعتصم بالله محمد بن هارون الرشيد القرشي العباسي البغدادي.

ولد سنة خمس ومائتين، وبويع في ذي الحجة سنة اثنتين وثلاثين بعد الواثق, وتلقب بالمتوكل على الله.

وكان أسمر مليح العينين، نحيف الجسم خفيف العارضين، إلى القصر أقرب.

وأمه أم ولد اسمها: شجاع.

قال خليفة: "استخلف المتوكل، فأظهر السنة وعمل بها في مجلسه، وكتب إلى الآفاق برفع المحنة؛ خلق القرآن، وإظهار السنة وبسطها ونصر أهلها"، كان إبراهيم بن محمد التيمي قاضي البصرة يقول: الخلفاء ثلاثة: "أبو بكر الصديق يوم الردة، وعمر بن عبد العزيز في رد مظالم بني أمية، والمتوكل في محو البدع وإظهار السنة".

وقد قدم المتوكل دمشق في صفر سنة أربع وأربعين، وعزم على المقام بها وأعجبته، ونقل دواوين الملك إليها.

وأمر بالبناء بها.

وأمر للأتراك بما أرضاهم من الأموال، وبنى قصرا كبيرا بداريا من جهة المزة، لكنه عاد إلى سامرا, وقد قتله ابنه المنتصر بعد أن تآمر مع الأتراك على قتله.


تغلب الحسن بن زيد الطالبي على بلاد الري، فتوجه إليه موسى بن بغا في شوال، وخرج الخليفة لتوديعه, فكانت وقعة بين موسى بن بغا وأصحاب الحسن بن زيد، فهزم موسى أصحاب الحسن وتغلب عليهم.


دخل يعقوب بن الليث نيسابور، وكان سبب مسيره إليها أن عبد الله السجزي كان ينازع يعقوب بسجستان، فلما قوي عليه يعقوب هرب منه إلى محمد بن طاهر، فأرسل يعقوب يطلب من ابن طاهر أن يسلمه إليه فلم يفعل، وقيل: كان سبب ملك يعقوب نيسابور ما بلغه من ضعف محمد بن طاهر أمير خراسان، فلما تحقق يعقوب ذلك، وأنه لا يقدر على الدفع، وكان بعض خاصة محمد بن طاهر، وبعض أهله لما رأوا إدبار أمره، مالوا إلى يعقوب فكاتبوه، واستدعوه وهونوا على محمد أمر يعقوب من نيسابور، فسار نحوه إلى نيسابور، فلما قرب منها وأراد دخولها، وجه محمد بن طاهر يستأذنه في تلقيه فلم يأذن له، فبعث بعمومته وأهل بيته فتلقوه, ثم دخل يعقوب نيسابور، فركب محمد بن طاهر فدخل إليه في مضربه، فسأله ثم وبخه على تفريطه في عمله، وقبض على محمد بن طاهر، وأهل بيته، وكانوا نحوا من مائة وستين رجلا، وحملهم إلى سجستان واستولى على خراسان، ورتب فيها نوابه, ثم أرسل إلى الخليفة يذكر تفريط محمد بن طاهر في عمله، وأن أهل خراسان سألوه المسير إليهم، ويذكر غلبة العلويين على طبرستان، وبالغ في هذا المعنى، فأنكر عليه الخليفة ذلك، وأمره بالاقتصار على ما أسند إليه.


ولى المعتمد على الله ولده جعفرا العهد من بعده، وسماه المفوض إلى الله، وولاه المغرب، وضم إليه موسى بن بغا ولاية إفريقية ومصر والشام والجزيرة والموصل وأرمينية وطريق خراسان وغير ذلك، وجعل الأمر من بعد ولده لأبي أحمد المتوكل، ولقبه الموفق بالله، وولاه المشرق وضم إليه مسرورا البلخي وولاه بغداد والسواد والكوفة وطريق مكة والمدينة واليمن وكسكر وكور دجلة والأهواز وفارس وأصبهان والكرخ والدينور والري وزنجان والسند، وكتب بذلك مكاتبات وقرئت بالآفاق، وعلق منها نسخة بالكعبة.


هو الملك أبو يوسف يعقوب بن الليث الصفار الخارجي- خرج على سلطان الخلافة- التركماني، من سجستان، أصله فارسي ينحدر من جبال شرق فارس، أسس السلالة الصفارية التي حكمت فارس وبلاد ما وراء النهر.

وقد أكثر أهل التاريخ من ذكر هذا الرجل وذكر أخيه عمرو وما ملكا من البلاد وقتلا من العباد، وما جرى للخلفاء معهما من الوقائع، كان رجلا عاقلا حازما, وكان أول أمره أنه وأخاه عمرا صفاران في حداثتهما، يعملان في النحاس، وكانا يظهران الزهد، فجاهدا مع صالح المطوعي المحارب للخوارج،  فصحبه إلى أن مات، فتولى مكان صالح المطوعي درهم بن الحسين المطوعي، فجعل درهم يعقوب بن الليث قائدا لعسكره، ثم رأى أصحاب درهم عجزه، فملكوا يعقوب لحسن سياسته، فأذعن لهم درهم،  واشتهرت صولة يعقوب، فغلب على هراة وبوشنج، وحارب الترك، وظفر برتبي، فقتله، وقتل ثلاثة ملوك ورجع معه ألوف من الرؤوس، فهابته الملوك, وكان بوجهه ضربة سيف مخيطة.

أظهر يعقوب حرصه على تدعيم ملكه؛ حيث اهتم بتدبير أمور مملكته وتحصينها وعمارة أرضه، فكثرت أمواله وعمرت خزائنه, ثم أعلن نفسه حاكما على موطنه في سجستان (بلوشستان).

ثم ضم إليه المناطق التي حكمها الطاهريون: هراة، وفارس، وشيراز، وبلخ, ثم طخرستان, حتى انتهى الأمر بأن قام بإجلائهم عن خراسان وأفغانستان.

فعينه الخليفة المعتز واليا على المناطق التي سيطر عليها, فأخذ يعقوب يبعث هداياه إلى المعتز لمداراته، ثم صار يرسل للمعتمد في العام خمسة آلاف ألف درهم، ثم أخذ بلخ ثم نيسابور، وقصد جرجان، فهزم المتغلب عليها الحسن بن زيد العلوي، ثم دخل جرجان، فظلم وعسف، فاستغاث جماعة جرجانيون ببغداد من يعقوب، فعزم المعتمد على حربه، ونفذ كتبا إلى أعيان خراسان بذم يعقوب، وأن يهتموا لاستئصاله، فكاتب يعقوب المعتمد يخضع ويراوغ، ويطلب التقليد بتوليته المشرق، ففعل المعتمد ذاك وأخوه الموفق؛ لاشتغالهم بحرب الزنج.

كان يعقوب قد افتتح الرخج، وقتل ملكها وأسلم أهلها على يده، وافتتح الخلجية وزابل وغيرهما.

بعد أن غلب يعقوب الصفار على سجستان ونيسابور والديلم وفارس، طمع في بغداد فأقبل عليها غازيا، فقابله جيش الموفق بدير العاقول، وكشف الموفق الخوذة وحمل، وقال: أنا الغلام الهاشمي.

وكثرت القتلى، فانهزم يعقوب، وجرح أمراؤه، وذهبت خزائنه، وغرق منهم خلق في النهر.

مات يعقوب بجند يسابور من كور الأهواز، وكانت علته القولنج، فأمره الأطباء بالاحتقان بالدواء، فلم يفعل، واختار الموت.

وكان المعتمد قد أنفذ إليه رسولا وكتابا يستميله ويترضاه، ويقلده أعمال فارس، فوصل الرسول ويعقوب مريض، فجلس له وجعل عنده سيفا ورغيفا من الخبز، ومعه بصل، وأحضر الرسول، فأدى الرسالة، فقال له: قل للخليفة إنني عليل، فإن مت فقد استرحت منك واسترحت مني، وإن عوفيت فليس بيني وبينك إلا هذا السيف، حتى آخذ بثأري، أو تكسرني وتعقرني، وأعود إلى هذا الخبز والبصل، وأعاد الرسول، فلم يلبث يعقوب أن هلك.

فقام بالأمر بعده أخوه عمرو بن الليث، وكتب إلى الخليفة بطاعته، فولاه الموفق خراسان، وفارس، وأصبهان، وسجستان، والسند، وكرمان، والشرطة ببغداد.


هو الربيع بن سليمان بن عبد الجبار بن كامل أبو محمد المراثي الفقيه، صاحب الشافعي، نقل عنه معظم أقاويله، وكان فقيها فاضلا ثقة دينا، وهو أول من أملى الحديث بجامع ابن طولون، مات بمصر عن عمر 96 عاما، وصلى عليه صاحب مصر خمارويه بن أحمد بن طولون.


هو سليمان بن الأشعث بن إسحاق بن بشير بن شداد السجستاني، إمام في الحديث، ولد بسجستان عام 202ه، رحل إلى بغداد وتفقه فيها على الإمام أحمد وغيره، ورحل إلى الحجاز والشام ومصر، قال أبو بكر الخلال: "أبو داود سليمان بن الأشعث السجستاني الإمام المقدم في زمانه، رجل لم يسبقه إلى معرفة تخريج العلوم وبصره بمواضعها أحد من أهل زمانه، رجل ورع مقدم"، وقال إبراهيم الحربي: "ألين لأبي داود الحديث، كما ألين لداود الحديد"، كان أحد حفاظ الإسلام للحديث وعلله وسنده، وكان في أعلى درجة النسك والعفاف والصلاح والورع، من فرسان الحديث، استقر بالبصرة بناء على رغبة الموفق الخليفة العباسي، ودرس فيها إلى أن توفي فيها- رحمه الله تعالى- عن عمر 73 سنة.