بعد أن أنهى الله فتنة بابك الخرمي، وقضى عليه وعلى جيشه الأفشين ومن معه، وقبض على بابك وحبسه وراسل المعتصم فأمره بتسييرهم إليه, فدخل الأفشين وبصحبته بابك على المعتصم سامرا، ومعه أيضا أخو بابك في تجمل عظيم، وقد أمر المعتصم ابنه هارون الواثق أن يتلقى الأفشين، وأمر بابك أن يركب على فيل ليشهر أمره ويعرفوه، وعليه قباء ديباج وقلنسوة سمور مدورة، وقد هيؤوا الفيل وخضبوا أطرافه ولبسوه من الحرير والأمتعة التي تليق به شيئا كثيرا، ولما أحضر بين يدي المعتصم أمر بقطع يديه ورجليه وجز رأسه وشق بطنه، ثم أمر بحمل رأسه إلى خراسان وصلب جثته على خشبة بسامرا، وكان بابك قد شرب الخمر ليلة قتله.

لما قتل المعتصم بابك الخرمي توج الأفشين وقلده وشاحين من جوهر، وأطلق له عشرين ألف ألف درهم، وكتب له بولاية السند، وأمر الشعراء أن يدخلوا عليه فيمدحوه على ما فعل من الخير إلى المسلمين، وعلى تخريبه بلاد بابك التي يقال لها البذ، وتركه إياها قيعانا وخرابا.


هو بابك الخرمي (بابک خرمدین) زعيم ديني فارسي، وقائد فرقة الخرمية ظهر سنة 201هـ الموافق 816 م، في خلافة المأمون العباسي, وكثر أتباعه، وقاد ثورة على العباسيين بعد مصرع أبي مسلم الخراساني، استمرت حوالى عشرين سنة، وكان أحد الشجعان، أخاف الإسلام وأهله، وهزم الجيوش العباسية عشرين سنة، وغلب على أذربيجان وغيرها، وأراد أن يقيم الملة المجوسية، وعظم البلاء.

فأنفق المأمون والمعتصم على حرب بابك قناطير مقنطرة من الذهب والفضة، وفي هذه السنة بعث المعتصم نفقات إلى جيشه مع الأفشين، فكانت ثلاثين ألف ألف درهم، فكانت الحرب مع بابك الخرمي فطحنه الأفشين، واستباح عسكره، وأخذت البذ- مدينة بابك- وهرب واختفى في غيضة، ثم أسر بعد فصول طويلة, ولما أحضر بابك بين يدي المعتصم، أمر بقطع يديه ورجليه وجز رأسه وشق بطنه، ثم أمر بحمل رأسه إلى خراسان، وصلب جثته على خشبة بسامرا، فقطع دابر الخرمية.


 هو أبو محمد زيادة الله بن إبراهيم بن الأغلب أو زيادة الله الأول، أمير إفريقية، وكان أفصح أهل بيته لسانا وأكثرهم أدبا، وكان يقول الشعر، ويرعى الشعراء، كانت ولايته من قبل المأمون سنة 201هـ، فطالت أيامه واستقام الأمر, وبنى زيادة الله في أيامه سور القيروان ودار سوسة وقنطرة باب الربيع، وحصن الرباط بسوسة، وجامع القيروان بعد هدمه، وأنفق عليه ستة وثمانين ألف دينار، وفتح جزيرة صقلية على يد قاضيه أسد بن الفرات.

كان عمره يوم مات إحدى وخمسين سنة وتسعة أشهر وثمانية أيام، وكانت إمارته إحدى وعشرين سنة وسبعة أشهر، وولي بعده أخوه أبو عقال الأغلب بن إبراهيم بن الأغلب.


لما فعل الروم ما فعلوا بأهل زبطرة وغيرها، وكانت فتنة بابك قد انتهت، سار المعتصم بجيشه قاصدا فتح عمورية؛ إذ كانت تعد من أقوى مدن الروم، بل ربما كانت بمكانة القسطنطينية، فكان أول الأمر أن التقى الأفشين مع الروم وهزمهم شر هزيمة، ثم سار المعتصم والأفشين وأشنان، كل على رأس جيش، متوجهين إلى عمورية وكانت حصينة ذات سور منيع وأبراج تحصن أهلها فيها، فنصب المنجنيق وهدم السور من جهة كانت ضعيفة دلهم عليها أحد الأسرى، فبعث نائب البلد لملك الروم كتابا يعلمه بالأمر، ولكن الكتاب لم يصل حيث قبض على الغلامين اللذين كان معهما الكتاب، ثم زاد الضرب بالمنجنيق حتى انهدم ذلك الجزء، لكنه لا يزال صغيرا على دخول الجيش، ثم إن الموكل بحفظ ذلك البرج من الروم لم يستطع الصمود، فنزل للقتال ولم يعاونه أحد من الروم, فأمر المعتصم المسلمين أن يدخلوا البلد من تلك الثغرة التي قد خلت من المقاتلة، فركب المسلمون نحوها، فجعلت الروم يشيرون إليهم ولا يقدرون على دفاعهم، فلم يلتفت إليهم المسلمون، ثم تكاثروا عليهم ودخلوا البلد قهرا، وتتابع المسلمون إليها يكبرون، وتفرقت الروم عن أماكنها، فجعل المسلمون يقتلونهم في كل مكان حيث وجدوهم، وقد حشروهم في كنيسة لهم هائلة ففتحوها قسرا وقتلوا من فيها وأحرقوا عليهم باب الكنيسة، فاحترقت فأحرقوا عن آخرهم، ولم يبق فيها موضع محصن سوى المكان الذي فيه النائب، وهو مناطس في حصن منيع، ثم أنزل مهانا وأخذ المسلمون من عمورية أموالا لا تحد ولا توصف، فحملوا منها ما أمكن حمله، وأمر المعتصم بإحراق ما بقي من ذلك، وبإحراق ما هنالك من المجانيق والدبابات وآلات الحرب؛ لئلا يتقوى بها الروم على شيء من حرب المسلمين، ثم انصرف المعتصم راجعا إلى ناحية طرسوس.


خرج رجل بآمل طبرستان يقال له مازيار بن قارن بن يزداهرمز، وكان لا يرضى أن يدفع الخراج إلى نائب خراسان عبد الله بن طاهر بن الحسين، بل يبعثه إلى الخليفة ليقبضه منه، فيبعث الخليفة من يتلقى الحمل إلى بعض البلاد ليقبضه منه ثم يدفعه إلى ابن طاهر، ثم آل أمره إلى أن وثب على تلك البلاد وأظهر المخالفة للمعتصم، وقد كان المازيار هذا ممن يكاتب بابك الخرمي ويعده بالنصر، ويقال: إن الذي قوى رأس مازيار على ذلك الأفشين ليعجز عبد الله بن طاهر عن مقاومته فيوليه المعتصم بلاد خراسان مكانه، فبعث إليه المعتصم محمد بن إبراهيم بن مصعب- أخا إسحاق بن إبراهيم- في جيش كثيف، فجرت بينهم حروب طويلة، وكان آخر ذلك أسر المازيار وحمله إلى ابن طاهر، فاستقره عن الكتب التي بعثها إليه الأفشين فأقر بها، فأرسله إلى المعتصم وما معه من أمواله التي احتفظت للخليفة، وهي أشياء كثيرة جدا من الجواهر والذهب والثياب، فلما أوقف بين يدي الخليفة سأله عن كتب الأفشين إليه فأنكرها، فأمر به فضرب بالسياط حتى مات، وكان ذلك عام 225هـ، وصلب إلى جانب بابك الخرمي على جسر بغداد، وقتل عيون أصحابه وأتباعه.


لما فرغ الأفشين من بابك وعاد إلى سامرا استعمل على أذربيجان منكجور- وهو من أقاربه- فوجد في بعض قرى بابك مالا عظيما ولم يعلم به المعتصم، ولا الأفشين، فكتب صاحب البريد إلى المعتصم، وكتب منكجور يكذبه، فتناظرا، فهم منكجور ليقتله، فمنعه أهل أردبيل، فقاتلهم منكجور، وبلغ ذلك المعتصم، فأمر الأفشين بعزل منكجور، فوجه قائدا في عسكر ضخم، فلما بلغ منكجور الخبر خلع الطاعة، وجمع الصعاليك، وخرج من أردبيل، فواقعه القائد فهزمه، وسار منكجور إلى حصن من حصون أذربيجان التي كان بابك خربها، فبناه وأصلحه وتحصن فيه، فبقي به شهرا، ثم وثب به أصحابه، فأسلمه إلى قائد الأفشين، فقدم به إلى سامرا فحبسه المعتصم، واتهم الأفشين في أمره، وكان قدومه سنة خمس وعشرين ومائتين، وقيل: إن ذلك القائد الذي أنفذ إلى منكجور كان بغا الكبير، وإن منكجور خرج إليه بأمان.


سير عبد الرحمن بن الحكم عبد الله المعروف بابن البلنسي إلى بلاد العدو، فوصلوا إلى "ألبة" والقلاع، فخرج المشركون إليه في جمعهم، وكان بينهم حرب شديدة وقتال عظيم، فانهزم المشركون، وقتل منهم ما لا يحصى، وجمعت الرؤوس أكداسا، وفي هذه السنة أيضا خرج لذريق في عسكره، وأراد الغارة على مدينة سالم من الأندلس، فسار إليه عبد الرحمن بن الحكم فوتون بن موسى في عسكر جرار، فلقيه وقاتله، فانهزم لذريق وكثر القتل في عسكره، وسار فوتون إلى الحصن الذي كان بناه أهل ألبة بإزاء ثغور المسلمين، فحصره، وافتتحه وهدمه.


هو القاسم بن سلام الهروي الأزدي ولاء، ولد بمدينة هراة سنة 157هـ, أحد أئمة اللغة والفقه والحديث، والقرآن والأخبار وأيام الناس، كان أبوه عبدا روميا, فطلب أبو عبيد العلم وسمع الحديث ودرس الأدب والفقه، ثم ارتحل إلى العراق نحو سنة 176هـ، له المصنفات المشهورة المنتشرة بين الناس، حتى يقال: إن الإمام أحمد كتب كتابه الغريب بيده- وهو أشهر كتبه- قال هلال بن العلاء الرقي: "من الله على المسلمين بهؤلاء الأربعة: الشافعي، تفقه في الفقه والحديث، وأحمد بن حنبل في المحنة، ويحيى بن معين في نفي الكذب، وأبو عبيد في تفسير غريب الحديث، ولولا ذلك لاقتحم الناس المهالك"، وكان أبو عبيد قد ولد بهراة، وأقام في بغداد، ثم انتقل إلى مصر، وكانت وفاته بمكة- رحمه الله تعالى، وجزاه عن الإسلام والمسلمين خيرا.