كان مقتل الخليفة المتوكل على الله على يد ولده المنتصر، وكان سبب ذلك أن المتوكل أمر ابنه عبد الله المعتز أن يخطب بالناس في يوم جمعة، فأداها أداء عظيما بليغا، فبلغ ذلك من المنتصر كل مبلغ، وحنق على أبيه وأخيه، وزاد ذلك أن المتوكل أراد من المنتصر أن يتنازل عن ولاية العهد لأخيه المعتز فرفض، وزاد ذلك أيضا أنه أحضره أبوه وأهانه وأمر بضربه في رأسه وصفعه، وصرح بعزله عن ولاية العهد، فاشتد أيضا حنقه أكثر مما كان، فلما كان يوم عيد الفطر خطب المتوكل بالناس وعنده بعض ضعف من علة به، ثم عدل إلى خيام قد ضربت له أربعة أميال في مثلها، فنزل هناك ثم استدعى في يوم ثالث شوال بندمائه على عادته في سمره، ثم تمالأ ولده المنتصر وجماعة من الأمراء على الفتك به فدخلوا عليه ليلة الأربعاء لأربع خلون من شوال، وهو على السماط، فابتدروه بالسيوف فقتلوه، وكانت مدة خلافته أربع عشرة سنة وعشرة أشهر وثلاثة أيام، ثم ولوا بعده ولده المنتصر، وبعث إلى أخيه المعتز فأحضره إليه فبايعه المعتز، وقد كان المعتز هو ولي العهد من بعد أبيه، ولكنه أكرهه، وخاف فسلم وبايع، ومن المعروف أن الأتراك الذين كان قد قربهم الواثق وجعلهم قواده الأساسيين قد حقدوا على المتوكل، فكان ذلك من أسباب تمالئهم على قتله، وباغتيال المتوكل يعتبر العصر العباسي الأول قد انتهى، وهو عصر القوة، وبدأ العصر الثاني- عصر الضعف والانحدار- بالمنتصر؛ وذلك لأن الخلافة أصبحت صورة ظاهرية، والحكم الحقيقي هو للقواد العسكريين.


هو أمير المؤمنين أبو الفضل بن المعتصم بالله محمد بن هارون الرشيد القرشي العباسي البغدادي.

ولد سنة خمس ومائتين، وبويع في ذي الحجة سنة اثنتين وثلاثين بعد الواثق, وتلقب بالمتوكل على الله.

وكان أسمر مليح العينين، نحيف الجسم خفيف العارضين، إلى القصر أقرب.

وأمه أم ولد اسمها: شجاع.

قال خليفة: "استخلف المتوكل، فأظهر السنة وعمل بها في مجلسه، وكتب إلى الآفاق برفع المحنة؛ خلق القرآن، وإظهار السنة وبسطها ونصر أهلها"، كان إبراهيم بن محمد التيمي قاضي البصرة يقول: الخلفاء ثلاثة: "أبو بكر الصديق يوم الردة، وعمر بن عبد العزيز في رد مظالم بني أمية، والمتوكل في محو البدع وإظهار السنة".

وقد قدم المتوكل دمشق في صفر سنة أربع وأربعين، وعزم على المقام بها وأعجبته، ونقل دواوين الملك إليها.

وأمر بالبناء بها.

وأمر للأتراك بما أرضاهم من الأموال، وبنى قصرا كبيرا بداريا من جهة المزة، لكنه عاد إلى سامرا, وقد قتله ابنه المنتصر بعد أن تآمر مع الأتراك على قتله.


خلع المعتز والمؤيد ابنا المتوكل من ولاية العهد؛ وكان سبب خلعهما أن المنتصر لما استقامت له الأمور، قال أحمد بن الخصيب لوصيف بغا: إنا لا نأمن الحدثان وأن يموت أمير المؤمنين، فيلي المعتز الخلافة، فيبيد خضراءنا ولا يبقي منا باقية؛ والآن الرأي أن نعمل في خلع المعتز والمؤيد، فجد الأتراك في ذلك، وألحوا على المنتصر، وقالوا نخلعهما من الخلافة، ونبايع لابنك عبد الوهاب؛ فلم يزالوا به حتى أجابهم، وأحضر المعتز والمؤيد بعد أربعين يوما من خلافة المنتصر، وجعلا في دار وأبقيا وأكرها على خلع أنفسهما، وكتبا بذلك كتابا، قال فيه المعتز: «إن أبي عقد البيعة لي بعد أخي، وكنت صغير السن، والآن فحيث تبينت رشدي وعقلت، علمت أنى لا أصلح لهذا الأمر ولا أقوم به، واشهدوا علي أنني قد خلعت نفسي عما كان رشحني له أبى» وألزم المؤيد بمثل ذلك، وأمر بالكتاب أن ينشر في الآفاق ليعلم بأمره.


هو أبو جعفر "المنتصر بالله" محمد بن جعفر المتوكل، وأمه أم ولد رومية اسمها حبشية.

وكان أعين أسمر أقنى, مليح الوجه, ربعة, كبير البطن, مهيبا، لما قتل أبوه دخل عليه الترك ومعهم قاضي القضاة جعفر بن عبد الواحد الهاشمي، فقال له: بايع.

قال: وأين أمير المؤمنين؟ -يعني: المتوكل- قال: قتله الفتح بن خاقان.

قال: وأين الفتح? قال: قتله بغا, فبايعه القاضي ثم الوزير وكبار قادة الترك, ثم تحول من الجعفري إلى سامراء، وولى وزارته أحمد بن الخصيب, وأراد المعتز أن يمتنع من البيعة للمنتصر، فقال له بغا الشرابي: أخوك محمد أقدم على قتل أبيك، وأخاف أن يقتلك فبايع، فبايعه.

ثم صالح المنتصر إخوته عن ميراثهم على أربعة عشر ألف ألف درهم، ونفى عمه عليا إلى بغداد، ورسم عليه, وكان المنتصر وافر العقل, راغبا في الخير, قليل الظلم.

على الرغم من أن المنتصر كان قد تمالأ مع الأتراك على قتل أبيه المتوكل عندما قرر أن يعزله من ولاية العهد ويوليها أخاه المعتز، إلا أن المنتصر  كان يقول: يا بغا أين أبي? من قتل أبي?! ويسب الأتراك، ويقول: هؤلاء قتلة الخلفاء، فقال بغا الصغير للذين قتلوا المتوكل: ما لكم عند هذا رزق، فعمدوا عليه وهموا، فعجزوا عنه؛ لأنه كان شجاعا مهيبا يقظا متحرزا، فتحيلوا عليه إلى أن دسوا إلى طبيبه ابن طيفور ثلاثين ألف دينار عند مرضه، فأشار بفصده, ثم فصده بريشة مسمومة، فمات منها,  وكانت مدة خلافته ستة أشهر، ثم تولى الخلافة بعده أبو العباس "المستعين بالله" أحمد بن محمد المعتصم.


بويع أحمد بن محمد بن المعتصم بالخلافة؛ وكان سبب ذلك أن المنتصر لما توفي اجتمع الموالي على الهارونية من الغد، وفيها بغا الكبير، وبغا الصغير، وأتامش، وغيرهم، فاستحلفوا قواد الأتراك، والمغاربة، والشروسنية على أن يرضوا بمن رضي به بغا الكبير، وبغا الصغير، وأتامش، وذلك بتدبير أحمد بن الخصيب، فحلفوا وتشاوروا وكرهوا أن يتولى الخلافة أحد من ولد المتوكل؛ لئلا يغتالهم، واجتمعوا على أحمد بن محمد بن المعتصم، وقالوا: لا تخرج الخلافة من ولد مولانا المعتصم، فبايعوه وهو ابن ثمان وعشرين سنة، ولقبوه بالمستعين بالله، وتكنى بأبي العباس، فاستكتب أحمد بن الخصيب، واستوزر أتامش.


بعد وفاة أمير صقلية العباس بن الفضل، ولى الناس عليهم ابنه عبد الله بن العباس، وكتبوا إلى أمير بإفريقية بذلك، وأخرج عبد الله السرايا ففتح قلاعا متعددة منها: جبل أبي مالك، وقلعة الأرمنين، وقلعة المشارعة، فبقي كذلك خمسة أشهر، ووصل من إفريقية خفاجة بن سفيان أميرا على صقلية، فأول سرية أخرجها سرية فيها ولده محمود، فقصد سرقوسة فغنم، فخرج إليه أهلها فقاتلهم حتى ظفر بهم.

وعاد فاستأمن إليه أهل رغوس.


هو بغا الكبير أبو موسى التركي، مقدم قواد المتوكل وأكبرهم، كان شجاعا مقداما وله همة عالية وهيبة، ووقع في النفوس، وكان مملوكا للحسن بن سهل الوزير، وكان يحمق ويجهل في رأيه، أسهم في اغتيال الخليفة المتوكل، ثم سيطر على الخليفة المستعين الذي لم يكن له من الأمر شيء غير الاسم، فغلب على المستعين هو ووصيف الأمير، حتى قيل: خليفة في قفص بين وصيف وبغا ** يقول ما قالا له كما يقول الببغا.

له عدة فتوحات ووقائع، باشر الكثير من الحروب فما جرح قط، وخلف أموالا عظيمة، وكان بغا دينا من بين الأتراك، وكان من غلمان المعتصم، يشهد الحروب العظام، ويباشرها بنفسه، فيخرج منها سالما، ويقول: الأجل جوشن، مرض بغا الكبير في جمادى الآخرة فعاده المستعين في النصف منها، ومات بغا من يومه عن سن ستين سنة، فعقد المستعين لموسى بن بغا على أعماله وعلى أعمال أبيه كلها، وولي ديوان البريد.


توفي طاهر بن عبدالله بن طاهر بن الحسين الخزاعي، أمير خراسان وابن أميرها, وكان قد ولي إمرة خراسان بعد أبيه ثماني عشرة سنة, فلما ورد على المستعين وفاة طاهر بن عبدالله، عقد لابنه محمد بن طاهر على خراسان، ولمحمد بن عبدالله بن طاهر على العراق، وجعل إليه الحرمين، والشرطة