كان صالح بن وصيف قائدا من الأتراك صاحب تسلط شديد, وهو أحد المتآمرين على قتل المتوكل، ثم اختفى فطلبه الأتراك بسبب أموال بينهم فأتوا المهتدي ليكشف لهم أمر صالح.

فقدم موسى بن بغا الكبير إلى سامرا بطلب من الخليفة, فدخلها في جيش هائل، فأتوا دار الخلافة التي فيها المهتدي جالسا لكشف المظالم فاستأذنوا عليه فأبطأ الإذن ساعة، وتأخر عنهم فظنوا في أنفسهم أن الخليفة إنما طلبهم خديعة منه ليسلط عليهم صالح بن وصيف، فدخلوا عليه بالقوة, فأقاموه من مجلسه وانتهبوا ما كان فيه، ثم أخذوه مهانا إلى دار أخرى، فجعل يقول لموسى بن بغا: ما لك ويحك؟ إني إنما أرسلت إليك لأتقوى بك علي صالح بن وصيف.

فقال له موسى: لا بأس عليك، احلف لي أنك لا تريد بي خلاف ما أظهرت.

فحلف له المهتدي، فطابت الأنفس وبايعوه بيعة ثانية مشافهة، وأخذوا عليه العهود والمواثيق ألا يمالئ صالحا عليهم، واصطلحوا على ذلك.

ثم بعثوا إلى صالح بن وصيف ليحضر لهم للمناظرة في أمر المعتز، فوعدهم أن يأتيهم، ثم اجتمع بجماعة من الأمراء من أصحابه وأخذ يتأهب لجمع الجيوش عليهم، ثم اختفى من ليلته لا يدري أحد أين ذهب في تلك الساعة، فبعثوا المنادية تنادي عليه في أرجاء البلد وتهددوا من أخفاه، فلم يزل مختفيا إلى آخر صفر, ولما أبطأ خبر صالح بن وصيف على موسى بن بغا وأصحابه، قال بعضهم لبعض: اخلعوا هذا الرجل- يعني الخليفة- فقال بعضهم: أتقتلون رجلا صواما قواما لا يشرب الخمر ولا يأتي الفواحش؟ والله، إن هذا ليس كغيره من الخلفاء، ولا تطاوعكم الناس عليه، وبلغ ذلك الخليفة فخرج إلى الناس وهو متقلد سيفا، فجلس على السرير واستدعى بموسى بن بغا وأصحابه، فقال: قد بلغني ما تمالأتم عليه من أمري، وإني- والله- ما خرجت إليكم إلا وأنا متحنط وقد أوصيت أخي بولدي، وهذا سيفي، والله لأضربن به ما استمسك قائمه بيدي، أما تستحيون؟ كم يكون هذا الإقدام على الخلفاء والجرأة على الله عز وجل، وأنتم لا تبصرون؟ سواء عليكم من قصد الإبقاء عليكم والسيرة الصالحة فيكم، ومن كان يدعو بأرطال الشراب المسكر فيشربها بين أظهركم وأنتم لا تنكرون ذلك، ثم يستأثر بالأموال عنكم وعن الضعفاء! هذا منزلي فاذهبوا فانظروا فيه وفي منازل إخوتي ومن يتصل بي، هل ترون فيها من آلات الخلافة شيئا، أو من فرشها أو غير ذلك؟ وإنما في بيوتنا ما في بيوت آحاد الناس، وتقولون إني أعلم خبر صالح بن وصيف، وهل هو إلا واحد منكم؟ فاذهبوا فاعلموا علمه وأما أنا فلست أعلم علمه.

قالوا: فاحلف لنا على ذلك، قال أما اليمين فإني أبذلها لكم، قال: فكأنهم لانوا لذلك قليلا.

ثم ظفروا بصالح بن وصيف فقتل وجيء برأسه إلى المهتدي بالله، وقد انفتل من صلاة المغرب، فلم يزد على أن قال: واروه.

ثم أخذ في تسبيحه وذكره.

ولما أصبح الصباح رفع رأس صالح بن وصيف على رمح ونودي عليه في أرجاء البلد.

هذا جزاء من قتل مولاه.

وما زال الأمر مضطربا متفاقما، وعظم الخطب حتى أفضى إلى خلع الخليفة المهتدي وقتله رحمه الله.


بويع المعتمد على الله- وهو أحمد بن المتوكل على الله- بالخلافة في دار الأمير يارجوخ، وذلك قبل خلع المهتدي بأيام، ثم كانت بيعة العامة.

وفي صفر من السنة التالية عقد المعتمد لأخيه أبي أحمد على الكوفة وطريق مكة والحرمين واليمن، وأضاف إليه في رمضان نيابة بغداد والسواد وواسط وكور دجلة والبصرة والأهواز وفارس، وأذن له أن يتصرف في ذلك كله.


هو الخليفة الصالح أمير المؤمنين أبو إسحاق، وقيل أبو عبدالله محمد بن هارون الثاني الواثق بالله بن محمد المعتصم بالله بن هارون الرشيد, وأمه أم ولد اسمها قرب, ولد في خلافة جده الواثق سنة 219ه, وبويع بالخلافة في رجب سنة 255ه، وما قبل بيعة أحد حتى بايعه المعتز بالله، بعد أن أقر بتنازله عن الخلافة له، وأشهد على نفسه بعجزه عن تولي مهامها.

كان المهتدي أسمر رقيقا، مليح الوجه، حسن اللحية, من أحسن الخلفاء مذهبا وأجودهم طريقة وأكثرهم ورعا وعبادة وزهادة, وكان عادلا، قويا في أمر الله، شجاعا، صواما قواما، لم تعرف له زلة, وكان سهل الحجاب كريم الطبع يخاطب أصحاب الحوائج بنفسه ويجلس للمظالم بنفسه, وكان يلبس القميص الصوف الخشن تحت ثيابه على جلده, وكان يقول: لو لم يكن الزهد في الدنيا والإيثار لما عند الله من طبعي لتكلفته وتصنعته؛ فإن منصبي يقتضيه، فإني خليفة الله في أرضه والقائم مقام رسوله، النائب عنه في أمته، وكان له سفط فيه جبة صوف وكساء كان يلبسه بالليل ويصلي فيه, وكان قد اطرح الملاهي، واعتزل الغناء، ومنع أصحاب السلطان عن الظلم، وكان شديد الإشراف على أمر الدواوين ومحاسبة عماله.

كان يحب الاقتداء بما سلكه عمر بن عبد العزيز في خلافته من الورع والتقشف وكثرة العبادة وشدة الاحتياط، ولو عاش ووجد ناصرا لسار سيرته ما أمكنه، لما ذكر بما حدث للإمام أحمد بن حنبل على يد أسلافه، قال: رحم الله أحمد بن حنبل، والله لو جاز لي أن أتبرأ من أبي لتبرأت منه.

كان سفيان الثوري يقول: "الخلفاء الراشدون خمسة، ويعد فيهم عمر بن عبد العزيز, ثم أجمع الناس في أيام المهتدي من فقيه ومقرئ وزاهد وصاحب حديث أن السادس هو المهتدي بالله".

وكان من عزمه أن يبيد الأتراك الذين أهانوا الخلفاء وأذلوهم، وانتهكوا منصب الخلافة.

فلما أراد أن يخالف بين كلمة الأتراك ليضعف تسلطهم على الخلافة، كتب إلى بايكباك أن يتسلم الجيش من موسى بن بغا ويكون هو الأمير على الناس وأن يقبل بهم إلى سامرا، فلما وصل الكتاب بايكباك أقرأه موسى بن بغا فاشتد غضبه على المهتدي واتفقا عليه وقصدا إليه إلى سامرا، وتركا ما كانا فيه، فلما بلغ المهتدي ذلك ركب في جيش كثيف واتجه لملاقاتهما, فلما سمعوا به رجع موسى بن بغا إلى طريق خراسان وأظهر بايكباك السمع والطاعة, فأمر المهتدي عند ذلك بضرب عنق بايكباك، ثم ألقى رأسه إلى الأتراك، فلما رأوا ذلك أعظموه وأصبحوا من الغد مجتمعين على أخي بايكباك ظغوتيا فخرج إليهم الخليفة فيمن معه، فلما التقوا تمالأ الأتراك الذين مع الخليفة إلى أصحابهم وصاروا إلبا واحدا على الخليفة، فحمل الخليفة عليهم فقتل منهم نحوا من أربعة آلاف، ثم حملوا عليه فهزموه ومن معه فانهزم الخليفة فعاجله أحمد بن خاقان فرماه بسهم في خاصرته، ثم حمل على دابة وخلفه سائس وعليه قميص وسراويل حتى أدخلوه دار أحمد بن خاقان، فجعل من هناك يصفعونه ويبزقون في وجهه، وسلموه إلى رجل، فلم يزل يجأ خصيتيه ويطأهما حتى مات- رحمه الله- وكانت خلافته أقل من سنة بخمسة أيام، وصلى عليه جعفر بن عبد الواحد، ودفن بمقبرة المنتصر بن المتوكل رحمه الله.


هو محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة، إمام أهل الحديث بلا منازع، صاحب الصحيح، الذي أجمعت الأمة على تلقيه بالقبول، ولد في بخارى، رحل إلى مكة وبقي فيها فترة يتلقى العلم، طاف البلاد للحديث يجمع ويحفظ، حتى صار إمام الحديث وحافظه في عصره، إماما في الجرح والتعديل، إماما في العلل.

قال ابن خزيمة: "ما رأيت تحت أديم السماء أعلم بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أحفظ له من محمد بن إسماعيل البخاري"، وكان فقيها.

بل منهم من فضله بالفقه على الإمام أحمد، وعلى ابن راهويه، قال الدارمي: "محمد بن إسماعيل البخاري أفقهنا وأعلمنا وأغوصنا، وأكثرنا طلبا"، كان البخاري رحمه الله في غاية الحياء والشجاعة والسخاء والورع والزهد في الدنيا دار الفناء، والرغبة في الآخرة دار البقاء، رجع إلى بخارى فطلبه أميرها أن يوافيه ليسمع أولاده منه فلم يرض، فحقد عليه ونفاه من بخارى، فخرج إلى خرتنك قريبة من سمرقند، وفيها توفي عن عمر 62 سنة، توفي ليلة الفطر- رحمه الله تعالى، وجزاه عن الإسلام والمسلمين خيرا.


تغلب الحسن بن زيد الطالبي على بلاد الري، فتوجه إليه موسى بن بغا في شوال، وخرج الخليفة لتوديعه, فكانت وقعة بين موسى بن بغا وأصحاب الحسن بن زيد، فهزم موسى أصحاب الحسن وتغلب عليهم.


دخل جيش الخبيث الزنجي إلى البصرة قهرا، فقتل من أهلها خلقا، وهرب نائبها بغراج ومن معه، وأحرقت الزنج جامع البصرة ودورا كثيرة، وانتهبوها، ثم نادى فيهم إبراهيم بن المهلبي أحد أصحاب الزنجي الخارجي: من أراد الأمان فليحضر، فاجتمع عنده خلق كثير من أهل البصرة، فرأى أنه قد أصاب فرصة، فغدر بهم وأمر بقتلهم، فلم يفلت منهم إلا الشاذ، كانت الزنج تحيط بجماعة من أهل البصرة، ثم يقول بعضهم لبعض: كيلوا- وهي الإشارة بينهم إلى القتل- فيحملون عليهم بالسيوف، فلا يسمع إلا قول أشهد أن لا إله إلا الله، من أولئك المقتولين, وضجيجهم عند القتل- أي صراخ الزنج وضحكهم - وهكذا كانوا يفعلون في كل محال البصرة في عدة أيام، وهرب الناس منهم كل مهرب، وحرقوا الكلأ من الجبل إلى الجبل، فكانت النار تحرق ما وجدت من شيء؛ من إنسان أو بهيمة أو غير ذلك، وأحرقوا المسجد الجامع، وقد قتل هؤلاء جماعة كثيرة من الأعيان والأدباء والفضلاء والمحدثين والعلماء.


اختلف مساور الخارجي مع رجل من الخوارج- يقال له عبيدة، من بني زهير العمروي- على توبة المخطئ، فقال مساور: نقبل توبته؛ وقال عبيدة: لا نقبل، فجمع عبيدة جمعا كثيرا وسار إلى مساور، وتقدم إليه مساور من الحديثة، فالتقوا بنواحي جهينة، بالقرب من الموصل، واقتتلوا أشد قتال، فترجل مساور ومن عنده، ومعه جماعة من أصحابه، وعرقبوا دوابهم، فقتل عبيدة وانهزم جمعه، فقتل أكثرهم، واستولى مساور على كثير من العراق، ومنع الأموال عن الخليفة، فضاقت على الجند أرزاقهم، فاضطرهم ذلك إلى أن سار إليه موسى بن بغا وبابكيال وغيرهما في عسكر عظيم.