مسائل مُشكلة في الحج


الحلقة مفرغة

المقدم: بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على خاتم النبيين، نبينا محمد عليه وعلى آله وأصحابه أفضل الصلاة وأتم التسليم، أما بعد:

فحيا هلاً بكم وسهلاً، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، في ليالي وأيام هذه العشر المباركة الفاضلة التي أقسم الله تعالى بها، نسأل الله تعالى أن يجعلنا وإياكم من خير من يسابق إلى جنات عدن ورضوان من الله.

أيها الإخوة المباركون والأخوات الكريمات! لا يخفى عليكم ما وعد الله عز وجل من مثوبة ومن أجر ومن فضل عظيم لحجاج بيت الله الحرام، وفي الأزمنة الأخيرة ولله الحمد انكب الناس على تفقه أحكام هذه الفريضة العظيمة وهو حج بيت الله الحرام.

أحببنا في هذه السلسلة الموسومة بسلسلة الدروس العلمية للحجة الثالثة أن نطرح جزءاً من المسائل المشكلة في الحج، التي ربما لا يتمكن البعض لضيق الوقت من التعرض إليها.

لا يخفاكم أن كثيراً من المتون المختصرة في أحكام وفقه الحج تشرح في هذه الأيام، وأحببنا أن نتطرق خلال هذه الدورة اليسيرة إلى شيء من المسائل المشكلة.

ضيفنا لا يخفى عليكم، هو علم وصاحب فضل علينا, هو فضيلة شيخنا الدكتور عبد الله بن ناصر السلمي ، وكيل المعهد العالي للقضاء لشئون الدورات والتدريب، وهو ضيف سبق له أن أمتعنا بحضوره واستفدنا منه كثيراً، هذا هو اللقاء الأول، أما اللقاء الثاني سيكون غداً بمشيئة الله في نفس العنوان، وهو مسائل مشكلة في الحج مع صاحب الفضيلة الشيخ الدكتور عبد العزيز بن محمد السعيد رئيس قسم السنة بكلية أصول الدين بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، لا أحب الإطالة عليكم، فالجميع متشوق للسماع من لدن صاحب الفضيلة، أسأل الله أن يفتح عليه، وأن يبارك فينا وفيه، وأن يجعلنا وإياكم ممن يستمع القول فيتبع أحسنه.

شيخنا! الميدان لكم فلتتفضلوا مشكورين مأجورين.

الشيخ: بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل، وبعد:

أحبتي الكرام! السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، موضوع هذه الجلسة المسائل المشكلة في الحج، وسوف ندلف إن شاء الله من بداية نية إحرام الحاج أو المعتمر، إلى يوم عرفة أو إلى ليلة مزدلفة، وسوف يكمل فضيلة الشيخ الدكتور عبد العزيز بقية المناسك، ولن نتطرق إلى المسائل التي يعرفها عامة الناس في بعض الكتب، ولكني أحببت أن أذكر المسائل المشكلة في الحج، أو التي يسع فيها الخلاف ويكثر، أو المسائل التي قيدها بعض الأئمة في بعض الكتب، وقد تخفى على بعض طلاب العلم الذين ربما اهتموا بالمختصرات، وتركوا كتب المطولات، كفتح الباري لـابن حجر ، والمغني لـابن قدامة ، والتمهيد لـابن عبد البر ، والمحلى لـابن حزم وغير ذلك من كتب أئمة الإسلام، وعلى هذا فسوف يكون موضوع بحثنا هنا مسائل أو إن شئت فسمها نقاطاً نبدأ بها، وربما نختلف في مسألة الترتيب على حسب ما يستذكره المتحدث.

المسألة الأولى التي يتحدث فيها الفقهاء: هي أن مذهب الحنابلة ومذهب الشافعية ومذاهب أخرى قالوا خاصةً في الحج: ويستحب التلفظ بما نوى بأن يقول: اللهم إني نويت أن أحج، فإن كان خيراً فيسره لي، وإلا فإن حبسني حابس؛ فمحلي حيث حبستني.

النية للإحرام تنقسم إلى قسمين:

أولاً: التلفظ بالنسك الذي يريده، وهذا بلا شك مستحب، بأن يقول: لبيك عمرة، لبيك اللهم لبيك، إذا أراد التمتع، أو يقول: لبيك حجة، لبيك اللهم لبيك؛ إذا أراد الإفراد، أو يقول: لبيك عمرةً وحجاً، إذا أراد القران، وهذا غالب ما يتحدث الفقهاء فيه، قالوا: ويستحب أن يتلفظ بما نوى، يقصدون هذه المسألة.

ثانياً: وهو أن يتلفظ فيقول: اللهم إني نويت الحج، فهل يجوز ذلك؟ نص الإمام أحمد رحمه الله على جوازه في الحج خاصة، ولم يجوز في الصلاة، وكذا الشافعية، وعلى هذا صار الحنابلة بقولهم: ويستحب أن يقول: إن حبسني حابس، فمحلي حيث حبستني، وذهب أبو العباس بن تيمية رحمه الله في المجلد السادس والعشرين إلى أن ذلك لا يشرع، ولا يستحب أن يتلفظ بالنية، وقال رحمه الله: إن ذلك بدعة، وسار المتأخرون من بعد ابن تيمية على الخلاف، فبعضهم أخذ بقول ابن تيمية ، وبعضهم أخذ بقول أحمد و الشافعي .

والعبرة أيها الأحبة! هو ما كان عليه محمد صلى الله عليه وسلم، و ما فعله صحابة محمد صلى الله عليه وسلم، وقد قرر أبو العباس بن تيمية رحمه الله: أن كل عمل عمله صحابة النبي صلى الله عليه وسلم، فلا يقال عنه: بدعة، نعم يقال: جائز، يقال: سنة على حسب مدلولات النصوص أو غيرها، لكن لا يقال عنه: بدعة.

وهذا الذي جعل الإمام أحمد يقول بالجواز، وقد كنت أقول: لم قال أحمد بجواز ذلك؟ لماذا لم يقل ببدعيته وهو الذي لا تخفى عليه سنة؟ وقد روى البيهقي وقبله الشافعي و ابن أبي شيبة من طريق سفيان بن عيينة عن هشام بن عروة عن أبيه أن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت لابن أختها عروة : ماذا تقول إذا أردت الحج؟ قال: لا أدري، قالت: قل: اللهم الحج أردت ولك عمدت، فإن كان الحج فاللهم، وإلا فإن حبسني فمحلي حيث حبستني، وأنتم ترون هذا اللفظ دليلاً على أن عائشة تلفظت بالنية، وهذا يدل على أن التلفظ بالنية جائز؛ لأن عائشة فعلته، وإن كان الأفضل ألا يتلفظ.

وبعضهم يستدل على الاستحباب: بما رواه ابن ماجه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( اللهم حجةً لا رياء فيها ولا سمعة )، وهذا الحديث وإن صححه بعض المتأخرين، إلا أن أكثر أهل العلم على تضعيفه، ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما حج قارناً وليس مفرداً، وإن كان بعض الصحابة يقول: أفرد الحج، ويقصدون بأفرد الحج إنما هو أن يعمل عمل المفرد، وإن كان بأبي هو وأمي عليه الصلاة والسلام حج قارناً كما ثبت في الصحيحين من حديث ابن عمر ، وفي الصحيحين من حديث أنس ، وفي صحيح مسلم من حديث ابن عمر ، وغير ذلك عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.

وعلى هذا فالأقرب أن نقول: إن التلفظ بالنية في الحج خاصة أو العمرة جائز، وإن كان الأفضل عدمه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتلفظ.

المسألة الثانية: مسألة تقليم الأظفار.

انتشر أن تقليم الأظفار في حق الحاج أو المعتمر لا بأس به، وقالوا: لم يرد حديث صحيح صريح يدل على أن تقليم الأظفار ممنوع منه المحرم، والذي ورد هو حلق الرأس، والأقرب والله أعلم: أن المحرم ممنوع من تقليم أظفاره وحلق شعر رأسه، سواء كان رأسه أو جسده، وعلى هذا سار الأئمة الأربعة خلافاً لابن حزم وبعض المتأخرين كالشوكاني ومن نحا نحوهما.

ومما يدل على أن تقليم الأظفار محظور من محظورات الإحرام:

أولاً: ما ثبت عن ابن عباس رضي الله عنه كما رواه ابن جرير في تفسير قوله تعالى: ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ [الحج:29]، قال: التفث هو إزالة الشعر وتقليم الأظفار، وهذا تفسير عن صحابي؛ فيكون حجة.

ثانياً: أن المحرم كالمضحي إذا أراد أن يضحي، فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، كما في صحيح مسلم من حديث أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا أهل هلال ذي الحجة وأراد أحدكم أن يضحي فلا يأخذن من شعره ولا من بشرته ولا من أظفاره شيئاً )، قال أهل العلم: هذا دليل على أن المضحي شابه المحرم في بعض أنساكه، فعومل معاملة المحرم في بعض أحكامه، وإذا كان المضحي لا يأخذ من شعره ولا من بشرته ولا من أظفاره شيئاً؛ فكذلك المحرم، لأن المضحي مقيس على المحرم.

ثالثاً: نقل ابن المنذر الإجماع على ذلك.

لكن روي عن عطاء : أنه لا بأس به، وهو قول ابن حزم . والأقرب هو قول الأئمة الأربعة.

المسألة الثالثة: مسألة المواقيت، هل جدة ميقات أم ليست بميقات؟

أولاً نقول: إن كل من كان له ميقات فمر عليه؛ فلا يجوز له أن يتعدى ميقات أهل بلده إلى ميقات آخر، وقد حكى غير واحد الإجماع على ذلك، منهم النووي ، و ابن قدامة ، و ابن شاس المالكي و ابن الحاجب ، نفوا الخلاف في حكم من يمر من ميقات أهل بلده إلى ميقات غير ميقات بلده، كالمدني يتعدى ذا الحليفة ويحرم من الجحفة، ونقلوا الإجماع على عدم جواز ذلك.

وهنا مسألة أخرى: هل يجوز أن يمر شخص على ميقات ليس هو ميقات أهله، فيتعداه إلى ميقات أهله؟ بمعنى: أن الشامي لو مر على ميقات ذي الحليفة، فهل له أن يتعداه إلى ميقات بلده وهو الجحفة؟

اختلف العلماء في ذلك، فذهب مالك و أبو حنيفة واختاره أبو العباس بن تيمية أنه يجوز له ذلك.

وذهب الإمام أحمد و الشافعي إلى أنه لا يجوز له ذلك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول في حديث ابن عباس : ( هن لهن )، يعني: هذه المواقيت لهذه الأقطار والأماكن، ( هن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن )، فكل من مر على ميقات ولو كان غير ميقات بلده؛ فلا يجوز له أن يتعداه حتى يحرم.

وذهب مالك و أبو حنيفة إلى أن قوله: ( ولمن أتى عليهن من غير أهلهن ) مخصوص بمن سوف يتعدى إلى ميقات بلده، فقالوا: يجوز، قال أحمد و الشافعي : لم لا نقول أيضاً أن قوله: (هن لهن) مخصوص بمن مر على غيرهن من غير أهلهن، فليس احتمال تخصيص الثاني بأولى من احتمال تخصيص الأول. فقوله: (هن لهن) يعني أن أهل المدينة يحرمون من المدينة، وأهل الشام يحرمون من الجحفة، لكن الآن أهل الشام مروا على ذي الحليفة، قالوا: إن قوله صلى الله عليه وسلم: ( ولمن أتى عليهن من غير أهلهن )، هذا في حق من ليس له ميقات سوف يتعداه، مثل النجدي إذا جاء إلى ذي الحليفة، فلا يسوغ له أن يتعدى ذا الحليفة ليحرم من الجحفة؛ لأن الجحفة ليست ميقاتاً له، وليست المدينة ميقاتاً له، فلا يتعدى الميقات الأول. قالوا: فقوله: ( ولمن أتى عليهن من غير أهلن ) مخصوص بمن سوف يتعدى هذا الميقات إلى ميقات بلده، هذا مذهب مالك و أبي حنيفة .

أما الإمام أحمد و الشافعي فقالوا: ليس بتخصيص قوله صلى الله عليه وسلم: ( ولمن أتى عليهن من غير أهلهن ) بأولى من تخصيص: ( هن لهن )، فيقال: إن كل من مر على ميقات غير ميقات بلده أو ميقات بلده؛ فيجب عليه أن يحرم.

هذه المسألة إنما ذكرتها لكم؛ لأنه وجد الآن خلاف من بعض المتأخرين، يقولون: يجوز للإنسان أن يحرم من أي ميقات، فالعبرة بالإحرام من الميقات، فللنجدي الذي جاء من طريق قرن المنازل أن يتعدى قرن المنازل وهو ميقات بلده إلى ميقات الجحفة، وهذا القول بعض أهل العلم نفى الخلاف فيه، وبعضهم قال: إن الخلاف موجود.

واستدل من قال من المعاصرين: بما رواه ابن المنذر : أن عائشة رضي الله عنها كانت إذا أرادت أن تحرم بالحج؛ أحرمت من ذي الحليفة، وإذا أرادت أن تحرم بعمرة أحرمت من الجحفة. قالوا: فـعائشة هي من أهل المدينة؛ فأحرمت من الجحفة، والرد على ذلك بما قاله العراقي في طرح الثريب، قال: إن عائشة أخذت الطريق الآخر، ولم تأخذ طريق ذي الحليفة، وكل من أتى من الطريق الآخر طريق الساحل؛ فيجوز له أن يتعدى إلى الجحفة، لأنه لم يحاذ ذا الحليفة.

قالوا: ومما يدل على ذلك:

أولاً: جاء في صحيح مسلم أنه صلى الله عليه وسلم في رواية جابر قال : ( مهل أهل المدينة من ذي الحليفة والطريق الآخر من الجحفة ).

ثانياً: جاء في صحيح مسلم و البخاري من حديث أبي قتادة ( أنهم أرادوا أن يحرموا، فقال لهم صلى الله عليه وسلم: خذوا ساحل البحر حتى تلقوني. قال الراوي وهو أبو قتادة : فكلهم قد أحرم إلا أبا قتادة فإنه لم يحرم، فبينما هم في طريق إذ جاءهم حمار وحش.. )، الحديث، قالوا: فأبو قتادة لم يحرم من ذي الحليفة؛ لأنه سلك الطريق الآخر، فلا يسوغ أن نستدل بقصة عائشة ؛ لأن عائشة سلكت الطريق الآخر.

وعلى هذا نرجع إلى أصل المسألة: هل جدة ميقات أم ليست بميقات؟

الواقع أن جدة ليست بميقات، وإن كان جزء منها عن طريق البحر ميقاتاً؛ لأن جدة كبيرة وواسعة، فهي داخلة ضمن المواقيت بمحاذاة الجحفة من طريق البحر، والخارج عن الميقات تقريباً سبعون كيلو متراً، فمن جاء من أهل اليمن عن طريق البحر إلى شاطئ القلزم الذي يسمونه شاطئ البحر الأحمر من طريق جدة، أو أهل سواكر من السودان الذين يقطعون البحر الأحمر، فيقفون عند الشاطئ، فإن هذا المكان لا يحاذي الميقات، وعلى هذا: فيسوغ لهم أن يحرموا من الميناء، ولكن المطار الموجود في جدة داخل المواقيت، وشمال جدة كلها داخل المواقيت.

وعلى هذا فجدة ليست ميقاتاً كلها بل أغلبها وجزء بسيط منها ليس بميقات، ولو وجد مطار في هذا الميناء؛ جاز لأهل الشام أن يحرموا من جدة، لكن هل للنجدي والعراقي أن يتجاوزا ميقاتهما ويحاذيا المنازل من جدة لو فرض أن هناك مطاراً هل يجوز لهما ذلك؟ قلنا: لا يجوز؛ لأنه نقل الإجماع على عدم جواز من مر على ميقات بلده أن يتعداه إلى ميقات غير ميقات بلده.

إذاً: فلا يسوغ أن نقول: جدة ميقات؛ لأن الجزء البسيط من جدة خارج المواقيت، وبينها وبين مكة مرحلتان، يعني تقريباً من ثمانين إلى خمسة وثمانين كيلو متراً.

المسألة الرابعة: إذا دخلنا في النسك، فمتى يلبي؟

عامة الفقهاء من الأئمة الأربعة وهو قول ابن حزم قالوا: يستحب أن يحرم عقب فريضة وإن لم يكن فنافلة، ونقول: الوارد في سنة النبي صلى الله عليه وسلم أنه أحرم بعد فريضة الظهر، والوارد عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الله أمره أن يصلي ركعتين في ذي الحليفة، كما في الصحيحين من حديث عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( أتاني الليلة آت من ربي وقال: صل في هذا الوادي المبارك وقل: عمرة في حجة )، وهذا خاص بالوادي المبارك. وقرن المنازل، ويلملم، والجحفة، وذات عرق، ليست بأودية مباركة؛ لأن الله هو الذي خص ذي الحليفة بالوادي المبارك.

ولكن ذهب أبو العباس بن تيمية : إلى أنه ليس للإحرام سنة تخصه، ونقول: وإن كان ليس للإحرام سنة تخصه، إلا أن الأفضل للإنسان أن يحرم عقب فريضة، فإن لم يكن فليتطوع إن كان في وقت التطوعات، أو يكون عقب سنة الوضوء، كما قال بلال رضي الله عنه: ما توضأت وضوءاً من ليل أو نهار إلا صليت بذلك الوضوء ما قدر لي فيه.

المسألة الخامسة: مسألة المخيط.

أول من ذكر المخيط هو إبراهيم النخعي ، والعبرة في كل ما لبس على قدر العضو، وقال الحافظ ابن حجر : إن المحرم ممنوع من أن يلبس ما كان قد اعتاد أن يلبسه قبل الإحرام، وعلى هذا: فلا يسوغ لبس الإزار الذي قد ربط أوله بآخره، حتى يكون على هيئة التنورة، فهذا ممنوع منه المحرم، ولا أعلم خلافاً في كتب الفقهاء في ذلك، بل نصوا على هذه المسألة، فقال الحنفية كما في بدائع الصنائع: ويحرم على المحرم أن يربط على إزاره بحبل، واستدلوا على ذلك بما رواه البيهقي من طريق الشافعي عن سعيد بن سالم عن ابن جريج : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً حزم إزاره بحبل فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: انزعه مرتين )، والحديث ضعيف؛ لأن بين ابن جريج ورسول الله صلى الله عليه وسلم مفاوز تنقطع فيها أعناق الإبل، ورواه البيهقي من طريق آخر، من طريق ابن أبي ذئب عن صالح بن حسان عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهو أيضاً مرسل. قال الحافظ البيهقي : وهو منقطع، إلا أن أحدهما يتأكد بالآخر، ثم بما مضى من أثر ابن عمر : بأنه إذا عقد صار في معنى المخيط.

وعلى هذا: فما ينقل في بعض الكتب أن لبس الإزار بوضع تكة يجوز، ونقل ابن تيمية الإجماع، نقول: هذا خطأ على ابن تيمية ؛ لأن أبا العباس ابن تيمية رحمه الله قال في شرح العمدة (2/16): فأما إن خيط أو وصل لا ليحيط بالعضو -تأمل هذه الكلمة- ويكون على قدره مثل الإزار والرداء الموصل والمرقع ونحو ذلك؛ فلا بأس به. فابن تيمية يقول: لو كان إزارك قصيراً فجئت بإزار آخر فوصلت هذا الإزار بالإزار الثاني والتحفت به، فيقول لك ابن تيمية : جائز؛ لأن هذا ليس هو المراد بالمخيط؛ لأنه قال: لا ليحيط بالعضو، يعني لا تربطه ليحيط بالعضو، فيكون على هيئة النقبة.

لـابن تيمية عبارة توهم، حيث أنه ذكر أن من لم يجد الإزار قال: فليلبس السراويل، قال: ولا يلزم لمن لم يجد الإزار أن يفتق السراويل كما قيل في قطع الخفين، فمن لم يجد إزاراً نقول له: البس السراويل ولا يلزمك أن تفتقه، قال ابن تيمية : إن فتق السراويل يجعله بمنزلة الإزار، حتى يجوز لبسه مع وجود الإزار بالإجماع.

ماذا يقصد ابن تيمية بهذه العبارة؟ يقصد أن فتق السراويل كلها حتى التكة تفتق؛ لأنه قال كما ذكرنا سابقاً لا ليحيط بالعضو، وهذا القول هو قول الأئمة الأربعة: إنه لا يجوز أن يجعل الإزار على هيئة السروال من غير كمين أسفلين، والفقهاء قالوا: إن كل ما سمي إزاراً في لغة الفقهاء واللغة جاز لبسه.

وهل الإزار الذي يوضع على هيئة التنورة هل يسمى إزاراً؟ نقول: الحجة في ذلك بقول علماء اللغة؛ فقد نص ابن منظور في لسان العرب و ابن الأثير في النهاية في غريب الحديث قالا: إذا وصل الإزار حتى يكون كهيئة التكة من السراويل؛ فإنه يسمى نقبة، نون مضمومة وقاف مسكنة وباء وتاء مربوطة بعدها نقبة، قال عمر : فألبستنا أمنا نقبتها.

قالوا: ومما يدل على المنع: أن الصحابة اختلفوا في وضع الهميان، ما هو الهميان؟ هو كيس توضع فيه النفقة، اختلفوا في وضع الهميان على المنطقة فوق الإزار، فمنعه ابن عمر ، وجوزه ابن عباس إذا كان فيه النفقة، وقال إبراهيم النخعي رحمه الله: كانوا يرخصون في عقد الهميان للمحرم، ولا يرخصون في عقد غيره، هذا إجماع على المنع، وقد روى البيهقي بسند صحيح عن طاوس عن ابن عمر قال: رأيت ابن عمر يسعى بالبيت وقد حزم على بطنه بثوب، قال العلماء: إذا حزم على بطنه ثوب جائز، لكن إذا جعل الإزار موصلاً به على هيئة السروال؛ فإنه يمنع، بدليل ما جاء عند البيهقي من طريق مسلم بن جندب : أن رجلاً أتى ابن عمر وأنا معه، فقالوا: أخالف بين طرفي ثوبي من ردائي ثم أعقده وأنا محرم؟ قال: لا تعقد! كيف هذا؟ تجعل الإزار أمامك، ثم تأخذ أحدهما عن يمينك والآخر عن شمالك وتعقدهما خلفك، قال ابن عمر : لا تعقد الإزار! وهذا يدل على أنه ليس في المسألة إجماع، وإن كان بعض مشايخنا جوز هذا، ونقول: المسألة مسألة اجتهاد، لكن أن ننقل إجماع أهل العلم على جواز ذلك، فنقول: لا، أجمع أهل العلم على كلام إبراهيم النخعي على المنع، وإن كنت تريد التقيد بالضبط، فقل: الأئمة الأربعة، وهو قول ابن عمر و عائشة وغيرهما: أنه لا يجوز أن يربط إزاره على هيئة النقبة.

إذاً إذا قلنا: بأنه لا يجوز أن يوصل الإزار حتى يكون على قدر العضو، فلو لف أحد طرفيه ووضع حزاماً عليه، هل له أن يخيط في الثوب جيباً للجوال أو للنفقة أو غير ذلك؟ نقول: لا بأس؛ لأن هذا الخيط الذي سوف يوضع ليس على قدر العضو، وحينئذ نقول: لا بأس.

المسألة السادسة: المرأة المحرمة بم تحرم؟

اعتادت بعض النساء أن تحرم بالثوب الأخضر أو الثوب الأسود أو البني، وبعضهم يجوز الاستحباب بالأخضر لما روى يعلى بن أمية : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم طاف مضطبعاً ببرد أخضر )، وهذا صححه الترمذي وضعفه بعض أهل العلم؛ لأن الاضطباع لم يصح إلا من حديث ابن عباس ، والأقرب والله أعلم أن المرأة تحرم بما شاءت من الثياب، كما ثبت ذلك عن عائشة رضي الله عنها قالت: لا تنتقب المحرمة ولا تتبرقع ولا تتلثم، ولتلبس بعد ما شاءت من حلي ومعصفر، وأي شيء من ألوان الثياب، ورواه ابن عمر مرفوعاً وموقوفاً، والصواب وقفه على ابن عمر .

وعلى هذا: فالمرأة تلبس بعد ما شاءت، إلا أنها لا تلبس ثوب زينة، قالت عائشة في الكحل: أما إنه ليس بحرام، ولكنه زينة ونحن نكرهه، فلا ينبغي للمرأة أن تلبس ثوب زينة، ولتلبس بعد ما شاءت من الثياب.

المسألة السابعة: فعل المحظور: من فعل محظوراً من محظورات الإحرام، فهل عليه شيء؟

ذهب الأئمة الأربعة، وهو قول ابن عباس و ابن عمر و عبد الرحمن بن أبي بكر إلى أن من فعل محظوراً من محظورات الإحرام؛ فإن عليه الفدية، والفدية قالوا: ذبح شاة، أو صيام ثلاثة أيام، أو إطعام ستة مساكين، لكل مسكين نصف صاع، سواء حلق الرأس أو قصره، أو لبس المخيط أو غير ذلك.

ومن جاء محرماً ومنع من الإحرام لأجل عدم التصريح، ثم تحايل ولبس ثوبه ثم دخل، فنقول: عليك الفدية، وهذا الذي أفتى به صحابة النبي صلى الله عليه وسلم، ولا أعلم خلافاً في ذلك إلا ابن حزم فإنه قال: من فعل محظوراً من محظورات الإحرام، كلبس الخفين، والبرقع، والطيب؛ فليس عليه شيء، إلا الحلق لورود النص، ولا عتب على ابن حزم ؛ لأن الخلاف مع ابن حزم خلاف في أصل المسألة وهي القياس، فـابن حزم لا يرى القياس، لكن العتب على الذي يرى القياس، ولا يرى الأخذ بهذه المسألة والقياس بجامع فعل المحظور، إلا ما خرج بنص أو إجماع، والنص جزاء الصيد وغيره كالجماع قبل التحلل الأول.

والدليل على هذا ما رواه الطحاوي من طريق أبي الزبير عن أبي معبد مولى ابن عباس عن ابن عباس أنه قال: يا أبا معبد! ناولني طيلساني. قال: وقد كنت تكره ذلك؟ قال: نعم، ولكني سأفتدي. فابن عباس أمر غلامه أن يأتي بالطيلسانة، وهي قريبة من الجبة، وإن شئت فقل: الجاكيت وغير ذلك، وقال: ولكني سأفتدي، وقد صح عند مالك من طريق ابن شهاب عن سالم عن ابن عمر أنه قال: المسفر بمرض لا يحل حتى يطوف بالبيت ويسعى بين الصفا والمروة، فإن اضطر إلى لبس شيء من الثياب التي لا بد له منها أو الدواء؛ صنع ذلك وافتدى. ورواه ابن أبي شيبة من طريق قتادة أن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق سأله رجل عما يروى في كحل الإثمد لأن الإثمد طيب، فقال: عليه يهريق دماً، لأنه اختار له أحد الفدية. فهذه أقوال ثلاثة من الصحابة.

والعجب على من لا يرى الفدية في فعل محظور، ويرى أن من جامع قبل التحلل الأول؛ عليه بدنة، قلنا: ما الدليل؟ قال: فعل الصحابة، طيب لماذا لا يكون قول الصحابة في المحظور كقولهم في الجماع قبل التحلل الأول؟ فلو سألنا سائل: ما ترى فيمن أحرم بالحج ولم يدرك عرفة؟ وهذا يسميه الفقهاء: الفوات، أي من فاته الحج، فإنهم أجمعوا على ما أخذ به عمر ، على أنه يتحلل بعمرة وعليه الهدي.

إذاً الأولى أن نأخذ بأقوال الصحابة الموافقة للقياس، والتي لم يخالف فيها أحد، والواقع أن الذي عليه الأئمة، وسار عليه سلف هذه الأمة، أن من فعل محظوراً من محظورات الإحرام؛ افتدى، وأما الإثم فإنه على حسب حاجته لفعل المحظور، فإن احتاج إلى فعل المحظور؛ فعله وليس عليه إثم، وإن كان من باب الترفه ليس إلا؛ وجب عليه الفدية والإثم لما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كما عند أبي داود أنه رأى أناساً في عرفة عليهم العمائم والقلانس قال: اذهبوا إليهم فإن جهلوا فعلموهم، وإن علموا فعاقبوهم، فهم إنما عوقبوا؛ لأنهم فعلوا محرماً.

المسألة الثامنة: حكم من ترك واجباً من واجبات الحج كمن ترك الرمي أو ترك الحلق أو ترك السعي ما عليه؟

نقول: ما ذهب إليه الأئمة الأربعة، وسار عليه سلف هذه الأمة: إلى أن من ترك واجباً من واجبات الحج؛ فإن عليه أن يهريق دماً، وهو مذهب ابن عباس و ابن عمر ، والدليل على هذا قالوا: لأن كل من ترك إكمال الحج الواجب؛ جبره بدم كالمحصر، إنما وجب عليه الدم لتركه واجب إتمام الحج، ومن فاته الحج؛ فإنه ترك واجب إتمام الحج؛ فيجبره بدم، وكذا من ترك واجباً من واجبات الحج؛ جبره بدم، قالوا: وهذا قياس صحيح أخذ به عمر في الفوات، وأخذ به ابن عباس كما روى عطاء عن طاوس عن ابن عباس أنه قال: من نسي نسكاً؛ فليهرق دماً، وهذا روي مرفوعاً وموقوفاً، والصواب وقفه على ابن عباس .

وبعض العلماء أشكل عليه هذا الحديث فقالوا: كيف يكون من ترك نسكاً فليهرق دماً؟ فهناك أنساك ليست واجبة، فهل تأمرونه بالدم؟ قلنا: قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه ثوبان : ( لكل سهو سجدتان )، متى يكون سجود السهو؟ في ترك واجب؛ فإن ترك سنة نقول: هذه سنة ليست واجبة عليه، فالدم وجب عليه؛ لترك واجب؛ والبدل يأخذ حكم المبدل، فإذا ترك سنة وذبح فحسن، كما قال به بعض السلف، لكنه إذا ترك واجباً؛ يجب أن يجبره بدم، وعامة الناس يقولون: هذا الأثر لا يعرف إلا عن ابن عباس ، ونقول: لا يمكن أن يجمع الصحابة والتابعون ومن سار على نهجهم على أمر ليس لهم فيه مستند.

وقد روى صالح بن الإمام أحمد في مسائله عن أبيه قال: حدثنا عبد الرزاق قال: حدثنا عبيد الله بن عمر قال: حدثنا هشام بن حسان عن نافع عن ابن عمر : أن من رمى قبل الزوال ونفر قبل الزوال فليهرق دماً، هذا قول ابن عمر ، قال أحمد : وبه أذهب، وهذا دليل على أن ابن عمر يرى أن من ترك واجباً؛ فليهرق دماً، فعندنا صحابيان؛ فليس هو اجتهاد عن ابن عباس فقط بل هو قول ابن عباس وقول ابن عمر .

يبقى علينا إشكال في هذه الرواية، فإن يحيى بن معين تكلم في رواية عبد الرزاق عن عبيد الله بن عمر ، وصححها مسلم رحمه الله، فقد روى مسلم في صحيحه من طريق عبد الرزاق عن عبيد الله . والأقرب أن رواية عبد الرزاق عن عبيد الله صحيحة، إلا إذا جاء بما يستنكر، ولعل هذا مما ليس بمستنكر، والله أعلم.

ثم إن أهل العلم انقسمت مدارسهم على ثلاث: مدرسة الحجاز، ومدرسة الكوفة، ومدرسة الشام، وكل هذه المدارس تقول بوجوب الدم على من ترك واجباً، لكن بعض الفضلاء يذكر عن عطاء : أنه إذا نفر من عرفة قبل غروب الشمس؛ ليس عليه شيء، ويقول: هذا دليل على أن عطاء لا يرى بترك الواجب دماً، نقول: من قال لك: إن عطاءً يرى أن الخروج من عرفة قبل غروب الشمس واجب، فقد اختلف العلماء فيه، فعطاء رحمه الله! لا يرى وجوب الدم؛ لأنه لا يرى أن أصل المسألة واجبة.

المسألة التاسعة: إذا وصل الحاج مكة.

فإننا نقول: يستحب له أن يلبي حتى يمس الركن أو حتى يشرع في الطواف، فإن كان متمتعاً فإنه يقف عن التلبية إلى أن يهل من اليوم الثامن يوم التروية؛ أما إن كان مفرداً أو قارناً؛ فإنه يمسك عن التلبية في طوافه وسعيه، ثم يبدأ بعد ذلك إلى أن يرمي جمرة العقبة، وهذا هو الذي صح عن ابن عباس : أن الحاج يمسك عن التلبية إذا شرع في الطواف، وقد جاء عند البخاري عن ابن عمر أنه كان يمسك عن التلبية إذا رأى بيوت مكة، وأكثر أهل العلم قالوا: إن هذا اجتهاد من ابن عمر ، والصواب أنه يمسك إذا شرع في الطواف، لكن هل تشترط الطهارة للطواف أم لا؟ هذا معترك النزاع.

الطهارة للطواف اختلف الفقهاء فيها، ولعلي أذكر ذلك على مراحل:

أولاً: أجمع أهل العلم على أنه لا يجوز للحائض أن تطوف بالبيت، وهذا الإجماع نقله ابن حزم رحمه الله في مراتب الإجماع، و النووي وغير واحد من أهل العلم: على أن الحائض لا يجوز لها أن تطوف وهي حائض، واختلفوا في سبب المنع، فقال بعضهم: لأجل اعتبار الطهارة في الطواف، وهذا قول الجمهور وعامة الفقهاء، وقال بعضهم: بل لأجل الدخول في المسجد، وأشار إليه أبو العباس ابن تيمية رحمه الله.

ودليلهم أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال -كما في الصحيحين- لـعائشة : ( افعلي ما يفعل الحاج غير ألا تطوفي بالبيت حتى تطهري )، وفي رواية مسلم : ( حتى تغتسلي )، فمنع عائشة من الطواف بالبيت، لا من دخول المسجد، ومن المعلوم أن الطواف بالبيت دائرة أقل وأدق من دائرة أوسع منها وهي دخول المسجد، فلو أراد الدخول في المسجد، لقال: غير ألا تدخلي المسجد، فيدخل الطواف تبعاً، أما أن يقول بأبي هو وأمي عليه الصلاة والسلام: ( غير ألا تطوفي بالبيت )، فهذا دليل على اعتبار الطهارة في الطواف، وإلا لم يقل: ( حتى تغتسلي ). ولو كان لأجل المسجد لقال: حتى ينقطع حيضك، فقوله: (حتى تغتسلي) دليل على أن المراد والمقصود هو الطهارة للطواف.

إذا ثبت أن الحائض ممنوعة من الطواف حال الحيض، فما حكم الطهارة للطواف؟

نقول: اختلف الفقهاء في ذلك، مع إجماعهم على أن الحائض لا تطوف:

القول الأول: ذهب ابن حزم رحمه الله إلى أنه لا يجوز للمرأة أن تطوف وهي حائض، ويجوز للمرأة أن تطوف وهي نفساء، ويجوز لغيرها أيضاً أن تطوف بغير طهارة، قال العراقي : وهذا جمود وظاهرية متعقبة.

القول الثاني: هو قول ابن تيمية : إن الحائض ممنوعة من الطواف لأجل المسجد، وأصل الطهارة في الطواف سنة، ونقله ابن أبي شيبة عن حماد بن أبي سليمان و الحكم بن عمرو و سليمان التيمي ، كلهم يرون سنية الطهارة.

القول الثالث: ذهب جمهور الفقهاء من المالكية والشافعية والحنابلة إلى أن الطهارة للطواف شرط لصحة الطواف، فلا يصح الطواف إلا على طهارة؛ واستدلوا بحديث عائشة وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( غير ألا تطوفي بالبيت حتى تطهري )، فقوله: (حتى تطهري) هذا لفظ مشترك، واللفظ المشترك عند الأصوليين يمكن حمله على جميع معانيه، وقوله: (حتى تطهري) هذا يحتمل من الطهارة الكبرى، ومن الطهارة الصغرى.

قالوا: فقوله صلى الله عليه وسلم: (حتى تطهري) يجوز أن يحمل اللفظ المشترك على جميع معانيه، إلا أن يرد نص أو معنى: النص أن يخرجه هذا النص. المعنى مثل القرء، القرء يحتمل الطهر ويحتمل الحيض، لكن هل يمكن حمل القرء على جميع المعنيين؟ لا يمكن؛ لأن هذا تضاد، لكن الطهارة هنا الطهارة الصغرى والطهارة الكبرى.

قالوا: فدل ذلك على أن الحائض لا يجوز لها أن تطوف وهي حائض، ويدخل فيه كل من كان محدثاً، سواء كان حدثاً أصغر أو حدثاً أكبر.

واستدلوا أيضاً بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( خذوا عني مناسككم )، وقد ثبت في الصحيحين من حديث عائشة : ( إن أول ما بدأ به رسول الله صلى الله عليه وسلم أن توضأ فطاف بالبيت )، قالوا: والفعل إذا خرج بياناً لمجمل قول؛ دل على وجوبه، فإن فعل الرسول صلى الله عليه وسلم حينما توضأ خرج بياناً لمجمل قول: ( خذوا عني مناسككم )، وكل فعل خرج بياناً لمجمل قول؛ فهو مأمور به، وهذا من المأمور به.

القول الرابع في المسألة: هو قول أبي حنيفة ورواية عند الإمام أحمد نقلها الخطابي و المجد ابن تيمية في المحرر وهو رواية عند المالكية ذكروها عن ابن المغيرة المالكي قالوا: إن الطهارة للطواف واجبة وليست بشرط، وعلى هذا: فكل الأدلة التي استدل بها أصحاب القول الثالث تصلح أن تكون دليلاً لأصحاب القول الرابع، ولكن أصحاب القول الرابع قالوا: نحن نسلم لكم بوجوب الطهارة، لكن أنى لكم باشتراطها؛ لأن معنى اشتراطها أنها لا تصح إلا بدليل، قالوا: ولم يرد دليل. وأرى أن هذا القول هو أعدل الأقوال؛ لأني لا أستطيع أن أخرج من قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( افعلي ما يفعل الحاج غير ألا تطوفي بالبيت حتى تغتسلي )، وفي رواية: ( حتى تطهري )، وهذا أقل ما يقال في أنها يلزمها الطهارة الصغرى والطهارة الكبرى، ولا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة، وقد فعلت عائشة ذلك، ولا أعلم خلافاً عند أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم على هذه المسألة، إنما جاء الخلاف فيمن جاء بعدهم.

نعم لو أن المرأة الحائض احتاجت إلى طواف الإفاضة، فإننا نقول حينئذٍ: إن احتاجت وخافت فوات الرفقة أو انطلاق الطائرة إلى بلدها ولا تستطيع الرجوع؛ فإنها تطوف بعد أن تستشعر وتجبر هذه الطهارة بدم؛ لأن كل من ترك واجباً؛ فليهرق دماً فتذبحه في الحرم وتوزعه على فقراء الحرم. هذا هو مذهب أبي حنيفة ورواية عند الإمام أحمد ، وهو قول عند المالكية، وأرى أن هذا القول هو أعدل الأقوال.

هنا مسألة: لو أن شخصاً قال: مع مشقة الزحام ربما طاف الإنسان الشوط الأول والثاني ثم أحدث في الثالث، نقول: يذهب فيتوضأ ثم يستأنف من الثالث، لا يعيد الشوط الأول والثاني، لماذا؟ لأن كل شوط له حكم، فالموالاة هنا إن طال الفصل إطالةً عرفيةً؛ فإننا نقول: يعيد الوضوء والطواف، وإن كانت الإطالة محتملة، مجرد أن يذهب إلى الوضوء ويرجع؛ فنقول: حينئذٍ يجزئه ذلك؛ لأن في الزحام لو انتقل من الصحن إلى الأعلى؛ لتطلب ذلك تقريباً عند بعض الناس ثلث ساعة أو نصف ساعة.

وعلى هذا فنقول: إن من احتاج إلى الطهارة أو أحدث؛ فإنه يستأنف من الشوط الذي أحدث فيه، وما طافه وهو طاهر لا يعيده إلا إذا طال الفصل، والله أعلم.




استمع المزيد من الشيخ الدكتور عبد الله بن ناصر السلمي - عنوان الحلقة اسٌتمع
شركات المساهمة 2612 استماع
عبادة القلوب 2461 استماع
مسائل فقهية في النوازل 2445 استماع
التأصيل العلمي 2088 استماع
عبادة القلب 2042 استماع
البطاقات الائتمانية - بيع المرابحة للآمر بالشراء 1946 استماع
أعمال القلوب 1928 استماع
العبادة زمن الفتن 1925 استماع
كتاب التوحيد - شرح مقدمة فتح المجيد [2] 1861 استماع
الرزق الحلال وآثاره 1805 استماع