صفة الرجولة في القرآن


الحلقة مفرغة

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102] .

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً [النساء:1] .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً [الأحزاب:70-71] .

أما بعـد:

فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

أيها الإخوة: حديثنا عن مشكلة من المشاكل التي تواجه العالم الإسلامي اليوم.

إن من الأمور التي خُذِل فيها الإسلام أيما خذلان، هذه القضية -أيها الإخوة- وهي انعدام صفة الرجولة في كثير من المسلمين اليوم.

والرجولة صفة يمتن بها الله عز وجل بها على من يشاء من عبادة، كما قال ذلك الرجل المؤمن الذي يعلِّم صاحبَه الكافر، يقول له موبخاً ومقرعاً، ومذكراً له بنعم الله عز وجل عليه: أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً [الكهف:37] .

هذا الرجولة التي يمتن الله عز وجل وينعم بها، لها صفات ولها خصائص، لا تكتمل إلا بها، ولا تقوم إلا عليها، ولا تشتد إلا بهذه الأركان.

والرسل الذين بعثوا إلى أقوامهم ما كانوا إلا رجالاً، قال الله عز وجل: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ [النحل:43] فلم يرسل الله عز وجل إلى الناس إلا رجالاً.

هذه الرجولة -أيها الإخوة- التي ضاعت مضامينها اليوم، وفقدت أركانها عند الكثيرين، فصاروا أشباه الرجال ولا رجال.

هذه الرجولة نحتاج لنتعرف على صفاتها من القرآن الكريم، وسنذكر في هذه الخطبة -إن شاء الله- شيئاً من صفات الرجولة، حتى يعلم الرجل اليوم هل هو رجل بالمعنى الحقيقي أم هو هيكل خارجي لا يدل على مضمون الرجولة مطلقاً؟!

التعلق بالمساجد وحب الطهارة

يقول الله تعالى واصفاً المسجد الذي ينبغي أن يكون حاله الصحيح، ومَن هو بداخلِه؛ يقول الله تعالى: لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ [التوبة:108] أسس على التقوى، أسس على التوحيد، أسس على العقيدة الصحيحة .. لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى [التوبة:108] أنشئ على التقوى لوجه الله عز وجل .. مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ [التوبة:108] أحق أن تقوم فيه يا محمد -صلى الله عليه وسلم- من مسجد الضرار الذي بناه المنافقون.

ما هي صفاته الأخرى؟ ما هي أهم صفة من صفاته؟ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ [التوبة:108] أين مكان أولئك الرجال؟! أين مكانهم؟! هل هم في الأندية أو في الحفلات؟! هل هم في الأسواق يمرحون ويسرحون؟! هل هم في المجتمعات الفارغة التي تُفْرِغ الرجولة من معانيها؟! كلا -أيها الإخوة- فِيهِ رِجَالٌ [التوبة:108] في هذا المسجد رجال.

رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا [التوبة:108] يأتون إلى المسجد على طهارة، والله يحب هؤلاء الرجال الذين من صفتهم الطهارة وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ [التوبة:108] .

هذه صفة من صفات الرجال.

ذكر الله تعالى وإقام الصلاة وترك ما يلهي عنها

وانظر معي إلى مشهد مقابل في سورة النور، مماثل لتلك الآية في سورة التوبة .. يقول الله عز وجل: فِي بُيُوتٍ [النور:36] أي: مساجد.

فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ [النور:36] شاء الله أن ترفع.

وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ [النور:36] اسمه عز وجل وحده لا شريك له.

يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ [النور:36] أين الفاعل؟! مَن الذي يسبح؟! يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ [النور:36] غُدوةً وأصيلاً، مَن الذي يسبح؟! مَن في هذه المساجد يسبح الله عز وجل؟! يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ * رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ [النور:36-37] : مَن في هذا المسجد؟! إنهم رجالٌ، ثم جاءت بقية الصفات.

قال ابن كثير رحمه الله: قوله: رِجَالٌ [النور:37] : فيه إشعار بِهِمَمِهِم السامية، ونياتهم وعزائمهم العالية، التي بها صاروا عمَّاراً للمساجد التي هي بيوت الله في أرضه.

يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ * رِجَالٌ [النور:36-37] يسبحون الله في المساجد، وما هي صفاتهم الأخرى؟ قال الله: لا تُلْهِيهِمْ تِجَـارَةٌ وَلا بَيْـعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ [النور:37] .

أيها الإخوة: هؤلاء هم الرجال الذين لم تلههم تجارة ولا بيع عن أي شيء؟ عن ذكر الله، وإقام الصلاة.

قال بعض السلف رحمه الله: يبيعون ويشترون -هؤلاء الرجال- يبيعون ويشترون؛ ولكن كان أحدهم إذا سمع النداء وميزانه في يده خفضه، وأقبل إلى الصلاة.

ومر عمرو بن دينار رحمه الله ومعه سالم بن عبد الله ، قال: [كنت مع سالم بن عبد الله ونحن نريد المسجد، فمررنا بسوق المدينة ، وقد قاموا إلى الصلاة، وخَمَّروا متاعهم، فنظر سالم إلى أمتعتهم ليس معها أحد] لم يجلسوا أمامها ليحرسوها، أو لينظروا فيها، أو أغلقوا الدكاكين وقعدوا على الرصيف في الطريق ينتظرون متى تنتهي الصلاة حتى يكون كل واحد منهم أول من يفتح الدكان، تركوا أمتعتهم في الشارع، وغطوها في السوق، وذهبوا إلى المسجد .. [فنظر سالم إلى أمتعتهم ليس معها أحد، فتلا هذا الآية: رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ [النور:37]، ثم قال: هم هؤلاء] هؤلاء الذين عنى الله بقوله في هذه الآية، هؤلاء الذين قدموا مراد الله على مراد أنفسهم، وآثروا طاعة الله على المتاع الدنيوي الزائل، آثروا الاستجابة لهذا النداء العلوي الرباني: حي على الصلاة، حي على الفلاح، على نداء الجشع والطمع الذي يثيره الشيطان، والنفس الأمارة بالسوء.

أيها الإخوة: كم من الرجال اليوم يقعدون في محلاتهم ودكاكينهم، أو يدخُلون داخلها في حجر مخفية، فيقعد أحدهم في مكتبه وراء الطاولة يجيب على هذا الهاتف وهذا الرجل، ويكلِّم ويفاوض ويخفض ويرفع، ويماكس ويشاكس، ويترك نداء الله، يترك المسجد، لا يجيب داعي الله إليه، لماذا أيها الإخوة؟! هل يُسَمَّى هؤلاء رجالاً؟! كلا. إنهم أشباه الرجال ولا رجال.

الثبات على المنهج الرباني

ومن صفات الرجال: أنهم يثبتون على المنهج الرباني الذي أنزله الله عز وجل ..

أيها الإخوة: إنه المنهاج الذي وضعه رب العزة تبارك وتعالى، ليستقيم عليه الناس .. هذا المنهاج الذي لا يصح أن ينحرف الإنسان عنه يَمنة ولا يَسرة، لابد أن يرقبه ويجاهد نفسه للسير عليه .. هذا المنهاج المتضمن لقواعد أصولية، ومسائل تصورية، لا يمكن أن يتخلى عنها المسلم بأي حال من الأحوال .. هذا المنهاج الذي عليه صور ومنارات تضيء للمسلم الطريق .. هذا المنهاج الرباني منهاج أهل السنة والجماعة ، الطائفة المنصورة لابد من الثبات عليه.

قال الله عز وجل مادحاً صنفاً من أصناف الرجال: مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ [الأحزاب:23] عاهدوا الله ثم صدقوا في الوعد، صدقوا ما عاهدوا الله على هذا المنهج، استمروا عليه، تشبثوا به، وساروا غير مضطربين ولا متحيرين، لا تعيقهم العوائق، ولا تقف أمامهم الصعوبات ولا الشهوات، ولا الشبهات التي يثيرها أعداء الإسلام.

مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ [الأحزاب:23] ومات على هذا المنهج شهيداً عاملاً لمنهج الله عز وجل.

فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ [الأحزاب:23] ينتظر أن يتوفاه الله على حسن الختام؛ ليموت على هذا المنهاج غير مغيّر ولا مبدل.

قال الله عز وجل: وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً [الأحزاب:23] ما بدلوا ولا غيروا ولا انحرفوا، بل هم مستقيمون على هذا المنهاج، ينتظرون أمر الله تعالى أن يتوفاهم وهم سائرون على هذا الدرب مستقيمون عليه، لا يلوُون على شيء إلا مرضاة ربهم عز وجل.

إنه الثبات على المنهج الذي افتقده كثيرٌ من المسلمين اليوم، حتى ممن شغلوا بالعمل للإسلام، قامت عندهم انحرافات في التصور والسلوك، فانحرفوا عن منهج الله.

أيها الإخوة: ليست القضية أن نمسك الطريق فقط، ولا أن نعرفه فقط، ولا أن نصل إليه فقط، إن المسألة أن نستمر عليه بغير تبديل ولا تحريف وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً [الأحزاب:23].

تأييد الرسل ومناصرتهم

هذه الرجولة التي يصفها الله تعالى في القرآن، أن مِن أهلها مَن يؤيد الرسل في دعوتهم ويناصرهم، ويبين للناس أن ما جاءت به الرسل هو الحق، ويعين الرسل ويساعدهم.

قال تعالى: وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ [يس:20] مَن الذي جاء؟ هل جاء جيش جرار، أو فئامٌ كثيرة من الناس؟ وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ [يس:20] جاء من آخر المدينة .. رَجُلٌ يَسْعَى [يس:20] يشتد، ولماذا جاء؟! ألأن هناك سوقاً أو حراجاً لا يريد أن يفوته منه شيء؟! ألأن هناك أسهماً تباع لا يريد أن يفوت منها شيء؟! كلا -أيها الإخوة- قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ * اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ [يس:20-21] اتبعوهم، اتبعوهم هؤلاء الرسل وَمَا لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [يس:22] .

ثم يبين عرض حقائق العقيدة، التصورات النقية الصافية الخالية من شوائب الشرك، حتى توفاه الله عز وجل فقال: يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ [يس:26-27] .

فمن صفات الرجولة -أيها الإخوة- أن نكون نحن الذين نسمي أنفسنا رجالاً، أن نكون أعواناً للرسل، حرباً على أعداء الرسل، وليس حرباً على الرسل، أن نكون مؤيدين لدعوة الرسل، لا مثبطين عن دعوة الرسل، أن نكون مستجيبين لدعوة الرسل، متبعين لا عاصين ولا مبتدعين ولا معاندين.

هذه الصفة -أيها الإخوة- كم من الرجال من يمتلكها اليوم؟! كم من الرجال من يؤيد دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم؟! إنهم قليل.

وفي حال الخوف يتقدم الرجال بالنصح لله عز وجل، رغم الخوف الذي يكتنفهم، وأجواء الإرهاب التي تحيط بهم، فيقومون بواجب النصيحة .. رجل واحد يفعل أفعالاً لا تفعلها أمة بأسرها، رجل واحد يعدل غثاءً، بل إنه يرجح على هذا الغثاء المترامي الأطراف، الذي لا يجمعه تصور واحد، ولا منهج واحد، ولا عقيدة واحدة، يقوم هؤلاء الرجال بواجب النصح لله عز وجل، ويحذرون أولياء الله من المخاطر التي تحدق بهم.

تقديم النصيحة في حال الخوف

قال الله تعالى: وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى [القصص:20] يشتد من أقصى المدينة، لم يقعد به طول المسافة، ولا بُعد الطريق، جاء يسعى ويشتد، لقد كان هذا الرجل مؤمناً.

قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ [القصص:20] يتشاورون في أمرك، لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ [القصص:20] إني أكشف لك مخططاتهم، وأعرِّي لك دسائسهم ونياتهم الخبيثة، فاخرج من هذه المدينة، فَاخْرُجْ إِنِّي لَِكَ مِنَ النِّاصِحِينَ [القصص:20] .

قال ابن كثير رحمه الله: وُصِف بالرجولة؛ لأنه خالف الطريق، يعني بالطرق الجادة التي تُسلك في الشارع، فسلك طريقاً أقرب من طريق الذين بُعثوا وراءه، فسبق إلى موسى وحذره، قال: إن الناس آتون ورائي ليقبضوا عليك ويقتلوك، أعوان فرعون الطاغية: فَاخْرُجْ إِنِّي لَِكَ مِنَ النِّاصِحِينَ [القصص:20] .

يأتي هذا الرجل يسعى، يختصر الطريق ليحذر ولي الله ونبيه موسى عليه السلام .. إن تقديم النصيحة حتى في حالة الخوف من صفات الرجولة.

يقول الله تعالى واصفاً المسجد الذي ينبغي أن يكون حاله الصحيح، ومَن هو بداخلِه؛ يقول الله تعالى: لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ [التوبة:108] أسس على التقوى، أسس على التوحيد، أسس على العقيدة الصحيحة .. لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى [التوبة:108] أنشئ على التقوى لوجه الله عز وجل .. مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ [التوبة:108] أحق أن تقوم فيه يا محمد -صلى الله عليه وسلم- من مسجد الضرار الذي بناه المنافقون.

ما هي صفاته الأخرى؟ ما هي أهم صفة من صفاته؟ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ [التوبة:108] أين مكان أولئك الرجال؟! أين مكانهم؟! هل هم في الأندية أو في الحفلات؟! هل هم في الأسواق يمرحون ويسرحون؟! هل هم في المجتمعات الفارغة التي تُفْرِغ الرجولة من معانيها؟! كلا -أيها الإخوة- فِيهِ رِجَالٌ [التوبة:108] في هذا المسجد رجال.

رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا [التوبة:108] يأتون إلى المسجد على طهارة، والله يحب هؤلاء الرجال الذين من صفتهم الطهارة وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ [التوبة:108] .

هذه صفة من صفات الرجال.

وانظر معي إلى مشهد مقابل في سورة النور، مماثل لتلك الآية في سورة التوبة .. يقول الله عز وجل: فِي بُيُوتٍ [النور:36] أي: مساجد.

فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ [النور:36] شاء الله أن ترفع.

وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ [النور:36] اسمه عز وجل وحده لا شريك له.

يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ [النور:36] أين الفاعل؟! مَن الذي يسبح؟! يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ [النور:36] غُدوةً وأصيلاً، مَن الذي يسبح؟! مَن في هذه المساجد يسبح الله عز وجل؟! يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ * رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ [النور:36-37] : مَن في هذا المسجد؟! إنهم رجالٌ، ثم جاءت بقية الصفات.

قال ابن كثير رحمه الله: قوله: رِجَالٌ [النور:37] : فيه إشعار بِهِمَمِهِم السامية، ونياتهم وعزائمهم العالية، التي بها صاروا عمَّاراً للمساجد التي هي بيوت الله في أرضه.

يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ * رِجَالٌ [النور:36-37] يسبحون الله في المساجد، وما هي صفاتهم الأخرى؟ قال الله: لا تُلْهِيهِمْ تِجَـارَةٌ وَلا بَيْـعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ [النور:37] .

أيها الإخوة: هؤلاء هم الرجال الذين لم تلههم تجارة ولا بيع عن أي شيء؟ عن ذكر الله، وإقام الصلاة.

قال بعض السلف رحمه الله: يبيعون ويشترون -هؤلاء الرجال- يبيعون ويشترون؛ ولكن كان أحدهم إذا سمع النداء وميزانه في يده خفضه، وأقبل إلى الصلاة.

ومر عمرو بن دينار رحمه الله ومعه سالم بن عبد الله ، قال: [كنت مع سالم بن عبد الله ونحن نريد المسجد، فمررنا بسوق المدينة ، وقد قاموا إلى الصلاة، وخَمَّروا متاعهم، فنظر سالم إلى أمتعتهم ليس معها أحد] لم يجلسوا أمامها ليحرسوها، أو لينظروا فيها، أو أغلقوا الدكاكين وقعدوا على الرصيف في الطريق ينتظرون متى تنتهي الصلاة حتى يكون كل واحد منهم أول من يفتح الدكان، تركوا أمتعتهم في الشارع، وغطوها في السوق، وذهبوا إلى المسجد .. [فنظر سالم إلى أمتعتهم ليس معها أحد، فتلا هذا الآية: رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ [النور:37]، ثم قال: هم هؤلاء] هؤلاء الذين عنى الله بقوله في هذه الآية، هؤلاء الذين قدموا مراد الله على مراد أنفسهم، وآثروا طاعة الله على المتاع الدنيوي الزائل، آثروا الاستجابة لهذا النداء العلوي الرباني: حي على الصلاة، حي على الفلاح، على نداء الجشع والطمع الذي يثيره الشيطان، والنفس الأمارة بالسوء.

أيها الإخوة: كم من الرجال اليوم يقعدون في محلاتهم ودكاكينهم، أو يدخُلون داخلها في حجر مخفية، فيقعد أحدهم في مكتبه وراء الطاولة يجيب على هذا الهاتف وهذا الرجل، ويكلِّم ويفاوض ويخفض ويرفع، ويماكس ويشاكس، ويترك نداء الله، يترك المسجد، لا يجيب داعي الله إليه، لماذا أيها الإخوة؟! هل يُسَمَّى هؤلاء رجالاً؟! كلا. إنهم أشباه الرجال ولا رجال.