فقه العبادات [12]


الحلقة مفرغة

المقدم: عرفنا في حلقةٍ ماضية الشيء الكثير عن الكهانة، عرفنا الكاهن وهو الذي يخبر عن المغيبات في المستقبل، كما عرفنا حكمها وبعض أقسام الذين يصدقون بها، حبذا لو عرفنا أحوال الناس الذين يرتادون الكهان؟

الشيخ: ذكرنا في الحلقة الماضية أن أحوالهم ثلاثة:

الأولى: أن يأتي إلى الكاهن فيسأله بدون أن يصدقه، ولا يقصد بذلك بيان حاله، فهذا آثم، وعقوبته ألا تقبل له صلاةٌ أربعين يوماً.

والحالة الثانية: أن يأتيه فيسأله ويصدقه وهذا كافر؛ لأنه مكذبٌ لقول الله تعالى: قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ [النمل:65] .

الحالة الثالثة: أن يأتي إليه فيسأله ليمتحنه ويبين حاله للناس ودجله وافتراءه، وقلنا: إن هذا لا بأس به، ومن المعلوم أن الشيء الذي يكون مباحاً إذا أفضى إلى محظور فإنه يكون محظوراً، فلو قدر أنه في هذه الحالة الثالثة إذا أتى إليه ليمتحنه ويبين حاله أن يغتر به من يغتر من الناس فإنه في هذه الحال لا يفعل ولا يأتي إليه، ولو كان لهذا القصد الصحيح؛ لأن القاعدة أن ما أفضى إلى محظورٍ فهو محظور.

المقدم: أيضاً نريد أن نعرف التنجيم وحكمه؟

الشيخ: التنجيم مأخوذ من النجم، وهو الاستدلال بالأحوال الفلكية على الحوادث الأرضية، بمعنى أن يربط المنجم ما سيقع في الأرض بالنجوم.. بحركاتها، وطلوعها وغروبها، واقترانها، وافتراقها، وما أشبه ذلك، والتنجيم نوع من السحر، وهو محرم؛ لأنه مبني على أوهامٍ لا حقيقة لها، فلا علاقة لما يحدث في الأرض بما يحدث في السماء؛ ولهذا لما كان من عقيدة أهل الجاهلية أن الشمس والقمر لا ينكسفان لموت أحد إلا لموت عظيم فكسفت الشمس في عهد النبي صلى الله عليه وسلم في اليوم الذي مات فيه ابنه إبراهيم رضي الله عنه، فقال الناس: (كسفت الشمس لموت إبراهيم ، فخطب النبي صلى الله عليه وسلم الناس حين صلى للكسوف، وقال: إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته)، فأبطل النبي صلى الله عليه وسلم ارتباط الحوادث الأرضية في الأحوال الفلكية، وهو كذلك، وكما أنه -أي: التنجيم- بهذا المعنى نوعٌ من السحر فهو أيضاً سببٌ للأوهام والانفعالات النفسية التي ليس لها حقيقة ولا أصل، فيوقع الإنسان في أوهام وتشاؤمات ومتاهات لا نهاية لها.

هناك نوعٌ آخر من التنجيم وهو أن الإنسان يستدل بطلوع النجوم على الأوقات والأزمنة والفصول، فهذا لا بأس به ولا حرج فيه، مثل أن يقول: إذا دخل نجم فلان فإنه يكون قد دخل موسم الأمطار، أو قد دخل وقت نضوج الثمار أو ما أشبه ذلك، فهذا لا بأس به ولا حرج فيه.

المقدم: يعني: هذا يكون من باب استقراء السنن الكونية؟

الشيخ: نعم، كما نقول: إذا دنت الشمس فقد دخل وقت الظهر، وإذا غربت دخل وقت المغرب، وما أشبهها.

المقدم: لكن هل هناك علاقة بين التنجيم وبين الكهانة التي عرفناها سابقاً؟

الشيخ: نعم، العلاقة بينهما: هو أنه كلاً منهما مبني على الوهم والدجل وأكل أموال الناس بالباطل، وإدخال الهموم والغموم عليهم، وما أشبه ذلك.

المقدم: لكن أيهما أخطر على المسلمين؟

الشيخ: هذا ينبني على شيوع هذا الأمر بين الناس، فقد يكون في بعض البلاد لا أثر للتنجيم عندهم إطلاقاً، ولا يهتمون به، ولا يصدقون به، ولكن الكهانة منتشرة عندهم فتكون أخطر، وقد يكون الأمر بالعكس، لكن من حيث واقع الكهانة والتنجيم فإن الكهانة أخطرها.

المقدم: ذكرتم في حديثكم عن التنجيم أنه نوع من السحر فما هو السحر؟

تعريف السحر

الشيخ: السحر قال العلماء: هو عبارة عن كل ما لطف وخفي سببه بحيث يكون له تأثيرٌ خفي لا يطلع عليه الناس، وهو بهذا المعنى يشمل التنجيم والكهانة، بل إنه يشمل التأثير بالبيان والفصاحة كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إن من البيان لسحراً) ، فكل شيءٍ يكون له أثر لكنه ليس شيئاً معلوماً -أي: ذلك المؤثر- فإنه نوعٌ من السحر.

المقدم: ما المقصود باللطافة في قولكم: السحر: كل ما لطف وخفي سببه؟

الشيخ: اللطافة معناها: الشيء الخفي اللطيف، وضده الشيء الجليل الكبير البين، مثلاً: هذا الساحر يعمل عملاً يستجلب الداء المسحور حتى يتعلق به تعلقاً عظيماً، أو يستجلب نفرته منه حتى يضره ضراً عظيماً، مع أن هذا الذي سُحِر وحصلت له المحبة العظيمة أو المصلحة العظيمة لا يعرف هذا الشيء ويخفى عليه سببه.

حكم تعلم السحر

المقدم: ما حكم السحر؟ وما حكم تعلمه؟

الشيخ: تعلم السحر محرم، بل هو كفر إذا كانت وسيلته الاستعانة بالشياطين، قال الله تبارك وتعالى: وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ [البقرة:102].

فتعلم هذا النوع من السحر وهو الذي يكون بواسطة الاستعانة بالشياطين كفر، واستعماله أيضاً كفرٌ وظلمٌ وعدوانٌ على الخلق؛ ولهذا يقتل الساحر إما ردة وإما حداً، فإن كان سحره على وجه يكفر به فإنه يقتل قتل ردة وكفر، وإن كان سحره لا يصل إلى درجة الكفر فإنه يقتل حداً دفعاً لشره وأذاه عن المسلمين.

السحر بين الحقيقة والتخييل

المقدم: لكن هل السحر حقيقة أم أنه تخيلات عادية؟

الشيخ: السحر حقيقة ولا شك، وهو مؤثرٌ حقيقة، لكن كونه يقلب الشيء أو يحرك الساكن، أو يسكن المتحرك، فهذا خيال وليس حقيقة، انظر إلى قول الله تبارك وتعالى في قصة السحرة في آل فرعون، يقول الله عز وجل: سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ [الأعراف:116] ، كيف سحروا أعين الناس؟ سحروا أعين الناس حتى صار الناس ينظرون إلى هذه الحبال والعصي كأنها ثعابين تمشي، كما قال الله تعالى في العصا: يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى [طه:66]، فالسحر باعتبار تأثيره في قلب الأشياء وتحريك الساكن أو تسكين المتحرك فهذا ليس له أثر، لكن في كونه يسحر أو يؤثر على المسحور حتى يرى الساكن متحركاً والمتحرك ساكناً فهذا أثره ظاهرٌ جداً.

إذاً: فله حقيقة، ولهذا يؤثر على بدن المسحور وعقله وحواسه، وربما يهلكه.

المقدم: إذاً نقول: إن أداة السحر أو التي مثلاً يراها الإنسان هذه لا تتغير عن الحقيقة التي هي عليها جامدة ولا تتحرك، لكن الأثر يأتي على حواس الإنسان الرائي أو المسحور.

الشيخ: نعم.

العلاقة بين السحر والكهانة

المقدم: يا شيخ! تحدثتم عن الكهانة وعرفتم الكاهن وعرفتم أيضاً السحر، لكن هل هناك علاقة بين الكهانة والسحر؟

الشيخ: هو كما قلنا من قبل: إن الكاهن يؤثر في الناس فيما يدجل به عليهم من الإخبارات عن الأشياء المستقبلية، وكذلك الساحر يؤثر في عقول الناس وتفكيرهم وأبدانهم حتى يتوهم المسحور أشياء ليس لها حقيقة.

إصابة النبي بالسحر وتأثير ذلك على مقام النبوة

المقدم: جاء عن الرسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سحر، فنريد أن تتحدثوا لنا عما سحر به النبي صلى الله عليه وسلم، وأيضاً هل حصول السحر للنبي طعن في مقام النبوة؟

الشيخ: ثبت في الصحيحين وغيرهما أن النبي صلى الله عليه وسلم سحر، لكن هذا السحر لم يؤثر عليه من الناحية التشريعية أو الوحي، إنما غاية ما هنالك أنه وصل إلى درجة أنه يخيل إليه أنه فعل الشيء ولم يكن فعله في أهله، وهذا السحر الذي عمل له كان من يهوديٍ يقال له: لبيد بن الأعصم ، وضعه له، ولكن الله سبحانه وتعالى أنجاه منه، حتى جاءه الوحي بذلك، وعُوذ بالمعوذتين عليه الصلاة والسلام: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ [الفلق:1] ، و قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ [الناس:1]، ولا يؤثر هذا السحر على مقام النبوة؛ لأنه لم يؤثر في تصرف النبي صلى الله عليه وسلم فيما يتعلق بالوحي والعبادات كما أسلفنا، وقد أنكر بعض الناس أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم سحر؛ لحجة أن هذا القول يستلزم تصديق الظالمين الذين قالوا: إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا [الإسراء:47]، ولكن هذا لا شك أنه لا يستلزم موافقة هؤلاء الظالمين بما وصفوا به النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن أولئك يدعون أن الرسول صلى الله عليه وسلم مسحور فيما يتكلم به من الوحي، وأن ما جاء به هذيانه كهذيان المسحور، وأما السحر الذي وقع للرسول عليه الصلاة والسلام فلم يؤثر عليه في شيءٍ من الوحي، ولا في شيءٍ من العبادات، ولا يجوز لنا أن نكذب الأخبار الصحيحة بسوء فهمنا للنصوص.


استمع المزيد من الشيخ محمد بن صالح العثيمين - عنوان الحلقة اسٌتمع
فقه العبادات [40] 3736 استماع
فقه العبادات [22] 3391 استماع
فقه العبادات [31] 3339 استماع
فقه العبادات [14] 3311 استماع
فقه العبادات [33] 3183 استماع
فقه العبادات [43] 3050 استماع
فقه العبادات [27] 2972 استماع
فقه العبادات [59] 2869 استماع
فقه العبادات [52] 2859 استماع
فقه العبادات [18] 2756 استماع