أرشيف المقالات

لوحات جمالية: يسبح

مدة قراءة المادة : 6 دقائق .
لوحات جمالية:
"يُسبِّح"


نشاهد هنا لوحات جمالية، صاغها المنهج نفسه، ولوحات أخرى صاغتها تربيته.
فكانت الثانية من فيض الأولى.
 
وهذه وتلك نتاج متميز، قد تمتلك أمة ما، لوحة مشابهة أو قريبة منها، ولكنها لن تكون لوحاتها جميعاً من هذا المستوى الرفيع.
 
وهذه اللوحات من ميادين شتى، يجمعها الحسن ويربط بينها الجمال، ولكل ميدان جماله.
وحسن كل شيء في كماله الذي يليق به، كما قال الغزالي رحمه الله.
 
لن تكون هذه اللوحات نتاج خط وريشة، ولا لون وتظليل.
ولن يكون إبصارها بالعين..
ولا حسها باللمس..
لأن ذلك هو ميدان الحس، واللوحات الحسية هي الدرجة الأخيرة في التصنيف الجمالي.
 
إنها لوحات..
ترى بالقلوب وتحس بالمشاعر..
يحلق في أجوائها الخيال وهو في عالم من الحقيقة لا عالم من الخيال..
 
لوحات..
يعيشها القلب عبادة
ويعيشها الفكر تأملاً وصفاء
وتعيشها المشاعر أحاسيس رقيقة.
 
لوحات..
كشف المنهج عنها الستار فأضاءت بوهجها القلوب واستمدت الأعين من سناها مادة الإبصار، وسمعت فيها الأذن لحن الخلود.
 
إنها لوحات، تنتمي إلى مدرسة واحدة، وتستمد جمالها من معين واحد.
 
إنها تحمل ختماً واحداً وإن تعددت الموضوعات والأشكال.
وتسجل الوحدة وإن تعددت الألوان والأصباغ.
 
إنها لوحات..
من مدرسة الإيمان.
 
(1)
«يُسبِّح»
هل سمعت لحن «يسبح»؟
أم هل رأيت لوحة «يسجد»؟
حلق بفكرك
وعش بقلبك
وانظر بعين بصيرتك
وأرهف سمع مشاعرك..
لنذهب رحلة في هذا الوجود..
نطوي الزمان والمكان
فإذا الكل تحت السمع والبصر
وإذا الكل يشدو نشيد الجلال
وإذا الكل بحمد الله «يسبح»
وإذا الكل لله «يسجد»[1]
إنه لحن الوجود
لحن يشترك في حسِّه «الكل الإنساني» حين يكون في حالة من الحضور النفسي والقلبي والوجداني..
عندها..
أصغ بسمعك..
وانظر بقلبك..
إلى كل ما يحيط بك
وإلى كل ما يصل إليه بصرك
وإلى كل ما تلمسه يدك..
إلى الإنسان صامتاً أو متكلماً
إلى الحيوان نائماً أو مستيقظاً
إلى النبات أخضر أو يابساً
إلى الجماد ساكناً أو متحركاً
إلى..
كل شيء..
إنك لو فعلت ذلك..
لسمعت..
ورأيت
- وتتحد هنا: سمعت ورأيت -
كلَّ الوجود يهمس في حس الزمان ذلك اللحن الخالد..
(وإن من شيء إلا يسبح).
 
تلك لوحة: ليست من عالم الأوهام.
بل من عالم الحقيقة، وليست من عامل الخيال بل من عالم الواقع..
كم لفت القرآن إليها النظر
وكم خاطب فيها العقل..
علَّه يعين البصر
فاسمع وأنصت..
علَّك تفقه..
﴿ تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ ﴾[2].
 
بهذا تنبض «كل ذرة في هذا الكون الكبير، وتنتفض روحاً حية تسبح الله، فإذا الكون كله حركة وحياة، وإذا الوجود كله تسبيحة واحدة شجية رخية، ترتفع في جلال إلى الخالق الواحد الكبير المتعال «إنه لمشهد كوني فريد، حين يتصور القلب..
 
كل حصاة وكل حجر
وكل حبة وكل ورقة
كل زهرة وكل ثمرة
كل نبة وكل شجرة
كل حشرة وكل زاحفة
كل حيوان وكل إنسان
كل دابة على الأرض..
وكل سابحة في الماء والهواء
ومعها كل سكان السماء..
كلها تسبح الله وتتوجه إليه في علاه
(وإن من شيء إلا يسبح بحمده) يسبح بطريقته ولغته..»[3].
وإذا كان الأمر كذلك..
(فسبح بحمد ربك) حتى لا تكون نشازاً في معزوفة الوجود، وحتى لا تكون أقل من بقية الأشياء.
◘◘◘

تلك إطلالة سريعة ووقفة عابرة، أمام لوحة الكون كله وهو يؤدي حركة واحدة..
هي السجود..
وينشد نشيداً واحداً هو التسبيح.
 
لوحة كشف القرآن عنها الستار..
فأضحت ظاهرة لكل ذي لب ومن لم يتذوقها فقد حرم الحس كله..
ومن لم يعشها فقد هبط عن رتبة الأشياء وحرم الخير كله.
 
تناسق في الحركة يصاحبه تناسق في الأصوات، تشارك فيه الأرض والسماء، ومن في الأرض ومن في السماء.
 
ذلك هو الجمال.
 
وذاك هو الإحساس بالجمال..
أن يصبح سمعك قادراً على تذوق ذلك اللحن العظيم الذي تشارك فيه الموجودات، وأن يكون بصرك حديداً نافذاً يرى حركة السجود في كل شيء.
 
ومهما يكن من أمر، فلن يقبل منك أن تكون شاهداً أو منصتاً، ولا بد من أن تأخذ دورك في هذا الأداء..
فتكون من الساجدين..
لسانك رطب من ذكر الله[4]..

[1] قال تعالى: ﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ...
﴾ سورة الحج الآية 18.

[2] سورة الإسراء الآية [44].

[3] في ظلال القرآن في تفسير الآية السابقة.


[4] جاء في الحديث (لا يزال لسانك رطباً من ذكر الله) رواه الترمذي وقال حديث حسن - كما جاء في رياض الصالحين-.

شارك الخبر

ساهم - قرآن ١