خطب ومحاضرات
شرح العمدة (الأمالي) - كتاب الحج والعمرة - باب الإحرام
الحلقة مفرغة
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين..
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ باب الإحرام ].
الإحرام لغة: هو الدخول في الحرام أو في الحرمة، فمن دخل في الحرم سمي محرماً من حيث اللغة، ومن دخل في النسك سمي محرماً أيضاً وعلى هذين الوجهين فسر قول الشاعر:
قتلوا كسرى بليل محرما
فمن حيث المعنى اللغوي هو: الدخول في الحرمة، أما من حيث الاصطلاح الفقهي أو التعريف الشرعي فإن الإحرام هو: نية الدخول في النسك أو هو الدخول في النسك، فليس الإحرام كما يظنه كثير من العامة أنه لبس الثياب أو التلبية وإن كانت هذه أشياء من لوازم الإحرام أو من سننه، لكن المقصود بالإحرام حقيقة هو: نية الدخول في النسك حتى لو لم يلبس ثيابه ونوى الدخول في النسك فهو محرم أو لو لم يلب ونوى الدخول في النسك فهو محرم.
ونقول: نية الدخول في النسك أو الدخول في النسك حقيقة أو حكماً حتى يدخل في التعريف الصبي وما شابهه، فإن الصبي ليس عنده نية متميزة ولا إدراك ولكنه يعد محرماً باعتبار ما يفعله به والداه، فهو من حيث الحكم محرم وإن كان من حيث الحقيقة لم ينو شيئاً من ذلك.
ما هو حكم الإحرام أو مكانه في النسك؟
الجمهور وهم الأئمة الثلاثة أحمد ومالك والشافعي يرون أن الإحرام ركن، وأما أبو حنيفة فإنه يراه شرطاً.
ولكن الحنفية يقولون: هو شرط في الابتداء ركن في الاستدامة. فيرجع قولهم إلى قريب من مذهب الجمهور، وأياً كان القول فلا شك أن هذا دليل على عظمة الإحرام وشدة أهميته؛ لأن الركن والشرط لا يتم ولا يصح النسك إلا به.
الغسل والتنظف
وهذا دليل على أن الغسل مستحب لمن أراد الإحرام.
وقد حكى غير واحد الإجماع على استحباب الغسل للإحرام، ونقل عن بعض أهل المدينة ونقل أيضاً عن الحسن البصري أنهم يرون على تارك الاغتسال دماً. وهذا ليس له وجه ألبتة، كما نقل بل صح عن ابن حزم أنه يرى الغسل واجباً على الحائض والنفساء. وحجة ابن حزم في ذلك هو ما رواه الشيخان: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر
فهذا الحديث هو حجة للجمهور في استحباب الاغتسال؛ لأننا نقول: إذا كانت الحائض والنفساء وهي في حالة نجاسة لا ينفع معها الاغتسال، يعني: لا تخرج من حدثها بالاغتسال ومع ذلك استحب في حقها فهو في حق غيرها أكثر تأكيداً منه في حق الناس العاديين.. أو نقول من باب أولى: أن يكون مستحباً في حق غيرها، أما أن يكون الحديث دليلاً على وجوبه في حق النفساء والحائض فليس بوجيه؛ لأنه لا يضيف إليهما جديداً، فتظل الحائض والنفساء على حدثها حتى تطهر على ما هو معروف.
إذاً: الدليل على استحباب الغسل هو أمر النبي صلى الله عليه وسلم لـأسماء بنت عميس، وكذلك أمره صلى الله عليه وسلم لـعائشة بذلك وكانت حائضاً على ما هو معروف.
يقول: [ استحب له أن يغتسل ويتنظف ].
المقصود بالتنظف هو: إزالة الشعث وقطع الرائحة وحلق الشعر وتقليم الأظفار وما في معناه ونتف الآباط ونحو ذلك.
وهذا الأمر نص المؤلف رحمه الله على أنه مستحب، وحجته ومن وافقه من الفقهاء على ذلك أنه غسل مستحب كغسل الجمعة وغيره، فاستحب له قطع التفث وإزالة المادة الخبيثة من البدن، ولكن الصواب في ذلك أنه لا دليل على هذا وأن هذا لا يختص بالإحرام، بل من وجد منه ذلك الريح الخبيثة أو طول الأظفار أو نحوها فإنه يستحب له إزالته في كل وقت، فإن صادف وقت إحرامه أن يكون في أظفاره طول أو يكون لم يتعاهد آباطه أو شعره المستحب إزالته أو نحو ذلك استحب له ذلك، وإن كان الأمر غير هذا فإنه لا يستحب عمل ذلك بمناسبة فعل الإحرام؛ لأنه لا دليل على هذا.
التطيب للمحرم
فأما الطيب فلا شك في مشروعيته عند الجماهير، خلافاً للإمام مالك، وخلافاً قبل ذلك لـابن عمر رضي الله عنه، فإن ابن عمر كان يقول: [ ما يسرني أن أصبح محرماً أنضح طيباً ]، وكذلك مالك لا يرى الطيب للمحرم قبل الإحرام.
أما الجمهور من الصحابة: عائشة وابن عباس وغيرهم، ومن الأئمة المتبوعين والسلف فإنهم يرون استحباب الطيب للمحرم. وحتى المرأة تتطيب بالطيب المناسب لها، وطيب المرأة هو ما يظهر لونه ولا يظهر ريحه، والطيب الذي لا يشمه أو كذلك لو كانت عند نساء ولا تمر برجال فيستحب لها أن تتطيب أيضاً.
وقد جاء في ذلك أحاديث صحاح منها ما روته عائشة رضي الله عنها واتفق على إخراجه البخاري ومسلم قالت: ( كنت أطيب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لإحرامه قبل أن يحرم ولحله قبل أن يطوف بالبيت )، ولفظ الحديث الآخر وهو متفق عليه أيضاً قالت: ( كأني أنظر إلى وبيص الطيب في مفرق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ).
فهذان الحديثان وما شابههما دليل على استحباب التطيب للمحرم، يعني: لمن أراد أن يدخل في النسك، لمن أراد أن يحرم، وكذلك جاء عن عائشة رضي الله عنها أنها كانت تعصب على جبهتها عصابة فيها المسك. فهذا مما يستدل به على استحباب الطيب للمرأة أيضاً.
وها هنا مسألة وهي: هل يشرع الطيب في الثياب أم أن الطيب في الشعر.. في الرأس.. في اللحية.. في البدن؟ فهذا الذي ذكرنا أنه قول الجمهور من الصحابة والتابعين وهو الصحيح بلا إشكال، حتى إن ابن الزبير رضي الله عنه يقول عنه مسلم بن صبيح [ كنت أرى على لحية ابن الزبير ورأسه من الطيب ما لو ملكه إنسان لكان يصلح أن يكون رأس مال له ] يعني: من كثرة هذا الطيب وغلاء ثمنه.
لكن الطيب في البدن واضح، الطيب في ثياب الإحرام قبل أن يحرم هل يشرع أو لا يشرع؟
في المسألة طبعاً خلاف مشهور، منهم من قال بمنعه وهذا لابد أن يكون مذهب المالكيين من باب أولى أيضاً، وحجة القائلين بالمنع هو ما رواه البخاري وغيره من حديث يعلى بن أمية في قصة الرجل الذي جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو في خيمة له أو قبة فسأله، وقال: ( ما ترى في رجل أحرم في جبة وهو متضمخ بالخلوق، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: اخلع عنك الجبة واغسل عنك الخلوق واصنع في عمرتك كما تصنع في حجك )، والحديث دلالته ظاهرة على ما قالوه، ويجاب عن هذا الحديث بأجوبة:
منها: أن هذا الحديث كان في الجعرانة، وحديث عائشة الذي ذكرناه في حجة الوداع فهو بعده بسنتين، والمتأخر يحكم على المتقدم، وعلى فرض وجود التعارض فإن الآخر ينسخ الأول.
الوجه الثاني: أن يقال: إن هذا الرجل قد يكون وضع الطيب على ثيابه بعد الإحرام، ولاشك أن من وضع الطيب على ثيابه بعد الإحرام يجب عليه غسلها يجب عليه إزالة الطيب وغسل ثيابه، أما لو تطيب بثيابه قبل الإحرام فإنه لا يضر استدامته ويجوز فيه استمراراً ما لا يجوز ابتداءً، ولو خلع ثياب الإحرام ثم لبسها والطيب فيها فإن هذا لا يضره أيضاً، ولذلك من المعلوم أن الطيب الذي على البدن لابد أن يصيب الثياب. وهذا هو القول الراجح أن الطيب جائز في البدن وجائز في الثياب قبل الإحرام.
التجرد عن المخيط
أولاً: لابد أن نعرف ما هو المخيط؟ وهذه من مشكلات ألفاظ الفقهاء، فإن التعبير النبوي لم يرد فيه ذكر لكلمة المخيط، وإنما الحديث الوارد في الصحيحين حديث ابن عمر : ( ما يلبس المحرم من الثياب؟ قال: لا يلبس القمص ولا القلانس ولا العمائم ولا السراويلات، ولا ثوباً مسه زعفران أو ورس )، فالرسول صلى الله عليه وسلم عدد أسماء ألوان من الثياب المعتادة، فالفقهاء عمموا واستخدموا كلمة: (المخيط)، وهذا أوقع لبساً عند كثير من العوام فإنهم يظنون أن كل ما مر عليه الخياط فهو حرام، وهذا خطأ؛ فإن لفظ (الخياط) لم يرد في كتاب ولا سنة، ولا إشكال في أن يلبس الإنسان شيئاً مخيطاً على غير هيئته، يعني: لو أن إنساناً تلفف بثوبه ولم يلبسه أكماماً وجيباً وإنما تلفف بثوبه لفه على بدنه فلا إشكال في ذلك، لأنها ليست المشكلة في وجود الخياط، المشكلة في كونه مخيطاً على هيئة البدن على قدِّ أو قدر البدن كالفنيلة أو السراويل أو الطاقية أو الثوب أو نحوها من الثياب، ولذلك بعضهم قالوا: المخيط المحيط؛ ليدفعوا هذا الإشكال.
فالمقصود بالمخيط إذاً: هو الثوب الذي يخاط على هيئة وقد البدن؛ ولذلك نهى النبي صلى الله عليه وسلم المرأة عن أن تلبس النقاب حال الإحرام ( لا تنتقب المحرمة ولا تلبس القفازين )؛ لأن القفاز على هيئة اليد والنقاب على هيئة الوجه، والمرأة لا شك أنه يجوز لها أن تلبس المخيط خلافاً للرجل، فلبس المخيط النهي عنه خاص بالرجل، أما المرأة فتلبس من المخيط ما شاءت إلا أنها لا تلبس النقاب، لا تنتقب ولا تلبس القفازين، لكن لو غطت وجهها بغير النقاب فإنه لا شيء في ذلك؛ لأن المنهي عنه هو الغطاء المفصل أصلاً لهذا العضو، وكذلك لو غطت يديها بغير القفازين.
إذاً: يسأل البعض عن الألبسة والإحرامات التي تكون مخيطة على هيئة الإحرام فقط هو مخيط فهذا لا شيء فيه، كما أن كثيراً من الناس قد يجمع ما بين طرفي الإحرام بالكلابات أو بغيرها، فلا فرق بين هذا وبين الخيط، يعني: هما سواء، وليست العبرة بكونه فيه خياط أو ليس فيه خياط، العبرة بكونه مفصلاً على هيئة البدن؛ ولذلك لو وجد ثياب بالنسج أو بتصنيع حديث لم يمسه الخيط ولا المخيط ولا اشتقاق خاط يخيط وهي مفصلة على قدر البدن مثل الثوب أو مثل السراويل أو مثل الفنايل أو القمصان أو غيرها لكانت محرمة وإن لم يكن فيها الخياط. فينتبه لهذا المعنى.
وقول المصنف رحمه الله: [ ويتجرد عن المخيط ].
هاهنا نوع من الإشكال؛ لأنه قال: (استحب له)، فهل التجرد عن المخيط مستحب أم هو واجب؟ هو واجب، لكن قد يكون مراد المصنف رحمه الله أنه استأنف الكلام وقال: ويجب أن يتجرد عن المخيط، ويحتمل أنه قصد أنه لا بأس أن يبدأ الإحرام وعليه المخيط، يعني: يحدث النية وعليه المخيط ثم يخلعه حالاً، والفقهاء نصوا على أن هذا ليس به بأس، لكن لا يستديمه أكثر من الوقت الذي يتطلبه خلع الثوب فيحتمل هذا وهذا.
لبس إزار ورداء
أما كون الإزار والرداء أبيضين فلاشك أن هذا لم يرد فيه نص خاص في حال الإحرام، وإنما استدل له المؤلف وغيره من الفقهاء بالأحاديث الواردة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في فضل البياض، فقال: ( خير ثيابكم البياض، فالبسوها وكفنوا فيها موتاكم )، والحديث رواه أحمد وأهل السنن وغيرهم ولا بأس بإسناده، فقالوا: يستحب أن يلبس الأبيض، ولكننا نقول: أيضاً غير الأبيض يجوز من غير كراهة، فإذا احتاج الإنسان إلى لبس إحرام ملون كملابس الشتاء مثلاً وخصوصاً أنه قد يأتي من مناطق شديدة البرودة أو قد يكون الجو بارداً أو قد يكون هو ضعيفاً لا يتحمل أو لا يجد، فيلبس إحراماً ملوناً، فلا حرج في ذلك إلا أن يكون منهياً عنه لعارض آخر غير عارض التلوين.
وكذلك في موضوع كون الإزار والرداء نظيفين، فإن المقصود بالنظيف ليس بالضرورة أن يكون جديداً وإنما أن يكون نظيفاً، والنظافة مطلوبة في هذا وفي غيره، وخصوصاً وأن الإنسان مقبل على طاعة وعبادة، وإن كان لم يرد في هذا نص خاص، وقصارى ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم في أمر الثياب وهو ما ورد في الصحيح من حديث ابن عمر الذي ذكرته قبل قليل قال: ( من لم يجد إزاراً فليلبس السراويلات، ومن لم يجد نعلين فليلبس الخفين ).
صلاة ركعتين
صلاة الركعتين فيها مسألتان:
المسألة الأولى: استحباب الإحرام عقب صلاة، وهذا ثابت أنه يستحب أن يحرم عقب صلاة فرضاً كانت أو نفلاً، وقد جاء في الصحيحين من حديث عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( أتاني الليلة -وهو بـالعقيق والعقيق قريب من ذي الحليفة قال-: آتٍ من ربي، وقال: صل في هذا الوادي المبارك، وقل: عمرة في حجة ).
فهذا دليل على استحباب أن يكون الإحرام عقب صلاة، صل وقل، وكذلك ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أحرم عقب الصلاة، وكذلك سائر أصحابه.
فمن هنا قال الفقهاء: يستحب أن يحرم عقب صلاة. هذه هي المسألة الأولى.
المسألة الثانية: هل للإحرام صلاة تخصه؟! بمعنى: هل يشرع أن يُنشئ ركعتين للإحرام وتسمى ركعتي الإحرام؟ هذا ليس عليه دليل من السنة النبوية.
وإنما نقول: قد يصلي ركعتين للوضوء، قد يصلي ركعتين لفريضة، قد يصلي ركعتين تحية المسجد ثم يحرم عقبها، لكن لو لم يوجد من ذلك شيئاً فإنه لا يستحب له أن ينشئ صلاة من أجل الإحرام؛ لأن هذا لم يرد عن النبي عليه الصلاة والسلام، ولذلك نقول: إن الإنسان لو كان في وقت نهي ولم يدخل المسجد ولم يتوضأ، لم يدخل المسجد حتى يصلي تحية المسجد ولم يتوضأ حتى يصلي سنة الوضوء، ففي هذه الحالة لا يشرع له أن يصلي ركعتين بل يكره بل قد يحرم عليه كونه صلى لذات الركعتين وليس لسبب آخر.
إذاً: صلاة ركعتين من أجل الإحرام فهذا ليس له أصل، وأما أن يحرم عقب صلاة فهذا ثابت بنص النبي صلى الله عليه وسلم من قوله، وثابت من فعله وفعل أصحابه.
وهذه الصلاة التي يذكرها بعضهم ليست من ذوات الأسباب فلا تفعل في وقت النهي إلا أن تكون تحية مسجد أو سنة وضوء أو ما أشبه ذلك.
موطن الإحرام
يعني: عقب الركعتين اللتين ذكرهما المصنف، والإحرام عقب الركعتين فيه عن الصحابة رضي الله عنهم ثلاثة نقول:
النقل الأول: عن ابن عباس، وهو عند أبي داود وأحمد وغيرهم: أنه يحرم وهو في مجلسه مستقبل القبلة بعدما يسلم، فينوي الإحرام ويهل به، يعني: يرفع صوته بالإحرام بعدما يسلم وهو مستقبل القبلة، يقول: لبيك عمرة أو لبيك حجاً أو لبيك عمرة وحجاً. هذا هو النقل الأول.
وهذا النقل عن ابن عباس رضي الله عنه نقله خصيف بن عبد الرحمن عن سعيد بن جبير عن ابن عباس، وأن سعيداً قال له: (يا ابن عباس عجباً لكم يا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم تختلفون في إحرام النبي صلى الله عليه وسلم، فقال ابن عباس : إن النبي صلى الله عليه وسلم أحرم من مكانه فرأى ذلك قوم فنقلوه، ثم أحرم لما استوى على راحلته، فرأى ذلك قوم وسمعوه فنقلوه، ثم أحرم لما علا البيداء فرأى ذلك قوم فنقلوه، فمن هنا اختلفوا)، لكن هذه الرواية التي ذكرتها عن أحمد وأبي داود وغيرهم وفيها خصيف بن عبد الرحمن وهو إلى الضعف أقرب، ضعفه الإمام أحمد وغيره ووثقه آخرون لكن لاشك أن درجته لا ترقى إلى رتبة مواجهة النصوص الأخرى التي سوف أذكرها في الأقوال الثانية، ففي هذا الحديث ضعف.
النقل الثاني في إحرام النبي صلى الله عليه وآله وسلم: أنه أحرم لما استوت به راحلته، ومعنى استوت به راحلته.
أي: لما وقفت به راحلته؛ لأنه قد يركب والراحلة باركة، فلما استوت به راحلته وقام عليها، ولذلك جاء في بعض ألفاظ البخاري (لما استوت به راحلته) وفي بعض ألفاظه قال: (لما وضع رجله في الغرز) فيحمل هذا على أنه لما قامت الراحلة واستتمت قائمة وقبل أن تبدأ في المسير أنشأ النبي صلى الله عليه وسلم الإحرام حينئذٍ، وهذا هو الثابت عن ابن عمر في الصحيحين وعن جابر أيضاً في حديثه الطويل المشهور، وهو أيضاً جاء في رواية صحيحة عن ابن عمر، وكان ابن عمر يتشدد في هذه المسألة، يشدد على من خالف في هذا ويقول: (بيداؤكم هذه التي تكذبون فيها على رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله ما أحرم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا من عند مسجد الشجرة لما استوت به راحلته)، وهو المنقول أيضاً عن جابر في حديثه الطويل، وهو المنقول في رواية صحيحة عن ابن عباس، وكذلك عن عائشة رضي الله عنها.
إذاً: جمهور الصحابة وجمهور الأحاديث تدل على أن إحرام النبي صلى الله عليه وسلم كان حينما يستوي على راحلته وهي قائمة به وقبل أن يبدأ المسير. وهذا أصح الأقوال.
النقل الثالث: عن أنس رضي الله عنه: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم أهل وأحرم حينما علا البيداء ) وهي مكان مرتفع أو شرف مقابل ذي الحليفة، فـأنس رضي الله عنه يرى أنه أحرم هناك، وكان ابن عمر يغضب غضباً شديداً لذلك، ويقول كما سمعتم: (بيداؤكم هذه التي تكذبون فيها على رسول الله صلى الله عليه وسلم)، ويقصد بالكذب معناه الأصلي اللغوي عند أهل الحجاز الذي يعني: الخطأ، ولا يلزم منه الكذب المحرم الذي فيه تعمد حكاية غير الواقع، وأثر أنس صحيح في البخاري وغيره.
فالمقصود: أن ثمة ثلاثة نقول عن الصحابة في مكان الإحرام، والذي اختاره المصنف أنه يحرم بعد الركعتين، وظاهره وهو مذهب الإمام أحمد والشافعية أيضاً أنه يحرم في مكانه، واستدلوا بما ذكرت من حديث ابن عباس رواية خصيف واستدلوا أيضاً بحديث عمر : ( صل في هذا الوادي المبارك، وقل: عمرة في حجة ).
والنقل الثاني: نقل ابن عمر وهو الصحيح المعتمد وعليه للجمهور، والنقل الثالث نقل أنس، ولا تعارض بينهما فإنه يحرم حينما تستوي به راحلته ويجهر بالتلبية ويحرم بعد ذلك إذا علا البيداء ويحرم في أماكن شتى، يعني: المقصود يهل، يرفع صوته بالتلبية وإلا فإن دخوله في النسك يكون في الموضع الذي ذكرته.
ثم قال: [وهو أن ينوي الإحرام].
يقصد تعريف الإحرام: هو أن ينوي الدخول في النسك فهو أن ينوي الإحرام.
التلبية عند الإحرام
المعروف أن التلفظ بالنية ليس له أصل في جميع العبادات، والظاهر أن الحج مثلها في ذلك، فلا يستحب له أن ينطق بالنية من حيث كونها نية، فلا يقل: اللهم إني أنوي حجاً أو أنوي عمرة أو أنوي تمتعاً أو قراناً أو ما أشبه ذلك، هذا غير مشروع ولا دليل على استحبابه، والنطق به كما ذكر المصنف رحمه الله فيه نظر، وإنما المستحب هو أن يلبي الإنسان بما أحرم به كما فعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فيقول: لبيك حجاً، أو يقول: لبيك عمرة، أو يقول: لبيك عمرة وحجاً، وهذا غير النية، فإن النية تسبقه وتكون في القلب، ولذلك فبالإجماع لو نوى بقلبه ولم يقل بلسانه شيئاً فلا يضر ذلك، ولكن لو قالها دون أن يكون ناوياً لمعناها فإن هذا لا ينفعه.
فالنية إذاً: محلها القلب ومكانها القلب وما يقوله بلسانه ليس هو تعبيراً عن هذه النية ولا تلفظاً بها، وإنما يقول ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم على سبيل التواضع لله تعالى والتعبد له: لبيك عمرة أو لبيك حجاً، وقد يقول ذلك ليعلم من حوله ويرشدهم إلى نوع الإحرام.
الاشتراط لمن يخاف إحصاراً أو فواتاً أو نحوه
قول في المذهب وهو الذي اختاره المؤلف، والراجح أنه لا يستحب الاشتراط إلا لمن احتاج إليه كالمريض، ولذلك لم يشترط النبي صلى الله عليه وسلم في حجه ولم يأمر به أحداً من أصحابه ابتداءً وإنما أرشد إليه ضباعة بنت الزبير ؛ لأنها كانت شاكية وخافت ألا تقدر على الحج، بل لم يرشد إليه النبي صلى الله عليه وسلم عائشة زوجه علماً أنها حاضت وصار لها ما هو معلوم من الضيق والحرج بسبب عدم قدرتها على إتمام عمرتها ومع ذلك لم يرشدها النبي صلى الله عليه وسلم إلى الاشتراط.
فنقول: الاشتراط لا يستحب إلا لمن احتاج إليه، كأن يكون مريضاً أو يخشى فوات الحج أو يخشى ضياع النفقة أو يخشى أن يحال بينه وبين أداء النسك، فمثل ذلك يستحب له أن يشترط.
قال المصنف رحمه الله: [ من أراد الإحرام استحب له أن يغتسل ].
وهذا دليل على أن الغسل مستحب لمن أراد الإحرام.
وقد حكى غير واحد الإجماع على استحباب الغسل للإحرام، ونقل عن بعض أهل المدينة ونقل أيضاً عن الحسن البصري أنهم يرون على تارك الاغتسال دماً. وهذا ليس له وجه ألبتة، كما نقل بل صح عن ابن حزم أنه يرى الغسل واجباً على الحائض والنفساء. وحجة ابن حزم في ذلك هو ما رواه الشيخان: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر
فهذا الحديث هو حجة للجمهور في استحباب الاغتسال؛ لأننا نقول: إذا كانت الحائض والنفساء وهي في حالة نجاسة لا ينفع معها الاغتسال، يعني: لا تخرج من حدثها بالاغتسال ومع ذلك استحب في حقها فهو في حق غيرها أكثر تأكيداً منه في حق الناس العاديين.. أو نقول من باب أولى: أن يكون مستحباً في حق غيرها، أما أن يكون الحديث دليلاً على وجوبه في حق النفساء والحائض فليس بوجيه؛ لأنه لا يضيف إليهما جديداً، فتظل الحائض والنفساء على حدثها حتى تطهر على ما هو معروف.
إذاً: الدليل على استحباب الغسل هو أمر النبي صلى الله عليه وسلم لـأسماء بنت عميس، وكذلك أمره صلى الله عليه وسلم لـعائشة بذلك وكانت حائضاً على ما هو معروف.
يقول: [ استحب له أن يغتسل ويتنظف ].
المقصود بالتنظف هو: إزالة الشعث وقطع الرائحة وحلق الشعر وتقليم الأظفار وما في معناه ونتف الآباط ونحو ذلك.
وهذا الأمر نص المؤلف رحمه الله على أنه مستحب، وحجته ومن وافقه من الفقهاء على ذلك أنه غسل مستحب كغسل الجمعة وغيره، فاستحب له قطع التفث وإزالة المادة الخبيثة من البدن، ولكن الصواب في ذلك أنه لا دليل على هذا وأن هذا لا يختص بالإحرام، بل من وجد منه ذلك الريح الخبيثة أو طول الأظفار أو نحوها فإنه يستحب له إزالته في كل وقت، فإن صادف وقت إحرامه أن يكون في أظفاره طول أو يكون لم يتعاهد آباطه أو شعره المستحب إزالته أو نحو ذلك استحب له ذلك، وإن كان الأمر غير هذا فإنه لا يستحب عمل ذلك بمناسبة فعل الإحرام؛ لأنه لا دليل على هذا.
ثم قال: [ ويتطيب ].
فأما الطيب فلا شك في مشروعيته عند الجماهير، خلافاً للإمام مالك، وخلافاً قبل ذلك لـابن عمر رضي الله عنه، فإن ابن عمر كان يقول: [ ما يسرني أن أصبح محرماً أنضح طيباً ]، وكذلك مالك لا يرى الطيب للمحرم قبل الإحرام.
أما الجمهور من الصحابة: عائشة وابن عباس وغيرهم، ومن الأئمة المتبوعين والسلف فإنهم يرون استحباب الطيب للمحرم. وحتى المرأة تتطيب بالطيب المناسب لها، وطيب المرأة هو ما يظهر لونه ولا يظهر ريحه، والطيب الذي لا يشمه أو كذلك لو كانت عند نساء ولا تمر برجال فيستحب لها أن تتطيب أيضاً.
وقد جاء في ذلك أحاديث صحاح منها ما روته عائشة رضي الله عنها واتفق على إخراجه البخاري ومسلم قالت: ( كنت أطيب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لإحرامه قبل أن يحرم ولحله قبل أن يطوف بالبيت )، ولفظ الحديث الآخر وهو متفق عليه أيضاً قالت: ( كأني أنظر إلى وبيص الطيب في مفرق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ).
فهذان الحديثان وما شابههما دليل على استحباب التطيب للمحرم، يعني: لمن أراد أن يدخل في النسك، لمن أراد أن يحرم، وكذلك جاء عن عائشة رضي الله عنها أنها كانت تعصب على جبهتها عصابة فيها المسك. فهذا مما يستدل به على استحباب الطيب للمرأة أيضاً.
وها هنا مسألة وهي: هل يشرع الطيب في الثياب أم أن الطيب في الشعر.. في الرأس.. في اللحية.. في البدن؟ فهذا الذي ذكرنا أنه قول الجمهور من الصحابة والتابعين وهو الصحيح بلا إشكال، حتى إن ابن الزبير رضي الله عنه يقول عنه مسلم بن صبيح [ كنت أرى على لحية ابن الزبير ورأسه من الطيب ما لو ملكه إنسان لكان يصلح أن يكون رأس مال له ] يعني: من كثرة هذا الطيب وغلاء ثمنه.
لكن الطيب في البدن واضح، الطيب في ثياب الإحرام قبل أن يحرم هل يشرع أو لا يشرع؟
في المسألة طبعاً خلاف مشهور، منهم من قال بمنعه وهذا لابد أن يكون مذهب المالكيين من باب أولى أيضاً، وحجة القائلين بالمنع هو ما رواه البخاري وغيره من حديث يعلى بن أمية في قصة الرجل الذي جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو في خيمة له أو قبة فسأله، وقال: ( ما ترى في رجل أحرم في جبة وهو متضمخ بالخلوق، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: اخلع عنك الجبة واغسل عنك الخلوق واصنع في عمرتك كما تصنع في حجك )، والحديث دلالته ظاهرة على ما قالوه، ويجاب عن هذا الحديث بأجوبة:
منها: أن هذا الحديث كان في الجعرانة، وحديث عائشة الذي ذكرناه في حجة الوداع فهو بعده بسنتين، والمتأخر يحكم على المتقدم، وعلى فرض وجود التعارض فإن الآخر ينسخ الأول.
الوجه الثاني: أن يقال: إن هذا الرجل قد يكون وضع الطيب على ثيابه بعد الإحرام، ولاشك أن من وضع الطيب على ثيابه بعد الإحرام يجب عليه غسلها يجب عليه إزالة الطيب وغسل ثيابه، أما لو تطيب بثيابه قبل الإحرام فإنه لا يضر استدامته ويجوز فيه استمراراً ما لا يجوز ابتداءً، ولو خلع ثياب الإحرام ثم لبسها والطيب فيها فإن هذا لا يضره أيضاً، ولذلك من المعلوم أن الطيب الذي على البدن لابد أن يصيب الثياب. وهذا هو القول الراجح أن الطيب جائز في البدن وجائز في الثياب قبل الإحرام.
استمع المزيد من الشيخ سلمان العودة - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
شرح العمدة (الأمالي) - كتاب الحج والعمرة - باب الفدية | 3986 استماع |
شرح العمدة (الأمالي) - كتاب البيوع – باب الخيار -2 | 3925 استماع |
شرح العمدة (الأمالي) - كتاب الزكاة - زكاة السائمة | 3854 استماع |
شرح العمدة (الأمالي) - كتاب الزكاة - باب زكاة العروض | 3845 استماع |
شرح العمدة (الأمالي) - كتاب الطهارة - باب المسح على الخفين | 3672 استماع |
شرح العمدة (الأمالي) - كتاب الحج والعمرة - باب محظورات الإحرام -1 | 3625 استماع |
شرح العمدة (الأمالي) - كتاب الصلاة - باب صلاة المريض | 3615 استماع |
شرح العمدة (الأمالي) - كتاب البيوع – مراجعة ومسائل متفرقة في كتاب البيوع | 3552 استماع |
شرح العمدة (الأمالي) - كتاب الحج والعمرة - باب صفة الحج | 3516 استماع |
شرح العمدة (الأمالي) - كتاب الصلاة - باب أركان الصلاة وواجباتها | 3444 استماع |