شرح العمدة (الأمالي) - كتاب الصيام - باب أحكام المفطرين في رمضان


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.

الليلة السبت، التاسع عشر من شهر رجب من سنة 1422 للهجرة، عندنا الدرس الثاني من دروس الصيام: وهو عن أحكام المفطرين في رمضان، وبعض الفقهاء والمصنفين قد يعبرون عن هذا الباب بـ (عوارض الإفطار)؛ لأنه يقصد بهذا العنوان: الذين يباح لهم الفطر، ولا يتعرض الباب لمن أفطروا رمضان من غير عذر بالأصل، وإنما هو يعرض لمن يجوز أو يباح لهم الفطر، ويعرض أيضاً لمن أفطروا بصفة غير مباحة وغير مشروعة، ماذا يجب في حقهم.

وقد ذكر المصنف رحمه الله أنه: [ يباح الفطر في رمضان لأربعة أقسام ]، ثم ذكر خمسة أقسام، ولكنه دمج اثنين منها في نوع واحد والأولى فصلهما، فقال: [ أحدها: المريض الذي يتضرر به ]، يعني: بالصيام.

[ والمسافر الذي له القصر ]، وهذان قسمان في الواقع لا يجمع بينهما إلا جواز الفطر لكل منهما، ولهذا جرت عادة الفقهاء والمصنفين أن يجعلوهم خمسة أقسام: الأول: المريض، وهكذا سوف نصنع.

حكم الإفطار للمريض

فالمريض الذي يتضرر بالصيام له الفطر، والمقصود بالمرض: هو ما خرج بالإنسان عن حد الصحة والاعتدال إلى المرض والعلة، ولذلك يقول ابن قدامة رحمه الله في المغني : أجمع أهل العلم على إباحة الفطر للمريض في الجملة، والدليل على هذا الحكم أولاً: القرآن الكريم، كما في قوله تعالى: وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [البقرة:185]، فجعل الله سبحانه وتعالى للمريض أن يفطر في رمضان ويقضي بدله عدة من أيام أخر، وكذلك استفاضت الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بجواز الفطر للمسافر، والمريض أولى بالعذر من المسافر وأحوج إلى الفطر وأحرى بالمشقة، فلهذا فإن الأحاديث الواردة في فطر المسافر تدل أيضاً على جواز الفطر للمريض.

أنواع الأمراض المبيحة للفطر

.والمرض أنواع: فهناك مثلاً المريض الذي لا يطيق الصوم، ويعجز عنه، فهذا لاشك أن له الفطر، والآيات في هذا كثيرة والنصوص، مثل قوله تعالى: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:286]، رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ [البقرة:286]، فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن:16]، فهذا نوع، وهذا بالاتفاق أن له الفطر.

- أيضاً: من أنواع المرض الذي يطيق صاحبه الصيام لكن الصوم يزيد في مرضه: أن يقرر الأطباء المعتمدون ولو طبيب واحد مأمون أن الصوم يزيد في مرض هذا الإنسان، فهذا الفطر أولى له، ولو صام أجزأه الصيام، ولذلك قيل للإمام أحمد : المريض بالحمى هل يفطر؟ قال رحمه الله: وأي مرض أشد من الحمى. وكذلك جاء عن الإمام أحمد في رواية أنه قال: المرأة إذا خافت على نفسها من اللوزتين فإنها تفطر.

- ومن أنواع المرض: أن يخشى التلف على بعض أعضائه كعينه مثلاً إن لم يداوها أو غيرها، أن يحتاج إلى علاج يتناوله، يأكله أو يشربه، فهذا أيضاً له الفطر.

- ومن أنواع المرض: أن يكون الصوم يؤخر برؤه، فيقررون مثلاً أنه لو صام تأخر الشفاء، إنما لو أفطر ربما يكون هذا أسرع في شفائه وعلاجه، فهذا أيضاً له الفطر.

بل بعضهم يكون صحيحاً، ولكنه يخشى بالصوم من المرض أو المشقة الشديدة أو الإجهاد الشديد، وذلك مثل ما ذكر ابن عباس رضي الله عنه قال: [ من به عطاش شديد ] لأن بعض الناس يكون فيه عطش شديد ومستديم بحيث لا يستغني عن الماء بحال من الأحوال، فإن هذا يفطر.

وكذلك الإمام أحمد سئل: عن الجارية إذا بلغت رمضان؟ فقال: تصوم، فإن كان يشق عليها أفطرت وقضت، يعني: لصغر سنها وعدم اعتيادها عليه، أو أن يكون فيها ضعف أو شدة حاجة أو ما أشبه ذلك، فالإمام أحمد رحمه الله قال: إنها تفطر وتقضي، ولم يذكر الأصحاب من الحنابلة عليها كفارة في هذه الحالة، كما سوف يرد بعد قليل. فهذه من أصناف الأمراض التي يباح للإنسان بموجبها الفطر.

أيهما أفضل للمريض الصيام أم الفطر؟

المصنف رحمه الله يقول: [ والفطر لهما أفضل، وعليهما القضاء ]، هل الأفضل بالنسبة للمريض الصوم أو الأفضل له الفطر؟ المصنف رحمه الله ذكر: أن الفطر أفضل، والذين قالوا: بأن الفطر أفضل اعتمدوا على أشياء، منها:

أولاً: أن الله سبحانه وتعالى قال: فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [البقرة:184]، فجعل حق المريض والمسافر القضاء وليس الأداء، أي ما قال: فمن كان مريضاً أو على سفر ولم يصم فعدة من أيام أخر، قال: فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [البقرة:184]، كأن الله تعالى جعل القضاء بدلاً عن الواجب الأصلي الذي هو الصيام في الحال، ولذلك ذهب جماعة من السلف إلى أن المسافر لو صام في السفر لم يجزئه ذلك احتجاجاً بهذه الآية، وعلى فرض قولهم أن المريض كذلك؛ لأنهم قالوا: إن الله تعالى أوجب في ذمته عدة من أيام أخر، فيجب أن يصوم عدة من أيام أخر، وأفتى بعضهم: من صام في السفر عليه أن يقضي مكانها. سوف أشير إلى هذا في موضوع المسافر. فاحتجوا -إذاً- بالآية على أن الفطر للمريض أفضل.

كذلك احتجوا بالأمر الثاني الذي أشرنا إليه وهو: أن الإجماع قائم على جواز الفطر له، بخلاف الصوم؛ فإن هناك من لا يجيز ولا يبيح له الصوم.

الأمر الثالث: قالوا: إن هذه رخصة ( الله تعالى يحب أن تؤتى رخصه )، كما في الحديث المرفوع في المسند، والراجح أنه صحيح موقوف على جماعة من الصحابة.

كذلك حديث ابن عمر رضي الله عنه في قصر الصلاة، قال: ( صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته )، والحديث في مسلم، فقالوا أيضاً: الفطر للصائم وصدقة يجب على العبد أن يقبلها، هذه حجج من قالوا بأن الفطر أفضل.

لكن هناك أقوال أخرى وأدلة أخرى يترشح ويترجح منها أن المريض له أحوال:

الحالة الأولى: أن يكون الصوم يزيد في مرضه، أو يشق عليه مشقة شديدة، أو يكون سبباً في تلف عضو من أعضائه، فهذا إما أن يقال: إن الصوم محرم في حقه أو مكروه بحسب حاله؛ لأن الله تعالى يقول: وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ [البقرة:195]، ويقول: وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى [الأعلى:8]، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: ( يسروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا )، فإن كان الصوم يضره ضرراً شديداً، أو يتلف عضواً من أعضائه أو يزيد في مرضه أو ما أشبه ذلك، أو يشق عليه مشقة تخرج عن حدود المعتاد فالفطر في حقه أفضل، والصوم إما أن يكون مكروهاً أو حراماً بحسب حاله.

الحالة الثانية: أن يكون الصوم لا يضر به ضرراً بيناً، ولكنه يشق عليه مشقة خارجة عن المعتاد، فالصوم والفطر في حقه جائز في هذه الحال.

الأمر الثالث: أن يكون الصوم لا يضر به، ولا يتعلق به شيء، فمثل هذا يتجه أن يقال بمنع الفطر وتحريمه عليه، مثل ما لو تصورنا أن إنساناً مثلاً يجد مرضاً في طرف أصبعه أو ظفره أو شيئاً من الأمراض التي لا يؤثر الصوم فيها ولا تسبب مشقة على الإنسان أو حرجاً أو تحوجه إلى تناول علاج أو نحوه، فهذه ثلاثة أحوال.

فالمريض الذي يتضرر بالصيام له الفطر، والمقصود بالمرض: هو ما خرج بالإنسان عن حد الصحة والاعتدال إلى المرض والعلة، ولذلك يقول ابن قدامة رحمه الله في المغني : أجمع أهل العلم على إباحة الفطر للمريض في الجملة، والدليل على هذا الحكم أولاً: القرآن الكريم، كما في قوله تعالى: وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [البقرة:185]، فجعل الله سبحانه وتعالى للمريض أن يفطر في رمضان ويقضي بدله عدة من أيام أخر، وكذلك استفاضت الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بجواز الفطر للمسافر، والمريض أولى بالعذر من المسافر وأحوج إلى الفطر وأحرى بالمشقة، فلهذا فإن الأحاديث الواردة في فطر المسافر تدل أيضاً على جواز الفطر للمريض.

.والمرض أنواع: فهناك مثلاً المريض الذي لا يطيق الصوم، ويعجز عنه، فهذا لاشك أن له الفطر، والآيات في هذا كثيرة والنصوص، مثل قوله تعالى: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:286]، رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ [البقرة:286]، فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن:16]، فهذا نوع، وهذا بالاتفاق أن له الفطر.

- أيضاً: من أنواع المرض الذي يطيق صاحبه الصيام لكن الصوم يزيد في مرضه: أن يقرر الأطباء المعتمدون ولو طبيب واحد مأمون أن الصوم يزيد في مرض هذا الإنسان، فهذا الفطر أولى له، ولو صام أجزأه الصيام، ولذلك قيل للإمام أحمد : المريض بالحمى هل يفطر؟ قال رحمه الله: وأي مرض أشد من الحمى. وكذلك جاء عن الإمام أحمد في رواية أنه قال: المرأة إذا خافت على نفسها من اللوزتين فإنها تفطر.

- ومن أنواع المرض: أن يخشى التلف على بعض أعضائه كعينه مثلاً إن لم يداوها أو غيرها، أن يحتاج إلى علاج يتناوله، يأكله أو يشربه، فهذا أيضاً له الفطر.

- ومن أنواع المرض: أن يكون الصوم يؤخر برؤه، فيقررون مثلاً أنه لو صام تأخر الشفاء، إنما لو أفطر ربما يكون هذا أسرع في شفائه وعلاجه، فهذا أيضاً له الفطر.

بل بعضهم يكون صحيحاً، ولكنه يخشى بالصوم من المرض أو المشقة الشديدة أو الإجهاد الشديد، وذلك مثل ما ذكر ابن عباس رضي الله عنه قال: [ من به عطاش شديد ] لأن بعض الناس يكون فيه عطش شديد ومستديم بحيث لا يستغني عن الماء بحال من الأحوال، فإن هذا يفطر.

وكذلك الإمام أحمد سئل: عن الجارية إذا بلغت رمضان؟ فقال: تصوم، فإن كان يشق عليها أفطرت وقضت، يعني: لصغر سنها وعدم اعتيادها عليه، أو أن يكون فيها ضعف أو شدة حاجة أو ما أشبه ذلك، فالإمام أحمد رحمه الله قال: إنها تفطر وتقضي، ولم يذكر الأصحاب من الحنابلة عليها كفارة في هذه الحالة، كما سوف يرد بعد قليل. فهذه من أصناف الأمراض التي يباح للإنسان بموجبها الفطر.

المصنف رحمه الله يقول: [ والفطر لهما أفضل، وعليهما القضاء ]، هل الأفضل بالنسبة للمريض الصوم أو الأفضل له الفطر؟ المصنف رحمه الله ذكر: أن الفطر أفضل، والذين قالوا: بأن الفطر أفضل اعتمدوا على أشياء، منها:

أولاً: أن الله سبحانه وتعالى قال: فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [البقرة:184]، فجعل حق المريض والمسافر القضاء وليس الأداء، أي ما قال: فمن كان مريضاً أو على سفر ولم يصم فعدة من أيام أخر، قال: فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [البقرة:184]، كأن الله تعالى جعل القضاء بدلاً عن الواجب الأصلي الذي هو الصيام في الحال، ولذلك ذهب جماعة من السلف إلى أن المسافر لو صام في السفر لم يجزئه ذلك احتجاجاً بهذه الآية، وعلى فرض قولهم أن المريض كذلك؛ لأنهم قالوا: إن الله تعالى أوجب في ذمته عدة من أيام أخر، فيجب أن يصوم عدة من أيام أخر، وأفتى بعضهم: من صام في السفر عليه أن يقضي مكانها. سوف أشير إلى هذا في موضوع المسافر. فاحتجوا -إذاً- بالآية على أن الفطر للمريض أفضل.

كذلك احتجوا بالأمر الثاني الذي أشرنا إليه وهو: أن الإجماع قائم على جواز الفطر له، بخلاف الصوم؛ فإن هناك من لا يجيز ولا يبيح له الصوم.

الأمر الثالث: قالوا: إن هذه رخصة ( الله تعالى يحب أن تؤتى رخصه )، كما في الحديث المرفوع في المسند، والراجح أنه صحيح موقوف على جماعة من الصحابة.

كذلك حديث ابن عمر رضي الله عنه في قصر الصلاة، قال: ( صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته )، والحديث في مسلم، فقالوا أيضاً: الفطر للصائم وصدقة يجب على العبد أن يقبلها، هذه حجج من قالوا بأن الفطر أفضل.

لكن هناك أقوال أخرى وأدلة أخرى يترشح ويترجح منها أن المريض له أحوال:

الحالة الأولى: أن يكون الصوم يزيد في مرضه، أو يشق عليه مشقة شديدة، أو يكون سبباً في تلف عضو من أعضائه، فهذا إما أن يقال: إن الصوم محرم في حقه أو مكروه بحسب حاله؛ لأن الله تعالى يقول: وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ [البقرة:195]، ويقول: وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى [الأعلى:8]، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: ( يسروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا )، فإن كان الصوم يضره ضرراً شديداً، أو يتلف عضواً من أعضائه أو يزيد في مرضه أو ما أشبه ذلك، أو يشق عليه مشقة تخرج عن حدود المعتاد فالفطر في حقه أفضل، والصوم إما أن يكون مكروهاً أو حراماً بحسب حاله.

الحالة الثانية: أن يكون الصوم لا يضر به ضرراً بيناً، ولكنه يشق عليه مشقة خارجة عن المعتاد، فالصوم والفطر في حقه جائز في هذه الحال.

الأمر الثالث: أن يكون الصوم لا يضر به، ولا يتعلق به شيء، فمثل هذا يتجه أن يقال بمنع الفطر وتحريمه عليه، مثل ما لو تصورنا أن إنساناً مثلاً يجد مرضاً في طرف أصبعه أو ظفره أو شيئاً من الأمراض التي لا يؤثر الصوم فيها ولا تسبب مشقة على الإنسان أو حرجاً أو تحوجه إلى تناول علاج أو نحوه، فهذه ثلاثة أحوال.

القسم الثاني: المسافر.

حكم الفطر للمسافر

والمسافر أيضاً أجمع العلماء على أن له الفطر؛ للآية الكريمة: أَوْ عَلَى سَفَرٍ [البقرة:184]، في موضعين من سورة البقرة، ولاستفاضة الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم بالفطر في السفر، ومن هذه الأحاديث مثلاً ما رواه الشيخان عن جابر رضي الله عنه أنه قال: ( كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر، فرأى زحاماً ورجلاً ظلل عليه، فقال: ما هذا؟ قالوا: رجل صائم، فقال صلى الله عليه وسلم: ليس من البر الصوم في السفر )، وفي لفظ: ( ليس من البر أن تصوموا في السفر )، وفي لفظ لـمسلم قال: ( عليكم برخصة الله التي رخص لكم ) في الحديث نفسه.

ومنها أيضاً: الحديث المتفق عليه عن أنس لما قال: ( إن كانوا في سفر وفيهم الصائم والمفطر، فالمفطرون سقوا الركاب ونصبوا الأبنية، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ذهب المفطرون اليوم بالأجر ).

ومنها أيضاً بل من أوضحها: ما رواه مسلم عن جابر أنه قال: (خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم عام الفتح إلى مكة فصام النبي صلى الله عليه وسلم حتى بلغ كراع الغميم فدعا بماء فرفعه ثم أفطر، فبلغه بعد ذلك أن ناساً من أصحابه قد صاموا، فقال صلى الله عليه وسلم: أولئك العصاة، أولئك العصاة )، فمثل هذه الأحاديث وغيرها كثير جداً يدل على الرخصة للمسافر بالفطر في رمضان.

السفر المبيح للفطر

والسفر المبيح للفطر: هو السفر المبيح لقصر الصلاة، وهو ما سمي سفراً، والجمهور حدوه بأربعة برد، وهي تعادل تقريباً اثنين وثمانين كيلو متراً بالمقاييس العصرية، وابن تيمية رحمه الله ونقله عن طوائف من السلف ذهب إلى أن السفر لا يحدد بمسافة، ولكن ما كان سفراً في العرف وأطلق عليه سفر، فإنه يبيح القصر ويبيح الفطر وسائر الرخص المتعلقة بالسفر.

والمسافر له ثلاثة أحوال:

الحال الأولى: أن يدخل عليه شهر رمضان وهو مسافر، فهذا له الترخص بالفطر باتفاق العلماء ولا إشكال فيه.

الحال الثانية: أن يدخل عليه شهر رمضان وهو مقيم ثم يسافر، لنفترض أنه سافر في الليل مثلاً، فهل يفطر من الغد؟ أو يلزمه الصيام؟ طبعاً الجمهور من أهل العلم وهو قول الأئمة الأربعة: أن له الفطر، يعني: لو سافر الليلة مثلاً فإن له الفطر غداً ما دام أدركه الغد وهو مسافر، وهذا مذهب الجماهير من الصحابة والتابعين والأئمة الأربعة وغيرهم، ولكن روي عن عبيدة السلماني وسويد بن غفلة وأبي مجلز، أنهم يقولون: لا يفطر، بل يجب عليه الصيام، لماذا؟ قالوا: لأن الشهر أهل عليه وهو مقيم، والله سبحانه وتعالى يقول: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ [البقرة:185]، كأنهم رأوا أن المقصود بالشهر هنا الهلال، فكأنه قال: من شهد منكم الهلال، ولاشك أن قولهم مردود، يرد عليهم أولاً: الآية الكريمة؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال: فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [البقرة:184]، يعني: بقدر ما أفطر، وهذا دليل على أنه قد يفطر بعض الشهر ويصوم بعضه، يدركه بعضه وهو مقيم ثم يسافر.

كذلك يرد عليهم بالحديث السابق أن النبي صلى الله عليه وسلم صام حتى إذا بلغ كراع الغميم أو الكديد فأفطر، فهذا دليل على أنه صلى الله عليه وسلم كان صائماً ثم أفطر، وقد جاء هذا عن جماعة من الصحابة كـأنس بن مالك رضي الله عنه وأبي بصرة الغفاري وغيرهم: أنهم صاموا ثم أفطروا في السفر، وكذلك عائشة، فلا شك أن القول الصحيح أن له الفطر ولو أدركه رمضان وهو مقيم ثم سافر.

لكن ننتقل للحالة الثالثة: وهي ما لو صام هذا اليوم ثم سافر في أثنائه، لو أنه تسحر وصام ثم سافر بعد الزوال أو قبله في اليوم نفسه فهل يجوز له أن يفطر هذا اليوم الذي سافر فيه أم يجب عليه أن يكمله ويصومه؟

هذه المسألة فيها قولان:

القول الأول هو الرواية المشهورة في مذهب الإمام أحمد وقول الشعبي وإسحاق وداود الظاهري وابن المنذر وجماعة من الفقهاء: أن له الفطر، له أن يفطر في أثناء ذلك اليوم الذي سافر فيه؛ وذلك أولاً: للآية الكريمة، لقوله: أَوْ عَلَى سَفَرٍ [البقرة:184]، وهذا يصدق أنه على سفر، وكذلك لحديث جابر : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم أفطر )، ومثله أيضاً: حديث أبي بصرة الغفاري الذي رواه أبو داود وأحمد وغيرهم وفي سنده مقال، لكن فيه: [ أنه ركب في سفينة فدفع، فلما كان بعد ذلك أمر بغدائه فقرب إليه وقال لمن حوله: قربوا، فقال له بعضهم: إننا نرى بنيان البلد، فقال: أترغبون عن سنة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ]، وهذا القول هو الراجح والأقرب؛ لأن المسافر أثناء اليوم يصدق عليه أنه مسافر وعلى سفر، وله التمتع بهذه الرخصة، إضافة إلى ما جاء في الحديث من فعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

القول الثاني: أنه لا يحق له الفطر في ذلك اليوم الذي سافر فيه وكان صائماً، بل يجب عليه أن يتم صيامه، وهذا قول الجمهور، فهو مذهب الزهري ومالك والشافعي والأوزاعي وأبي حنيفة وغيرهم؛ وذلك لأنهم غلبوا جانب الحظر وجانب الإقامة، قالوا: اجتمع في هذا اليوم الإقامة والسفر، فيغلب جانب الإقامة والحظر والمنع فيجب عليه أن يتمه، وكذلك لأنه شرع في فرض نواه فلا يجوز له أن يخرج منه، كما لو شرع في صلاة فريضة فإنه لا يجوز له قطعها، والأول أقوى كما ذكرنا، وأولى بالرخصة وأحق بها.

متى يباح للمسافر أن يفطر

ينبغي للصائم المسافر ألا يفطر إلا إذا فارق عامر البلد، إذا فارق البنيان، وأما ما روي عن أنس رضي الله عنه: [ أنه أفطر في البلد؛ لأنه نوى السفر ]، وكذلك ما روي عن الحسن البصري ؛ فإن هذا القول ضعيف لأسباب:

أولاً: لأن الله سبحانه وتعالى قال: أَوْ عَلَى سَفَرٍ [البقرة:184]، وعلماء اللغة يعبرون عن هذا اللفظ: أَوْ عَلَى سَفَرٍ [البقرة:184]، بأنه من الألفاظ الدالة على التمكن، مثلما تقول: فلان على الدابة، أي: أنه راكب عليها متمكن عليها، ولذلك لم يقل: أو مسافراً وإنما قال: عَلَى سَفَرٍ [البقرة:184]، مما يدل على التمكن والاستقرار على هذا السفر، والمقيم الذي نوى السفر لا يصدق عليه أنه متمكن من السفر، هذا أولاً.

الأمر الثاني: أن الله سبحانه وتعالى يقول: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ [البقرة:185]، والإنسان المقيم في البلد قد شهد الشهر، ولهذا يجب عليه الصيام.

الأمر الثالث: أن الرخصة معلقة بفعل السفر لا بنية السفر أو إرادته.

والأمر الرابع: أن هذا يفضي إلى نوع من العبث والفوضى؛ لأن الإنسان قد يفطر ويقول: أنا كنت ناوياً السفر، زيادة على أن المقيم في البلد ناوي السفر قد تنحل عزيمته، وقد يكون نوى السفر فأفطر ثم تغير رأيه وعزم الإقامة، ولهذا فالقول الصحيح -والله أعلم- أنه لا يجوز لمن نوى السفر أن يفطر إلا إذا سافر فعلاً وشرع في السفر وفارق بنيان البلد فحينئذٍ يجوز له أن يفطر، أما ما روي عن أنس والحسن، فإما أن يقال: بأنه محمول على حال معينة مثل أن يكون له وضع خاص، أو يقال: إنه رأي لهم لكنه مخالف للقول الراجح الذي عليه الأدلة.

أيهما أفضل للمسافر الفطر أم الصيام؟

نرجع إلى النقطة الأخرى بالنسبة للمسافر. ما هو الأفضل في حقه؟ هل الأفضل في حق المسافر أن يفطر أو أن يصوم؟

نص المصنف على أن الفطر للمسافر أفضل كحال المريض، وذكرنا أن مأخذ المصنف يعتمد على أمور، منها أولاً قوله: فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [البقرة:184]، ولذلك اعتمد البدل، ونقل عن جماعة من الصحابة: [ أن من صام وهو مسافر فعليه القضاء ]، وهذا جاء عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وابن عمر، وأبي هريرة، وعبد الرحمن بن عوف، وابن عباس وبعضه بأسانيد صحيحة، بل جاء مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( الصائم في السفر كالمفطر في الحضر )، وقد رواه ابن ماجه من غير طريق، والصواب: أنه موقوف على عبد الرحمن بن عوف أو أبي هريرة.

وهذا يقود إلى الوجه الثاني من أوجه تفضيل الفطر وهو أن المفطر في السفر قد أصاب بإجماع العلماء، لا أحد يعيبه في ذلك أو يؤثمه، بخلاف الصائم فهناك من ينكر عليه ويؤثمه ويوجب عليه الإعادة، خصوصاً مع حديث: ( أولئك العصاة، أولئك العصاة ).

الأمر الثالث: الرخصة كما ذكرنا، و( صدقة تصدق الله بها عليكم ).

الأمر الرابع: النظر، وهذا يأتي في السفر، ويأتي في الصوم أيضاً، فإن المسافر الغالب أنه يلحقه مشقة، من الحل والترحال والتعرض للشمس والهواء والتعب والعناء ونصب الخيام وحمل الأمتعة وغير ذلك، ومثل هذا الغالب أنه يحتاج إلى الفطر، وأن الفطر أحسن له وأقوى لبدنه وأقدر له على خدمة إخوانه أو الاستغناء عن خدمة الآخرين، وأكثر اطمئناناً لنفسه، وأبعد عن سوء الخلق الذي يصاحب من يكون صائماً في مثل هذه الأحوال، وهذه المعاني كلها مطلوبة، لكن ورد ما يعارض هذا أيضاً من الصيام في السفر، فمن ذلك مثلاً ما جاء في صحيح مسلم عن جابر وأبي سعيد الخدري : ( أنهم كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر، منهم الصائم ومنهم المفطر، فلم يعب الصائم على المفطر، ولم يعب المفطر على الصائم )، وكونه لم يعب بعضهم على بعض دليل على أن الأمر مستوٍ بالنسبة لهم، ولو كان مكروهاً لعاب المفطرون على الصائمين، وكذلك ما جاء في الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها في قصة حمزة بن عمرو الأسلمي وكان رجلاً صاحب سفر، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الصيام في السفر، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ( إن شئت فصم، وإن شئت فأفطر )، فهذا نص صحيح في تخييره بين الفطر وبين الصيام.

وأيضاً ما رواه الشيخان عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: ( خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حر شديد وما فينا صائم إلا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعبد الله بن رواحة )، قالوا: فكون الرسول صلى الله عليه وسلم صام، وكذلك صام عبد الله بن رواحة هذا دليل على أن الصوم جائز، بل ربما كان دليلاً على فضله في بعض الأحوال، وفي ذلك نصوص أخرى عديدة.

والقول المعتدل في هذا أن نقول: إن غالب الناس في غالب الأحوال وغالب الأسفار يستحب لهم الفطر؛ للأحاديث، ولأن الفطر أرفق بهم وأرفق بحالهم وأحسن لهم، وفي ذلك قبول الرخصة التي رخص الله لهم، وترك التعمق والتنطع، وترك الغلو في الدين، ولذلك نقول أيضاً: من صام في السفر رغبة عن الرخصة وعزوفاً عنها ففطره أولى به، والصوم في حقه ليس بحسن بل هو مذموم؛ لأنه أعرض وترك الرخصة التي رخص الله تبارك وتعالى لعباده، لكن من صام لسبب آخر مثل أن يكون مترفهاً، والسفر لا يشق عليه، وكما نجد في العصر الحاضر أنه قد يسافر مثلاً في سيارة مكيفة، وقد ينام أثناء السفر في الطريق، أو يسافر أيضاً بطائرة ولا يستغرق السفر منه إلا وقتاً يسيراً ولا يشق عليه، فهو في حال السفر كهو في حال الإقامة من غير أن يتغير شيء في حقه، فهذا لا شك أن الفطر له جائز وإن كان مرفهاً، لكن قد نقول: إن الصوم في حقه أولى، وهذا مذهب الجمهور، مذهب الأئمة الثلاثة:

مالك والشافعي وأبي حنيفة، ولو لم يأت من ذلك إلا أنه أسرع في براءة الذمة، فإن كونه يصوم في وقت رمضان، وكونه يصوم مع المسلمين أحسن من كونه يؤجل الصيام وربما ثقل عليه، كما هو معروف من حال غالب الناس.

إذاً: نقول: إن الفطر جائز للمسافر بالاتفاق حتى لو سافر إن شاء الله بصاروخ لمدة دقائق فيجوز له أن يفطر، لكن بالنسبة لما هو الأفضل؟ نقول: الأفضل هو الأرفق في حقه، فإن كان الفطر أرفق فهو أفضل، وإن كان الصوم أرفق، فهو أسرع في براءة الذمة وأحب إليه أن يصوم مع الناس دون أن يلحقه في ذلك مشقة فيكون الصوم أفضل؛ جمعاً بين الأدلة.

من قدم من سفر هل يمسك أو يستمر مفطراً؟

إذا قدم المسافر البلد أثناء النهار فهل يمسك أو يستمر مفطراً؟

هما روايتان في المذهب، والأقرب أن له الفطر؛ لأن الصيام إنما هو من طلوع الفجر، لكن لا يظهر الفطر لئلا يظن من لم يعرفه أنه مفطر من غير سبب.

والمسافر أيضاً أجمع العلماء على أن له الفطر؛ للآية الكريمة: أَوْ عَلَى سَفَرٍ [البقرة:184]، في موضعين من سورة البقرة، ولاستفاضة الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم بالفطر في السفر، ومن هذه الأحاديث مثلاً ما رواه الشيخان عن جابر رضي الله عنه أنه قال: ( كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر، فرأى زحاماً ورجلاً ظلل عليه، فقال: ما هذا؟ قالوا: رجل صائم، فقال صلى الله عليه وسلم: ليس من البر الصوم في السفر )، وفي لفظ: ( ليس من البر أن تصوموا في السفر )، وفي لفظ لـمسلم قال: ( عليكم برخصة الله التي رخص لكم ) في الحديث نفسه.

ومنها أيضاً: الحديث المتفق عليه عن أنس لما قال: ( إن كانوا في سفر وفيهم الصائم والمفطر، فالمفطرون سقوا الركاب ونصبوا الأبنية، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ذهب المفطرون اليوم بالأجر ).

ومنها أيضاً بل من أوضحها: ما رواه مسلم عن جابر أنه قال: (خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم عام الفتح إلى مكة فصام النبي صلى الله عليه وسلم حتى بلغ كراع الغميم فدعا بماء فرفعه ثم أفطر، فبلغه بعد ذلك أن ناساً من أصحابه قد صاموا، فقال صلى الله عليه وسلم: أولئك العصاة، أولئك العصاة )، فمثل هذه الأحاديث وغيرها كثير جداً يدل على الرخصة للمسافر بالفطر في رمضان.

والسفر المبيح للفطر: هو السفر المبيح لقصر الصلاة، وهو ما سمي سفراً، والجمهور حدوه بأربعة برد، وهي تعادل تقريباً اثنين وثمانين كيلو متراً بالمقاييس العصرية، وابن تيمية رحمه الله ونقله عن طوائف من السلف ذهب إلى أن السفر لا يحدد بمسافة، ولكن ما كان سفراً في العرف وأطلق عليه سفر، فإنه يبيح القصر ويبيح الفطر وسائر الرخص المتعلقة بالسفر.

والمسافر له ثلاثة أحوال:

الحال الأولى: أن يدخل عليه شهر رمضان وهو مسافر، فهذا له الترخص بالفطر باتفاق العلماء ولا إشكال فيه.

الحال الثانية: أن يدخل عليه شهر رمضان وهو مقيم ثم يسافر، لنفترض أنه سافر في الليل مثلاً، فهل يفطر من الغد؟ أو يلزمه الصيام؟ طبعاً الجمهور من أهل العلم وهو قول الأئمة الأربعة: أن له الفطر، يعني: لو سافر الليلة مثلاً فإن له الفطر غداً ما دام أدركه الغد وهو مسافر، وهذا مذهب الجماهير من الصحابة والتابعين والأئمة الأربعة وغيرهم، ولكن روي عن عبيدة السلماني وسويد بن غفلة وأبي مجلز، أنهم يقولون: لا يفطر، بل يجب عليه الصيام، لماذا؟ قالوا: لأن الشهر أهل عليه وهو مقيم، والله سبحانه وتعالى يقول: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ [البقرة:185]، كأنهم رأوا أن المقصود بالشهر هنا الهلال، فكأنه قال: من شهد منكم الهلال، ولاشك أن قولهم مردود، يرد عليهم أولاً: الآية الكريمة؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال: فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [البقرة:184]، يعني: بقدر ما أفطر، وهذا دليل على أنه قد يفطر بعض الشهر ويصوم بعضه، يدركه بعضه وهو مقيم ثم يسافر.

كذلك يرد عليهم بالحديث السابق أن النبي صلى الله عليه وسلم صام حتى إذا بلغ كراع الغميم أو الكديد فأفطر، فهذا دليل على أنه صلى الله عليه وسلم كان صائماً ثم أفطر، وقد جاء هذا عن جماعة من الصحابة كـأنس بن مالك رضي الله عنه وأبي بصرة الغفاري وغيرهم: أنهم صاموا ثم أفطروا في السفر، وكذلك عائشة، فلا شك أن القول الصحيح أن له الفطر ولو أدركه رمضان وهو مقيم ثم سافر.

لكن ننتقل للحالة الثالثة: وهي ما لو صام هذا اليوم ثم سافر في أثنائه، لو أنه تسحر وصام ثم سافر بعد الزوال أو قبله في اليوم نفسه فهل يجوز له أن يفطر هذا اليوم الذي سافر فيه أم يجب عليه أن يكمله ويصومه؟

هذه المسألة فيها قولان:

القول الأول هو الرواية المشهورة في مذهب الإمام أحمد وقول الشعبي وإسحاق وداود الظاهري وابن المنذر وجماعة من الفقهاء: أن له الفطر، له أن يفطر في أثناء ذلك اليوم الذي سافر فيه؛ وذلك أولاً: للآية الكريمة، لقوله: أَوْ عَلَى سَفَرٍ [البقرة:184]، وهذا يصدق أنه على سفر، وكذلك لحديث جابر : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم أفطر )، ومثله أيضاً: حديث أبي بصرة الغفاري الذي رواه أبو داود وأحمد وغيرهم وفي سنده مقال، لكن فيه: [ أنه ركب في سفينة فدفع، فلما كان بعد ذلك أمر بغدائه فقرب إليه وقال لمن حوله: قربوا، فقال له بعضهم: إننا نرى بنيان البلد، فقال: أترغبون عن سنة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ]، وهذا القول هو الراجح والأقرب؛ لأن المسافر أثناء اليوم يصدق عليه أنه مسافر وعلى سفر، وله التمتع بهذه الرخصة، إضافة إلى ما جاء في الحديث من فعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

القول الثاني: أنه لا يحق له الفطر في ذلك اليوم الذي سافر فيه وكان صائماً، بل يجب عليه أن يتم صيامه، وهذا قول الجمهور، فهو مذهب الزهري ومالك والشافعي والأوزاعي وأبي حنيفة وغيرهم؛ وذلك لأنهم غلبوا جانب الحظر وجانب الإقامة، قالوا: اجتمع في هذا اليوم الإقامة والسفر، فيغلب جانب الإقامة والحظر والمنع فيجب عليه أن يتمه، وكذلك لأنه شرع في فرض نواه فلا يجوز له أن يخرج منه، كما لو شرع في صلاة فريضة فإنه لا يجوز له قطعها، والأول أقوى كما ذكرنا، وأولى بالرخصة وأحق بها.

ينبغي للصائم المسافر ألا يفطر إلا إذا فارق عامر البلد، إذا فارق البنيان، وأما ما روي عن أنس رضي الله عنه: [ أنه أفطر في البلد؛ لأنه نوى السفر ]، وكذلك ما روي عن الحسن البصري ؛ فإن هذا القول ضعيف لأسباب:

أولاً: لأن الله سبحانه وتعالى قال: أَوْ عَلَى سَفَرٍ [البقرة:184]، وعلماء اللغة يعبرون عن هذا اللفظ: أَوْ عَلَى سَفَرٍ [البقرة:184]، بأنه من الألفاظ الدالة على التمكن، مثلما تقول: فلان على الدابة، أي: أنه راكب عليها متمكن عليها، ولذلك لم يقل: أو مسافراً وإنما قال: عَلَى سَفَرٍ [البقرة:184]، مما يدل على التمكن والاستقرار على هذا السفر، والمقيم الذي نوى السفر لا يصدق عليه أنه متمكن من السفر، هذا أولاً.

الأمر الثاني: أن الله سبحانه وتعالى يقول: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ [البقرة:185]، والإنسان المقيم في البلد قد شهد الشهر، ولهذا يجب عليه الصيام.

الأمر الثالث: أن الرخصة معلقة بفعل السفر لا بنية السفر أو إرادته.

والأمر الرابع: أن هذا يفضي إلى نوع من العبث والفوضى؛ لأن الإنسان قد يفطر ويقول: أنا كنت ناوياً السفر، زيادة على أن المقيم في البلد ناوي السفر قد تنحل عزيمته، وقد يكون نوى السفر فأفطر ثم تغير رأيه وعزم الإقامة، ولهذا فالقول الصحيح -والله أعلم- أنه لا يجوز لمن نوى السفر أن يفطر إلا إذا سافر فعلاً وشرع في السفر وفارق بنيان البلد فحينئذٍ يجوز له أن يفطر، أما ما روي عن أنس والحسن، فإما أن يقال: بأنه محمول على حال معينة مثل أن يكون له وضع خاص، أو يقال: إنه رأي لهم لكنه مخالف للقول الراجح الذي عليه الأدلة.