خطب ومحاضرات
شرح العمدة (الأمالي) - كتاب الزكاة - باب حكم الدين
الحلقة مفرغة
موضوعنا اليوم هو: حكم الدين، وعندنا فيه تقريباً أربع نقاط ليست بالطويلة:
النقطة الأولى منها: ما هو الدين؟ ما هو تعريف الدين؟
تعريف الدين عند الفقهاء: هو لزوم حق في الذمة. فإذا لزم في ذمة الإنسان حق مالي لأخيه الآخر فإنه يسمى ديناً، وقد يكون الحق غير مال.
وأما قولنا: (لزوم حق)؛ فإنه يخرج ما ليس بلازم، وهو الشيء الذي قد يكون مطلوباً من الإنسان على سبيل الاستحباب، أو على سبيل الإكرام، فإن هذا لا يسمى ديناً، وإنما الدين لابد أن يكون شيئاً لازماً للإنسان.
وقولنا: (لزوم حق) لو كان الملزم به غير حق فإن هذا الإلزام باطل، ولا يكون ديناً على الإنسان.
وقولنا: (في الذمة) يخرج إذا أعطى الإنسان الشيء في الحال، فلو أن أحداً طلبك شيئاً فأعطيته لم يسم هذا ديناً؛ لأنك أبرأت ذمتك بالحال، فإذا تعلق الحق بالذمة سمي ديناً، فالدين هو لزوم حق في الذمة، وهذا يشمل الحقوق المالية كما أشرت، مثل: القرض. لو أقرضتك مالاً، كأن أعطيتك ألف ريال على أن تردها إلي فيما بعد، هاهنا يكون وقع في ذمتك دين لي بألف ريال، واسمه الخاص .. يسمى (قرضاً).
إذاً: القرض هو أحد أنواع الدين، ولكنه لفظ خاص، فالقرض عقد خاص يتميز بأنه عقد إرفاق. يعني: ليس المقصود من القرض الاستغلال، أو أن أعطيك مالاً لتعطيني أضعافه، وإنما المقصود بالقرض هو إرفاق وإحسان، ولهذا سماه الله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم قرضاً، فقال تعالى: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا [البقرة:245]، وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا [الحديد:18] فسماه الله تعالى: قرضاً حسناً، وهكذا قرضك لأخيك المسلم هو قرض حسن؛ لأنك لا تطلب من ورائه زيادة في المال، وإنما للرفق بأخيك، وسد فاقته وحاجته.
إذاً: القرض نوع من الدين، ولكنه عقد خاص، أو نوع خاص من الدين.
وكذلك ثمن المبيع، لو أعطيتك سلعة أو عيناً على أن تعطيني ثمنها بعد حين، سواء كان هذا الحين محدداً وهو ما يسمى بالعقد المؤجل، أو كان مطلقاً، تقول: آتيك به فيما بعد، فهذا ثمن لسلعة معينة أو مبيع، وهو أيضاً نوع من الدين.
ومثله أيضاً: ثمن التأجير، لو آجرتك بيتاً أو سيارة أو شيئاً بمال تدفعه إلي فيما بعد.
ومثله ثمن المتلف، لو أتلفت شيئاً فغرمت لي هذا المبلغ، لكنك لم تعطنيه حالاً وإنما وعدتني به فيما بعد.
أو ثمن الجناية، لو جنيت على أحد في عضو من أعضائه أو في عبده مثلاً أو ما أشبه ذلك فثمن الجناية إذا بقي في ذمتك فهو دين .. وهكذا.
وأيضاً: ثمن الصداق، صداق المرأة لو لم يعطها زوجها الصداق، أو أعطاها بعضه وأجّل بعضه يسمونه: صداق الآجل.
كل هذه أنواع من الديون تتعلق بذمة الإنسان يدفعها إلى مستحقها فيما بعد، فهذه ديون مالية، أو حقوق مالية.
وهناك نوع آخر من الدين والحق: وهو ما ليس بحق مالي، مثل: حقوق الله سبحانه وتعالى، ألم يقل الرسول صلى الله عليه وسلم في شأن من سألته عن الصيام: ( اقضوا الله فالله أحق بالوفاء ) إذاً: أحق بالوفاء، وسماه قضاءً، فالله تعالى له حق على عباده.
وفي حديث معاذ بن جبل : ( أتدري ما حق الله على العباد وما حق العباد على الله؟ فحق الله على عباده أن يعبدوه ويوحدوه ولا يشركوا به شيئاً ) فسماه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم حقاً، مع أنه ليس حقاً مالياً، هو دين في ذمة الإنسان، وحق في رقبته وفي حياته لربه عز وجل.
وكذلك مثلاً لو أن إنساناً ترك صلاة ناسياً ثم ذكرها، فهي دين في ذمته، يقضيه أو ما يقضيه؟ يقضيه: ( من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها ).
وهكذا الحال بالنسبة للصيام.
وهكذا الحال بالنسبة للحج أو العمرة لو أفسدها.
وهكذا الحال بالنسبة للزكاة أيضاً باعتبار أن لها جانب حق لله سبحانه وتعالى، غير حق الفقير والمحتاج.
إذاً: هذه أنواع من الديون ليست مستحقات مالية في ذمة الإنسان، وإنما هي مستحقات معنوية، حقوق على الإنسان، ولذلك بعضهم يقول: هذا حق الله، وهذا حق العباد، وبعضهم قد يقول: هذه حقوق مالية، وهذه حقوق غير مالية.
وقد يسمي الفقهاء الدين بأسماء، مثل: الكالئ، من أشهر أسمائه: الكالئ، آخره همزة، وهذا اسم للدين، وقد ورد في حديث: ( أن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الكالئ بالكالئ ) يعني: نهى عن بيع الدين بالدين، أو بيع المؤجل بالمؤجل، وهذا الحديث رواه الدارقطني وسنده ضعيف، فيه موسى بن عبيدة الربذي وهو ضعيف، وقال الإمام الشافعي رحمه الله: إن أهل الحديث يوهنونه، ولكن معنى الحديث أو معنى هذا الأثر صحيح إجمالاً، فإن الفقهاء متفقون على المنع من بيع الدين المؤجل بالدين من حيث الجملة، وإلا فإن لهذه المسألة صوراً عديدة أوصلها بعضهم إلى أكثر من عشر صور، بيع الدين بالدين سوف نأتي إليه إن شاء الله في مسألة البيوع؛ لأننا الآن نبحث في الزكاة، وإنما المقصود الإشارة إلى أن كلمة (الكالي) تطلق ويراد بها الدين. هذه المسألة الأولى.
المسألة الثانية في زكاة الدين أو حكم الدين، هي لب الباب وهي: ما حكم زكاة الديون؟ من كان له ديون على الناس هل يجب عليه أن يزكيها كما يزكي ماله، أم لها حكم آخر؟
في هذه المسألة عدة أقوال يمكن أن تصل بالاستقصاء والاستقراء إلى نحو عشرة أقوال للأئمة والسلف مبثوثة ومبسوطة في مراجعها، ككتاب الأموال لـأبي عبيد، وكتاب الأموال لـحميد بن زنجويه، وكتاب المغني لـابن قدامة والمحلى لـابن حزم .. وغيرها، لكن نذكر نحن خلاصة هذه الأقوال تقريباً في ثلاثة مذاهب:
القول الأول: ليس في الدين زكاة مطلقاً وأدلته
إذاً: لا زكاة على الدين بحال من الأحوال في هذه الحالة، ولا زكاة على الدين إن كان قوياً أو ضعيفاً، أو كان بسبب حق أو غير ذلك، فهذا هو القول الأول: أنه ليس في الدين زكاة مطلقاً. وهذا منقول عن ابن عمر رضي الله عنه وعائشة وعكرمة وعطاء وإبراهيم النخعي والحكم بن عتيبة .. وغيرهم من السلف، وهو مذهب الشافعي في القديم، واختاره من الفقهاء المعاصرين الشيخ مصطفى الزرقا رحمه الله في مداخلاته في مجمع الفقه الإسلامي حول زكاة الدين.
ومأخذ هؤلاء في أنه لا زكاة في الدين أولاً: بعضهم ذكر حديثاً ردده بعض الفقهاء، وليس له أصل عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وإنما يصح عن ابن عمر رضي الله عنه وغيره بمعناه، وهو أنهم يزعمون أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ليس على من أقرض مالاً زكاة ) وكما ذكرت هذا لا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم ولم يروه أحد ممن يعتد بروايتهم، وأيضاً لم يذكر في شيء من كتب السنة المسندة، هذا أولاً.
ثانياً: حتى مع ذلك نحن نقول: إن هذا الحديث لا يدل على أن الزكاة ليست في الدين مطلقاً؛ لأن الحديث تكلم عن صورة واحدة من صور الدين وهي القرض، ( ليس على من أقرض مالاً زكاة ) فنقول: على فرض صحته؛ فإنه خاص بالقرض، والقرض يختلف عن غيره؛ لأن القرض فيه إحسان، فقد يقول قائل: إن القرض زكاته إقراضه للمحتاجين، بخلاف الديون الأخرى التي هي عن بيع أو شراء أو مصلحة للدائن، فإنها لا تقاس عليه.
وأما من حيث النظر فإنهم قالوا: ليس في الدين زكاة أيضاً؛ لأن الدين ناقص الملك أولاً، وقد ذكرنا في شروط المال الذي تجب فيه الزكاة سابقاً تمام الملك، فقالوا: الدين ناقص الملك؛ لأن صاحبه لم يضع يده عليه، فهو يملكه فعلاً، لكن الذي وضع يده على هذا الدين هو فلان، فالملك إذاً ناقص.
الأمر الثاني: ذكرنا أيضاً من شروط وجوب الزكاة في المال غير الملك: النماء، أن يكون المال نامياً، يعني: نامياً بالفعل أو نامياً بالقوة، نامياً بالفعل مثل: عروض التجارة تضارب بها وتبيع وتشتري فيزيد المال، أو بالقوة مثل الذهب والفضة؛ لأنه يفترض أن الذهب والفضة هي للبيع والشراء والمتاجرة، بينما الدين ليس نامياً، وإنما هو أشبه بالقنية كما يقولون، أشبه بالأشياء التي يقتنيها الإنسان في بيته كالأثاث والرياش والملابس .. ونحوها، ولهذا قالوا: إنه ليس في الدين زكاة. هذا قول.
القول الثاني: أن الزكاة في الدين على المدين وليست على الدائن
وابن حزم رحمه الله ذهب إلى هذا القول في المال الحاضر، أنه إذا كان عندك مال حاضر أنت استدنته من غيرك فعليك زكاته، أما إذا كان المال غائباً عنك فلا زكاة فيه مطلقاً لا عليك ولا على صاحب المال.
إذاً: قول ابن حزم رحمه الله كأنه مرقع أو ملفق من القول الأول مع هذا القول، أنه إن كان المال حاضراً عند المدين فالزكاة عليه، وإن كان المال غائباً فلا زكاة على أحد منهما.
وهذا القول فيه ضعف، فيه ضعف من جهة أن الزكاة على مالك المال، هذا هو المعروف في قاعدة الشريعة، ونقل الزكاة من كونها على مالكه إلى كونها على مستثمره يحتاج إلى دليل، هذا أولاً.
وثانياً: أن الزكاة تفتقر إلى نية، وكون المستثمر سيخرجها معناه: أن المالك لم يكن نوى إخراج زكاة هذا المال الذي له.
القول الثالث: التفريق بين المليء وغيره
القسم الأول: الدين على المليء، وقلنا قبل قليل: إن المقصود بالمليء الغني الباذل؛ لأنه قد يكون غنياً لكنه ثقيل لا يسدد الديون التي عليه ويماطل بها، فقالوا: إن المقصود بالمليء: الغني الباذل الذي يبذل ما عليه من حقوق.
فإذاً: القسم الأول: أن يكون الدين على مليء، وبعض الفقهاء يعبرون ويسمونه بالدين المرجو الأداء، فهذا فيه الزكاة كل سنة على مالكه على صاحبه على الدائن، وهذا القول ثابت عن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم كـعمر وعثمان، فإن عمر رضي الله عنه جاء عنه كما في كتاب أبي عبيد : (أنه كان إذا أخرج العطاء للناس، أخذ الزكاة من شاهد المال عن الغائب والشاهد)، وهذا أيضاً فعل من عمر رضي الله عنه بمحضر من الصحابة، ولم ينكر عليه ولم ينقل له مخالف.
وكذلك عثمان رضي الله عنه، روى أبو عبيد وغيره عن عثمان أنه كان يقول: (إن الصدقة تجب في المال الذي لو شئت تقاضيته فتتركه حياءً أو مصانعة لصاحبه ففيه الزكاة).
وكذلك نقل هذا القول عن ابن عمر وجابر من الصحابة، ونقل عن جماعة من التابعين كـمجاهد وطاوس والزهري وقتادة وحماد بن أبي سليمان، وهو مذهب إسحاق بن راهويه والشافعي والحنابلة الإمام أحمد : أن الدين ينقسم إلى قسمين:
القسم الأول: أنه إن كان على مليء فهو يزكى كل سنة.
يبقى هنا السؤال: هل يزكيه مع ماله وهو دين، أم يزكيه إذا قبضه؟ هذان قولان وهما روايتان في مذهب الإمام أحمد، والأقرب والأرجح منهما أنه يزكيه إذا قبضه عن السنوات التي مضت؛ لأننا نقول: إن الزكاة مواساة، وليس من المواساة أن يطلب من صاحب المال أن يخرج زكاة الدين نقداً، بل يكفيه أن تكون زكاة الدين ديناً في ذمته، فإذا جاءه المال أخرج منه زكاته؛ لأنه أيضاً قد يتلف المال وقد يضيع وقد يتحول المليء إلى معسر .. إلى غير ذلك.
إذاً: فالأقرب في هذا أن الدين على مليء زكاته إذا قبضه عما مضى، هذا هو القول الراجح عند الحنابلة.
هذا النوع الأول، وتقريباً ليس فيه إشكال.
أقوال العلماء في زكاة الدين إذا كان على معسر
ومثله: الدين على الإنسان الجاحد، لو أن إنساناً جحد هذا المال وليس عندك بينة لا شهود ولا إثباتات ولا وثائق ثبت هذا الدين عليه، أو الدين على إنسان كبير وجيه يصعب عليك مطالبته، ويتهرب من سداده، وقد يلحق به بعض العلماء كـابن تيمية رحمه الله دين الولد على أبيه؛ لأن الولد يصعب عليه أن يذهب بوالده إلى المحكمة ليطالبه أو يحضر الشرطة، من أجل أن يأخذوا من والده دينه، فهذا يعتبر كله داخلاً في الدين على غير مليء.
الدين على غير مليء فيه تقريباً ثلاثة أقوال:
القول الأول: أنه يزكيه إذا قبضه لما مضى من السنوات، فلو بقي الدين مثلاً في ذمة صالح لك عشر سنوات ثم قبضته وجب عليك عندهم أن تزكيه عشر سنوات عما مضى، ولهذا قال علي رضي الله عنه لما سئل عن مال الضمار أو عن الدين المضنون، قال: [ إن كان صادقاً فليزكه إذا قبضه ] ولهذا كان هذا هو مذهب علي بن أبي طالب رضي الله عنه وابن عباس وسفيان الثوري .
القول الثاني: أنه يزكيه إذا قبضه لسنة واحدة وليس للسنوات كلها، فلو جلس الدين عند صالح عشر سنوات ثم رده إليك، فإنه يجب عليك حينئذ أن تزكيه مرة واحدة، تزكيه عن سنة واحدة، وهذا مذهب الحسن البصري وعمر بن عبد العزيز رضي الله عنه وميمون بن مهران والليث والأوزاعي .. وغيرهم.
القول الثالث: أنه ليس فيه زكاة مطلقاً، الدين على معسر ليس فيه زكاة، وإنما يستأنف به إذا قبضه حولاً جديداً، إذا تم له نصاب بنفسه أو كان بالإضافة إلى مالك الآخر يبلغ نصاباً، وإلا فليس فيه زكاة، وليس عليه زكاة لما مضى، وهذه إحدى الروايات في مذهب الحنابلة، وصححها طائفة من الأصحاب، وهو قول أبي حنيفة .
إذاً: الدين على المعسر فيه ثلاثة أقوال:
الأول: أنه يزكيه إذا قبضه لما مضى من السنوات.
الثاني: أنه يزكيه إذا قبضه لسنة واحدة.
الثالث: أنه لا زكاة فيه، وإنما يستأنف به حولاً جديداً، يعني: إذا بقي عندك سنة بعدما قبضته وهو نصاب، فإنك تزكيه مثل غيره من الأموال.
حجتهم في أنه لا زكاة فيه أنه غير تام الملك كما ذكرنا، أنه خارج عن عهدة الإنسان وعن تصرفه وعن يده، أن الزكاة وجبت في مقابل الانتفاع وهو لا يستطيع أن ينتفع به، والنماء مفقود هنا كما ذكرنا، ولهذا كان القول الأقرب من هذه الأقوال الثلاثة -والله أعلم- أنه لا زكاة فيه مطلقاً، لا يزكيه عن السنوات الماضية كلها، ولا يزكيه حتى سنة واحدة، وإنما يستأنف به حولاً جديداً، وإن زكاه لسنة على سبيل الاحتياط فهذا جيد، لكن لا يظهر وجوب ذلك ما دام الدين على غير مليء.
المذهب الأول: أنه ليس في الدين زكاة مطلقاً، وحينما نقول: (مطلقاً) يعني: لا زكاة على المدين، ولا زكاة على الدائن المالك، ولا زكاة عليه إذا كان الدين على مليء غني باذل، ولا زكاة عليه إذا كان الدين على فقير أو معسر أو جاحد.
إذاً: لا زكاة على الدين بحال من الأحوال في هذه الحالة، ولا زكاة على الدين إن كان قوياً أو ضعيفاً، أو كان بسبب حق أو غير ذلك، فهذا هو القول الأول: أنه ليس في الدين زكاة مطلقاً. وهذا منقول عن ابن عمر رضي الله عنه وعائشة وعكرمة وعطاء وإبراهيم النخعي والحكم بن عتيبة .. وغيرهم من السلف، وهو مذهب الشافعي في القديم، واختاره من الفقهاء المعاصرين الشيخ مصطفى الزرقا رحمه الله في مداخلاته في مجمع الفقه الإسلامي حول زكاة الدين.
ومأخذ هؤلاء في أنه لا زكاة في الدين أولاً: بعضهم ذكر حديثاً ردده بعض الفقهاء، وليس له أصل عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وإنما يصح عن ابن عمر رضي الله عنه وغيره بمعناه، وهو أنهم يزعمون أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ليس على من أقرض مالاً زكاة ) وكما ذكرت هذا لا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم ولم يروه أحد ممن يعتد بروايتهم، وأيضاً لم يذكر في شيء من كتب السنة المسندة، هذا أولاً.
ثانياً: حتى مع ذلك نحن نقول: إن هذا الحديث لا يدل على أن الزكاة ليست في الدين مطلقاً؛ لأن الحديث تكلم عن صورة واحدة من صور الدين وهي القرض، ( ليس على من أقرض مالاً زكاة ) فنقول: على فرض صحته؛ فإنه خاص بالقرض، والقرض يختلف عن غيره؛ لأن القرض فيه إحسان، فقد يقول قائل: إن القرض زكاته إقراضه للمحتاجين، بخلاف الديون الأخرى التي هي عن بيع أو شراء أو مصلحة للدائن، فإنها لا تقاس عليه.
وأما من حيث النظر فإنهم قالوا: ليس في الدين زكاة أيضاً؛ لأن الدين ناقص الملك أولاً، وقد ذكرنا في شروط المال الذي تجب فيه الزكاة سابقاً تمام الملك، فقالوا: الدين ناقص الملك؛ لأن صاحبه لم يضع يده عليه، فهو يملكه فعلاً، لكن الذي وضع يده على هذا الدين هو فلان، فالملك إذاً ناقص.
الأمر الثاني: ذكرنا أيضاً من شروط وجوب الزكاة في المال غير الملك: النماء، أن يكون المال نامياً، يعني: نامياً بالفعل أو نامياً بالقوة، نامياً بالفعل مثل: عروض التجارة تضارب بها وتبيع وتشتري فيزيد المال، أو بالقوة مثل الذهب والفضة؛ لأنه يفترض أن الذهب والفضة هي للبيع والشراء والمتاجرة، بينما الدين ليس نامياً، وإنما هو أشبه بالقنية كما يقولون، أشبه بالأشياء التي يقتنيها الإنسان في بيته كالأثاث والرياش والملابس .. ونحوها، ولهذا قالوا: إنه ليس في الدين زكاة. هذا قول.
القول الثاني: أن الزكاة في الدين هي على المدين وليست على المالك، وحجتهم في ذلك أن المدين هو الذي يستثمر المال، وهو الذي يستفيد منه ويضارب به ويأخذ غلته وثمرته، فحق عليه أن يخرج زكاته، وهذا القول نسب لبعض الصحابة ونسب لبعض التابعين، ولكن لا أراه، كما ذكر ذلك ابن حزم في المحلى، وذكره أبو عبيد أيضاً في كتاب الأموال، لكن كأنه لا يصح من هذا شيء.
وابن حزم رحمه الله ذهب إلى هذا القول في المال الحاضر، أنه إذا كان عندك مال حاضر أنت استدنته من غيرك فعليك زكاته، أما إذا كان المال غائباً عنك فلا زكاة فيه مطلقاً لا عليك ولا على صاحب المال.
إذاً: قول ابن حزم رحمه الله كأنه مرقع أو ملفق من القول الأول مع هذا القول، أنه إن كان المال حاضراً عند المدين فالزكاة عليه، وإن كان المال غائباً فلا زكاة على أحد منهما.
وهذا القول فيه ضعف، فيه ضعف من جهة أن الزكاة على مالك المال، هذا هو المعروف في قاعدة الشريعة، ونقل الزكاة من كونها على مالكه إلى كونها على مستثمره يحتاج إلى دليل، هذا أولاً.
وثانياً: أن الزكاة تفتقر إلى نية، وكون المستثمر سيخرجها معناه: أن المالك لم يكن نوى إخراج زكاة هذا المال الذي له.
القول الثالث والأخير في المسألة: هو مذهب الجمهور، قالوا: إن الدين ينقسم إلى قسمين:
القسم الأول: الدين على المليء، وقلنا قبل قليل: إن المقصود بالمليء الغني الباذل؛ لأنه قد يكون غنياً لكنه ثقيل لا يسدد الديون التي عليه ويماطل بها، فقالوا: إن المقصود بالمليء: الغني الباذل الذي يبذل ما عليه من حقوق.
فإذاً: القسم الأول: أن يكون الدين على مليء، وبعض الفقهاء يعبرون ويسمونه بالدين المرجو الأداء، فهذا فيه الزكاة كل سنة على مالكه على صاحبه على الدائن، وهذا القول ثابت عن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم كـعمر وعثمان، فإن عمر رضي الله عنه جاء عنه كما في كتاب أبي عبيد : (أنه كان إذا أخرج العطاء للناس، أخذ الزكاة من شاهد المال عن الغائب والشاهد)، وهذا أيضاً فعل من عمر رضي الله عنه بمحضر من الصحابة، ولم ينكر عليه ولم ينقل له مخالف.
وكذلك عثمان رضي الله عنه، روى أبو عبيد وغيره عن عثمان أنه كان يقول: (إن الصدقة تجب في المال الذي لو شئت تقاضيته فتتركه حياءً أو مصانعة لصاحبه ففيه الزكاة).
وكذلك نقل هذا القول عن ابن عمر وجابر من الصحابة، ونقل عن جماعة من التابعين كـمجاهد وطاوس والزهري وقتادة وحماد بن أبي سليمان، وهو مذهب إسحاق بن راهويه والشافعي والحنابلة الإمام أحمد : أن الدين ينقسم إلى قسمين:
القسم الأول: أنه إن كان على مليء فهو يزكى كل سنة.
يبقى هنا السؤال: هل يزكيه مع ماله وهو دين، أم يزكيه إذا قبضه؟ هذان قولان وهما روايتان في مذهب الإمام أحمد، والأقرب والأرجح منهما أنه يزكيه إذا قبضه عن السنوات التي مضت؛ لأننا نقول: إن الزكاة مواساة، وليس من المواساة أن يطلب من صاحب المال أن يخرج زكاة الدين نقداً، بل يكفيه أن تكون زكاة الدين ديناً في ذمته، فإذا جاءه المال أخرج منه زكاته؛ لأنه أيضاً قد يتلف المال وقد يضيع وقد يتحول المليء إلى معسر .. إلى غير ذلك.
إذاً: فالأقرب في هذا أن الدين على مليء زكاته إذا قبضه عما مضى، هذا هو القول الراجح عند الحنابلة.
هذا النوع الأول، وتقريباً ليس فيه إشكال.
النوع الثاني من الدين: أن يكون الدين على معسر، الدين على غير مليء.
ومثله: الدين على الإنسان الجاحد، لو أن إنساناً جحد هذا المال وليس عندك بينة لا شهود ولا إثباتات ولا وثائق ثبت هذا الدين عليه، أو الدين على إنسان كبير وجيه يصعب عليك مطالبته، ويتهرب من سداده، وقد يلحق به بعض العلماء كـابن تيمية رحمه الله دين الولد على أبيه؛ لأن الولد يصعب عليه أن يذهب بوالده إلى المحكمة ليطالبه أو يحضر الشرطة، من أجل أن يأخذوا من والده دينه، فهذا يعتبر كله داخلاً في الدين على غير مليء.
الدين على غير مليء فيه تقريباً ثلاثة أقوال:
القول الأول: أنه يزكيه إذا قبضه لما مضى من السنوات، فلو بقي الدين مثلاً في ذمة صالح لك عشر سنوات ثم قبضته وجب عليك عندهم أن تزكيه عشر سنوات عما مضى، ولهذا قال علي رضي الله عنه لما سئل عن مال الضمار أو عن الدين المضنون، قال: [ إن كان صادقاً فليزكه إذا قبضه ] ولهذا كان هذا هو مذهب علي بن أبي طالب رضي الله عنه وابن عباس وسفيان الثوري .
القول الثاني: أنه يزكيه إذا قبضه لسنة واحدة وليس للسنوات كلها، فلو جلس الدين عند صالح عشر سنوات ثم رده إليك، فإنه يجب عليك حينئذ أن تزكيه مرة واحدة، تزكيه عن سنة واحدة، وهذا مذهب الحسن البصري وعمر بن عبد العزيز رضي الله عنه وميمون بن مهران والليث والأوزاعي .. وغيرهم.
القول الثالث: أنه ليس فيه زكاة مطلقاً، الدين على معسر ليس فيه زكاة، وإنما يستأنف به إذا قبضه حولاً جديداً، إذا تم له نصاب بنفسه أو كان بالإضافة إلى مالك الآخر يبلغ نصاباً، وإلا فليس فيه زكاة، وليس عليه زكاة لما مضى، وهذه إحدى الروايات في مذهب الحنابلة، وصححها طائفة من الأصحاب، وهو قول أبي حنيفة .
إذاً: الدين على المعسر فيه ثلاثة أقوال:
الأول: أنه يزكيه إذا قبضه لما مضى من السنوات.
الثاني: أنه يزكيه إذا قبضه لسنة واحدة.
الثالث: أنه لا زكاة فيه، وإنما يستأنف به حولاً جديداً، يعني: إذا بقي عندك سنة بعدما قبضته وهو نصاب، فإنك تزكيه مثل غيره من الأموال.
حجتهم في أنه لا زكاة فيه أنه غير تام الملك كما ذكرنا، أنه خارج عن عهدة الإنسان وعن تصرفه وعن يده، أن الزكاة وجبت في مقابل الانتفاع وهو لا يستطيع أن ينتفع به، والنماء مفقود هنا كما ذكرنا، ولهذا كان القول الأقرب من هذه الأقوال الثلاثة -والله أعلم- أنه لا زكاة فيه مطلقاً، لا يزكيه عن السنوات الماضية كلها، ولا يزكيه حتى سنة واحدة، وإنما يستأنف به حولاً جديداً، وإن زكاه لسنة على سبيل الاحتياط فهذا جيد، لكن لا يظهر وجوب ذلك ما دام الدين على غير مليء.
قريب من هذا التقسيم مذهب الإمام مالك كما شرحه ابن رشد في بداية المجتهد، فإنه ذكر أن المالكية رحمهم الله يقسمون الدين إلى قسمين:
القسم الأول: الدين الذي أصله عن عوض
أصله عن عوض، يعني: أعطيت ألف ريال ثم رددتها إلي بعد خمس سنوات، فهذه عن عوض، يعني: تعويض عن المبلغ الذي أخذت مني؛ لأن القرض ما ترد نفس المقرض وإنما ترد مثله، ولذلك ماذا يمكن أن نقول في تعريف القرض؟
هو أخذ مال ورد بدله أو مال مثله، يعني: من الأشياء التي لها مثل، فالقرض عبارة عن رد عوض.
هذا هو القسم الأول عند المالكية.
القسم الثاني: ما كان ديناً عن غير عوض
وكذلك الهبة، لو وعدتك بأنني سوف أعطيك مثلاً سيارة، لو وعدتك بهذا وماطلتك أربع سنوات ثم دفعتها إليك، فهل يجب عليك أن تزكي السيارة الأربع السنوات الماضية؟ لا. لماذا؟ لأنك لم تملكها، وكان بإمكاني أني أتراجع عن هذا الوعد، الوعد هذا غير ملزم، وإنما الهبة تلزم بالقبض، الهبة تلزم إذا قبضتها، فهذا أيضاً دين عن غير عوض.
ويلحق به المالكية أشياء أخرى أيضاً، مثل: الصدقة من المتصدق، لو وعد واحد إنساناً أن يتصدق عليه، أو قال: عندي لك كذا، أو سأرسل صدقة، ولكنها لم تصل إليه إلا بعد حين مثلاً.
يلحقون به أرش الجناية من الجاني، يلحقون به صداق المرأة، يلحقون به الصلح عن دم الخطأ، فهذه الأشياء يعتبرونها كلها ديناً عن غير عوض، ولذلك يرون أنه ليس فيها زكاة مطلقاً، وإذا قبضها استقبل بها حولاً جديداً.
خلاصة الكلام في زكاة الدين
النوع الأول: دين على مليء وهو الغني الباذل، وهذا الدين حكمه: يخرج زكاته كل سنة، لكن لا يلزم إخراجها حتى يقبض المال.
القسم الثاني: الدين على المعسر ونحوه، فهذا قلنا باختصار: أن فيه ثلاثة أقوال: إما يزكيه كل سنة، أو يزكيه سنة واحدة، أو لا زكاة فيه، والأقرب أنه لا زكاة فيه إلا أن يحتاط لذمته ودينه.
القسم الثالث: هو الدين المؤجل غير الحال، والدين المؤجل أضعف من الدين الحال، ولذلك قال الحنابلة كما ذكر ابن قدامة في المغني وفي المقنع أيضاً، وقال الشافعية كما ذكر النووي قالوا: إن الدين المؤجل بمنزلة الدين على المعسر.
وبناءً على هذا نستطيع أن نقول: إن الدين المؤجل فيه ثلاثة أقوال: إما أنه يزكيه إذا قبضه عما مضى، أو يزكيه إذا قبضه لسنة واحدة، أو ليس فيه زكاة مطلقاً.
والذي أرى أنه أقرب فيما يتعلق بالدين المؤجل على وجه الخصوص، أن نقول: إن الدين المؤجل إذا قبضه يزكيه لسنة واحدة، وقد يقول قائل: لماذا رجحنا في الدين على المعسر أنه ليس فيه زكاة، بينما الدين المؤجل تزكيه لسنة واحدة؟ فأقول: لأن الغالب أن الدين المؤجل إنما وضع له الأجل مقابل زيادة في الثمن، يعني: بعت عليك بالتقسيط، فالسلعة التي تباع مثلاً بستين ألف ريال بعتها عليك إلى سنة بثمانين.
أو بعتها عليك بخمس وسبعين ألف ريال، ولذلك نقول: إن هذا التأجيل هو مقابل زيادة في الثمن، ففيها نوع من النماء، فيها نوع من المتاجرة، فيها نوع من المصلحة للمالك، يقابل ذلك أنه يطلب منه أن يزكيه سنة واحدة، لماذا لا يزكيه كل سنة؟ لأن السنوات قد تطول وتأكل المال، بعض الأقساط قد تستمر إلى عشر أو خمس عشرة سنة، فلو طلب منه أن يزكيه كل سنة لأكل هذا أصل المال وفائدته.
فالقول بأنه يزكيه لسنة قول فيه توسط، مع أن المسألة من مسائل الفروع التي اختلف فيها أهل العلم، وإنما كان سبب اختلافهم أنه لم يرد فيها في كتاب الله العزيز نص، ولا في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم، ولم يقع فيها إجماع من أهل العلم، فاختلف فيها الصحابة واختلف فيها من بعدهم كما ذكرنا.
استمع المزيد من الشيخ سلمان العودة - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
شرح العمدة (الأمالي) - كتاب الحج والعمرة - باب الفدية | 3986 استماع |
شرح العمدة (الأمالي) - كتاب البيوع – باب الخيار -2 | 3925 استماع |
شرح العمدة (الأمالي) - كتاب الزكاة - زكاة السائمة | 3853 استماع |
شرح العمدة (الأمالي) - كتاب الزكاة - باب زكاة العروض | 3845 استماع |
شرح العمدة (الأمالي) - كتاب الطهارة - باب المسح على الخفين | 3671 استماع |
شرح العمدة (الأمالي) - كتاب الحج والعمرة - باب محظورات الإحرام -1 | 3624 استماع |
شرح العمدة (الأمالي) - كتاب الصلاة - باب صلاة المريض | 3614 استماع |
شرح العمدة (الأمالي) - كتاب البيوع – مراجعة ومسائل متفرقة في كتاب البيوع | 3551 استماع |
شرح العمدة (الأمالي) - كتاب الحج والعمرة - باب صفة الحج | 3516 استماع |
شرح العمدة (الأمالي) - كتاب الصلاة - باب أركان الصلاة وواجباتها | 3443 استماع |