أرشيف المقالات

الخوف من عذاب الله

مدة قراءة المادة : 10 دقائق .
سلسلة صفات عباد الرحمن
الخوف من عذاب الله
 
الحمد لله، والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين؛ وبعد:
فإن من أبرز صفات عباد الرحمن التي ذكرت في سورة الفرقان الخوف من عذاب الله تعالى، ولذلك فإنهم دومًا يسألون الله تعالى أن يصرف عنهم عذاب جهنم، قال سبحانه: ﴿ وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا ﴾ [الفرقان: 65].
 
وهنا جاء التعبير بالفعل المضارع (يقولون) وهذا يدل على أنهم مستمرون في هذا الدعاء لا يتركونه في جميع أحوالهم لأن الخوف من عذاب الله لا يفارقهم.
 
وهكذا يجب أن يكون حال المؤمن خائفًا من الله وَجِلًا مع كونه محسنًا مسارعًا في الخيرات، غير مغتر بأعماله مهما كانت، كما قال سبحانه: ﴿ وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ ﴾ [المؤمنون: 60].
قالت عائشة رضي الله عنها: يا رسول الله هم الذين يسرقون ويشربون الخمر، قال: "لا يا ابنة الصديق، ولكنهم الذين يصومون ويتصدقون ويصلون وهم خائفون، ألَّا تقبل منهم"؛ رواه الترمذي وصححه الألباني.
 
فالمؤمن بين الخوف والرجاء، يرجو رحمة الله ويخاف عذابه.
 
﴿ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا ﴾ قال المفسرون: معناه عذابها ملازم غير مفارق للكفار، كما يقال فلان مغرم بكذا أي ملازم له.
 
أيها الأحبة في الله:
قال أهل العلم إنما يخاف من عذاب الله مع طاعتهم له بسبب أمرين.
 
الأول: خوفهم من عدم الاستمرار في الاستقامة، لأن القلوب بيد الله يقلبها كيف يشاء، والإنسان لا يدري بم يختم له، ولذلك كان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: "اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك".
 
أما السبب الثاني: فهو لخوفهم من عدم قبول أعمالهم، ولذلك قال أبو الدرداء رضي الله عنه: لأن أستيقن أن الله قبل مني صلاةً خير من الدنيا وما فيها.
 
قال الله عز وجل: ﴿ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنْ الْمُتَّقِينَ ﴾ [المائدة: 27].
 
وكان نبينا صلى الله عليه وسلم وهو سيد الأنبياء والمرسلين، وإمام المتقين، قبل أن يذبح أضحيته يسأل الله القبول فيسمي ويقول اللهم تقبل من محمد ومن آل محمد.
 
ولما أتم الخليل وإسماعيل عليهما السلام سألا الله القبول، قال سبحانه: ﴿ وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنْ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾ [البقرة: 127].
 
كان بعض الصالحين يبكي إذا قرأ هذه الآية ويقول: ما بال خليل الله يخاف ألَّا يقبل منه.
 
فما أحوجنا إلى الخوف من عدم القبول وسؤال الله تعالى دوما أن يتقبل منا.
 
وقد كان نبينا صلى الله عليه وسلم أكثر الناس عبادة وأكثرهم خوفًا من الله وهو القائل: "أما إني أتقاكم لله وأخشاكم له".
 
يجد مرة تمرة في ملقاة على الأرض فيقول لولا أني أخشى أنها من تمر الصدقة لأكلتها.
 
وفي الحديث أن النبيِّ صلى اللهُ عليهِ وسلَّمَ قام بآيةٍ يردِّدها حتى الصباحِ، وهي قولُه: ﴿ إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾..
الحديث؛ رواه ابن ماجة وصححه الألباني.
 
أيها الأحبة الكرام:
إذا نظرنا في سير الصحابة والتابعين لهم بإحسان، وجدناهم أخشى الناس لله، وأشد الناس خوفًا من عذاب الله.
 
فهذا أبوبكر رضي الله عنه، من شدة خوفه من الله أنه ذكر عنه أنه كان يمسك بلسانه ويقول: هذا الذي أوردني الموارد، وكان يبكي كثيرًا، ويقول: ابكوا، فإن لم تبكوا فتباكوا.

وهو القائل: وددت أني شعرة في جنب عبد مؤمن.

وهذا عمر بن الخطاب في وجهه خطان أسودان من البكاء من خشية الله، وقيل أنه ربما تأثر بسماع الآية من القرآن حتى يعوده الناس في البيت مما أصابه، ومن ذلك أنه مرة قرأ سورة الطور إلى أن بلغ: ﴿ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ ﴾ [الطور: 7] فبكى واشتد بكاؤه حتى مرض وعادوه.

وفي أيام خلافته قصص عجيبة تدل على خوفه الشديد من الله تعالى فكان يمنع نفسه وأهله بعض الأمور لأن بعض الرعية لا يجدها.






لما اشتهت زوجُه الحلوَى قال لها
من أين لي ثمن الحلوَى فأشريها


ما زاد عن قوتنا فالمسلمون به أولى
فقومي لبيت المال رُدِّيها






 
وقال رضي الله عنه لما طعن: (لو أنّ لي طلاع الأرض ذهبًا لافتديت به من عذاب اللّه قبل أن أراه)؛ رواه البخاري (3692)، والبغوي في "شرح السنة" (14/373)، وأبو نعيم في "حلية الأولياء" (1/52) علق ابن الجوزي فقال: (واعجبًا من خوف عمر مع كماله، وأمنك مع نقصانك)، وهذا عثمان بن عفان - رضي الله عنه - كان إذا وقف على القبر يبكي حتى تبل لحيته من الخوف من الله.

وهذا علي بن أبي طالب - رضي الله عنه – وخوفه من الله تعالى، وكان يشتد خوفه من اثنتين: طول الأمل، واتباع الهوى، قال: فأما طول الأمل فينسي الآخرة، وأما اتباع الهوى فيصد عن الحق، ألا وإن الدنيا قد ولت مدبرة، والآخرة مقبلة، ولكل واحدة بنون، فكونوا من أبناء الآخرة، ولا تكونوا من أبناء الدنيا، فإن اليوم عمل ولا حساب، وغدا حساب ولا عمل.

وكان عبد الله بن عباس أسفل عينيه مثل الشراك البالي من الدموع.

وقرأ تميم الداري ليلة سورة الجاثية، فلما أتى على هذه الآية: ﴿ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ﴾ [الجاثية: 21] جعل يرددها ويبكي حتى أصبح.

وبكى الحسن -رحمه الله- فقيل: ما يبكيك؟ قال: (أخاف أن يطرحني غدًا في النّار ولا يبالي) [التخويف من النار لابن رجب 23].

فأين نحن من أولئك الأخيار، لله درهم من رجال كانوا في غاية الإحسان مع غاية الخوف من الله تعالى.
فتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم ♦♦♦ إنّ التشبه بالكرام فلاح

أيها الأحبة في الله:
لقد دلت النصوص الشرعية أن حال المؤمن يجب أن يكون بين الخوف والرجاء؛ يرجو رحمة الله ورضوانه، وفي ذات الوقت يخاف عذاب الله وسخطه، لأنه لو خاف ولم يرجُ لقنط ويئس من رحمة الله، والله تعالى يقول: ﴿ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّالُّونَ ﴾ [الحجر: 56]، ولو رجى ولم يخف أمن مكر الله والله يقول: ﴿ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ ﴾ [الأعراف: 99].
 
قال الإمام أحمد رحمه الله: "ينبغي أن يكون خوفه ورجاؤه واحدًا، فلا يغلب الخوف ولا يغلب الرجاء"، قال رحمه الله: "فأيُّهما غلب هلك صاحبه"، لأنه إن غلب الرجاء وقع الإنسان في الأمن من مكر الله، وإن غلب الخوف وقع في القنوط من رحمة الله.
 
وقد جاء الجمع بين الخوف والرجاء في الكتاب والسنة واضحًا جليًّا كقوله تعالى: ﴿ نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمُ ﴾ [الحجر: 50].
 
وقوله تعالى: ﴿ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [الأنعام: 165].
 
وفي الحديث الصحيح أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللَّهُ عليْهِ وسلَّمَ دخلَ على شابٍّ وَهوَ في الموتِ فقالَ كيفَ تجدُكَ قالَ واللَّهِ يا رسولَ اللَّهِ إنِّي أرجو اللَّهَ وإنِّي أخافُ ذنوبي فقالَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليْهِ وسلَّمَ: "لا يجتَمِعانِ في قلبِ عبدٍ في مثلِ هذا الموطِنِ إلَّا أعطاهُ اللَّهُ ما يرجو وآمنَهُ ممَّا يخافُ"؛ رواه الترمذي وصححه الألباني.
 
أيها الأحبة في الله:
للخوف من عذاب الله ثمرات كثيرة:
فمنها أنه يبعث على العمل الصالح والإخلاص فيه وعدم طلب المقابل في الدنيا قال تعالى: ﴿ إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا * إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا ﴾ [الإنسان: 9، 10].
 
الخوف من الله يجعل الإنسان في ظل العرش يوم القيامة:
فقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم في حديث السبعة: "ورجلٌ طلبته امرأة ذات منصب وجمال، فقال: إني أخاف الله، ورجل ذكر الله خاليًا ففاضت عيناه".
 
الخوف من الله يرفع الخوف عن الخائف يوم القيامة؛ قال صلى الله عليه وسلم: قال الله تعالى: (وعزتي وجلالي لا أجمع على عبدي خوفين وأمنين، إذا خافني في الدنيا أمنته يوم القيامة، وإذا أمنني في الدنيا أخفته في الآخرة)؛ صححه الألباني في "صحيح الترغيب".
 
نسأل الله تعالى أن يجعلنا من الذين يرجون رحمته ويخشون عذابه، والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

شارك الخبر

ساهم - قرآن ٣